یحدثنا التاریخ أن أبناء الخلیفة العضد وبقایا العائلة الفاطمیة قد تم التحفظ علیهم من قبل الأیوبیین حیث عزل النساء فی مكان وعزل الذكور مكبلین فی الأغلال فی مكان..
یروی المقریزی فلم یزالوا فی الاعتقال بدار الأفضل من حارة برجوان الى أن انتقل الملك الكامل محمد بن المعادل بن أبی بكر بن أیوب من دار الوزارة بالقاهرة إلى قلعة الجبل. فنقل معه ولد العاضد وإخوته وأولاد عمه واعتقلهم بالقلعة وبها مات العاضد. واستمر البقیة حتى انقرضت الدولة الأیوبیة.. (یروی المقریزی: وتولى وضع القیود فی أرجلهم الأمیر فخر الدین الطبنا ابو شعره بن الدویك والی القاهرة)(1)
ومع استیلاء الأیوبیین على مصر واستمرار حملات الإبادة والتصفیة للشیعة على جمیع المستویات. وجد الشیعة أنفسهم أمام خیارات ثلاثة الأول: اللجوء للتقیة وادعاء التسنن الثانی: الاندماج فی الطریق الصوفیة..
الثالث: الفرار إلى جنوب مصر والشام والیمن والهند وغیرها.. (الصدام بین صلاح الدین والشیعة فی مصر یشبه إلى حد كبیر الصدام الذی وقع بین عبد الناصر والإخوان المسلمین فی الخمسینات. فالشیعة كانت قوة فاعلة لكنها تقاعست عن القضاء على صلاح الدین من بدایة عهده بمصر. وكذلك الإخوان تقاعسوا عن القضاء على عبد الناصر. ونفس حملات البطش والارهاب والتشرید التی مارسها صلاح الدین ضد الشیعة.هی نفس الأسالیب التی مارسها عبد الناصر ضد الإخوان. حتى أن عبد الناصر أحرق مكتبات الإخوان كما أحرق صلاح الدین مكتبات الشیعة.كما أن رد الفعل واحد فی الحالتین. الشیعة فروا من مصر. والإخوان فروا منها أیضا..)
وبمرور الزمن تحول التسنن من إدعاء إلى حقیقة على ید الأبناء والأحفاد الذین وجدوا فی ظل واقع تظلله رایات المذاهب الأربعة وكأنه لا یوجد فی الإسلام سواها. مع الافتقاد التام لكل الأدوات الفكریة والبشریة التی تقودهم إلى معتقد الآباء..
وانطبق هذا الحال على قطاعات الشیعة التی اندمجت فی الطریق الصوفیة وحتى التی فرت إلى الجنوب. أما الذین فروا إلى الشام وغیرها فقد وجدوا متنفسا لهم هناك.. (ربما یعود سبب الهجرة لهذه البلاد إلى الوجود الشیعی القوی فیها ذو العمق التاریخی بالإضافة إلى التنوع الطائفی..)
ولقد كان أولاد العاضد المعتقلین فی سجون الأیوبیین یأملون أن تستمر الانتفاضات الشیعیة ضد النظام الأیوبی. وهذا الأمل لم یكن ضاربا فی الخیال وإنما كان قریبا من الواقع حیث كان الوجود الشیعی لا زال قویا على ساحته. وما صلاح الدین وجنده إلا فئة دخیلة علیه أقدامها غیر راسخة فیه. لكن شیئا من هذا لم یحدث.. (هذا یعود إلى الطبیعة المصریة التی لا تمیل إلى العنف وكانت لا تتوقع من صلاح الدین أن تتسع حملته من دائر الانتقام من الفاطمیین إلى دائرة الانتقام من الشعب الشیعی. وربما كان هذا أیضا هو موقف الإخوان بشعبیتهم الجارفة. من عبد الناصر..)
یروی المقریزی: وملك الأتراك إلى أن تسلطن الملك الظاهر ركن الدین بیبرس البندقاری. فلما كان سنة ست وستون وستمائة. أشهد على من بقی منهم - أولاد العاضد - وهم كمال الدین إسماعیل بن العاضد. وعماد الدین أبو القاسم بن الأمیر أبی الفتوح ابن العاضد وبدر الدین عبد الوهاب بن إبراهیم العاضد.. بن جمیع المواضع التی قبل المدرسة الصالحیة من القصر الكبیر والمواضع المعروفة بالتربة ظاهرا وباطنا بخط الخوخ السبع وجمیع الموضع المعروف بالقصر الیافعی بالخط المذكور. وجمیع الموضع المعروف بسكن أولاد شیخ الشیوخ وغیرهم من القصر الشارع بابه قبالة دار الحدیث النبوی الكاملیة. وجمیع الموضع المعروف بالقصر الغربی. وجمیع الموضع المعروف بدار الفطرة بخط المشهد الحسینی. وجمیع الموضع المعروف بدار الضیافة بحارة برجوان. وجمیع الموضع المعروف باللؤلؤة.
وجمیع قصر الزمرد وجمیع البستان الكافوری.. ملك لبیت المال المولوی السلطانی الملكی الظاهری.. من وجه صحیح شرعی لا رجعة فیه ولا لواحد منهم فی ذلك ولا شئ منه. ولا مثوبة بسبب ید ولا ملك ولا وجه من الوجوه خلافا فی ذلك من مسجد لله تبارك وتعالى أو مدفن لآبائهم.. وأرخ ذلك الإشهاد بثالث عشر ربیع الأول سنة ستین وستماءة وأثبت على قاضی القضاة الصاحب تاج الدین عبد الوهاب بن بنت الأعز الشافعی. وتقرر مع المذكورین أن مهما كان قبضوه من أثمان بعض الأماكن المذكورة التی عاقد علیها وكلاؤهم واتصلوا إلیه یحاسبوا به من جملة ما یحرز ثمنه عند وكیل بیت المال. وقبض أیدی المذكورین عن التصرف فی الأماكن المذكورة وغیرها ورسم بیعها. فباعها وكیل بیت المال.. (ویذكر أن قاضی القضاة شمس الدین بن مسرور المقدسی الحنبلی مدرس الحنابلة بالمدرسة الصالحیة اشترى قاعة السدرة وهی من ممتلكات الفاطمیین بألف وخمسه وسبعین دینارا من كمال الدین بن الفقیه وكیل بیت المال ثم باعها المذكور للملك الظاهر بیبرس. انظر الخطط.. والسؤال هذا: من أین اتى ابن مسرور بهذه الأموال؟
والسؤال الآخر الذی یطرح نفسه هنا: هل كانت عائلة العاضد لا تزال تشكل خطرا على نفوذ الممالیك حتى یتم تجریدها من بقایا ممتلكاتها..؟
وتأمل القرار المملوكی الذی أصدره والی الممالیك على الشام عام 674 هـ والذی یمنع أهل صیدا وبیروت وأعمالها من اعتقاد الرافضة والشیعة وردعهم والرجوع إلى السنة والجماعة واعتقاد مذهب أهل الحق وإلا دمائهم وأموالهم مباحة.. ومثل هذه السیاسة الارهابیة الدمویة كفل لها أن تقضی على الوجود الشیعی فی مصر فی زمن قیاسی..)(2)
بین التصوف والتشیع:
هل التصوف هو الوجه الأخر للتشیع..؟وما هو سر هذا التواجد القوی لحركة التصوف فی مصر..؟
هل هو استثمار لحب آل البیت الكامن فی نفوس المصریین..؟
وهل تمكن هذا الحب فی قلوب المصریین یعود إلى التصوف أم إلى التشیع..؟
وما هو موقف الطرق الصوفیة من الشیعة..؟
إن تاریخ التشیع فی مصر یسبق تاریخ التصوف بفترة زمنیة طویلة. وهذا هو التاریخ الطبیعی لحركة التصوف باعتبارها حركة ولیدة التشیع..
ویبدو أن الأیوبیین والممالیك من بعدهم لم یتمكنوا من القضاء على التشیع فی مصر عن طریق دعم المذاهب الأربعة. فاضطروا إلى احتضان الصوفیة ودعمها هی الأخرى لكونها تملك القدرة على احتواء التشیع وتصفیته على أساس أن حركة التصوف ترفع شعار آل البیت الذی ترفعه الشیعة. وتبنی الصوفیة لشعار آل البیت لا یشكل أی خطورة على القوى الحاكمة لأنه قائم على أساس عدم الوعی بحقیقة هذا الشعار. فمن ثم فتحت الحكومات الطریق أمام الصوفیة لتحتوى الجماهیر وتستقطبها حتى سادت الواقع المصری.. (حول علاقة الأیوبیین والممالیك بالصوفیة انظر خطط المقریزی وبدائع الزهور والنجوم الزاهرة ویذكر أن الطرق الصوفیة تبنت المذاهب الأربعة والتزمت بها فهناك طرق شافعیة وأخرى مالكیة وحنفیة. إلا أنها ترفع شعار آل البیت وبذلك تحقق هدف الحكام بإدخال الجماهیر المصریة فی دائرة المذاهب الأربعة وسحبها من التشیع تدریجیا..)
إن الصوفیة إنما سادت فی مصر وأصبحت التیار الإسلامی الأول على حساب آل البیت وبدونهم ما كان لها وجود ولا ذكر.. (انتسب كثیر من المصریین لآل البیت زورا وبهتانا وحصلوا على شهادات مزرورة بذلك لإدخالهم ضمن الأشراف. وكانت هذه الشهادات تباع وتشترى. ویبدوا أن الحكام كان لهم دور فی ذلك حیث دسوا الكثیر من عناصرهم ضمن الأشراف والموالین لآل البیت بهدف تشویه حركتهم والانحراف بها عن مسارها الصحیح..)
ولا تزال مصر بفضل هذا الحب الكامن فی نفوس الجماهیر لآل البیت والذی یعد أهم المعالم الشیعیة الباقیة والتی تقف سدا منیعا فی مواجهة خط بنی أمیة وبنی العباس وبنی أیوب والممالیك والعثمانیین من بعدهم. وخط الوهابیین الذین یدعمهم آل سعود فی الوقت الحاضر والذی یعد استمرارا لخط النواصب أعداء آل البیت تفریخ السفیانی.. ( والنواصب جمع ناصبی. وهو تعبیر یطلق على الذین یناصبون آل البیت العداء. ویعد بنی أمیة وبنی العباس ومن سار على دربهم من النواصب. والسفیانی هو رمز لخط سوف یبرز آخر الزمان تنبأت به الكتب یقود الحرب على خط آل البیت. )
وعلى الرغم من أن صوفیة مصر یرفعون شعار الخلفاء الأربعة الذی تقوم على أساسه عقیدة أهل السنة. ذلك الشعار الذی اخترع خصیصا لضرب آل البیت - رغم ذلك هناك اتجاهات صوفیة لدیها قدر من الوعی یؤهلها لفهم حقیقة المؤامرة التی حیكت ضد آل البیت ویخرجها من دائرة التصوف إلى دائرة التشیع.. (من بین الاتجاهات الصوفیة المتعاطفة مع الشیعة الیوم فی مصر اتجاه الطریقة العزائمیة التی تصدر مجلة الإسلام وطن والتی تحوی مقالات مناهضة للوهابیة والسعودیة. والغریب أن هذه المجلة لا تذكر آل البیت إلا وتسلم علیهم كما هو حال الشیعة. وقد أصدرت عددا على غلافه موضوع یتعلق بمكان وضعت فیه رأس الحسین بالشام أثناء نقلها إلى مصر. وكتب على الغلاف بجوار كلمة الحسین. كلمتی: علیه السلام.. وهناك أیضا اتجاه جماعة العشیرة المحمدیة التی تصدر مجلة المسلم والتی یرأسها الأستاذ محمد زكی إبراهیم. وهی جماعة متعاطفة مع الشیعة وتحترم أطروحتها. وللأستاذ محمد زكی رائد العشیرة عدة كتب یهاجم فیها التیار السلفی الوهابی ویثنی على الشیعة. وقد أصدر مؤخرا كتابا عن مراقد آل البیت فی القاهرة ناقش فیه قضیة شد الرحال وأثبت حدیث الثقلین..)
ولقد شكل التیار الصوفی ولا زال - سدا منیعا حال دون اختراق الدعوة الوهابیة للشارع المصری. كما فشلت الحركة الإسلامیة فی اختراقه بسبب تبنیها هذه الدعوة.
الأشراف:
كان الأشراف من أبناء الإمام علی (علیه السلام) متواجدون فی مصر من قبل ظهور الدولة الفاطمیة ولهم أنشطتهم المشروعة والمعترف بها من قبل حكومات الولاة المتعاقبة على مصر..ولم تكن أنشطة الأشراف هذه لها صلة بالسیاسة إنما كانت أنشطة تقلیدیة هدفها تدبیر أمور الأشراف والدفاع عن مصالحهم ورعایتهم من قبل نقیب یمثلهم كما هو حال أعیان المجتمع المصری وطوائفه آنذاك..
یقول القلقشندی: نقابة الأشراف أو نقابة الطالبیین لا یكون نقیبها إلا من شیوخ هذه الطائفة وأجلهم قدرا. وله التصرف فی أمورهم وحمایتهم من الأدعیاء وعیادة مرضاهم والسیر فی جنائزهم وقضاء حوائجهم. ولا یقطع أمرا من الأمور المتعلقة بهم إلا بموافقة شیخهم.(3)
وهناك بركة ماء كانت معروفة بمصر تعرف ببركة الحبش. وكان ماء الذیل یغرقها فی موسم الفیضان. ثم تزرع بعد زوال الماء منها. وقد أوقفت أراضی هذه البركة على الأشراف. أوقفها على الأشراف من ولد علی بن أبی طالب من فاطمة طلائع بن رزیك وزیر الفائز والعاضد من الخلفاء الفاطمیین.. (إن اسم الشریف كان یطلق فی الصدر الأول على كل من كان من أهل البیت العلوی أو العباسی فلما ولى الفاطمیون مصر قصروا اسم الشریف على ذریة الحسن والحسین فقط فاستمر ذلك بمصر إلى الآن..)(4)
وكان لنقیب الأشراف اثنا عشر نقیبا. ویخلع علیه. فیسیر بالطبل والبوق والجنود مثل الأمراء وله دیوان ومشارف وعامل ونائب وله فی الشهر عشرون دینارا ولمشارف دیوانه عشرة دنانیر ولنائبه فی النقابة ثمانیة دنانیر.
وللعامل خمسة دنانیر..( وقد استمرت نقابة الأشراف حتى عهد عبد الناصرحیث قطعت الدولة الرواتب التی كانت تعطى للأشراف. ثم عاودت نشاطها الیوم وكتبت إعلانا تطالب فیه الأشراف بالانتساب إلیها ومعهم المستندات التی تثبت نسبهم..) (5)
واستمرت نقابة الأشراف فی مصر طوال تلك العصور حتى عصرنا الحاضر.
إلا أنها فی بعض فترات هذه العصور وأمام بعض الأحداث التی مرت بالساحة العصریة برز للنقابة دور على الساحة السیاسیة فی ظل نقابة السید عمر مكرم الذی فاد عدة انتفاضات شعبیة ضد الفرنسیین حین دخلوا مصر وضد الانجلیز حین قادوا حملة عام 1807 م وضد ولاة العثمانیین عام 1805 م. وقد تمكن من الإطاحة بأحمد خورشید باشا الوالی العثمانی وتولیة محمد علی مكانة.. (السید عمر مكرم الحسینی نقیب الأشراف فی زمانه. انظر سیرته فی كتاب عمر مكرم بطل المقاومة الشعبیة سلسلة أعلام العرب عدد رقم 67..)
ومن الأشراف الذین أصبحوا أعلاما ورموزا وطنیة السید أحمد عرابی الزعیم الوطنی الذی قاد حركة الجیش المصری فی مواجهة الخدیوی توفیق وفی مواجهة الانجلیز وقاد معارك عسكریة فی مواجهتهم انتهت بنفیه من مصر.. (أحمد عرابی ینتهی نسبه إلى الإمام موسى الكاظم علیه السلام. )
وینتشر الأشراف الیوم فی صعید مصر وهناك بلدة فی الجنوب تتبع محافظة قنا تسمى " الأشراف " ومعظم أهلها ینتسبون إلى أهل البیت مما یشیر إلى الهجرات الطالبیة والشیعیة لجنوب مصر..
والأشراف فی الأصل هم من شیعة أهل البیت الذین وفدوا إلى مصر وقد انصهروا فی المجتمع المصری السنی بفعل ضغوط سیاسیة واجتماعیة إلا إنه لا زال هناك القلیل منهم ما زال متمسكا بعقیدته الشیعة.. ویبدوا هذا عند قبائل الجعافرة التی تسكن جنوب مصر حول محافظة أسوان والتی تدعی الانتساب للإمام جعفر الصادق. فهذه القبائل غالبیتها من المنتسبین للطرق الصوفیة والقلة القلیلة منها تلتزم بعقیدة الشیعة الإمامیة.. (یقال إن قبائل الجعافرة هذه تنتسب إلى جعفر بن أبی طالب وهناك قبائل تدعى الجوادیة شیعیة بالكامل فی الصحراء الغربیة جنوب مصر وتعیش شبه معزولة عن المجتمع بعكس قبائل الجعفریة الذین انتشروا بین ربوع مصر وفی خارجها.)
مدن شیعیة:
هناك عدد من المدن فی مصر برز التشیع فیها وارتبط بها دون غیرها من مدن مصر. ولعل السبب فی ذلك یعود إلى هجرات الطالبیین أو العلویین إلى هذه المدن. أو یعود إلى وجود عدد من دعاة التشیع الذین استقروا بها..وجنوب مصر بمدنه أسوان واسنا وادفو وأرمنت وقفط كان مركزا للتشیع حتى فترة قریبة ولا تزال به بقایا تشیع حیت الیوم. حیث كان الجنوب ملجأ للشیعة الفارین من وجه الأمویین والعباسیین والأیوبیین والممالیك فیما بعد..
وكان وجود الصالح طلائع كوال للصعید من قبل الفاطمیین قد أسهم إلى حد كبیر فی نشر التشیع بین ربوعه. فقد كانت للصالح إهتمامات دعویة وثقافیة وأدبیة بالإضافة إلى اهتماماته السیاسیة.
وكانت القاهرة هی مركز حركة التشیع فی مصر باعتبارها عاصمة الدولة الفاطمیة ومقر الدعوة ومنها ینطلق الدعاة إلى أقالیم مصر ونجوعها..
والمدن الشیعیة بالصعید هی التی فجرت الثورات ضد صلاح الدین كما فجرت ثورات أخرى ضد الممالیك والعثمانیین..
وعلى الرغم من وجود الدولة الفاطمیة فی مصر وسیطرتها على كل ربوعها شمالها وجنوبها لا نجد أثرا بارزا للتشیع فی مناطق الوجه البحری (الشمال)..
وربما یكمن السبب فی هذا إلى أن الهجرات العربیة إلى مصر والتی تتابعت مع حركة الفتح الإسلامی استقرت فی الجنوب وتمركزت به. وأن الشمال حتى ذلك الوقت كان یتكون من أخلاط الناس ممن أصولهم غیر عربیة..
وقد كانت هناك أماكن ومدن فی مصر موقوفة على العلویین. كمدینة قفط التی كانت وقفا على العلویین من أیام الإمام علی (علیه السلام).. (معجم البلدان یاقوت الحموی. باب القاف..)
وكان فی القاهرة تجمعات شیعیة تقل وتكثر حسب أحوال الزمان فی حی الحسین وكانت أغبلها من الشیعة الوافدین إلى مصر بهدف الاستقرار فیها. والذین كانوا یقدمون من الشام وبلاد فارس والعراق وغیرها.. ولا تزال لهذه العائلات بقایا فی مصر حتى الیوم..
یروی صاحب الخطط التوفیقیة أن الأعاجم عن الشیعة كانوا یفضلون السكن بالقرب من المشهد الحسینی ویتظاهرون فی مولده بالزینة الفاخرة والولائم العظیمة ویحزنون علیه حزنهم المشهور. ویجتمعون فی منزل یتخذونه لذلك ویخطب أحدهم بالفارسیة شعر رثاء آل البیت..
وقد استمرت مواكب الشیعة احتفالا بذكرى عاشوراء حتى فترة قریبة ویبدو أن هذه المواكب من بقایا العهد العثمانی الذی أتیحت فی أواخره فرصة لبروز شیعی وإن كان محدودا. وقد ذكر صاحب الخطط التوفیقیة ما یشیر إلى ذلك..
عادات وتقالید شیعیة:
على الرغم من حملات الحصار الفكری التی شنها الأیوبیین على المصریین لمحو معالم التشیع من نفوسهم. وتعمدهم القضاء على العادات والتقالید الشیعیة خاصة المواسم والأعیاد. رغم ذلك بقیت الكثیر من العادات والتقالید الشیعیة توارثها المصریون جیلا بعد جیل حتى زماننا هذا. بل أصبحت هذه العادات والتقالید جزءا من الشخصیة المصریة..وأن وجود مثل هذه العادات والتقالید حتى الیوم لیدل دلالة واضحة على أن التشیع استمر وجوده فی الواقع المصری رغم البطش والارهاب والتعتیم..
ومن بین العادات الشیعیة الباقیة فی مصر الیوم ذكرى عاشوراء وإن كان صلاح الدین قد حولها من ذكرى حزینة إلى ذكرى سعیدة واستمر المصریون یحتفلون بها على طریقته.. (أنظر خطط المقریزی..)
كذلك هناك ذكرى الاحتفال بلیلة النصف من شعبان وهی عادة شیعیة لا تزال باقیة تحتفل بها الطرق الصوفیة الیوم..
وهناك الاحتفال برأس السنة الهجریة وهی عادة ابتدعها الفاطمیون ولا تزال مستمرة إلى الیوم.. (یعتبر یوم رأس السنة الهجریة عطلة رسمیة فی مصر. وتحتفل به الحكومة كل عام..)
وعلى مستوى الأسماء لا یزال اسم " السید " من الأسماء المنتشرة فی مصر.
ولا یزال هذا الاسم یطلق على كبار القوم وأعیان الناس من باب التشریف وتعلیة المقام. فیقال السید فلان والسیدة فلانة..
واسم السید هو فی الحقیقة صفة تشریفة خاصة بالأشراف المنتسبین لآل البیت فهی لا تطلق إلا على الأشراف فقط. فیقال السیدة زینب أو السیدة نفیسة أو سیدنا الحسین أو السید عمر مكرم أو السید رفاعة الطهطاوی. إلا أن المصریین أشاعوها بینهم من باب تعلیة مقامهم ومكانتهم..
وبالإضافة إلى اسم السید هناك اسم على والحسن والحسین والذی حرفه المصریون استسهالا للنطق إلى حسن وحسین وتعد هذه الأسماء من أكثر الأسماء شیوعا فی مصر بالنسبة إلى الرجال. أما بالنسبة إلى النساء فهناك اسم فاطمة وزینب وسكینة ونفیسة وغیرها..
وفی مجال الأطعمة لا یزال كثیر من المصریین یقاطعون الأرانب ولا یأكلونها وهی محرمة فی مذهب الشیعة..
وعلى الجانب الآخر كانت هذاك مسبة دائمة لشیعة مصر بدأت مع العصر الأیوبی لا تزال بقایاها ترددها السنة العوام دون أن تدرك معناها وهی قولهم فی حالة الغضب من شخص ما یا ابن الرفضی.. وهی مسبة مشتقة من تسمیة الشیعة بالروافض..
التشیع المصری:
طغت الطبیعة المصریة على التشیع كما طغت على التسنن. وأصبح للشخصیة المسلمة فی مصر سماتها الخاصة التی میزتها عن الشخصیات الأخرى..ولقد تعاملت الشخصیة المصریة مع الدین وفق ثوابت لا تتغیر حتى ولو كانت تتناقض مع هذا الدین وتصطدم به..
وتحاول الشخصیة المصریة على الدوام صبغة الدین بشخصیتها لا أن تنصبغ هی بالدین.. ویبدو ذلك من تركیز المصریین على الجانب السهل البسیط من الدین الذی یتفق مع إهمال الجانب الآخر الذی یفرض علیهم تبعات وتكالیف لا تلائمهم..
ویبدو لین المصریین فی تناول الدین بشكل عام. وفی تناول التشیع بشكل خاص. فهذا اللین هو أحد الملامح الثابتة فی الشخصیة المصریة..
ولقد ولد هذا اللین میلا من قبل المصریین للترهبن والمبالغة فی الانغماس فی الشعائر الشكلیة والأمور الهامشیة والتعلق بمثالیة الماضی.. وانعكس هذا الأمر على التیارات الإسلامیة العاملة بالساحة المصریة والتی صبغت جمیعها بالصبغة السلفیة. مما سهل على المد السعودی الوهابی التغلغل فی صفوفها واحتوائها..
ولعل سر عداء التیارات الإسلامیة ومتدینی مصر عموما للشیعة هو اعتقادهم أنها لا تحترم السلف ولا تقر بمثالیتهم.. (تعتبر الشیعة أن الصحابة والسلف عموما إلا قلیلا منهم تآمروا على آل البیت وتحالفوا مع الحكومات التی قامت بعد وفاة الرسول صلى الله علیه وآله وسلم من خلفاء وأمویین وعباسیین.. فالشیعة تحترم السلف الذین والوا آل البیت وناصروهم وتنبذ الذین عادوهم أو ناصروا أعدائهم..
وعلى الجانب الآخر یقف أهل السنة نفس الموقف من سلف الشیعة ولا یتخذوهم قدوة لهم وفی مقدمتهم آل البیت وأبنائهم ومن تتلمذوا على أیدیهم. بل تروى الكثیر من الروایات التی تقلل من شأن آل البیت وترفع مقام خصومهم. وذلك مثل الروایات التی تساوی بین معاویة والإمام علی.
وتفضل علیه أبو بكر وعمر وعثمان. ومثل تأویل النصوص الواردة فی آل البیت على غیر معناها. وهناك روایات كثیرة على لسان السلف وفی مقدمتهم ابن تیمیة تنتقد الإمام الحسین لخروجه فی كربلاء وتدافع عن یزید وتثنی علیه..(6)
وموقف السنة هذا یعود إلى أسباب سیاسیة ثم تحول هذا الموقف بعد ذلك إلى موقف علمی على ید السلف وتلحق بكثیر من النصوص النبویة الموضوعة لأغراض سیاسیة وهو موقف سائد إلى الیوم ورثته التیارات الإسلامیة المعاصرة ویتجلى فی رفض قراءة الكثیر من الكتب السلفیة لمجرد أن مؤلفیها من الشیعة أو ممن اتهموا بالتشیع..
وإذا كان التشیع المصری كالتسنن. فما هی ملامح هذا التشیع..
- السلفیة المترهبنة..
- الانعزالیة..
فالطابع السلفی طغى على شیعة مصر وأصبح ملمحا هاما من ملامح شخصیة الشیعة المصریة. ویبدو هذا بوضوح فی میلهم للقراءات التراثیة دون القراءات الفكریة المعاصرة. حتى أن بعضهم هاجم دار البدایة لكونها ركزت منشوراتها على النتاجات الفكریة والثقافیة المعاصرة لمفكری الشیعة..
وعلى الرغم من مرونة الشیعیة وتغاضیها عن الأمور الشكلیة واهتمامها بالمضمون والجوهر. نرى الكثیر من شیعة مصر یصرون على التمسك باللحیة وإطالتها بحیث یصعب تمییزهم السنیة الوهابیة..
وفی الوسط الشیعی المصری الكثیر من العناصر الثریة لكن ترهبنها یحول دون التحرك الإیجابی لصالح دعوتهم.. (وكما هو الحال بالنسبة للتیارات الإسلامیة فقد اندس فی وسط الشیعة الكثیر من العناصر المشبوهة التی تسعى لتحقیق مكاسب على حساب الشیعة.مثال ذلك عناصر تعمل لحساب جهات أمنیة. وعناصر تدعی الانتساب لآل البیت والصلة بكبار مراجع الشیعة.)
ولقد بررت حالة الرهبنة هذه الانعزال عن الواقع وتلحفت بفكرة الانتظار (انتظار الإمام الغائب) فهذه الفكرة وجدت فیها الشخصیة المصریة ملاذها كی تبرر موقفها السلبی من الواقع على أساسها.. ولعل التدین السلبی هذا هو الذی سهل لصلاح الدین استئصال الشیعة من مصر.. هناك عائلات شیعیة مصریة من أصول إیرانیة وعربیة لا تزال تلتزم بالتقیة وبعضها ذاب قلب الواقع ولم یعد یحمل من التشیع سوى الاسم..
ومن بین العائلات الشیعة المصریة عائلة السیدة الراحلة تحیة كاظم زوجة الرئیس الراحل جمال عبد الناصر.. وهناك نموذج النموذج آخر یعكس الطبیعة السلبیة لبعض الشیعة فی مواجهة الواقع ذلك النموذج المتمثل فی مجموعة القائمین على جمعیة آل البیت حیث أن الجمعیة قد حلت على حكم قضائی ببطلان قرار الحل وأصبح عودتها أمرا مشروعا. لكن القائمین على الجمعیة تقاعسوا عن تنفیذ حكم القضاء الذی صدر لصالح الجمعیة سنوات طویلة خوفا من الاصطدام بجهاز الأمن وانتظارا لانفراج الأوضاع.
المصادر:
1- اتعاظ الحنفا باخبار الائمة الفاطمیین الخلفا ج 3 / 347
2- الخطط المقریزیة ج 2 ص 286/انظر نص القرار بالكامل فی صبح الأعشى للقلقشندی ج 13 / 13 وما بعدها. / كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك ج 3. القسم الأول ص 21 من أحداث عام 756 هـ .
3- صبح الأعشى ج 3 / 481 / 482.
4- المرجع السابق ج / 336
5- اتعاظ الحنفا ج 3.
6- أنظر فتاوی ابن تیمیة ج 27 باب البغاة وانظر تاریخ ابن خلدون وابن كثیر.
