
ما جاء فی القرآن الكریم، وما قاله النبی وما فعله وما أقره، حق لا یأتیه الباطل من بین یدیه ولا من خلفه، ویقین لا مجال للشك فیه، وقد قدما تصورا یقینیا شاملا وكاملا وقائما على الجزم والیقین، وهذا التصور یغطی بالكامل ساحة الأهداف والوسائل وكافة نواحی الحیاة، وهذا التصور هو بمثابة مخططات عامة وتفصیلیة ودقیقة لواقع ما هو كائن على الإطلاق.
ومستقبل كل كائن على الإطلاق فی دائرة الواقع والممكن، وما ینبغی أن یكون علیه هذا الكائن فی دائرة المنى الذی سیتحول إلى واقع، بحیث یقودك هذا التصور الیقینی وتلك المخططات درجة درجة وخطوة خطوة حتى تصل بك إلى الغایة المبرمجة شرعیا من أقصر الطرق، وبأقل التكالیف، وفی كل أمر من الأمور.
عندئذ تكون المنظومة هی نبع الشرعیة والمشروعیة، وهی القائدة والموجهة.
إنها بنیة حقوقیة قائمة على الجزم والیقین، بعكس البنى الوضعیة القائمة أصلا على الفرض والتخمین.
ركیزتا المنظومة الحقوقیة الإلهیة
تقوم المنظومة الحقوقیة الإلهیة على ركیزتین، وتتكون من شقین:1 - كتاب الله المنزل.
2 - نبی الله المرسل بذاته وقوله وفعله وتقریره، ولا یمكن الفصل بین هذین الركنین، لأن الصلة بینهما عضویة لا تقبل الانفصام.
القرآن الكریم
اقتضت حكمة الله تعالى أن ینزل القرآن مفرقا على عبده، وعلى مكث وفترات زمنیة غطت عهد النبوة كاملا، ومن المتفق علیه أن مدة إقامة النبی بالمدینة المنورة كانت عشر سنین، أما مدة إقامته بمكة المكرمة بعد البعثة ففیه ثلاثة أقوال، فقد قیل عشر سنین وقیل 13 سنة، وقیل 15 سنة، مما یعنی أن مدة تنزیل القرآن استمرت 20 سنة، أو 23 سنة، أو 25 سنة.قال تعالى (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزیلا) (1)
حیث كانت آیات القرآن الكریم تنزل حسب الحاجة، خمس آیات، وعشر آیات، وأكثر، وأقل وصح نزول (غیر أولی الضرر) وحدها وهی بعض آیة، (2)
ومع كل كوكبة تتنزل من القرآن الكریم توجیهات إلهیة لتضع كل آیة بسورة محددة، وفی مكان محدد من هذه السورة، كما سنبین فی ما بعد.
لكن كیف جمع القرآن الكریم بصورته الموجودة بین أیدینا؟
لقد انقسم المسلمون إلى فریقین تماما كما انقسموا فی المرجعیة والقیادة السیاسیة، وسنبین الخطوط العریضة لهاتین النظریتین، ثم نزنهما بمیزان الشرع الحكیم، وبمیزان العقل الراجح الذی جعله الله حجة باطنة على خلقه، وهاتان النظریتان هما:
1 - نظریة السلطة أو أهل السنة بوصفهم شیعة السلطة طوال التاریخ.
2 - نظریة المعارضة أو أهل الشیعة الذین كانوا شیعة لأهل بیت النبوة طوال التاریخ.
ترك جدید وتخلیة جدیدة
لم یكتف أهل السنة بالقول بأن الرسول الأعظم خلى على الناس أمرهم وتركهم دون قیادة سیاسیة ومرجعیة دینیة، بل تجاوزوا ذلك فقالوا إنه (صلى الله علیه وآله وسلم) ترك القرآن فی صدور الرجال دون جمع، وبما أن القرآن الكریم هو قانون الدولة الإسلامیة النافذ الذی لا غنى عنه، ومن غیر الجائز أن یترك فی صدور الرجال بدون جمع لأنه قد یضیع، لهذا كله شمر الصدیق، والفاروق، وذو النورین عن سواعدهم، وقاموا بهذا العمل الجلیل، واقتسموا هذا الشرف العظیم بینهم، ولولا خطواتهم المباركة لضاع القرآن، ولما وصلنا، ولفقد قانون الدولة كما فقد رئیسها.وقد نقل المتقی الهندی فی كنزه عن ابن حبان فی صحیحه، وعن الدارقطنی فی سننه، وعن أحمد فی مسنده، وعن البخاری ومسلم فی صحیحیهما، وعن الترمذی فی سننه... أن عمر راجع زید بن ثابت لیجمع القرآن، وأن أبا بكر راجعه أیضا، فقال زید لكل منهما كیف تفعل شیئا لم یفعله رسول الله؟ فأجابه كل منهما بالقول (والله إنه خیر) ولم یزل كل واحد منهما یراجع زیدا حتى شرح الله صدر زید لما شرح له صدر أبی بكر وعمر، وعندئذ بدأ بتتبع القرآن یجمعه من الرقاع، واللخاف، والأكتاف، وصدور الرجال، حتى وجد آخر سورة براءة مع خزیمة، ولم یجدها مع أحد من المسلمین غیره، وكانت الصحف التی جمع فیها زید القرآن عند أبی بكر طیلة حیاته حتى توفاه الله، ثم عند عمر طیلة حیاته حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر.(3)
ولما تولى عثمان أرسل إلیها لتدفعه - القرآن المجموع - فأبت حتى عاهدها عثمان لیردنه إلیها، فبعثت حفصة بصحائف القرآن، فنسخها عثمان هذه المصاحف ثم ردها، فلم تزل عندها حتى توفیت، ولما رجعوا من دفنها أرسل مروان بن الحكم إلى عبد الله بن عمر لیرسل إلیه بصحف القرآن التی كانت بحوزة أخته حفصة بنت عمر، فاستجاب عبد الله بن عمر وأرسل تلك الصحف، عندئذ أمر بها مروان فشققت حتى لا یرتاب الناس فی مصحف عثمان.
وقد ربطنا هذه الروایة بالروایة السابقة لتشكل الروایتان وجهة نظر رسمیة متكاملة.
أبطال جمع القرآن الكریم وفرسانه
لقد تقاسم الخلفاء الثلاثة: الصدیق، والفاروق وذو النورین مفخرة وشرف جمع القرآن الكریم، ولولاهم لضاع القرآن، بعد أن تركه النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) دون جمع، بحسب رأی أنصار هذه النظریة.تعطی الروایات دور الفروسیة لمجموعة من الصحابة الكرام، تفضلوا مشكورین ومأجورین بمساعدة الخلفاء الثلاثة على جمع القرآن الكریم، وهم حصرا: زید بن ثابت الذی تكلف عناء جمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، وكم بحث عن أواخر سورة التوبة فوجدها مع أبی خزیمة الأنصاری، (4)
وحذیفة بن الیمان الذی أشار على عثمان بأن یدرك الأمة، فنسخ عثمان المصاحف، (5)
وسعید بن العاص فهو أعرب الناس، تعاون مع أكتب الناس زید بن ثابت ابن الأنباری فی المصاحف ومالك بن أنس قال: كنت فیمن أملی علیهم فربما اختلفوا فی الآیة ، وعن ابن أبی داود والأنباری: وأبی بن كعب كان یملی وزید بن ثابت یكتب وسعید بن العاص یعرب.(6). وأبو هریرة بارك الجمع، وروى لذی النورین حدیثا عن رسول الله یبارك طریقة عثمان، فأعجب عثمان بالحدیث، وأمر لأبی هریرة بعشرة آلاف درهم، وقال له:
والله ما علمت أنك لتحبس علینا حدیث نبینا.
ومروان بن الحكم له دور! فقد استحضر الصحف الموجودة عند حفصة بعد موتها، وأمر بحرق هذه الصحف، حتى لا یرتاب الناس فی القرآن العثمانی الموجود بین أیدی الناس كما أسلفنا.
وسیلة الأبطال والفرسان لإثبات القرآن
1 - لما كلف زید بن ثابت بجمع القرآن الكریم قال: فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع، واللخاف، والأكتاف، والعسب، وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع خزیمة بن ثابت الأنصاری، ولم أجدها مع غیره. وقد نقلها عن ابن سعد، وأحمد فی مسنده وعن الترمذی فی صحیحه، والنسائی فی سننه، وابن حبان فی صحیحه وعن البخاری فی صحیحه، وعن مسلم فی صحیحه.(7)
2 - خاف الصدیق أن یضیع القرآن، فقال للفاروق عمر بن الخطاب، ولزید بن ثابت: أقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدین على شئ من كتاب الله فاكتباه، (8)
3 - قام عمر بن الخطاب فی الناس خطیبا فقال: من كان تلقى من رسول الله شیئا من القرآن فلیأتنا به... وكان لا یقبل من أحد شیئا حتى یشهد علیه شاهدان، (9)
4 - خطب عثمان فقال: من كان عنده من كتاب الله شئ فلیأتنا به، وكان لا یقبل من ذلك شیئا حتى یشهد علیه شاهدان، فجاء خزیمة ومعه آیتان، فشهد معه عثمان.
5 - أرسل أبو بكر منادیا، فنادى فی الناس: من كان عنده شئ من القرآن فلیجئ به... إلخ.
6 - قال خزیمة: جئت بآیة (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) فقال زید: من یشهد معك بها؟ قلت: لا والله ما أدری، فقال عمر: أنا أشهد معه على ذلك. (10)
7 - كان عمر لا یقبل آیة من كتاب الله حتى یشهد علیها شاهدان، فجاء رجل من الأنصار بآیتین، فقال عمر: لا أسألك علیها شاهدا غیرك... إلخ.
مسك الختام، وتسمیة القرآن
ولما تم لهذا الفریق ما أراد وجمع القرآن بهذه الكیفیة، لم یبق علیهم إلا التسمیة فاحتاروا! فقد روى الزركشی والسیوطی وغیرهما وقالوا (لما جمع أبو بكر القرآن قال سموه، قال بعضهم سموه إنجیلا، فكرهوه، وقال بعضهم: سموه السفر فكرهوه من یهود، فقال ابن مسعود: (رأیت للحبشة كتابا یدعونه المصحف فسموه). (11)وهكذا جمع القرآن، واختصوا بفضل جمعه من البدایة إلى النهایة، ولولاهم لذهب القرآن، ولضاع تماما، ولما قامت للدین قائمة.
ولما أنجزوا هذا العمل لم یبق علیهم إلا التسمیة وإعمالا لمبدأ الشورى اقترح البعض أن یسموا هذا المجموع إنجیلا، واقترح البعض الآخر أن یسمونه (سفرا) وسموه مصحفا لأن للحبشة كتابا یدعونه بالمصحف.. ووضع هذا الإنجاز بین یدی المسلمین!
علی لا مع الأبطال ولا مع الفرسان ولا مع الشهود
لقد اطلعت على كل الروایات التی یرددها أهل السنة فی مجال جمع القرآن الكریم، وعرفنا أبطال هذه المفخرة الجلیلة وفرسانها، وعجبت من أنه لیس بین هؤلاء الأبطال والفرسان رجل واحد من آل محمد، ولا حتى علی (علیه السلام) الذی أعلن على رؤوس الأشهاد قائلا (سلونی عن كتاب الله، فإنه لیس من آیة إلا وقد عرفت بلیل نزلت أم بنهار وفی سهل أم جبل) أخرجه بن سعد، (12)وهو الهادی بنص الشرع، وهو ولی المؤمنین بنص الشرع، وهو الصدیق الأكبر بنص الشرع، والفاروق الأعظم بنص الشرع، وهو مولى أبی بكر وعمر ومولى كل مؤمن ومؤمنة بنص الشرع، ومن لیس بمولاه فلیس بمؤمن بنص الشرع، وهو باب مدینة العلم والحكمة اللدنیة بنص الشرع، ومنزلته من النبی كمنزلة هارون من موسى بنص الشرع وبإقرار معاویة بن أبی سفیان، وهو زوج البتول، ووالد السبطین، وهو فارس الإسلام الأول، حبه إیمان وبغضه نفاق بنص الشرع. راجع كتابنا نظریة عدالة الصحابة والمرجعیة السیاسیة فی الإسلام، فقد أقمت الحجة القاطعة. إلخ.
فإن قالوا: نسوا الآل الكرام، فالصلاة على النبی وآله جزء من الصلاة المفروضة على العباد، والآل هم الثقل الأصغر والقرآن هو الثقل الأكبر بالنص الشرعی، فإذا نسوا الآل الكرام فكیف ینسى علی (علیه السلام)؟ وهو عمید أهل البیت وعمید قریش كلها!
وإنا لله وإنا إلیه راجعون، حسبنا الله ونعم الوكیل.
وكم من مرة قال الإمام علی (اللهم إنی أستعینك على قریش ومن أعانهم، فقد قطعوا رحمی، وصغروا عظیم منزلتی، وأجمعوا على منازعتی أمرا هو لی...) أو كما قال أبو ریة فی كتابه الرائع أضواء على السنة المحمدیة: لك الله یا علی .
المصادر :
1- سورة الإسراء آیة 106
2- أضواء على السنة المحمدیة للسید محمود أبو ریه صفحة 246 - 247 مؤسسة الأعلمی للمطبوعات.
3- كنز العمال مجلد 2 صفحة 571 - 572 الحدیث رقم 4751 و صحیح بخاری مجلد 6 صفحة 48 باب جمع القرآن.
4- كنز العمال مجلد 2 صفحة 572 - 574 الحدیث 4751، وصحیح بخاری مجلد 6 صفحة 48 باب جمع القرآن.
5- كنز العمال مجلد 2 صفحة 81 الحدیث 4775، ونقله عن البخاری مجلد 6 صفحة 226 باب جمع القرآن، وجامع الأصول مجلد 2 صفحة 502
6- الحدیث 4789 مجلد 2 صفحة 587 نقله عن ابن سعد
7- كنز العمال مجلد 2 صفحة 571 - 572 حدیث 4751،
8- مجلد 2 صفحة 572 من الكنز حدیث 4754 ونقله عن ابن أبی داود فی المصاحف.
9- مجلد 2 صفحة 575 الحدیث 4759
10- مجلد 2 صفحة 576 الحدیث 4762 ومجلد 2 صفحة 578 الحدیث 4766 كنز العمال مجلد 2 صفحة 576 الحدیث 4764 .
11- راجع الإتقان للسیوطی صفحة 63 ومعالم المدرستین للعلامة السید مرتضى العسكری مجلد 2 صفحة 14 - 15
12- راجع تاریخ الخلفاء صفحة 185.