لا یشك أحد أن فكرة الإصلاح المنتظر قدیمة بقدم الزمان، وإنها لیست من متفردات دین الإسلام، ولا من مؤسسات نبی الإسلام (صلی الله علیه وآله وسلم)لأنا نجد الأدیان السماویة التی سبقت الإسلام فی الزمن تبشر بهذه الفكرة، وإن لم تُسمّ المصلح المنتظر مهدیا ً ولا دعوته الإصلاحیة مهدویة.
ولسنا نشترط علیها ذلك بعد أن علمنا أن لكل أمة عرفا ً، ولكل لغة مصطلحات ولا تزال هذه الفكرة باقیة فیما بقی من فرق هذه الأدیان؛ فَفِرق الیهود، وطوائف النصارى لا تختلف فی ذلك.
وقد سَرَت هذه الفكرة إلى غیرهم من الأدیان الأخرى كالزرادشتیة، والبرهمیة، (التواتر شیوع فی الخبر، واستفاضة فی نقله، إذا أدت هذه الاستفاضة إلى الیقین بصدق الخبر، وأحال العقل تواطؤ المخبرین على الكذب فیه، والعقلاء یعتقدون أن التواتر من أهم أسباب الیقین بالأشیاء، ویدّون الخبر المتواتر من الضروریات التی یصدقها العقل بنظرته الأولى، وإذا نظرنا أهم الوقائع فی التأریخ وجدنا أن العلم بها إنما یحصل لنا من الخبر المتواتر، ولكن من الحق أن نشترط لحصول العلم من الخبر المتواتر شرطا ً آخر وراء ما تقدم، وهو أن یكون ذهن السامع خالیا ً من عقیدة أو شبهة تناقض الخبر؛ ولذلك قد لا یحصل لنا العلن بواقعة من وقائع التأریخ، وإن كانت متواترة بین المؤرخین.ومن أمثلة ذلك تشكیك الدكتور طه حسین بوجود بعض الشخصیات الأدبیة، وإن أصرّ على وجودها المؤرخون والواجب فی مثل هذا أن ینظر الناقد مقدار قیمة تلك الشبهة أو العقیدة من البرهان العلمی) وإن كانت أُمم الشرق أكثر تمسكا ً بالفكرة لأن الشرقیین أكثر أملا ً، والغربیین أكثر عملا ً، ولا نستطیع أن نقول أن تأریخ الفكرة متأخرة عن تاریخ الإسلام .
والنتیجة المنطقیة لما تقدم: أن فكرة الإصلاح المنتظر كانت مألوفة قبل مجیء الإسلام، وأن نبی المسلمین- إذا صحّت أحادیث المهدی فی الادیان السابقة - أحد المبشرین بهذه الحركة الإصلاحیة الموعودة، وأن كان أشدّهم صلة بها، وأكثرهم حبا ً لها، من ناحیة أخرى، من حیث أنها ثمرة كاملة لغرسه، ونتیجة تامة لمقدماته.
أقول هذا، لأن دین الإسلام قد أحال أن یكون بعده دین جدید.
وإذا تطابقت هذه الأدیان على التحدث بهذه الفكرة وإذا كانت مرتقبة عند أُمم الشرق وأُمم الغرب كان الحدیث عنها متواترا ً یقینا ً، وإذا صح للتواتر معنى یستمد علیه العقلاء وهو یجوز لنا أن نحكم على هذه الأمم جمیعا ًإنها تواطأت على الكذب، وهذا ما لا یقبله عقل، ولا یحتمله عاقل، ولم یشترط أحد فی الخبر المتواتر أن یكون نبأ ًعن الماضی .
ولتكن هذه الفكرة موافقة لمیول الناس العامة أو مخالفة لها، لأن موافقة المیول لا یمكن أن تجعل دلیلا ص على كذب فكرة أو صدقها، ولا برهانا ً على وضع الأحادیث فیها، ولا یعد هذا من أسالیب النقد العلمی، إلا أن تكون للنقد موازین أخرى لا یعرفها العلم.
حدیث الإصلاح المنتظر متواتر عند كثیر من أهل الشرائع الأولى، وأحادیث المهدی متواترة عن نبی الإسلام على ألسنة طوائف المسلمین، ولیس بعد هذا مساغ لنقد أسانید الروایات كما یحاوله الدكتور؛ ویحاوله العلامة ابن خلدون من قبله، لأن صحة السند لا تشترط فی الأحادیث المتواترة، هذا من الوجهة الفنیة، أما مخالفة هذه الأحادیث للعقل، أو لهوى نفسی یسمیه الدكتور أحمد أمین عقلا ً فهو شیء نبحث عنه فی الآتی القریب.
أقول: أحادیث المهدی متواترة عند فرق المسلمین، لأن الذین رووا هذه الأحادیث طوائف كثیرة من أئمة المنقول، وحفاظ السنة، ودونها الأكثر منهم، وأفردها كثیر منهم بالتألیف، وأشار إلى مضامینها البعض الآخرون.
ویقول العلامة ابن خلدون فی الفصل الذی عقده فی الفاطمی المنتظر من مقدمته [اعلم أن فی المشهور بین الكافة من أهل الإسلام على ممر الإعصار أنه لا بد فی آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البیت...] وفی هذا القول شهادة صریحة بشهرة الفكرة بین المسلمین على ممر الإعصار وفیه إیماء تواترها، وإن كان هذا الإیماء من طرف خفی على ما یقول المتقدمون.
ولكنه یعرض فی فصله لأحادیث الفكرة فیتناولها بالنقد ولا یسلم عنده من أسانیدها إلا القلیل؛ كأن صحة السند تعتبر فی الخبر المتواتر؛ وكأنه أحاط بأخبار الفكرة جمیعها، فإذا نقدها فقد خلت الفكرة من الدلیل، ولو تتبع قلیلا ً لعلم أن الفكرة أرفع من هذه المحاولات،وإن أدلتها غنى عن تصحیح الأسانید، وإلى القارئ قائمة صغیرة بعدد الأحادیث التی دونها الثقاة من رجال المنقول والتی عرضت لی أثناء بحثی القصیر .
أربعون حدیثا ً خرجها الحافظ أبو نعیم فی كتابه (ذكر نعت المهدی) وقد رواها الأربلی فی كتاب كشف الغمة بحذف الأسانید
ثمانیة وثلاثون حدیثا ً ذكرها ابن خلدون فی مقدمته لینقد أسانیدها
سبعون حدیثا ًخرجها الحافظ محمد بن یوسف الكنجی فی كتاب البیان مائة وعشرة أحادیث رواها صاحب كتاب كشف المخفی فی مناقب المهدی، وجمیع رواة هذه الأحادیث من رجال المذاهب الأربعة ولو أردنا أن نضیف إلى تقدم الأعداد الصغیرة التی یذكرها المحدثون فی مختلف أبواب الحدیث لأصبح العدد ضخما ً جدا ً، وأی معنى لتواتر الحدیث إذا لم یكن منه هذا العدد الكبیر
ومن الحق أن نستثنی من هذا العدد الأحادیث التی كررت بمتونها وأسانیدها، ولست أظن أنها تتجاوز الثلاثین وقد جمع فی كتاب غایة المرام من هذا العدد مائة وخمسة وستین حدیثا ً، وأورد فی كتاب ینابیع المودة ما یتجاوز المائتین، ولنغمض عما ترویه الشیعة بطرقها الخاصة، فإن لهذه الروایات حسابا ً خاصا ً وهذه الأحادیث وإن لم تشترك فی لفظ واحد، إلا أنها تعبر عن فكرة واحدة.
أما العلماء الذین شهدوا بتواتر الحدیث عن الفكرة فهم كثیرون جدا ً، وهذا جدول صغیر بأسماء بعضهم.
1- الحافظ محمد بن یوسف الكنجی المتوفی سنة 658 فی كتاب البیان.
2- أبو الحسین الآبری على ما نقله ابن حجر فی الصواعق ص99.
3- السید مؤمن الشبلنجی فی كتاب نور الأبصار ص231.
4- زینی دحلان المتوفی سنة 1304 فی كتاب الفتوحات الإسلامیة ص322.
5- ونقله هو فی هذه الصحیفة عن السید محمد بن رسول البرزنجی المتوفی سنة 1103.
6- السید جمال الدین عطاء الله ابن السید فضل الله الشیرازی المتوفی سنة 1000 نقله عن أكثر أهل الروایة.
7- أحمد بن محمد بن الصدیق فی رسالته إبراز الوهم المكنون.
8- الإمام الشوكانی المتوفی سنة 1250 فی كتاب التوضیح فی تواتر ما جاء فی المنتظر والدجال والمسیح، وقد نقل التواتر عن هذین الأخیرین الدكتور أحمد أمین فی المهدی والمهدویة.
فقد حدّث الحافظ أحمد بن حجر الشافعی (1) عن مسلم وأبی داود والنسائی وابن ماجة، والبیهقی، وآخرین من علماء الحدیث قول النبی صلی الله علیه وآله ( المهدی من عترتی، من ولد فاطمة).
وخرج مسلم فی باب نزول عیسى حاكما ً قول النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) (( كیف أنتم إذا نزل ابن مریم فیكم وإمامكم منكم)) ونقل الكنجی الشافعی فی كتاب البیان مثل هذا عن البخاری أیضا ً، وروى مسلم ((لا تزال طائفة من أمتی یقاتلون على الحق ظاهرین إلى یوم القیامة، قال فینزل عیسى بن مریم فیقول أمیرهم تعالى صل لنا، فیقولا لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة))، وخرّج مسلم أحادیث الخلیفة الذی یحثو المال حثوا ً فی آخر الزمان.
وإذا كان بعض هذه الأحادیث لا یحمل اسم المهدی فإنه یذكر من صفاته ونعوته ما یرفع اللبس ویزیل التوهم.
ومن الإحصاء المتقدم نعلم مقدار الجهد الذی بذله ابن حجر إحصاء روایات المهدی حین وجدها نحو الخمسین، ونعلم أیضا ً أن لفظة المهدی ولفظة المنتظر لیستا من مؤسسات الشیعة .
وخلاصة ما تقدم أن أحادیث المصلح المنتظر متواترة عند أهل الشرائع الأولى وأحادیث المهدی المنتظر متواترة بین فرق المسلمین كافة، ومتواترة عند فرقة الشیعة خاصة.
وبعد هذا كله فإن الشیعة الإثنی عشریة لم تأخذ عقیدتها بوجود المهدی من هذه الأحادیث فقط، وإن كانت متواترة، والتواتر من أهم أسباب الیقین.
ولكن الشیعة الإثنی عشریة تعتقد بوجوده وبضرورة بقائه لأدلة قطعیة أخرى وراء الأحادیث المتواترة .
المهدی فی دیوان الخلفاء
لماذا اختصت الشیعة بالقول بالإمامة؟ ولماذا أصبحت الإمامة علما ً على هذه الطائفة دون أخواتها الأخرى من فرق المسلمین؟ وهل یمكن لأحد من العقلاء وإن لم یكن من المسلمین أن یُنكر وجوب نصب الإمام! إذن فبماذا تحفظ الحقوق بین أفراد البشر؟ وبماذا یرد ظلم الظالمین وعدوان العادین ولماذا یهتم العقلاء بنصب الملوك والرؤساء؟.الإمام سلطان، والسلطان ضرورة من ضرورات الحیاة، والإمام وازع یتوقف علیه بقاء الاجتماع، لا بد من وجوده، ولا بد من نصبه إذا لم یكن موجودا ً، وهذا أمر یستحیل أن یقع الشك فیه من أحد.
وإذن فخلاف سائر المسلمین مع الشیعة إنما یكون فی شؤون هذه الإمامة وفی شرائطها.
- من هو الإمام الذی یجب نصبه؟ وماذا یجب أن تجتمع فیه من الشرائط؟.
- ومن الذی یتولى نصب هذا الإمام؟
- وما الذی یتولاه الإمام من المهمات التی تحتاج إلیها الأمة؟.
والناظر فی علم الكلام والعقائد یرى أن هذه الأسئلة محبوكة متداخلة یظهر جواب بعضها من الجواب على البعض الآخر.
تقول الشیعة: الإمامة خلافة النبوة، فیشترط فیها ما یشترط فی النبوة.
عهدت الأمة من مؤسس الدین ملكا ً لا كالملوك، ورئیسا ً لا كالرؤساء وعهدت من قرآنه نظاما ً لا یشبه الأنظمة.
عهدت من نبیها ملكا ً یخضع الدنیا لسلطة الدین، ویقیس الأعمال بمیزان العقیدة ویكوّن من مجموع هذه الأشیاء وحدة لا تقبل التجزئة والتفرق، وعهدت من قرآنها نظاما ً یهدف إلى الغایة بجمیع مواده وفصوله وهو وراء هذا كله نظام معصوم، لا یأتیه الباطل من بین یدیه ولا من خلفه.
هكذا عهدت الأمة ملكها عند الصباح، فیستحیل أن لا یكون كذلك عند المساء؛ یجب أن تكون الرؤساء من لون واحد، إذا كان القانون مستمرا ً على لون واحد لأن تغییر منهاج السلطة فی المدة القصیرة یحتاج إلى تغییر كبیر فی نظام المملكة, وهذا شیء لا تسوغه الشریعة ولا تسمح به العادة، وقد یؤدی إلى محاذیر شدیدة، وعاقبة لا تحمد.
فیجب أن تكون للرئیس الثانی كل سلطة أو وظیفة تثبت للرئیس الأول، لأن النظام لم یفرد سلطة الدنیا عن سلطة الدین، وهذا هو الجواب عن السؤال الأخیر وإذا أجبنا عن هذا السؤال علینا أن نجیب عن بقیة الأسئلة بعد استعراض صغیر لمهمات الرئیس الأول.
علمنا أن الرئیس الأول مؤسس لشریعة إلهیة یستفیدها من وحی السماء، وهذه هی المهمة الوحیدة التی لا یصح أن یشاركه فیها أحد، لأن نظام الشریعة قد حكم بانتهاء النبوات.
وإذا لم یكن الرئیس الثانی نبیا ً، فإنه حافظ شریعة وحارس نظام، فیستحیل أن لا یكون علما ً بدقائق هذه الشریعة، ومحتویات هذا النظام، وكیف یستطیع أحد أن یكون حافظا ً لما لا یعلم.
ولا یكفی لأداء هذه المهمة أن یعلم أحكام الشریعة بالاجتهاد أو بالتقلید، لأن المجتهد لا تجب إطاعته على المجتهدین الآخرین ولا على مقلدیهم، والمقلد أقل منه فی المنزلة، وأخفض منه فی المرتبة، والإمام وأجب الإطاعة على جمیع أفراد الأمة من غیر استثناء.
ونتیجة هذا إن الرئیس الثانی یجب أن یكون عالما ً بجمیع أحكام الشریعة والقرآن ویجب أن یكون علمه هذا من غیر طریق الاجتهاد أو التقلید.
نعم إن البعض یستكثر على هؤلاء المقربین، أن یحتفظوا ببعض مخلفات الوحی من علوم المستقبل، لانهم یسمون الكتاب الذی یشتمل على هذه المخلفات جفرا ً، وربما استكثر هذه الأنباء على الوحی نفسه، لأنها غیب والنبی (صلی الله علیه وآله وسلم) یقول ((مالی ولهم یسألوننی عما لا أعلم وإنما أنا عبد لا علم لی إلا ما علمنی ربی)) أرأیت أجمل من هذه الدعوى، وأشد مطابقة من هذا الدلیل كأن الشیعة تدعی العلم لنبیها ولأئمتها من غیر تعلیم الله.
على هذا الحدیث یستند البعض مثل الدکتور طه حسین فی قوله هذا، وإلى الآیة التی تقول: ( قل لا یعلم من فی السموات والأرض الغیب إلا الله ) (2) ولكنه یتناسى الآیة الثانیة التی تقول: (عالم الغیب فلا یظهر على غیبه أحدا ً إلا من ارتضى من رسول ) (3)
وهذه النغمة قدیمة سمعتها الشیعة منذ قرون، وظنت أن المدینة الحدیثة ستحدد منها بعض التحدید حین یرى الكتاب الناقدون ملوك الدنیا تعد أبناءها لیوم العرش بالثقافة الصحیحة، وتؤسس لهم المعاهد العالیة، وإن البقیة من الداء ستنحسم حین یدركون الفرق الفارق بین ملك یقود الأمة لصلاح دنیاها، وإمام تطلب الأمة منه صلاح الدنیا والدین.
هذا ما أملته الشیعة حین استهل عصر الحقائق، وهذا ما تؤمله بعد أیضا ً فهل للأیام أن تحقق لها هذه الأمنیة وهل للنقاد المحترمین أن ینظروا إلى الحقائق بغیر المنظار الأول الذی خلقته الأحقاد؛ ولم تخلقه الأیام، لیعیش المسلم إلى جنب المسلم أخا ً بالمعنى الصحیح من الأخوة كما سماهم الله فی كتابه، وكما دعاهم إلیه النبی فی سنته.
ویسهل علینا التصدیق بهذا القول إذا علمنا أن هذه الرسالة دین یرید الله تبلیغه إلى عامة البشر، وناموس یجب أن تخضع له جمیع الأمم والأجیال، وفی ذلك ما فیه من المتاعب والمصاعب، وفی البشر ما فیهم من المكابرة والتردد فی أمثال هذه الدعوة، وفی النفوس وما فیها من التعصب لعقیدة الآباء والعادات المألوفة، وكیف یستطیع أن یستظهر على جمیع هذه العقبات، ویبلغ عهد الله كاملا ً غیر منقوص إذا لم تكن له تلك القوة.... العصمة.
یقول المتكلمون: العصمة لطف من الله عزّ وجل یحصل للكاملین من أفراد البشر یمتنعون بها عن ارتكاب الجرائم عمدا ً، ویرتفعون عن الوقوع بها خطأ؛ وهذا التعریف یؤول إلى القوة العقلیة التی ذكرناها لتفسیر العصمة؛ ویقول الخلقیون فی تعریف العدالة: هی ملكة نفسانیة یحصل بسببها الاعتدال التام فی جمیع ملكات النفس وصفاتها، وهذه الملكة تحصل من سیطرة العقل على جمیع قوى الإنسان، وإذن فمبدأ العدالة قوة العقل، فإذا كانت هذه القوة فی أسمى مراتبها سمیت (( عصمة)).
كیف یستطیع أن یظهر على جمیع هذه العقبات إذا لم یكن معصوما ً.
لأن غیر المعصوم قد یخل فی التبلیغ، فیزید فی الرسالة أو ینقص، عن عمد أو غیر عمد.
وكیف یثق الناس بدعوته مع هذا التجویز.
وكیف یصدقونه فی رسالته إذا رأوا من فعله ما یناقض قوله، والناس یقیسون أعما الإنسان بعضها على بعض، وخصوصا ً فی هؤلاء المثالیین الذین یریدون أن یكونوا أدلاّء للناس على الخیر، وقادتهم إلى الهدى.
یمتنع أن یكون النبی غیر معصوم، لأن اتباعه واجب على أفراد الأمة فی كل ما یقول وفی كل ما یعمل، ووجوب اتباعه هذا بحكم الكتاب وبحكم العقل، فیكون صدور الخطایا منه سببا ً لحصول التناقض فی أحكام الله.
ولأن ارتكاب الجرائم یوجب له الفسق، فیجب رد شهادته بحكم الكتاب.
هذا نموذج صغیر من الأدلة التی تقیمها الشیعة على عصمة الأنبیاء، وما أكثر أدلتهم على ذلك، وإذا بلغ إحصاء الأدلة على عصمة الإمام إلى ألفی دلیل(4) فكم یبلغ إحصائها على عصمة النبی (صلی الله علیه وآله وسلم).
بهذا وبأمثاله یستدل الشیعة على ما یعتقدون، والعقیدة إذا استندت إلى أمثال هذه الحجج أصبحت یقینیة لا تقبل التشكیك، والحكم العقلی إذا كان یقینا ً لزم أن یرد كل حدیث یضاده، وان تؤول كل آیة یفهم منها ما یخالفه، لأن الیقین لا یقابله أی دلیل آخر لأنه یكون معلوم الكذب.
لا بد أن یكون النبی منزها ً عن الآثام لما ذكرناه من الأدلة، ولما لم نذكره؛ وإذا امتنع علیه أن لا یكون معصوما ً لأنه نبی، وجب أن یكون الرئیس الثانی معصوما ً أیضا ً لأنه إمام، والإمام یحتضن الأمانة المقدسة التی أودعتها السماء بید الأمین الأول.
لا أقول أن الإمام یصبح نبیا ً كالرئیس الأول، لأن النبوة قد ختمت بنص الكتاب، ولكنی أقول: الإمام هو الأمین الثانی على الشریعة، وهو القائم على تبلیغها بعد الرسول؛ والشریعة تحتاج إلى حافظ یقوم برعایتها فی مرحلة البقاء والاستمرار، كما تحتاج إلى مبلغ یقوم بنشرها عند التأسیس، وكلا هذین الحافظین یجب أن یكون تعیینه من قبل الله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (5).
وإذا تماثل الرئیسان فی المهمة وجب أن یكونا متكافئین فی العصمة.
لأن الإمام واجب الإتباع بنص الكتاب، وقطعی السنة فإذا لم یكن معصوما ً جاز أن یأمر بما یخالف حكم الله، فیكون ذلك تناقضا ً بین أحكام الله.
ویكون الإلزام بطاعته سببا ً لنقض الغرض.
ولأن غیر المعصوم قد یخفی علیه كثیر من الأحكام فلا یتمكن أن یكون حافظا ً لأحكام الشریعة، وقد كلفه الله بذلك.
ولأنه إذا جوّز على نفسه الخطأ فی العمل أو فی الاستنتاج وجب علیه أن یتبع غیره لئلا یقع فی الخطأ، وإذا اتبع غیره سقط وجوب اتباعه على الناس، لقوله تعالى: ( أفمن یهدی إلى الحق أحق أن یتبع أمّن لا یهدی إلا أن یُهدى فما لكم كیف تحكمون) الإمام مرجع الأمة العام بعد موت نبیها، إلیه ترجع إذا اختلفت، ومن علمه تأخذ إذا جهلت، والإمام مصدر الأمة فیما یتجدد من الأحكام التی لم یوضحها الكتاب، ولم تبینها السنة.
فمن اللازم أن یكون هذا المصدر أعلم الأمة بدینها وأصدقها فی القول والعمل والشرع الذی یعتبر فی شاهد الدعوى أن یكون عدلا ً، ویشترط فی القاضی أن یكون نزیهاً، أرفع من أن یأتمن على مقدرات الأمة خائنا ً یتحكم فی نفوسها وأموالها بما یتأول من نصوص الكتاب، وبما یفسر من متشابهات السنة نعم إن الشریعة أرفع شأنا ً من أن تأتمن مثل هذا على مقدرات الأمة، ثم تأمرها بلزوم طاعته، وتحذرها أشد تحذیر عن مخالفته وتحكم ((أن من خرج من السلطان شبرا ً مات میتة جاهلیة)) (6).
وسواءً أكان وجوب نصب الإمام حكما ً عقلیا ً كما یقول بعض الحكماء، أم كان سمعیا ً كما تقوله طائفة من المسلمین، فإن هذه النتیجة لا یجوز أن تختلف ولا یمكن أن تختلف.
هكذا شاء البرهان لهذه الأمة أن تعتقد؛ وأن تجری على هذا الاعتقاد فیما تعمل، وهكذا شاء لها القرآن أیضا ً، ولكن التاریخ شاء لها أن تختار، وأن تكون غیر معصومة فی هذا الاختیار، وأن تكون مخالفتها هذه سببا ً لنتائج معقدة یدونها تأریخ المسلمین من حیث یجب؛ أو من حیث یكره.
وما الذی یضر بفكرة المهدی إذا اتخذ المغرضون منها آلة لدعایاتهم؛ ونسجوا حولها خیوطا ً من الآمال، وما الذی یضر بهذه الفكرة إذا اتضح للناس بعد ذلك كذب الكاذبین وضلال الضالین.
لقد ادعى النبوة كثیرون فی التاریخ، ثم اتضح للناس كذبهم وضلالهم، فلم یأخذ أحد من الناس هذا دلیلا ً على إبطال فكرة النبوة، وقد جرى مثل هذا أی الربوبیة منذ القدیم.
ولو أردنا أن نبطل كل حق یتشبه به المُدّعون الكاذبون لأبطلنا كل حقیقة موجودة.
تخلّف المسلمون یوم تخلّفوا عما خطه لهم البرهان وحدده لهم القرآن، وانحلت صفوفهم یوم ابتدأ الانحلال فی عقیدتهم، وكان من الضروری لهم أن یتراجعوا إلى الوراء من ذلك العهد، لولا حنكة فی قادتهم الأُوَل، وثبات فی بقیة العقائد.
فكان الفضل لهؤلاء القادة فی تحویل التأخر المحقق إلى حركة بطیئة نحو الاتجاه الأول؛ وكان الوقوف فی آخر عهد الخلفاء الراشدین، وكان التراجع على الوراء بعد ذلك العهد.
علمنا مما تقدم أن الإمام یجب أن یكون عالما ً بجمیع أحكام الشرع وأن یكون علمه بذلك من غیر طریق الاجتهاد أو التقلید.
وعلمنا أن الإمام یجب أن تكون له قوة عاصمة، یمتنع بها عن ارتكاب الآثام، وعن الوقوع فی الجرائم عن عمد أو غیر عمد، وهذان هما الشرطان الأساسیان فی خلافة النبوة ولا یهمنا أن نثبت بقیة الشرائط الأخرى فی الإمام فإن لها كتبا ً أخرى.
وكلا هذین الشرطین من الأمور التی تخفى عن الأمة، وعلى أهل الحل والعقد منها، فكیف یصح أن یوكل إلیها تعیین الإمام.
كلنا نعلم اختلاف الأمة فی شرائط الإمامة، فإذا كان تعیین الإمام بیدها، كان من الضروری أن تختار كل جماعة من الأمة ما یوافق مذهبها فی الإمامة ولا تنزل لأخواتها عما تقول، فیلزم اختلاف كلمة الأمة إلى غیر اجتماع، ولیس بعض هؤلاء الأئمة أحق بوجوب الإتباع من البعض الآخر، فیؤدی إلى إراقة الدماء الزكیّة.
وأخیرا ً إلى استحالة الاختیار، واستحالة الإمامة إذا انحصر أمرها بالاختیار، وفی النتائج السوداء التی وقعت فی عهد علی ومعاویة، وفی زمان الحسن والحسین ما یثبت وقوع ذلك وأنه لیس مجرد فرض.
یمتنع فی العادة أن یطلع جمیع أفراد الأمة، أو جمیع أهل الحل والعقد من الأمة على اجتماع شرائط الإمامة فی واحد معین من أفراد المسلمین، حتى إذا كانت هذه الشروط متحدة لا خلاف فیها بین الجمیع لأن الإطلاع یحتاج إلى معاشرة طویلة لذلك الشخص، وهذا غیر میسور لجمیع أفراد المختارین وخصوصا ً إذا كثر عدد الأمة، واختلفت بلادهم. وتخصیص الاختیار ببعض الأمة استیثار یقبحه العقل، والشرع، وتمنعه المصلحة العامة المشتركة.
علمنا أن غیر الشیعة من فرق المسلمین تكتفی بالعدالة فی الإمام ولنفرض أن الشیعة وافقتهم على ذلك لیكون شرط العدالة إجماعیا ً بین المسلمین، فهل یكفی هذا الاجتماع كلمتهم حین یختارون.
وهذا الاختلاف الكبیر فی معنى العدالة وفی شرائط وجودها، ألاّ یكون حائلا ً عن الاجتماع، والوحدة فی الاختیار.
نعم إن هذا الاختلاف من أعظم الموانع، وكل من تتبع آراء المسلمین فی تعریف العدالة، یعلم مقدار البون الشاسع بین هذه المذاهب فلو رجع الاختیار إلى الأمة لم یمكنها الاجتماع، إلا أن یكون الحق لشیء آخر وراء العدالة والاختیار.
یستحیل على الأمة أن تختار ثم تجتمع على هذا الاختیار مع هذه الفوارق العظیمة بین الآراء والمذاهب إذا استثنینا الجهات الشخصیة التی تجعل الاجتماع أكثر بعدا ً وأشد استحالة.
وإذا استفتینا تأریخ المسلمین الأُوَل؛ وجدنا السلف المتقدم لم یستطع أن یطبق نظام الاختیار بالمعنى الصحیح من التطبیق، وحدیث الفلتة التی وقى الله المسلمین شرّها معروف عن الخلیفة الثانی یرویه المؤرخون والمحدثون على السواء(7).
ولعل هذه الاستحالة هی السبب الحقیقی لعدول الخلیفة الأول عن الاختیار إلى النص على من یخلفه من بعده.
أما الخلیفة الثانی فقد جعل الأمر مزیجا ً من النص والاختیار، ولست أرید التوسع فی هذه المباحث لأن هذا التوسع یبعدنی كثیرا ً عن الغرض الأول.
ألفت العرب فكرة الشورى، وتحكیم أهل الحل والعقد منذ القدیم، فكان من الصعب علیها أن تجنح لحكم البرهان، وكان من الضروری لهم أن یطبقوا النظام القدیم المورث بما یمكنهم من التطبیق، وخضعت طائفة أخرى من المسلمین لحكم البرهان هذا، فكان من الضروری لهؤلاء أن یختاروا لأنفسهم ما اختاره الله لهم ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا ً أن یكون لهم الخیرة من أمرهم)(8). وكان من الضروری لهم أیضا ً أن یسایروا الحكومة الرسمیة القائمة حفظا ً لدماء المسلمین أن تراق، وصونا ً لكلمة الأمة أن تتفرق ولصفوفها أن تحل، والعقیدة هی العقیدة.
وهذا ما تسمیه الشیعة (تقیة)، وقد سماها الله تقیة حین شرعها فی كتابه (إلا أن تتقوا منهم تقاة) (9).
هذه قائمة أسماء الأئمة الإثنی عشر، وهذا تأریخهم الأحمر الباكی، وهذا تأریخ شیعتهم المظلوم حتى من نواحی تاریخیة، اقرأ جمیع ذلك بإمعان إذا استطعت أن تقرأ الحقائق الباكیة.
اقرأ جمیع ذلك ثم انظر: أی ثورة أقامها هذا الفریق ضد حكومة قائمة، وأی حركة إرهابیة تزعمها أحد هؤلاء الأئمة المظلومین، إذا استثنینا الحركات التی وقعت على عهد علی والحسن علیهما السلام، والتأریخ یقول لنا أن هذه الحركات غنما كانت لقمع العدوان ضد الحكومة الشرعیة القائمة كالحركات التأدیبیة التی وقعت على عهد الخلیفة الأول.
أما نهضة الامام الحسین علیه السلام ، وأظن أن هنا بیت القصید، فقد عدّها الدكتور من أهم الأحداث المتصلة بفكرة المهدی أما هذه النهضة فلم یكن الحسین یعترف لیزید بحكومة ظاهریة، وأی حكومة مستقرة یعترف بها الحسین، وهو یرى العراق یراسله بالبیعة، والحجاز یتحفز للوثبة، والجزیرة على مثل البركان، وأقطار المسلمین الأخرى على ما یشبه هذا.
وكیف یستطیع الامام الحسین علیه السلام أن یقف موقف المتفرج من هذه الأحداث، وهو فی العدد الأول من زعماء المسلمین وقد علم من خفایا یزید ما علمه الآخرون من ظواهره، وكیف یتركه المسلمون أن لا یعمل، ومن الذی یعمل إن لم یكن الحسین هو ذلك العامل.
وأخیرا ً فقد قتل الامام الحسین علیه السلام یوم الطّفّ، وكان مقتله بدایة عهد جدید للشیعة، وقد تلونت عقیدتهم بالدم، وتشربت أعمالهم بالدموع، ولكنهم أخلدوا بأمر أئمتهم إلى السكون وأحادیث الأئمة من أحفاد الحسین علیهم السلام فی تسكین الثورات القائمة والتندید بالثائرین من أولاد الحسن والحسین علیهم السلام كثیرة جدا ً وإذا استثنینا حركة المختار، وحركة زید بن علی بن الحسین.
أما الذی یكون شوكة فی جنب الدولة القائمة یهدّ من كیانها، ویهزّ من عرشها فهو الظلم الذی اتصف به رؤساء هذه الدول؛ وإراقة الدماء التی عصمها الله فی كتابه وهو نتیجة مباشرة للتعدی عما حده البرهان، وأوضحه القرآن فی معنى الإمامة.
المصادر:
1- صحیفة 97 من كتاب الصواعق المحرقة.
2- سورة النمل 65. الكهف آیة 26، 27.
3- سورة الجن آیة 26.
4- كتاب الألفین للعلامة الحسن بن یوسف بن علی بن المطهر المعروف بالعلامة الحلی المتوفی سنة72للهجرة.
5- سورة الحجر آیة 9.
6- صحیح البخاری كتاب الفتن.
7- صحیح البخاری، كتاب المحاربین من أهل الكفر والردة.
8- سورة الأحزاب آیة 36.
9- سورة آل عمران آیة 28.