
من دعاء أبي حمزة الثماليّ:
"إِلهي لو قرنْتني بِالأصفادِ، ومنعتني سيبك مِن بينِ الأشهادِ ودللت على فضايِحي عُيُون العِبادِ، وأمرت بي إِلى النّار، وحُلت بيني وبين الأبرارِ، ما قطعتُ رجائي مِنك وما صرفتُ تأميلي لِلعفوِ عنك، ولا خرج حُبُّك مِن قلبي".
روي عن الحارث بن المغيرة، أو أبيه، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: قلت له: ما كان في وصية لقمان؟ قال عليه السلام: "كان فيها الأعاجيب وكان أعجب ما كان فيها أن قال لابنه: خف الله عزّ وجلّ خيفة لو جئته ببرّ الثقلين لعذّبك، وارج الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك".
ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: "كان أبي يقول: إنّه ليس من عبد مؤمن إلّا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وُزن هذا لم يزد على هذا ولو وُزن هذا لم يزد على هذا"(1).
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: إنّ هذا الحديث الشريف يدلّ على: "أن كلّاً من الخوف والرجاء يجب أن يصل إلى مرتبة الكمال، ولا يجوز اليأس من رحمة الله أبداً، ولا الأمان من مكره مطلقاً"(2).
مفهوم الرجاء والخوف
الرجاء: هو الانتظار والأمل بالمستقبل، أي إذا كان المنتظر محبوباً فإنّه يتعلّق به القلب ويشعر باللذّة والارتياح فيُسمّى هذا بالرجاء. ولذا فإنّ أسباب الرجاء تؤول إلى لطف الله وجوده وسعة رحمته وعفوه وغفرانه ووفور إحسانه، وما على الإنسان المؤمن إلاّ القيام بالعمل الصالح والسعي نحو مرضاة الله تبارك وتعالى والتدرّج في الكمال الروحيّ حيث الفوز بنعيم الجنّة والرضوان.الخوف: هو الخشية والألم والاضطراب، أي إذا كان المنتظر مكروهاً حصل منه ألم في القلب سُمّي خوفاً وإشفاقاً ووجلاً ورهبةً. ولذا فإنّ أسباب الخوف ترجع إلى نقص العبد وتقصيره وسوء أعماله وقصوره عن الوصول إلى مراتب القرب والوصال وانهماكه فيما يوجب الخسران والوبال، فضلاً عن النظر إلى شدّة بأس الله وبطشه وما أوعد العاصين من عباده فهو أيضاً موجب للخوف.
المؤمن وحقيقة الرجاء
يقول أرباب القلوب: "إنّ الدنيا مزرعة الآخرة". لذا يشبِّهون قلب الانسان المؤمن بالأرض، والإيمان بالبذر فيها، والطاعات جارية مجرى تقليب الأرض وتطهيرها، ومجرى حفر الأنهار وسياقة الماء إليها. أمّا قلب الإنسان غير المؤمن المستغرِق في الدنيا، فهو كالأرض السبخة (الصلبة واليابسة) الّتي لا ينمو فيها البذر.بالتالي فإنّ يوم القيامة هو يوم الحصاد، ولا يحصد أحدٌ إلاّ ما زرع في الدنيا، ولا ينمو زرع إلاّ من بذر الإيمان، ولا ينفع إيمان مع خُبث القلب وسوء أخلاقه، كما لا ينمو بذر في أرض سبخة.
ولهذا ينبغي أن يُقاس رجاء العبد للمغفرة برجاء صاحب الزرع، فكلّ من طلب أرضاً طيّبة وألقى فيها بذراً جيّداً غير عفن ولا مسوِّس، ثم أمدّه بما يحتاج إليه وهو سياق الماء إليه في أوقاته ثم نقّى الأرض من الشوك والحشيش، وما يمنع نبات البذر أو يُفسده، ثم جلس منتظِراً من فضل الله رفع الصواعق والآيات المفسدة إلى أن يُثمر الزرع ويبلغ غايته، سُمِّي انتظاره رجاء. وأمّا إن بثّ البذر في أرض صلبة سبخة مرتفعة لا ينصبّ الماء إليها، ولم يُشغل بتعهّد البذر أصلاً ثم انتظر حصاد الزرع يُسمّى انتظاره حمقاً وغروراً، لا رجاء. وإن بثّ البذر في أرض طيّبة ولكن لا ماء لها، وينتظر مياه الأمطار حيث لا تغلب الأمطار ولا يمتنع، سُمّي انتظاره تمنّياً لا رجاء(3).
إذاً نستنتج أن العبد المؤمن هو من بذر في قلبه بذور الإيمان، وسقاها بماء الطاعة الخالصة، وطهّر القلب من المفسدات والموانع مثل العجب والرياء وأمثالهما الّتي تُعدّ بمثابة الأعشاب الضارّة العائقة لنموّ الزرع، ثمّ انتظر فضل الله ورجاءه أن يثبّته على الحقّ حتّى آخر نفس في حياته، وأن يجعل عاقبته حسن الخاتمة المفضية إلى المغفرة، بذلك يكون انتظاره رجاء حقيقيّاً محموداً ومستحسناً، يقول تعالى: ﴿إِنّ الّذِين آمنُواْ والّذِين هاجرُواْ وجاهدُواْ فِي سبِيلِ اللهِ أُوْلـئِك يرْجُون رحْمت اللهِ واللهُ غفُورٌ رّحِيمٌ﴾(4). عن الحسن بن أبي سارة قال: سمعت أبا عبد الله الصادق عليه السلام يقول: "لا يكون المؤمن مؤمناً حتّى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتّى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو"(5).
بينما العبد الّذي انقطع عن بذر الإيمان وتعهّده بسقيه من ماء الطاعات، أو ترك القلب مشحوناً برذائل الأخلاق وانهمك في طلب لذّات الدنيا، وفيما يكرهه الله، ولا يذمّ نفسه عليه، ولا يعزم على التوبة والرجوع، فرجاؤه المغفرة حمق كرجاء من بثّ البذر في أرض سبخة وعزم على أن لا يتعهّده بسقي ولا تنقية ثمّ انتظر المغفرة فانتظاره حمق وغرور، قال تعالى: ﴿فخلف مِن بعْدِهِمْ خلْفٌ ورِثُواْ الْكِتاب يأْخُذُون عرض هذا الأدْنى ويقُولُون سيُغْفرُ لنا...﴾(6). وفي الكافي باسناده عن ابن أبي نجران، عمّن ذكره، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قلت له: قوم يعملون بالمعاصي ويقولون نرجو، فلا يزالون كذلك حتّى يأتيهم الموت، فقال: هؤلاء قوم يترجّحون (الترجّح: الميل، يعنى مالت بهم عن الاستقامة أمانيهم الكاذبة) في الأماني، كذبوا، ليسوا براجين، إنّ من رجا شيئاً طلبه ومن خاف من شيء هرب منه"(7).
تعادل الخوف والرجاء عند المؤمنين
إنّ الخوف ليس ضدّ الرجاء، بل هو رفيق له وباعث آخر بطريق الرهبة، كما أنّ الرجاء باعث بطريق الرغبة. فلا بدّ أن يكون العبد دائماً بين الخوف والرجاء في دار الدنيا، لا يغلب أحدهما على الآخر، بل يكونان متساويين لا إفراط أو تفريط فيهما، قال الإمام عليّ عليه السلام: "خير الأعمال اعتدال الرجاء والخوف"(8) وقال الإمام الصادق عليه السلام: "كان أبي عليه السلام يقول: ليس من عبد مؤمن إلّا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء. ولو وُزن هذا لم يزد على هذا ولو وزن هذا لم يزد على هذا"(9).إذ لو رجح الرجاء لزم الأمن وهو في غير موضعه، قال تعالى: ﴿أفأمِنُواْ مكْر اللّهِ فلا يأْمنُ مكْر اللّهِ إِلاّ الْقوْمُ الْخاسِرُون﴾(10). ولو رجح الخوف لزم اليأس الموجب للهلاك، قال سبحانه:
﴿... ولا تيْأسُواْ مِن رّوْحِ اللّهِ إِنّهُ لا ييْأسُ مِن رّوْحِ اللّهِ إِلاّ الْقوْمُ الْكافِرُون﴾(11).
يُعلِّق الإمام الخمينيّ قدس سره على هذه المسألة، قائلاً: "... يرى الإنسان نفسه في منتهى النقص والتقصير، ويرى الحقّ في منتهى العظمة والجلال، وسعة الرحمة والعطاء، ويعيش العبد بين هاتين النظرتين دائماً في حال متوازية بين الخوف والرجاء. وحيث إنّ الأسماء الجلاليّة والجماليّة تتجلّى في قلب السالك بصورة متعادلة لا يترجّح كلٌّ من الخوف والرجاء على الآخر"(12).
خطر اليأس من رحمة الله الواسعة وآثاره
إنّ حقيقة الرجاء- كما سبق وأشرنا إليه - ليس فقط زرع الإيمان بالله في القلب وسقيه بالطاعة والعبادة، بل لا بدّ من الاستمرار في مراقبة هذا الإيمان القلبيّ والتعهّد بعدم ارتكاب المعاصي والذنوب، وأن لا يسمح بدخول اليأس إلى حرم قلبه أبداً، لأنّ اليأس هو حالة مضادّة للرجاء ويمنع من التعهّد والاستمرار في تعلّق الأمل بالله تعالى.قال تعالى: ﴿لا يسْأمُ الْإِنسانُ مِن دُعاء الْخيْرِ وإِن مّسّهُ الشّرُّ فيؤُوسٌ قنُوطٌ﴾(13).
وقال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "الفاجر الراجي لرحمة الله تعالى أقرب منها من العابد المقنط"(14).
ولذا فإنّ تورّط الإنسان في الذنوب والمعاصي يؤدّي به إلى الابتلاء بالقنوط واليأس، وهما من الآثار المدمّرة لحياة الإنسان حيث يعيش حالة من الاحباط والضياع الدائم في الدنيا والآخرة، فعن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يبعث الله المقنطين يوم القيامة مغلّبة وجوههم يعني غلبة السواد على البياض فيُقال لهم: هؤلاء المقنطون من رحمة الله"(15).
ولكن بالرغم من ذلك فإنّ المولى عزّ وجلّ لم يُغلق باب العفو والتوبة أمام عباده، بل منّ عليهم برحمته الواسعة الّتي شملت كلّ شيء، وجعل بدل السبيل الواحد سبلاً للعودة إلى الحضرة الإلهيّة، ومن تلك السبل الاستغفار ورجاء المغفرة. يقول الإمام عليّ عليه السلام: "عجبت لمن يقنط ومعه الاستغفار"(16). وقال الإمام الصادق عليه السلام: "أرج الله رجاءً لا يُجرّئك على معاصيه وخف الله خوفاً لا يؤيسك من رحمته"(17).
صفات الخائفين والراجين الله تعالى
1- لا يخافون إلا الله عزّ وجلّ، قال تعالى حاكياً عن ابن آدم عليه السلام: ﴿إِنِّي أخافُ الله ربّ الْعالمِين﴾(18)، وقال الإمام الصادق عليه السلام: "من خاف الله عزّ وجلّ أخاف الله منه كلّشيء، ومن لم يخف الله عزّ وجلّ أخافه الله من كلّ شيء"(19).
قصة لليقظة...
روي عن ليث بن أبي سليم، قال: سمعت رجلاً من الأنصار يقول: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستظلّ بظلّ شجرة في يوم شديد الحرّ، إذ جاء رجل فنزع ثيابه ثمّ جعل يتمرّغ في الرمضاء(الصحراء) يكوي ظهره مرّة، وبطنه مرّة، وجبهته مرّة، ويقول: يا نفس ذوقي فما عند الله عزّ وجلّ أعظم مما صنعت بك. ورسول الله ينظر إلى ما يصنع، ثمّ إنّ الرجل لبس ثيابه ثمّ أقبل فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيده ودعاه فقال له: "يا عبد الله لقد رأيتك صنعت شيئاً ما رأيت أحداً من الناس صنعه فما حملك على ما صنعت؟".فقال الرجل: حملني على ذلك مخافة الله عزّ وجلّ. وقلت لنفسي: يا نفس ذوقي فما عند الله أعظم ممّا صنعت بك. فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لقد خفت ربّك حقّ مخافته فإنّ ربّك ليباهي بك أهل السماء"، ثم قال لأصحابه: "يا معاشر من حضر أدنوا من صاحبكم حتّى يدعو لكم"، فدنوا منه فدعا لهم وقال: "اللّهمّ اجمع أمرنا على الهدى، واجعل التقوى زادنا والجنّة مآبنا"(20).
2- الرجاء والخشية من الله تعالى فقط، قال تبارك: ﴿وترْجُون مِن اللهِ ما لا يرْجُون﴾(21)، ﴿لقدْ كان لكُمْ فِي رسُولِ اللهِ أُسْوةٌ حسنةٌ لِّمن كان يرْجُو الله والْيوْم الْآخِر وذكر الله كثِيرًا﴾(22)، وقال سبحانه: ﴿الّذِين يُبلِّغُون رِسالاتِ اللهِ ويخْشوْنهُ ولا يخْشوْن أحدًا إِلّا الله وكفى بِاللهِ حسِيبًا﴾(23).
قصة للعبرة..
روي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "كان عابد من بني إسرائيل فطرقته امرأة باللّيل فقالت له: أضفني، فقال: امرأة مع رجل لا يستقيم، قالت: إني أخاف أن يأكلني السبع فتأثم، فخرج وأدخلها، قال: والقنديل بيده فذهب يصعد به، فقالت له: أدخلتني من النور إلى الظلمة، قال: فردّ القنديل، فما لبث أن جاءته الشهوة، فلما خشي على نفسه قرّب خنصره إلى النار فلم يزل كلما جاءته الشهوة أدخل إصبعه النار حتّى أحرق خمس أصابع فلمّا أصبح قال: أخرجي فبئست الضيفة كنت لي"(24).قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من عرضت له فاحشة أو شهوة فاجتنبها من مخافة الله عزّ وجلّ حرّم الله عليه النار، وآمنه من الفزع الأكبر، وأنجز له ما وعده في كتابه في قوله ﴿ولِمنْ خاف مقام ربِّهِ جنّتانِ﴾"(25).
3- التسابق إلى الأعمال الصالحة والتقرّب من الله تبارك، وتجنّب المعاصي والذنوب، قال تعالى: ﴿والسّابِقُون السّابِقُون * أُوْلئِك الْمُقرّبُون * فِي جنّاتِ النّعِيمِ﴾(26). وفي آية أخرى قال تبارك: ﴿وأمّا منْ خاف مقام ربِّهِ ونهى النّفْس عنِ الْهوى * فإِنّ الْجنّة هِي الْمأْوى﴾(27).
4- عدم الغفلة عن ذكر الله سبحانه، روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "في حكمة آل داود يا ابن آدم كيف تتكلّم بالهدى وأنت لا تفيق عن الردى يا ابن آدم أصبح قلبك قاسياً وأنت لعظمة الله ناسياً فلو كنت بالله عالماً وبعظمته عارفاً لم تزل منه خائفاً، ولمن وعده راجياً، ويحك كيف لا تذكر لحدك، وانفرادك فيه وحدك؟"(28).
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "إنّ المؤمن لا يُصبح إلا خائفاً وإن كان مُحسِناً، ولا يُمسي إلا خائفاً وإن كان مُحسِناً، لأنّه بين أمرين: بين وقت قد مضى لا يدري ما الله صانع به، وبين
أجل قد اقترب لا يدري ما يُصيبه من الهلكات"(29).
قصة معبّرة..
روي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "مرّ سلمان (رضي الله عنه) على الحدّادين بالكوفة، فرأى شاباً قد صُعِق، والناس قد اجتمعوا حوله، فقالوا له: يا أبا عبد الله هذا الشابّ قد صُرِع، فلو قرأت في أُذُنه، قال: فدنا منه سلمان، فلما رآه الشابّ أفاق وقال: يا أبا عبد الله ليس بي ما يقول هؤلاء القوم، ولكنّي مررت بهؤلاء الحدّادين وهم يضربون المرزبات (المرزبات جمع المرزبة: عُصيّة من حديد)، فذكرت قوله تعالى: ﴿ولهُم مّقامِعُ مِنْ حدِيدٍ﴾(30) فذهب عقلي خوفاً من عقاب الله تعالى، فاتّخذه سلمان أخاً، ودخل قلبه حلاوة محبّته في الله تعالى، فلم يزل معه حتّى مرض الشاب فجاءه سلمان فجلس عند رأسه وهو يجود بنفسه فقال: يا ملك الموت ارفق بأخي، قال: يا أبا عبد الله إنّي بكلّ مؤمن رفيق"(31).5- عدم الرضى عن النفس، أي الخائف والراجي الله سبحانه لا يرضى بالقليل من العمل، حتّى لو عمل كثيراً فيعتبر نفسه ما زالت قاصرة ومقصّره، وهذا ما يجعله مشغولاً باستمرارية مراقبة النفس ومحاسبتها وتوبيخها على كلّ تقصير، بغية الاحتراز من تضييع أنفاسه وأوقاته في غير مرضاة الله جلّ جلاله وعبادته له. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث قدسيّ عن ربّ العالمين: "لا يتّكل العاملون على أعمالهم الّتي يعملون بها لثوابي، فإنّهم لو اجتهدوا وأتعبوا أنفسهم أعمارهم في عبادتي كانوا مقصّرين، غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي، فيما يطلبون من كرامتي والنعيم في جنّاتي ورفيع الدرجات العلى في جواري، ولكن برحمتي فليثقوا وفضلي فليرجوا، وإلى حسن الظنّ بي فليطمئنّوا، فإنّ رحمتي عند ذلك تُدركهم وبمنّي أُبلّغهم رضواني وأُلبسهم عفوي، فإنّي أنا الله الرحمن الرحيم بذلك تسمّيت"(32).
وقفة تأمّل:
بعد هذه القصص المذكورة لا بُدّ أن نسأل أنفسنا:أين هي تلك القلوب الخائفة من الله؟ وأين تلك النفوس الخاشعة لله؟ وأين تلك الأرواح الراهبة الله؟
وهل تتلاءم أعمالنا وما يصدر عنّا من أفعال وسلوكيّات مع الخشية من جبار الأرض والسماء؟
وهل يراقب الله في أعمالنا وتصرفاتنا مع الناس ومع الوالدين ومع الزوجة والزوج والأولاد؟
أم هل سلب الله عزّ وجلّ من قلوبنا وأفئدتنا الخشية والرهبة منه؟
وهل أضحى الخوف والرجاء من الله لقلقة لسان نتشدّق بها في مساجدنا وجوامعنا وفي دعائنا وصلاتنا؟
وهل تطمئن قلوبنا وتستقرّ بذكر اسمه جلّ جلاله؟
وهل تتأثّر قلوبنا وتتفاعل أنفسنا عند سماع موعظة أو عبرة؟ أم لا نتفاعل ولا نتأثرّ وتبقى قلوبنا قاسية كالحجارة بل أشدّ من ذلك؟!
وهل أعددنا أنفسنا لرحلة القبر وضغطته؟ وهل نقدر على أن نُجيب عن أسئلة منكر ونكير؟
وهل تهيّأنا لتلك الساعة الّتي تصطك فيها الرُّكبُ وترتعش الأجسام وتقشعرّ الأبدان لهول الموقف والحساب؟
وهل استعددنا ليوم تشخص فيه القلوب والأبصار...؟
ويلي كلّما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب! فقد أفنيت بالتسويف والآمال عمري! أما آن لي أن استحي من ربي؟!
آه.. آه... ليْت شِعْري ألِلشّقاءِ ولدتْني اُمّي، امْ لِلْعناءِ ربّتْني، فليْتها لمْ تلِدْني ولمْ تُربِّني!
المفاهيم الأساس
- إنّ الخوف والرجاء هما من صفات المؤمن الواثق بالله تبارك وتعالى.- من صفات الخائفين والراجين من الله تعالى:
- عدم اليأس من رحمة الله الواسعة لكلّ شيء.
- لا يخاف المؤمن إلا من الله تعالى
- الرجاء والخشية من الله تعالى فقط.
- التسابق إلى الخيرات والعمل الصالح وتجنّب معصية الله سبحانه.
- مراقبة النفس ومحاسبتها على أيّ تقصير أو ذنب.
- عدم الرضا بالعمل القليل، وأن يرى الإنسان نفسه دائماً في تقصير مهما عمل في حياته.
قال طاووس الفقيه: رأيته- الإمام السجاد عليه السلام - يطوف من العشاء إلى السحر ويتعبّد، فلما لم ير أحداً رمق السماء بطرفه، وقال:"إلهي غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتّحات للسائلين، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدّي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عرصات القيامة".
ثم بكى وقال: "وعزّتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاكّ، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرّض، ولكن سوّلت لي نفسي وأعانني على ذلك سترك المرخى به عليّ، فالآن من عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عنّي؟ فواسوأتاه غداً من الوقوف بين يديك، إذا قيل للمخفّين جوزوا، وللمثقلين حطّوا، أمع المخفّين أجوز؟ أم مع المثقلين أحطّ؟ ويلي كلّما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب، أما آن لي أن أستحي من ربّي؟ !" ثم
بكى وأنشأ يقول:
أتُحرقني بالنار يا غاية المنى*** فأين رجائي ثمّ أين محبّتي
أتيت بأعمال قباح زريّة*** وما في الورى خلْق جنى كجنايتي
ثم بكى وقال:
"سبحانك تُعصى كأنّك لا تُرى، وتحلم كأنّك لم تُعص، تتودّد إلى خلقك بُحسن الصنيع كأنّ بك الحاجة إليهم، وأنت يا سيّدي الغنيّ عنهم".
ثم خرّ إلى الأرض ساجداً.
قال (طاووس الفقيه): فدنوت منه ورفعت رأسه ووضعته على ركبتي وبكيت حتّى جرت دموعي على خدّه، فاستوى جالساً وقال: "من الذي أشغلني عن ذكر ربي؟".
فقلت: أنا طاووس يا ابن رسول الله ما هذا الجزع والفزع؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جانون، أبوك الحسين بن عليّ وأمّك فاطمة الزهراء، وجدّك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم !!
قال: فالتفت إليّ وقال:
"هيهات هيهات يا طاووس، دع عنّي حديث أبي وأمّي وجدّي، خلق الله الجنّة لمن أطاعه وأحسن، ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشيّاً، أما سمعت قوله تعالى: ﴿فإِذا نُفِخ فِي الصُّورِ فلا أنساب بيْنهُمْ يوْمئِذٍ ولا يتساءلُون﴾(33)؟ والله لا ينفعك غداً إلا تقدمة تُقدّمها من عمل صالح".(34)
المصادر :
1- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 67.
2- الأربعون حديثاً، الإمام الخمينيّ قدس سره ح14، ص269.
3- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج67، ص352 ـ 355.
4- البقرة:218.
5- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص71.
6- الأعراف:169.
7- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 68، ح5.
8- ميزان الحكمة، الريشهري، ج1، ص 826، ح 4.
9- وسائل الشيعة، ج15، ص216، ح1.
10- الأعراف:99.
11- يوسف:87.
12- الأربعون حديثاً، ح14، ص278.
13- فصلت:49.
14- كنز العمال، ج3، ص140، ح 5869.
15- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج2، ص55، ح30.
16- نهج البلاغة، ج4، ص 19.
17- أمالي الصدوق، ص 65، ح5.
18- المائدة:28.
19- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 67، ص 381.
20- م. ن، ج 83، ص 52.
21- النساء:104.
22- الأحزاب، الآية:21.
23- الفتح:6.
24- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج67، ص 401.
25- أمالي الصدوق، ص 515، والآية في سورة الرحمن:46.
26- الواقعة:12.
27- النازعات:41.
28- أمالي الطوسي، ص 203، ح 48.
29- أمالي الطوسي، ج 2، ص 208، ح 7.
30- الحج:21.
31- أمالي المفيد، ص 136، ح 4..
32- أمالي الطوسي، ص 212، ح 18
33- المؤمنون:101.
34- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج46، ص82.
/ج