![نحن والغرب نحن والغرب](https://rasekhoon.net/_files/thumb_images700/article_ar/A12950.jpg)
إن الأمة الإسلامية المعاصرة تعيش حالة من غياب الهوية الإسلامية في جوانب متعددة من شخصيتها، غابت فيها معالم بنائها المتميزة، وفقدت فيها كثيراً من أساسياتها المعتبرة، ولاسيما في هذا العصر من تاريخ الأمة الإسلامية، الذي يشهد تراجعاً كبيراً في إنجازات الأمة الحضارية على جميع المستويات، وفي غالب ميادين الأنشطة الإنسانية، حتى إن المراقب لتراجع الأمة، وتخلفها المتواصل، وإخفاقاتها المستمرة: ليهوله حجم الهوة بين هذا الواقع المعاصر المؤلم، وبين نجاحات الأمة وإنجازاتها الحضارية في تاريخها المجيد.
التخلف الاقتصادي ووسائل النهضة
إن من المتفق عليه عند كل منصف أن تقدم الأمة الإسلامية وازدهارها -كان ولا يزال- مرتبطاً - كل الارتباط- بدرجة تمسكها بتعاليم دينها، وتقيدها بشريعة ربها، وأن إخفاقاتها مرتبطة -هي الأخرى كل الارتباط- بدرجة بعدها عن دينها ورحمة شريعتها.وقد كان هذان الارتباطان في غاية الوضوح في حسِّ الأمة في السابق حين كانت تعيش شريعتها، وتعمل بمقتضى عقيدتها، حينما كانت لا ترى الفصل بين الدين والدنيا، ولكن لما طال عليها الأمد عبر أحقاب الزمان، وتداعت على مقدَّراتها الأمم، وما رافق ذلك- في هذا العصر- من الهجمة الفكرية الإلحادية، والغزو الفكري والأخلاقي الماجن، اللذين تزامنا مع التقدم المذهل لوسائل الاتصال المتنوعة: لم يعد غريباً على الأمة - في خضم هذه المتغيرات الضخمة- أن تقلِّد غيرها، وأن تسْتنَّ بأعدائها، بل وترضى أن تعيش خارج شريعتها، وتحيا بغير عقيدتها.ولقد تأثر الميدان الاقتصادي بما تأثرت به الميادين الأخرى من الانحراف عن نهج الحق، وما صاحب ذلك من تخلُّف عام على جميع المستويات التنموية، ولاسيما في عصر العولمة الثقافية، والتسلط الاقتصادي على الموارد والإنتاج والتوزيع والأسواق، حتى إن الأمة المسلمة - في هذه الظروف الاقتصادية المعاصرة- تعيش حالة من الضياع، فلا تهتدي إلى المخرج الصحيح من أزماتها الاقتصادية الخانقة، وإنما تنتقل عبر دروب التيه الاقتصادية من إخفاق إلى إخفاق، في سلسلة متلاحقة - لا نهاية لها- من المتاهات الموحشة، ووصفات علاجات التنمية الخادعة.
إن واقع التخلُّف الاقتصادي قد بلغ في الأمة منتهاه، فترك آثاره المُحبطة على كل جوانب التنمية، فأثر بصورة مزعجة على طموح الأمة وآمالها المستقبلية، حتى إن الأمة - من فرط يأسها في أمل النجاح - أصبحت تشكُّ في كل خطة مستقبلية، وتتوجَّسُ من كل بادرة تنموية، حتى إن التشاؤم - يكاد يكون - سمة عامة تخيِّم بظلالها المذمومة على مستقبل الأمة الاقتصادي، ومشاريعها التنموية.
ولم يكن الفرد من أمة الإسلام المعاصرة ليعيش شعوراً مغايراً لمشاعر الأمة المُحبَطة؛ فقد بلغت به آثار التخلف أسفل درجات العطاء التنموي، ونزلت بقدراته الإنتاجية إلى أحطِّ مراتب الإنتاج التنموية، حتى إنه لم يعد غريباً في الأوساط الاقتصادية المعاصرة أن يرتبط التخلف بدين الإسلام، وانخفاض إنتاجية الفرد بالعامل المسلم.
إن هذا الوضع الاقتصادي المؤلم يدعو الأمة المعاصرة - أولا وقبل كل شيء - إلى إعادة النظر في أصولها الاقتصادية، ومراجعة منطلقاتها التنموية الأساسية، وذلك قبل النظر والمراجعة لفروع الأنشطة الاقتصادية والتنموية؛ فإن حجم الواقع المتردي يشهد بأن الأزمة الاقتصادية المعاصرة أزمة أصول ومنطلقات، وليست أزمة فروع وجزئيات؛ فإن الخطأ في الفروع والجزئيات في العملية التنموية يمكن ملاحظته واستدراكه، والخطأ فيها بل وحتى التقصير لا يمكن أن يحطَّ الأمة إلى مثل هذه الدَّرَكة المهلكة التي تحياها اليوم، فلابد- والحالة هذه - من مراجعة الأصول والأساسيات الضرورية التي تقوم عليها التنمية الاقتصادية، وتنطلق منها.
ومن هنا فإن خروج الأمة من أزمتها المعاصرة لا بد أن ينطلق من ثلاثة منطلقات أساسية، هي محاور القضية الاقتصادية ولُبُّها، أولها: ربط النشاط الاقتصادي بالغاية الأساسية للعملية التنموية، في بعدها الرأسي تجاه الخالق جل جلاله، وفي بعدها الأفقي تجاه الإنسان عنصر التنمية الأول وهدفها ووسيلتها. والثاني: تحديد موقف الأمة من النموذج التنموي الغربي المعاصر، والتوجه إليه بالنقد، والدراسة، والمقارنة، بينه وبين غيره من نماذج التنمية الأخرى المعاصرة؛ لإثبات أنه ليس النموذج الوحيد لمن أراد التفوق؛ فقد تكون هناك نماذج أخرى أكثر تفوقاً وملاءمة للأمة منه، وأما المنطلق الثالث: فهو لفت الأمة المسلمة المعاصرة نحو ذاتها ومكمن قوتها الاقتصادية، وتيئيسها من إخلاص غيرها لها، لتعتمد على ذاتها في بناء نهضتها الاقتصادية الحديثة، في ضوء تعاليم دينها، وحدود شريعتها؛ فإن عطاء هذه الشريعة الخاتمة لا يمكن أن ينقطع مادامت الأمة تعيش بها، وتتفاعل معها، وتتلمس فيها حلول مشكلاتها المستجدة، منطلقة - في كل ذلك- من وجوب توحيد مصدر التلقي للتشريع -تماماً- كوجوب توحيد جهة التوجه بالعبادة نحو الخالق سبحانه وتعالى؛ فإن توحيد العبادة يستلزم - بالضرورة- توحيد مصدر التلقي للشريعة.
نحن والغرب - حضارتان متعارضتان
في ظل التفوق الغربي الذي شمل العديد من مرافق الحياة الحيوية، واستطاع أن يقدم للإنسان المعاصر كثيراً من الخدمات العلمية والعملية والترفيهية، ويحقق له جملة من الآمال التي كانت في الزمن الماضي لا تعدو أن تكون أماني تجول في خواطر أصحابها، فإذا بها حقائق يستمتع بها كثير من الناس، ففي ظل هذه المتغيرات المتفوقة لا يبعد أبداً حصول شيء -كثير أو قليل- من الدهشة والانبهار، ليشمل العديد من طبقات الناس، على اختلاف توجهاتهم وحجم ثقافاتهم.إن من الصعوبة بمكان أن يجمع طبقات من هذا الجيل المعاصر بين زمن ركبوا فيه الهودج على الإبل زمن شبابهم، وبين ركوب الكونكورد في شيخوختهم، إن هذا التغيُّر الحضاري، والنقلة السريعة التي يعانيها الجيل نفسه لا يمكن أن تمرَّ على معاصريها دون تأثير ما تخلفه عليهم، ابتداءً من الصدمة الحضارية - التي لا بد منها للجميع - ومروراً بالإعجاب والإكبار، وانتهاء بالاستسلام والانقياد.
إن من الصعوبة بمكان أن نستمتع بمنتجات الحضارة الغربية، وعطائها الكبير في ميادين الحياة دون أن يلحقنا -كثير أو قليل- من سلبياتها ورعوناتها، فإن الفصل الدقيق بين منتجات الغرب -أياً كانت- وبين فكره وسلوكه يكاد يكون أمراً مستحيلاً، ولا سيما في ظل الانفتاح الكبير الذي تشهده وسائل الاتصال الحديثة، فأمة تعيش عالة على المجتمع الدولي، تتكفَّف الأغنياء، وتخاف الأقوياء: لا يمكن لها - في ظل هذه الظروف - أن تتميز بثقافتها دون خدوش، أو أن تستقل بقرارها دون تأثير.
لقد ربط الغرب بين كثير من المحرمات في ديننا وثقافتنا، وبين كثير من إنتاجه الفكري والثقافي والحضاري، حتى أصبح القرار يُحسم على نحو: " خذه كلَّه أو دعْه كلَّه "، إما الحضارة بشوائبها - الكبيرة والصغيرة - وإما البداوة بآلامها ومعاناتها.
إن نقاط الالتقاء بين الفكر الإسلامي، وبين الفكر الغربي ليست قليلة، فإن تتبع الحكمة والتقاطها مهمة من مهمات المؤمن؛ إذ إن الأصل في كل نعمة أوجدها الله تعالى في هذا الكون أنها للمؤمنين، يستعينون بها على عبادة ربهم، وغيرهم يستمتع بها ضمن مهلة الحياة الدنيا، وأما في الآخرة فإن متعة النعم تكون خالصة للمؤمنين دون غيرهم كما قال الله تعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاِت مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ }(1)
ومع كثرة نقاط الالتقاء بين الفكرين الإسلامي والغربي - بناء على هذا الفهم - فإن نقاط الافتراق والاختلاف والتضاد لا تكاد تُحصى في كثير من الأصول والمنطلقات، وفي حجم ضخم من الفروع والجزئيات؛ ولهذا فإن الفكر الغربي المصبوغ بالصبغة الجاهلية في منطلقاته وأهدافه لا يمكن أن يكون أنموذجاً لتفعيل الفكر العربي الإسلامي، حتى وإن كانت هناك نقاط التقاء بين الفكرين.
إن المفكر المسلم يجد في تراث الأمة الحضاري والثقافي مادة فكرية عظيمة في حاجة إلى تنقيب واستخراج ودراسة، وأعظم منها تلك المادة الشاملة لكل جوانب الفكر الإنساني التي يجدها المتأمل في الوحيين الكتاب والسنة، فالعطاء الفكري فيهما لا يمكن أن ينقطع عن الناظر المسترشد في كل عصر، فإذا كان المسلم يجد في نتاج فكر بشري ما يثيره ويأسره، فماذا تراه يجد من الإثارة والأسر والنور في رسالة تكلم بها الله تعالى، وفي هدي تكلم به أكمل وأنضج شخص عرفه التاريخ الإنساني ؟
أسباب الفقر في العالم الإسلامي
إن أسباب مشكلة الفقر في العالم الإسلامي كثيرة ومتعددة، وأولها وعلى رأسها: بعد المسلمين أنفسهم من منهج الإسلام في الميدان الاقتصادي والسياسي والثقافي وغيرها من الميادين، إذ إن الإسلام بمنهجه القويم يأمر بالعمل والكسب ويشجع عليه، وينهى عن الكسل والقعود، فلو كان المسلمون متبعين لهذا المنهج لظهر فيهم النشاط ونبذ الكسل وطلب الرزق بطرقه المشروعة، فلا يقعون في مشكلة الفقر التي هدَّت كيانهم النفسي والجسمي.ويمكن أن نستعرض بعض الجوانب التي كان لها أثرها الكبير في انتشار الفقر والحرمان بين المسلمين وهي على النحو التالي:
1- الامتناع عن إخراج الزكاة المفروضة:
الزكاة فريضة إسلامية وركن من أركان الإسلام شرعها الله طهرة للأغنياء، وحقاً للفقراء، ينتفعون بها ويكفون بها عن السؤال، ولكن لمَّا ضيَّع المسلمون هذا الركن وبخل الأغنياء بإخراج الزكاة المفروضة، والصدقة المستحبة ظهرت المجاعات والطبقات والأحقاد بين الشعوب الإسلامية وعمَّ الجهل والمرض.
والزكاة ضمان اجتماعي للفقراء، ومورد كبير ليس بضئيل، فهي العشر أو نصف العشر من الحاصلات الزراعية، وربع عشر النقود والثروة التجارية. وأول من تُصرف عليهم الزكاة هم الفقراء والمساكين، أمثال المتضررين في المناطق الإسلامية المختلفة فلا يُعطون ما يسد الرمق فقط بل يُعطون ما يغنيهم ويكفيهم، فإن في الزكاة كفاية وغنىً. وإن افترضنا جدلاً أنها لم تكف حاجة الفقراء والمحتاجين فإن في أموال الأغنياء حقاً غير الزكاة.
ولا ينبغي أن يُفهم من نظام الزكاة أنها تدعو الفقراء إلى القعود عن طلب المعاش والمكاسب بل إنها لا تُعطى للقادر على العمل الواجد له وإنما تُعطى للفقير الذي لا يستطيع الكسب.
2- كنز الأموال:
حرم الإسلام كنز المال فحذر الله الذين يكنزون الذهب والفضة فقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } (2)فذهب بعضهم إلى أن المال وإن أُخرجت زكاته ولم يستثمر فهو كنز، وبعضهم ذهب إلى أن المال إن أخرجت زكاته لم يسم كنزاً. واليوم في هذه الظروف التي يمر بها المسلمون تزيد حرمة الكنز إذ إن بعض المسلمين يموت جوعاً في كثير من البلاد الإسلامية، ولا يجدون تمويلاً لمشروعاتهم التنموية. فإذا كان الإسلام لا يجيز للرجل أن يعطل أرضاً أكثر من ثلاث سنوات، فمن باب أولى ألاَّ يجيز له تعطيل الأموال النقدية. ولو افترضنا أن جميع أفراد المجتمع آثروا أن يكنزوا أموالهم وتقاعسوا عن العمل فسوف تكون النتيجة عدم وجود إنتاج يُباع ويُشترى ويُستهلك، إلى جانب نقص الإنفاق الذي يؤدي إلى عدم القدرة على تصريف المنتجات الاقتصادية فيهلك الناس والاقتصاد. لهذه الأسباب ولغيرها حرم الإسلام كنز المال الذي يعطل الحركة الإنتاجية.
3- التعامل بالربا:
إن الله سبحانه وتعالى لا يحرم على الناس ما يعود عليهم بالنفع والخير، وإنما يُحرم عليهم الخبائث وما يعود عليهم بالمضرة، فهو اللطيف بعباده، الخبير بأحوالهم وما يصلح لهم. لهذا حرم سبحانه وتعالى الربا بجميع أنواعه، ولعن رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم كل من له صلة بالربا، وذلك لما له من الآثار السيئة على المجتمع من الناحية النفسية وعلاقة الأفراد، ومن الناحية الاقتصادية والإنتاجية.
ويظهر فساد هذا النظام من الناحية الاقتصادية والإنتاجية في قعود المرابين عن العمل والكسب و تقديم الجهد للحصول على الإنتاج والثمرة، والاكتفاء بفرض فوائد ربوية على المقترضين ثم انتظارهم بعد ذلك حتى الأجل المتفق عليه فيقبضون المال والزيادة التي يعتبرونها في تصورهم الفاسد إنتاجاً. وهم يستحلون قضية فرض الفوائد بحجة الانتظار على المقترض. وهذه النظرية الآثمة تصيب الإنتاج بالعقم، وتهدم الاقتصاد من أساسه، وتتضح خطورتها إذا تصورنا تطبيقه على نطاق أوسع بحيث يزيد المنتظرون على الكادحين.
كما أن تحريم الربا يدعو إلى نشاط كل شخص وتحركه حسب قدرته في سبيل حصوله على الطيبات - إنتاجاً واستهلاكاً - ففي نفس الوقت يعيش الفرد في حالة من الاستهلاك ومجال من الإنتاج " فإذا شاء صاحب المال أن يربح، فإما أن يشتغل فيه بنفسه فيربح أو يخسر. وإما أن يشارك بماله صاحب الجهد ثم يتقاسما الربح والخسارة. وهذا هو العدل المطلق ". ويبرر الإمام الرازي رحمه الله قضية تحريم الربا بقوله: " يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب، ولأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقداً كان أو نسيئة، خف عليه اكتساب وجه المعيشة فلا يكاد يحتمل مشقة الكسب والتجارة والصناعات الشاقة، وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق، ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات والحرف والصناعات والعمارات "، فقيام النظام الاقتصادي على تحريم الربا يجند طاقات الأفراد للعمل والإنتاج، والكسب الحلال، مع محاربة الخمول والقعود عن المكاسب.
4- تسلط الأعداء:
لا شك أن أعداء الإسلام لا يرجون للمسلمين خيراً، وإن تظاهروا مكراً وخداعاً بما يسمونه بالمساعدات للدول النامية، فهذه المساعدات هي في حقيقة الأمر عوائق لنهوض دول المنطقة بنشاط اقتصادي يخرجها من أزمتها العصيبة، ففي عام 1976م أجرى مكتب العمل الدولي إحصائية عن عدد الفقراء خلال عشرين عاماً تبين منها أنه خلال العشر سنوات من 1963م - 1973م زاد عدد الفقراء حوالي 119 مليوناً، وفي سنة 1970م كان مجموع ديون العالم الثالث 74 بليون دولار، وفي سنة 1979م بلغ مجموع ديونه 366 بليون دولار … وما زالت الديون والفوائد الربوية تتراكم وتهدد اقتصاد بعض الدول بالإفلاس، ولعل في الإحصاءات الحديثة ما يؤكد ذلك.
كما يظهر كيد الأعداء في إتلاف كثير من المحاصيل الزائدة حفاظاً على أسعارها في الأسواق، وتقديم بعض التعويضات المالية للمزارعين لعدم زراعة أراضيهم في بعض المواسم حفاظاً على أسعار تلك المنتجات الزراعية. وتقوم السوق الأوربية المشتركة بتخزين كميات كبيرة من المواد الغذائية احتكاراً لها وحفاظاً على أسعارها في الأسواق. فأين حقيقة المساعدات المالية وجدواها ؟ مع هذه الأعمال الممقوتة، والتي يترفع عنها أحط الشعوب ثقافة وأخلاقاً، فضلاً عن الشعوب والحكومات التي تزعم التقدم والرقي، وتحاول أن تجمع الناس تحت نظام عالمي جديد.
5- التبذير المالي:
تعيش بعض فئات من الشعوب الإسلامية في حالة من التبذير وتبديد الثروة فأشغلت حياتها بالكماليات وأسرفت في ذلك رغم وجود طبقات وفئات من الناس لا يجدون لقمة الخبز إلا ممزوجة بالدم، علماً بأن الإسلام جعل الذين لا يضعون أموالهم في مكانها مبذرين، والمبذرون هم إخوان الشياطين.
ولو أن هذه الشعوب اقتصدت في مصروفاتها، ووجهت الفائض من أموالها لمساعدة الشعوب الإسلامية المنكوبة لكان أجدى وأحصن لهذه الشعوب من كيد المنصرين المبشرين، الذين يستغلون عوزهم وحاجتهم فيفرضون عليهم ضلالاتهم بالترغيب والترهيب.
6- الاحتكار الاقتصادي:
وقد حرم الإسلام أيضاً الاحتكار لما له من أضرار اقتصادية حيث يوقع الناس في حرج لارتفاع سعر السلعة المحتكرة، والاحتكار يدعو ويعمل على رفع الأسعار فيضر عامة أفراد المجتمع ويستهلك جميع مُدَّخراتهم.
وقد نهى الإسلام عن احتكار الأراضي أيضاً أو ما يسمى " بالحمى " فمن حصل على أرض ولم يستغلها ويستثمرها أخذت منه وأعطيت لغيره ليستغلها ويستثمرها. فقد أعطى الله الدولة المسلمة الحق في تنويع الاستثمارات وتوجيهها وتوزيع الأراضي على المسلمين ليعملوا فيها وينتجوا فتزيد بالتالي مدخراتهم وينتعش الاقتصاد ويزدهر.
7- تخلف التعليم:
إن واقع الإنتاج العلمي في الدول النامية العربية لا يعتبر إنتاجاً حقيقياً، وذلك لأنه لا يوجد ربط بين متطلبات التنمية، وبين التعليم، كما أن وحدات البحث العلمي قليلة وقاصرة، ولا تفي بحاجات التنمية، كما أن الإنفاق على التعليم قليل حيث لا يُنفق من الإنتاج القومي على التعليم سوى 0.1% ومقابل هذا ينفق في الدول المتقدمة على التعليم 3% من الإنتاج القومي، وبعضها ينفق أكثر من ذلك، كما أن الطاقات المتعلمة والمتميزة تتسرب إلى الدول الغربية الصناعية لما تجده هناك من التقدير والفرص السانحة للإنتاج، وهذا كله بلا شك عوائق في سبيل التنمية الشاملة للمنطقة.
8- سباق التسلُّح:
تنفق الدول الكبرى وغيرها أموالاً طائلة في مجال التسلُّح والتجهيزات الحربية. وترصد للبحوث التقنية الخاصة بتطوير الأسلحة مبالغ كبيرة جداً في سبيل إنتاج أسلحة الدمار الشامل من أمثال القنابل الذرية الفتاكة التي تبلغ قوة انفجارها ما يعادل 2000 طن من المادة المتفجرة " ت. ن. ت " وأقوى منها القنبلة الهيدروجينية التي يبلغ انفجارها ألف مرة قوة القنبلة الذرية وأعجب منها القنبلة المسماة بالكلفرنيوم التي تفتك بالأرواح والأحياء ولا تصيب المنشآت، إضافة إلى القنابل الذكية، وغيرها مما ينتجه الغرب في سباقه للتسلح، إلى جانب ما أنفق وما ينفق في مجال بحوث الفضاء التي لم تعد على البشرية بنفع يُذكر حتى الآن سوى ما جنته في مجال الاتصالات وبعض البحوث الطبية اليسيرة، رغم الإنفاق السخي المنقطع النظير، ولو أن هذه الأموال أُنفقت في بحوث طبية هامة، أو في تطوير لمجال من المجالات البشرية الهامة كالزراعة أو التصنيع أو مجالات التنمية الريفية، أو غيرها من المجالات الحيوية التي تمس حاجات الناس المباشرة لكانت الفائدة أكبر بلا شك.
دور التربية الإسلامية في التنمية الاقتصادية
يمكن تلخيص ما يجب على الأنظمة التربوية في العالم الإسلامي في سبيل النهوض بالتنمية الشاملة للأمة لمواجهة التحديات المعاصرة فيما يلي:1- إن على التربية في المنطقة الإسلامية دوراً مهماً لحل مشكلة الفقر والجوع التي تعيشها المنطقة الإسلامية، ودوراً كبيراً في النهوض بالتنمية، وتكوين القاعدة الاجتماعية العريضة المتعلمة، وضمان الحد الأدنى من الثقافة والتعليم لكل فرد، إلى جانب حب العمل وطلب الكسب والمعاش وتقدير العمل اليدوي. وتأهيل القوى البشرية للعمل وإعدادها إعداداً جيداً، وتزويدها بالمهارات اللازمة والمعارف.
2- يجب على التربية أن تستغل الطبيعة التي ينفرد بها المسلمون عن غيرهم حيث يعتقد المسلمون أن أي عمل يقوم به الفرد بنية صالحة فإن له عند الله ثواباً فوق ما يستمتع به في الحياة الدنيا من الإنتاج والكسب، وهذا بناء على تصور الإسلام الشامل لمفهوم العبادة، وهذه بلا شك طاقة معنوية كبيرة وضرورة للتنظيم الاقتصادي، إذ إن هناك فرقاً كبيراً بين شخص ينتج بنية النفع مستجيباً لله، ومجاهداً في خدمة المجتمع، وبين شخص لا يرى سوى النفع المادي العاجل، وربما ضر غيره وجر عليه الخراب والدمار. وهذا عنصر مهم من عناصر الإنتاج في المجتمع الإسلامي فيجب على التربية أن تستغله استغلالاً جيداً.
3- يجب على التربية أن تأخذ بعين الاعتبار تفاوت البشر في الفهم والإدراك والميول؛ فإن " طبيعة هذه الحياة البشرية قائمة على أساس التفاوت في مواهب الأفراد، والتفاوت فيما يمكن أن يؤديه كل فرد من عمل، والتفاوت في مدى إتقان هذا العمل. وهذا التفاوت ضروري لتنوع الأدوار المطلوبة للخلافة في الأرض. ولو كان جميع الناس نسخاً مكرورة ما أمكن أن تقوم الحياة في هذه الأرض بهذه الصورة، ولبقيت أعمال كثيرة جداً لا تجد لها مقابلاً من الكفايات ولا تجد من يقوم بها، والذي خلق الحياة وأراد لها البقاء والنمو، خلق الكفايات والاستعدادات متفاوتة تفاوت الأدوار المطلوب أداؤها "، فعلى التربية أن تدرك هذا وتعمل له، فليس هناك إنسان يُعتبر وسطاً حسابياً بين البشر، ولا يمكن أن نطلب من كل فرد أن يؤدي عملاً بنفس الإتقان الذي يستطيعه غيره، وهنا تظهر عملية تفاوت الحصيلة النهائية للإنتاج وفقاً لهذه المعايير الطبيعية.
4- يجب على التربية أن تُعد الأفراد إعداداً جيداً للعمل والوظيفة المطلوبة بحيث تهتم بإعداد الفرد للحياة العملية، ففي المجتمع قبل الصناعي مثلاً يتعلم الجيل الجديد الحاجات الأساسية، ويتعرف على الموارد المتاحة له والحرف الأساسية كالزراعة وقطع الغابات والعمل في المناجم، ويمكن أن يُعد برنامج تربوي واحد ليكفي المجتمع البسيط البدائي، حيث إن معظم أفراد المجتمع يقومون بعمل واحد تقريباً. أما وقد تنوعت حاجات الناس، واحتياجات المجتمع، فلا بد للتربية أن تراعي هذه الاحتياجات، وتبني خططها التنموية بناء عليها حتى تسير التربية مع حاجات المجتمع ومتطلباته.
5- يجب أن يؤخذ في الاعتبار إنسانية الإنسان وأنه ليس بآلة للإنتاج وأنه ليس جزءاً من آلة يمكن استبداله، فإن البعض يرى أن تقدم الشعوب وتحضرها يُقاس بالكمية المنتجة فيُستغل الإنسان بهذا المفهوم المنحرف استغلال الآلة دون الاهتمام بأحاسيسه وشعوره وميوله.
6- يجب أن تأخذ التربية في الاعتبار احتياجات المجتمع فتبني عليها اختيار المهنة والتخصص لا أن تترك لرغبات الأفراد وميولهم بل تكون حاجة المجتمع العامة مقدمة على رغبات الأفراد وميولهم، مع مراعاة قدرات الأفراد وميولهم نحو التخصصات بما لا يضر بالمصلحة العامة للأمة.
7- يجب على التربية أن لا تفصل التربية الدينية عن العلم، فالعالم اليهودي الذي اخترع المادة المتفجرة من واقع تخصصه يتمتع في نفس الوقت بثقافة توراتية خاصة توجهه وتقوده لنفع الشعب اليهودي.
8- يجب على التربية إعادة بناء العقلية المبرمجة والتخطيط والدراسة ومحاولة إعادة الكرة بعد الكرة حتى نظفر بالمطلوب فهو الطريق الأمثل للخروج من الأزمة والتخلف الذي نعيشه؛ فإن الأمة الإسلامية في حاجة إلى الإرادة والقدرة كي يتولد عنهما العمل المنتج المفيد الذي يأمر به الإسلام.
9- يجب على التربية أن تضم في برنامجها تنمية كل القوى البشرية الموجودة، فلا تقتصر على الكبار مثلاً دون الصغار، فإن الصغار في المجتمع يعتبرون قوى بشرية كامنة تنتظر وقتها للإنتاج والبناء.
10- يجب على التربية أن تهدف إلى تنمية الإنسان ككل، بجميع جوانبه الروحية والنفسية والجسمية والعقلية، ولا تقتصر على جانب دون جانب.
وينبغي أن يُفهم أن عمل التربية ليس عملاً سحرياً خيالياً، بل هو عمل طبيعي يخضع لإرادة الله عز وجل أولاً، ثم للقدرات البشرية المتاحة، إلى جانب أنه يحتاج إلى صبر وجهد متواصل دون ملل، مع عدم استبطاء النتائج، والعمل على النفس الطويل.
الدعوة إلى ابتكار مشروع جديد للتنمية
تعيش جميع المجتمعات الإنسانية المعاصرة حالات متفاوتة الحدَّة من التدهور الاقتصادي العام في ظل الهيمنة الغربية بنظاميها الرأسمالي القائم، والاشتراكي البائد، وذلك من حيث الاستنزاف المُفرط للثروات الطبيعية، واستغلال الشعوب، وسوء توزيع الثروة في صور متنوعة من مظاهر السحق البشري، والاستعباد الشعبي، والسيطرة الاقتصادية العامة، التي أهَّلت العالم الغربي لفرض نموذجه التنموي كبديل جبري، واختيار وحيد للتقدم والتطور الاقتصادي، فقد استقر لدى خبراء الاقتصاد الغربيين ضمن العديد من تقاريرهم المقدَّمة لمنظمة الأمم المتحدة والبنك الدولي: أن السبيل الوحيد لنهضة الدول النامية اقتصادياً سيرها بدقة على نمط الطريقة الاقتصادية الغربية. فعانت الأمة الإسلامية - بجانب تخلفها التقني - التحدي الخارجي الذي نجت منه أوروبا في نهضتها الحديثة، حين انطلقت حضارتها بسلام من داخل المجتمع الزراعي التقليدي دون عوائق خارجية تحدُّ من سرعة تقدمها الاقتصادي.في الوقت الذي لم يجد فيه أبناء المنطقة الإسلامية سبيلاً للتنمية الحديثة إلا عبر النموذج الغربي:الرأسمالي أو الاشتراكي، فتقاسم المعسكران الشرقي والغربي أنصارهما من الدول الإسلامية.فما لبثت الأمة كثيراً حتى أدركت قصور النموذج الغربي بشقيه عن خدمة الإنسان، وأنها إنما تنتقل من تخلف إلى تخلف، ومن ظلم إلى ظلم.حيث استوعبت الدرس بأن التنمية لا تأتي من خارج الأمة، بل هي عملية اجتماعية واعية تنطلق من إرادة وطنية مستقلة،وأن النظم الاقتصادية - مهما كانت متفوقة - لا تصلح لكل مجتمع.فضعفت - بناء على ذلك - حدَّة انبهار الأمة المسلمة بالنموذج الغربي،ولاسيما بعد أن انهار أحد شقيه اقتصادياً،وظهرت بوادر جادة تُنذر بانهيار شقه الآخر، وأفول حضارة الغرب بالكلية،في الوقت الذي برزت في الساحة العالمية نماذج اقتصادية متفوقة،أثبتت وجودها في عالم الواقع من خلال إنتاجها الاقتصادي المتفوق الذي قام على غير نمط الغرب التنموي، وهذا واضح في بعض نماذج شرق آسيا التنموية،ثم إن النموذج الغربي نشأ منحرفاً من أساسه حين قام على فلسفة عسكرية اقتصادية، تتخذ من العلوم والمعارف الكونية مادة رئيسة في معاهدها ومدارسها الحربية، بهدف حماية مصالحها الاقتصادية؛ ولهذا قام النزاع المسلح في أوروبا في القرون الأخيرة نتيجة حتمية للمطالب والمصالح الاقتصادية.ولعل هذا ما يبرر تسارع الغرب المفرط في إنفاقه على السلاح.
إن فهم هذا الوضع يجعل من الضروري إعادة النظر في استراتيجيَّات الأمة المسلمة وخططها التنموية بما يكفل ابتكار نمط جديد للتنمية الاقتصادية يتنكَّب نمط النموذج الغربي، وكل نموذج جاهلي متعارض مع الوحي الرباني، في الوقت الذي يخدم فيه الإنسان بالدرجة الأولى، فيجمع له بين خيري الدنيا والآخرة؛ فإن الطبيعة المُسخَّرة - بإذن الله تعالى - لن تبخل على الأمة المسلمة بما أكرمت به الأمم الجاهلية، بل إن كل ما بثه الله تعالى في الكون من خيرات وكنوز هي للمؤمنين قبل أن تكون لغيرهم،كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}(3). كما أن محاولة مسابقة الغرب في نمط تفوقه أمر بعيد، فإن سرعة التنامي التقني لا حدَّ لها، والهوة بين مالكها وفاقدها في غاية الضخامة، فلن يكون التنافس معهم في ميدان تفوقهم ذا جدوى اقتصادية؛ لأن فيه عودة من جديد للاستعباد الفكري لعالم الغرب، فيستبيح الأمة مرة أخرى بخدعة الخبرة والخبراء،فيأخذ " وينهب ولا يقدم إلا فتاتاً فاسداً من بقايا موائده الصناعية"،فإن من مصلحته عرقلة التقدم في الدول النامية حتى تبقى محتاجة إليه، مفتقرة إلى علمه وخبرته،فلابد من تجاوز النموذج الغربي إلى ابتكار نموذج إسلامي جديد.
إن أيَّ مشروع حضاري إسلامي صادق في توجهه نحو الإبداع والتفوق والاستقلال لابد أن يتحرر أولاً من النموذج الغربي، الذي ينبغي نقده، وإظهار عواره، وإن نقد النموذج الغربي لا يأتي فقط ممن يعيشون خارجه، ويصطلون بآثاره البشعة؛ بل إنه مُنتقد من داخله، فمازالت فئات ضمن بنية المنظومة الغربية تنتقد انحرافات هذه الحضارة وتجاوزاتها في حق الإنسان والبيئة.ففي ميدان استهلاك الطاقة- على سبيل المثال- يستغل سكان البلدان الصناعية (80%) من طاقة العالم مع أنهم لا يمثلون أكثر من (27%) من سكان الأرض، حيث يستهلك الأمريكيون الذين يشكلون (6%) من سكان العالم (36%) من الطاقة المنتجة في العالم، في حين يتوزع سكان الأقطار المتخلفة الذين يشكلون (73%) من سكان العالم (20%) فقط من حجم الطاقة المنتجة.وفي جانب توزيع الثروة فقد "جاء في تقرير الأمم المتحدة الإنمائي لعام 1999م … أن ثروة أغنى ثلاثة رجال في العالم تتجاوز مجموع الناتج القومي لخمس وثلاثين دولة نامية بسكانها البالغ عددهم (600) مليون نسمة".إن هذا الواقع الظالم لمخرجات النموذج الاقتصادي الغربي لا تُؤهله لأن يكون نموذجاً يُحتذى للأمة المسلمة القائمة بالعدل، المخصوصة بالشهادة على الناس.
ولا يفهم مما تقدم الإعراض عن اقتناص الحكمة المفيدة من أي مصدر كان، وإنما المقصود هو تلمُّس المخرج من الأزمة الاقتصادية المعاصرة بابتكار اقتصادي حضاري جديد لا يعتمد - بالضرورة - السير خطوة خطوة على النهج التنموي الغربي، فالسبل نحو التنمية المتفوقة ليست واحدة، كما أنها ليست حكراً على الغربيين وحدهم، والعلوم التي بثها الله تعالى في الكون ليست متناهية، وما وصل إليه الإنسان من المعارف المتنوعة لا يعدو أن يكون شيئاً يسيراً مما هو موجود ومتاح للباحثين، من خلال التسخير الرباني للكون، فلا يبعد أبداً في مسير الأمة الجاد نحو الاستقلال بتنميتها الاقتصادية: أن تقف على معالم جديدة للنهضة، فتكتشف - في كون الله الفسيح - من أسباب التفوق العلمي والتقني ما يدفع بعجلة نهضتها التنموية بصورة أسرع، عبر سبل حضارية جديدة، لم يعرفها غيرها، ولم يقف عليها سواها، ولئن كانت معالم هذه النهضة الحضارية المنشودة ليست واضحة في شكلها وطبيعتها وآلياتها في ذهن الباحث، إلا أنها ممكنة، وغير مستبعدة، حين يتعامل المسلم مع من يملك خزائن كل شيء - سبحانه وتعالى - فلا يُستبعد حينئذٍ إمكانية مثل هذه التوقعات المستقبلية المتفائلة.
الانطلاقة التنموية من ذات الأمة الإسلامية
تقوم الأنشطة الاقتصادية في العالم على نظم وقيم مذهبية ونظرية تنسجم مع سياسات الحكم العامة لكل دولة،بحيث يصعُب تصور صهرها في نمط عالمي واحد إلا في حال تخلِّي الأمم عن سياداتها، وخصوصياتها، وقومياتها حين تعتمد في تقدمها على غيرها؛ فإن من الصعوبة بمكان الجمع بصورة كاملة صحيحة بين الاستقلال الذاتي وبين الاعتماد على الآخرين.والأمة الإسلامية-دون سائر الأمم- لا يقبل منهجها الرباني أيَّ نوع من الشِرْكة المذهبية أو النظرية، كما أن نظم الأمم، ومنطلقاتها المذهبية والسياسية، وتصوراتهم العقدية والفكرية،ومصالحهم الاقتصادية لا تسمح لهم بصدق التعامل مع شعوب الأمة الإسلامية.ومن هنا فإن اعتماد الأمة على ذاتها في انطلاقتها التنموية خيار لا محيد عنه، ولا بديل له." إن الإعجاز الاقتصادي في الشريعة الإسلامية يكمن في البساطة التي تواجه بها أعلى وأعقد المشكلات الاقتصادية المحلية والدولية، وفي الإيجابية التي تُحلُّ بها هذه المشكلات، وليست ضخامة الاقتصاد أو تراكم النظريات بالمقياس الذي تُقاس به القوة الاقتصادية؛ بل بقدرة النظام الاقتصادي على حلِّ المشكلات حلاً سليماً يتمشَّى مع الفطرة الإنسانية، ويؤدي إلى النهضة الحقيقية "،التي نقلت - بالفعل - الفرد المسلم في الزمن الأول من أشدِّ حالات الفقر المُدقع إلى أعلى درجات الرفاهية الاقتصادية في زمن قياسي يسير.حيث اعتمدت الأمة في كل ذلك على إمكاناتها الاقتصادية المتاحة، دون الالتفات إلى التنظيمات الجاهلية في ذلك الزمن -رغم تفوقها- إلا بالقدر الذي تسمح به العقيدة والقيم الإسلامية. فاستطاعت أن تجمع - في وقت واحد- بين أعلى درجات القوة العسكرية والتفوق العلمي
والاقتصادي، وبين الثوابت العقدية والأخلاقية،في الوقت الذي عجز فيه الأوروبيون عن اصطحاب تصوراتهم الدينية والأخلاقية في مسيرهم الحديث نحو التفوق العلمي، والنهضة الحضارية،ففي الوقت الذي تخللت فيه التعاليم الدينية كل جزئيات النهضة الإسلامية الأولى، وسيطرت على جميع كلياتها، في صور ونماذج متناغمة الخطى، مترابطة الأجزاء : سارت الحضارة الغربية في نهضتها الحديثة متنافرة مع دينها، معاندة لتوجهات كنائسها، متجاهلة تصوراتها القديمة، وتعاليمها الموروثة، التي قامت في أصلها المحرَّف مناهضة للعلم والتطور، متعارضة مع الحضارة والتقدم.
ولما كانت التنمية الاقتصادية تفتقر إلى قاعدة ثقافية يعتز بها أصحابها، وأمجاد يفتخرون بها، وتاريخ ينتمون إليه:فإن في ماضي الأمة الإسلامية من العبقرية والإبداع والتفوق في كل مناحي الحياة النظرية والتطبيقية، العلمية والعملية:ما لم يجتمع بكماله وجماله لأمة من الأمم في القديم أو الحديث. فلا يعيب المسلمين المعاصرين أن يعتمدوا على مدَّخرات تراثهم فلا يلتفتون إلى نتاج غيرهم إلا في المستحدثات التي تتمشَّى مع مبادئهم كما يفعل اليابانيون حيث
لا يأخذون عن غيرهم إلا ما يعجز عنه تراثهم القومي،أو على الأقل فليفعل المسلمون ما فعله الأوروبيون في الزمن الماضي، حين احتكُّوا بالعالم الإسلامي، وأخذوا عنه العلوم والمعارف، فأعادوا صياغتها من جديد ضمن بوتقتهم الثقافية، وصهروها مع كل العناصر الأخرى المكوِّنة لشخصيتهم الأوروبية،رغم ضعفهم- في ذلك الزمن- أمام تفوق الحضارة الإسلامية، فمن حق الأمة المسلمة أن يكون لها - كغيرها- الخيار في أن تتكيف مع العالم الحديث في قوالب من صنعها ترفع شعاراتها، وتحوي هويتها.وليس بغريب على الأمة أن تستفيد من غيرها، وأن تقتنص الحكمة كما فعلت في الزمن الأول، حين احتكَّت بمنهجها الراشد مع الحضارات الأخرى، فذوَّبت المعارف والعلوم في نسيجها الثقافي الإسلامي، دون أن يلحق هويتها تغيير أو تبديل.
ورغم أن الأمة الإسلامية لم تصل في وقت مضى إلى حالة من العجز العام كحالها اليوم؛ حتى إن الديون المتراكمة تحاصر"حوالي ستاً وثلاثين دولة من الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي التي يبلغ عددها
45دولة"؛فإنها - مع ذلك - لم تتوافر لها في أيِّ وقت مضى أسباب النهضة الحضارية كما توافرت لها في هذا العصر، فإنها - رغم تخلفها الحضاري - ترقد اليوم على معظم ثروات الدنيا الأولية، وتضم بين جنباتها أعظم قوة عددية متجانسة، وينتسب إليها نخبة عالمية متفوقة من أذكياء الدنيا، إلى جانب الأموال الطائلة، ومع كل ذلك تحيا عالة على المجتمع الدولي،وتعيش حالة من العجز التام عن إدارة تنميتها: فثرواتها منهوبة، وأعدادها متفرقة، وعقولها مهاجرة،وأموالها مبددة في غير طائل؛فإن الناظر في الإنفاق العسكري للدول العربية والإسلامية ليهوله حجم الأرقام الفلكية المدفوعة فيه،كما يدخله العجب والألم حين يعلم أن (35%) من الكفاءات العربية العلمية المتخصصة مهاجرة إلى دول أجنبية غير إسلامية.
إن الوحدة السياسية التي فرضها الإسلام:هي خيار الأمة الوحيد لحل كل مشكلاتها التنموية؛ فإن الأمة الإسلامية لم تكن قطُّ في وقت من الأوقات هي أحوج ما تكون للوحدة السياسية من هذا العصر؛ إذ يستحيل في ظروف الحياة السياسية المعاصرة، والتكتلات الاقتصادية الظالمة، والهيمنة الغربية المتفاقمة - ضمن مفهوم العولمة - أن تستقل دولة إسلامية باقتصادها دون سائر الدول الإسلامية الأخرى؛ بحيث تقوم أسباب تنميتها الاقتصادية على جهودها الذاتية من جهة: القوى العاملة المدرَّبة، والتقنية العلمية المتطورة، والوفرة المالية المتنامية، والموارد الطبيعية المتنوعة، والسوق الاستهلاكية الواسعة، إلى جانب امتلاكها قوة سياسية وعسكرية رادعة تحمي بها نهضتها، وتُرهب بها عدوها. إن هذا التكامل الاقتصادي والسياسي تعجز عنه كلُّ الدول الإسلامية منفردة في حين أنها بكل المعايير العقدية، والأخلاقية، والسياسية، والاقتصادية، والجغرافية: تستطيعه مجتمعة؛ فأسباب وحدتهم الدينية شاهدة، ومواردهم الطبيعية متوافرة، وقواهم البشرية متنامية، وسوقهم الاستهلاكية قائمة، وقوتهم العسكرية غالبة، مما يجعل خيار الوحدة الإسلامية بالنسبة لهم: أمراً حتمياً للنهضة الاقتصادية الجادة.
والعجيب في شأن الدول الإسلامية المعاصرة - رغم قيام كل أسباب وحدتها - أن نسبة تعاونها الاقتصادي المرصودة فيما بينها لا تكاد تتجاوز الثلاثة بالمائة،وربما الخمسة بالمائة على أقصى تقدير،رغم وفرة المواصلات، وقرب المسافات. في حين لم يعرف المسلمون اختلال الوحدة الاقتصادية بين بلدانهم، وضعف التعاون والتبادل التجاري بينهم إلا في أواخر العهد العثماني حين صدرت بعض الأحكام التي تضبط التبادل الاقتصادي: مما يدل على أن المشكلة سياسية أكثر من كونها اقتصادية.
ومن هنا لابد للدول الإسلامية والعربية أن تنطلق - بصورة جادة - نحو الوحدة الإسلامية العامة، بدءاً بالنواحي الفكرية من خلال بث مفهوم الوحدة عبر مؤسسات المجتمع المتنوعة، ولاسيما التعليمية منها، وإشاعة روح الأخوة الإسلامية، وإحياء مبدأ التضامن العربي الإسلامي، ومن ثمَّ فتح قنوات واسعة للتبادل الاقتصادي دون عوائق إدارية أو نظامية، تسمح للشركات والمؤسسات الإسلامية بالتبادل التجاري الحر فيما بينها، مع إشاعة مفهوم المواطنة الإسلامية، التي يتربى فيها المسلم على حبِّه لوطنه الإسلامي، وحرصه على نموه وتطوره، من خلال دعم منتجاته التجارية، دون غيرها من المنتجات العالمية. مع فتح مجالات التواصل الثقافي والاجتماعي بين الدول الإسلامية، ليتحقق من خلالها تكتلات سياسية إقليمية متعاونة، تكون نواة لتجمعات أكبر في سبيل الوحدة الإسلامية العامة المرتقبة.
المصادر :
1- الأعراف:32
2- التوبة :34
3- الأعراف:32
/ج