علم الاقتصاد يبحث في الظواهر الاقتصادية، وقوانينها المختلفة، التي تحكم سلوك الفرد المالي " بوصفه علاقة بين الغايات من جهة والموارد من جهة أخرى "، وذلك في ضوء القواعد والأحكام التي تنظم كسبه، وإنفاقه بما يحقق سعادة الفرد والجماعة.
ولما كان المال عنصراً مهماً لقوام الحياة الإنسانية، وضرورةً من ضروريات الدين، التي تؤثر بصورة قوية في " مسار التطور الاجتماعي والسياسي، وما يرتبط به من قيم واتجاهات ": اعتنى الشارع الحكيم بضبط أحكام كسبه، وشروط امتلاكه، وطرق إنفاقه، ووسائل تنميته، بحيث لا يخرج شيء من ذلك عن عموم مفاهيم الإسلام الاقتصادية كنظام متكامل " يشمل مجموعة الأصول والمبادئ والقواعد الاقتصادية العامة المستخرجة من القرآن الكريم، والسنة النبوية "، التي توجِّه في مجملها نشاط الإنسان المالي، وتحكم أساليب تداوله بين الناس، ضمن معنى القصْد المتضمن للعدل والاعتدال، من خلال تربية الأفراد اقتصادياً: كيف يكتسبون ثرواتهم، وكيف يُنمُّونها، وكيف ينفقونها ؟ بهدف تحقيق العبودية لله تعالى بعمارة الأرض، والاستخلاف فيها، ومن ثمَّ قيام الحضارة الإسلامية الخيِّرة، والمتفوقة في جميع مناحي الحياة الإنسانية.
ومن هنا يُعلم أن المال - وهو قضية الاقتصاد - لا يعدو أن يكون وسيلة لغايات أشرف وأكمل، وأن المسألة الاقتصادية ككل: خاصية إنسانية من الدرجة الأولى، ينفرد بها بنو آدم، دون سائر المخلوقات، فالاقتصاد " ليس عملية إنشاء بنك، أو تشييد مصنع، أو تنفيذ مشروعات اقتصادية فحسب؛ بل هو قبل هذا أو ذاك تشييد حياة الإنسان وتشكيلها "، بأبعادها المختلفة، بصورة شاملة ومتكاملة، ضمن مفهوم التنمية الشامل، بحيث لا تقتصر حسابات معدلات النمو الاقتصادي على النواحي المادية فحسب؛ بل تتعداها إلى كل ماهو إنساني، لتشمل: الجانب الاعتقادي بأبعاده الروحية، والجانب الأخلاقي بأبعاده السلوكية، والجانب الاجتماعي بأبعاده الأمنية، والجانب العقلي بأبعاده الفكرية، والجانب النفسي بأبعاده الصحية، ويكون تقدم الأمة - في كل هذا - منضبطاً بقاعدتي الأصالة والمعاصرة، ضمن الثوابت الاقتصادية، والمتغيرات الاجتهادية؛ بحيث تقطع مبدأ الوهم في احتمال فصل الدين عن الدنيا في نظام الإسلام العام، فالوحي الرباني - بكل فعالياته - إنما " جاء ليلج الحياة الحضارية القائمة على التطور البشري، ويخوض نموها الاجتماعي بكل ما فيه من علاقات وارتباطات وتناقضات؛ ليعطي فعاليَّة لمبادئه وتصوراته، ويساعد الإنسانية في نقلتها الحضارية الكبرى حتى تحقق سعادتها دون أن تتعرض لعثرات تعوق نموها وتقدمها الحضاري ".
الغاية من التنمية الاقتصادية في الإسلام
الإيمان في منهج الإسلام هو ضابط التنمية الاقتصادية، فهو البعد الغيبي الذي يحكم الممارسة الاقتصادية من جهة تحديد هدفها، وتميُّزها، واستقلالها، بحيث تحمل طابع ذاتها الإسلامية الخاصة، التي تتصف في كلياتها وجزئياتها بالصفة الروحانية، وتتميز في مضمونها وشكلها بالصبغة الربانية، فليس للجاهلية-القديمة أو الحديثة- موقع في انطلاقتها التنموية، كما قال الله تعالى: {صِبْغَةَ الله وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُون} (البقرة:138).والاقتصاد جزء من نظام الإسلام الشامل، تحكمه إرادة الله الشرعية في إلزام الناس بقوانينه الإلهية، ومن جهة أخرى تحكمه إرادته الكونية في إخضاعهم لسلطان قضائه وقدره. فكل نشاط اقتصادي- أياً كان نوعه أو حجمه- لابد أن يخضع لهاتين الإرادتين حتى يُوصف بأنه اقتصاد إسلامي. ففي الجانب الشرعي لابد أن يكون التداول المالي مشروعاً في أصله مطهَّراً من الخبث، والسلعة المُنْتَجة لابد أن تكون هي الأخرى مباحة في ذاتها وصالحة في استعمالها، وكذلك في طريقة إنتاجها، فلا يُستغل جهد العامل في كسب محرم تحت أيِّ مبرر اقتصادي. وفي الجانب الكوني لابد أن يسيطر البعد الغيبي وآثاره الروحية على فهم وتفسير الظواهر الاقتصادية: في نهضتها وإخفاقها، وتقدمها وتخلفها، فيرجع بذلك كله إلى قوة العامل الإيماني وضعفه، فلا تنحصر النظرة الاقتصادية في تفسيرات مادية قاصرة، أو تحليلات مالية عقيمة، بل تنضم كل هذه الأبعاد، والجهود، والمقاصد بكل ما تحويه من فعاليات فكرية، أو سلوكية، كلية أو جزئية، لتصب كلها في هدف الأهداف، وغاية الغايات وهي مرضاة الله تعالى، بحيث يصبح كل نشاط اقتصادي يمارسه المسلم ضمن هذه الغاية الكبرى، يستشعر من خلاله في كل لحظة أنه يمارس عبادة لله تعالى، وقربة يتقرب بها إليه.فلا تتأثر ثوابته الاعتقادية، أو أنماطه السلوكية بالوضع الاقتصادي لا من جهة قوته بحيث يضعف ارتباطه الروحي بالغاية الكبرى عند التفوق الاقتصادي - كما يزعم الملحدون -ولا من جهة نوعه فيختل التزامه الخلقي عند التطور الصناعي، واختلاف أساليب الإنتاج كما يتخيل العلمانيون.
إن الهدف من عملية التنمية الاقتصادية في نظام الإسلام: تيسير سبل العبودية لله تعالى؛ بحيث تُسخَّر العملية الاقتصادية بكل فعالياتها في مساعدة الفرد على تحقيق العبودية لله تعالى،وتكون التقوى
- بأبعادها الإنسانية الداخلية والخارجية- هي قاعدة الانطلاق في البناء الاقتصادي،فمسلك التقوى أساس ضروري للتنمية الاقتصادية في مفهوم الإسلام، "وهذا لا يعني عدم إعمال الفكر في كيفية كسر إطار التخلف الاقتصادي والاجتماعي، فالتدبر وإعمال العقل مطلوب، لكن يجب أن يتسق هذا الفكر مع قيم وتعاليم الإسلام"؛فإنتاج السلع - في العملية التنموية -
لا يمكن أن يكون قيمة في حدِّ ذاته،تُهدر في سبيلها المبادئ والقيم؛ وإنما القيمة - في الحقيقة الإسلامية - مرتبطة بموافقة الشرع، والانتظام ضمن إطاره الرباني، والوقوف عند حدوده المشروعة.
ولئن كانت غاية النشاط الاقتصادي الكبرى: مرضاة الله جل جلاله، فإن الإنسان هو الغاية الصغرى المقصودة بكل الممارسات التنموية؛ بحيث لا يصح - في خضم التفاعل الاقتصادي - أن يُزاحم هدف إسعاده، ورفاهيته، وسلامته أيُّ هدف تنموي آخر، فهو المقصود الأول بالتسخير الكوني، إضافة إلى ذلك فإن الإنسان هو الأساس في التنمية الاقتصادية؛ فقد ارتبطت عمارة الأرض بجهده الذي يأتي ثمرة طبيعية لدوافعه الفطرية، وملذَّاته الشهوية،"فالبشر يكوِّنون العنصر الحي الذي لا يُستغنى عنه في أيِّ نظام اقتصادي، فهم الغاية والوسيلة".
ومع وضوح هاتين الغايتين - كُبْراهما وصُغْراهما - في منهج الإسلام الاقتصادي: فإن الواقع التنموي - على المستويين الجماعي والفردي- لا يكاد يتوافق في أيِّ جانب من جوانبه الكلية
أو الجزئية مع مقتضيات هاتين الغايتين: من حيث المخالفات الاقتصادية الصارخة لمراد الله تعالى الشرعي،ومن حيث الفتنة المالية التي ساقت الإنسان المعاصر من كونه مالكاً للمال إلى كونه عابداً صاغراً له،حتى أصبح تحت ضغط بهرج الفتنة المالية التي أخبر بوقوعها رسول الله صلى الله عليه وسلم :لا يبالي بمصدر المال من أيِّ وجه اكتسبه.
إن المسلم ضمن هذه الثقافة المادية المُستحكمة، والوضع الاقتصادي المُوحش لا يمكن أن ينجو من أثر سلبي يطعن في نهج سلوكه، بل ربما نال من بنائه العقدي حتى يصبح الواقع الشاذ في حسِّه مقبولاً. وهنا لابد أن يتيقن المسلم: أن "الرؤية الإسلامية لا تعتبر ما هو كائن مقياساً تأخذ منه، ولا تُقيِّم ما هو كائن إلا في ضوء ما يجب أن يكون، ولا تقبل تحديداً لما يجب أن يكون إلا بدلالة النصوص الشرعية"،فلا قيمة حقيقية لحجم الانحراف وثقله إذا جاء مخالفاً لمراد الله تعالى الشرعي، فليس الهوى الجماعي أو الفردي مقياساً يُعوَّل عليه في التصور الإسلامي الذي يُلزم أتباعه ابتداء بمشروعية الوسيلة - تماماً - كما يُلزمهم بمشروعية الغاية؛فإن للوسائل في الشريعة حكم المقاصد.
إضاءات على طريق التنمية الاقتصادية
تنطلق الأمم قاطبة في بناء خططها التنموية من أصول أساسية، وفلسفات فكرية، تستوحيها من ثقافاتها السائدة، وتراثها الموروث. ولم تكن الأمة الإسلامية لتنفرد عن غيرها من الأمم؛ بحيث تكون خططها التنموية لنهضتها الاقتصادية خليطاً من أصول وفلسفات غيرها؛ فإن تراث الأمة في الوحيين- الكتاب والسنة - وما نتج عنهما من ثروة علمية، وما يمكن أن يمدَّ الأمة مستقبلاً من حلول لمستجداتها التنموية: كفيلٌ - بإذن الله تعالى- بإخراج الأمة المسلمة المعاصرة من أزماتها الاقتصادية، ومشكلاتها التنموية حين تعيد بناء منطلقات الأمة الأساسية للتنمية الاقتصادية على الأصول الإسلامية المستوحاة من الكتاب والسنة، وما أجمعت عليه الأمة، ويكون نهجها مع نماذج غيرها: حسن الانتقاء، والبحث عن الحكمة النافعة؛ فإن النظرية الاقتصادية في الإسلام لا تلغي غيرها، بل تستفيد منه بمالا يتعارض مع توجهها، وتضفي عليه الطابع الحضاري الإيماني.
وفيما يلي مجموعة من الإضاءات والتوجيهات في طريق التنمية الاقتصادية التي تنشدها الأمة، وذلك على النحو التالي:
1- الاقتصاد جزء أصيل من نظام الإسلام الشامل، وهو مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية التي شُرعت للمحافظة عليها، مما يوجب على منهج التربية اتخاذ التدابير اللازمة لبناء تربية اقتصادية للناشئ المسلم ليتعلم ويتربى على أصول الاقتصاد الإسلامي، وأهميته، وأهدافه، وضوابطه لينشأ من أول الأمر على فهم شامل لهذا الجانب المهم من حياة الأمة.
2- إن الغاية الكبرى والنهائية لكل جهود التنمية الاقتصادية لابد أن تصب جميعها في تحقيق العبودية الخالصة لله تعالى، مما يستلزم بالضرورة ربط جميع أعمال التنمية بهذه الغاية من جهة الأحكام الخمسة، بحيث تنسجم كل خطط التنمية - في جزئياتها وكلياتها- بهذه الغاية العظيمة.
3- يحتل الإنسان مكانة خاصة في العملية التنموية، فهو أداتها الأولى، وإلى سعادته تهدف التنمية، فهو المقصود بالتسخير الكوني، فلابد إذن أن تنضبط جهود التنمية بحاجات الإنسان، وما يحقق له السعادة والرفاهية، ويضمن له السلامة من التأثيرات السلبية المصاحبة لعملية التنمية، ولاسيما في هذا العصر الذي أهملت فيه حاجات الإنسان ضمن الرغبات الجشعة في تحقيق مزيد من الأرباح على حساب صحة الإنسان وكرامته.
4- رغم ما أحرزه النموذج الغربي المعاصر للتنمية من نجاحات اقتصادية، يبقى- مع ذلك- أنه ليس النموذج الوحيد المتفوق في ميدان التنمية, فقد شاركه التفوق نماذج أخرى اقتصادية كالنموذج الياباني والكوري ونحوهما، مما يوجب على الأمة في منهج تربيتها لإعداد الجيل أن لا تعتمد بصورة كلية على النموذج الغربي في خطط تنميتها، لاسيما وقد أثبت هذا النموذج إخفاقه في تحقيق سعادة الإنسان.
5- نماذج التنمية الاقتصادية ليست قواسم مشتركة بين الشعوب؛ لكونها -في الغالب- تنبثق من خصوصيات الأمم الثقافية والفلسفية، وتصوراتها عن الحياة والإنسان، وهذا يُوجب على منهج التربية التميز بالنموذج التنموي الإسلامي، والاعتزاز به، والعمل على تفعيله في واقع الحياة الإسلامية المعاصرة.
6- التفاعل بين الأمم والشعوب وتبادل الخبرات الاقتصادية أمر ليس بغريب ولا مستهجن على الأمة الإسلامية عبر تاريخها الطويل، وإنما الغريب والمرفوض هو الإعراض عن النموذج الإسلامي للتنمية، والاعتقاد بتخلفه، والتوجه بالكلية نحو غيره من النماذج المعاصرة دون ضابط الاقتباس المتعلق باقتناص الحكمة ضمن مفهوم الإسلام، ومن هنا لابد من إعادة توضيح مفهوم الاقتباس في أذهان المسلمين، وضوابط الأخذ عن الآخرين في نظام الإسلام، بما يحقق الإبقاء على الشخصية الإسلامية، والمحافظة عليها من الذوبان في ثقافات الأمم الأخرى.
7- إن العطاء الرباني والمدد الإلهي للأمة المسلمة كفيل بأن يلهم الأمة- حين تلتزم بشريعته ظاهراً وباطناً- نماذج اقتصادية تنموية جديدة، تفوق النماذج المعاصرة؛ فإن العقل المسلم لن ينضب عن العطاء الفكري الناضج، حين يُفعَّل التفعيل الجيد، ويُربَّى التربية العقلية الصالحة، وهذا يتطلب إعادة النظر في واقع الأمة المسلمة بما يكفل إعادة بناء نظامها - في جميع جوانبه - على منهج الإسلام، والسعي الجاد في بناء شخصية المسلم بناءً إسلامياً متكاملاً، يدفعه نحو العطاء الخالص لنهضة الأمة، وبناء اقتصادها، بما يحقق لها الاكتفاء الذاتي، والاستغناء عن غيرها.
8- تكاد تجمع الدراسات الاقتصادية المنطلقة من النظرة الإسلامية للأزمة الاقتصادية المعاصرة على أن الأمة اليوم تحوز جميع الإمكانات والقدرات المتنوعة والمختلفة لقيام نهضة اقتصادية متكاملة تستغني بها عن غيرها، بل وتنافسه وتتفوق عليه، وهذا مشروط بوحدة الأمة اقتصادياً وسياسياً، وقيامها بدينها، في حين لا يمكن لأيِّ دولة مسلمة - مهما كانت متفوقة- أن تحقق لنفسها- دون باقي الدول الإسلامية- الاكتفاء الذاتي، وهذا يتطلب بالضرورة العمل على تربية الأجيال المسلمة على مفهوم الوحدة الإسلامية، والسعي الجاد للتقارب بين الشعوب الإسلامية- سياسياً واقتصادياً- كخطوة نحو طريق الوحدة الشاملة، والكف عن كل ما من شأنه إضعاف هذه الوحدة، أو التوهين من شأنها، باعتبار أن الوحدة خيار الأمة الوحيد نحو النهضة المطلوبة بكل أبعادها.
9- الإنسان هو محور العملية التنموية الاقتصادية، وعليه يقوم مدار النهضة، فلابد من تربيته تربية إسلامية سليمة، تجعل منه إنساناً صالحاً منتجاً يحترم العمل، ويحسن الاستهلاك، ويستغل وقته كأفضل ما يكون.
المسلمون والتحدي الثقافي - المشكلة والحل
المتأمل من جيل المسلمين المعاصرين، ممن لم يعاصر فترة الاستعمار الغربي لبلاد المسلمين حيث يتعجب ويتساءل: كيف ساغ للأمة المسلمة بكل طبقاتها أن تعيش زمناً من عمرها تحت حكم المستعمر النصراني ؟ كيف كانت تُدار البلاد بأيدي غير المسلمين ؟ ما هو شعور المسلم- في ذلك الوقت- بما آلت إليه أحوال أمته ؟ إلا أن هذه الأسئلة التعجبية تخفُّ وطأتها على المسلم المعاصر، ويفهم أجوبتها حين رأى بعينه كتائب المستعمر الغربي، وجيوشه المدرعة تعود من جديد إلى بلاد المسلمين في أفغانستان والعراق، لتحكمها بسلطانها الصليبي الغاشم، وتسيطر عليها بآلتها العسكرية المتفوقة، ويبقى المسلمون المعاصرون - في خضم هذه الأحداث الجارية المتلاحقة - في دهشة وتعجب، قد بُهتوا من عظيم الخطْب، وشدة الموقف، ولا يبعد أن يأتي جيل لاحق من أبناء المسلمين فيتعجب من زمننا، وما آلت إليه أحوالنا، ويتساءل: كيف عاد المستعمر الغربي إلى بلاد المسلمين بعد أن أخرجوه منها ؟ كيف عاش المسلمون حياتهم تحت حكم النصارى ؟ أما كان في المسلمين قوة يفضُّون بها مشكلاتهم بدلاً من أن يأتي الغربي ليتولى ذلك نيابة عنهم؟.إن الواقع يشهد بأن التاريخ لا يرحم، وتلمُّس الأعذار بين الأجيال قليل، ومع ذلك فإن ما وصلت إليه أحوال الأمة اليوم لم يكن نتاج ظروف ثقافية واقتصادية وسياسية واجتماعية قريبة فحسب، وإنما سبقتها أحوال وظروف كثيرة، تراكمت عبر جمع من الأجيال الماضية، تفاوتت فيها مسؤوليات الأجيال، بين الخطأ اليسير والفاحش، حتى تتوَّجت في هذا الجيل المعاصر بصورة من صور الاستلاب شبه الكامل لشخصية الأمة ومقوماتها، تعاضدت فيها قوى الشر المعادية للإسلام للإجهاز على البقية الباقية من قوى الأمة وإمكاناتها.
وقد ساعد على ذلك تخلف الأمة الحضاري العام، الذي شمل جميع مرافق الحياة، ولاسيما فيما يتعلق بالتفوق التقني، وما ترتب عليه من التفوق الصناعي، مما سمح للغزو الثقافي الأجنبي أن يمتد عبر هذا الفراغ الحضاري إلى داخل حصوننا، وأخص خصوصياتنا.
وقد ساعد تقدم وسائل الاتصال بأنواعها المختلفة على أن تصل الثقافة الأجنبية إلى أعمق نقطة وأبعد زاوية في حياة المسلمين المعاصرة، حتى إن المتأمل لا يكاد يجد جانباً من الحياة المعاصرة سلم من أن تطاله وسائل الاتصال بقدراتها المتفوقة.
ولعل ما تتوَّجت به عبقرية تقنية الاتصالات الحديثة من اختراع الهاتف المتنقل المزود بالعدسة الدقيقة ما يشير إلى هذا العمق الضارب في أخصِّ الخصوصيات الإنسانية؛ بحيث لم يعد للإنسان المعاصر ساحة يتحرك فيها ضمن خصوصيته الشخصية، فليست أكثر من لحظة خيانة يُدار فيها مفتاح الهاتف المتنقل ليصبح الشخص الغافل بصورته وصوته وانفعالاته مادة ثقافية للمستهلكين، فلا يستطيع أن يردَّ عن نفسه المتطفلين، ولا يستطيع أيضاً أن يمحو ما تناثر من شخصه عبر الأثير، وللمتأمل أن يتخيل حين تكون الفريسة من المخدَّرات في البيوت، المحجوبات بالجلابيب والخُمُر، مما يُعطي القضية حجمها الفعلي، وخطرها الحقيقي، ولعل القضية لا تنتهي عند هذا الحد، فإن التقدم التقني في مجالات الاتصال يسير بخطى متسارعة نحو مزيد من التفوق المثير للاستهلاك، ولا يُدرى ما يخبئه القدر في المستقبل من مجالات التفوق التقني الخطيرة في ميدان الاتصالات.
إن التحدي الثقافي الأجنبي المعاصر الذي يهدف إلى تذويب الشخصية المسلمة، وضياع معالمها لا يقل خطراً عن التحدي العسكري بما يحمله من الفتك والتدمير؛ فلئن كان الخطر العسكري يهلك الأبدان والأجساد، فإن الخطر الثقافي يفسد القلوب والأرواح، والإنسان قبل أن يكون إنساناً ببدنه فهو إنسان بروحه، فأي قيمة تبقى للبدن إذا فسدت الروح ؟
إن البشرية المعاصرة في أمسِّ الحاجة إلى أمة الإسلام، التي تحمل وحدها الحق الصافي في الرسالة الخاتمة، وما لم تتدخل الأمة الإسلامية لإنقاذ البشرية التائهة من مسيرها المظلم، المتسارع نحو المجهول، المدعوم بالتقدم التقني، وتطبيقاته الصناعية : فإن الهلاك والدمار سوف يطال الجميع، فإن سنن الله لا تتخلف عن المفرطين والمقصرين، ولعل في التوصيات والمقترحات الآتية ما يُعين على الخروج من هذه الأزمة الثقافية المعاصرة:
1- رصد مجالات الغزو الثقافي الأجنبي للأمة المسلمة ومؤسساتها الاجتماعية المختلفة، بما يكشف الخطط الهدامة التي يحملها الاستشراق والتنصير والاستعمار، ويُوقظ الأمة لخطرها على العقيدة والأخلاق، وعلى كيان الأمة ومستقبلها.
2- تبصير الحكومات الإسلامية بخطر التحدي الثقافي، وأهدافه وغاياته من خلال مراكز رسمية للرصد، تزود المسؤولين بتحركات أدوات الغزو الثقافي في بلاد المسلمين.
3- دراسة أساليب الغزو الثقافي الحديث، وآلياته المتطورة، ومداخله الجديدة للوقوف على مستجداته الحديثة، والتصدي له بما يكفُّه، أو يخفف من آثاره السلبية.
4- وضع مادة دراسية متجددة ومناسبة لجميع طلاب المراحل التعليمية المختلفة المدنية والعسكرية، توضح التحدي الثقافي الذي تعيشه الأمة، وخطره المحدق بها، وسبل حماية الأمة من آثاره الخطيرة.
5- دعوة الأدباء والمفكرين والشعراء والقصصيين للكتابة في مجال تحديات الأمة الثقافية بالأسلوب الأدبي والقصصي المشوق - شعراً أو نثراً- ليسهموا بعطائهم في الدفع عن الأمة، وتبصيرها بمصالحها.
6- القناعة الكاملة بأن الإنسان المسلم، عقيدته وأخلاقه وسلامته، أغلى ما تملكه الأمة، وهذا يتطلب بالضرورة رعايته وتربيته تربية إسلامية شاملة تُعده إعداداً يناسب متغيرات الحياة المعاصرة، وتحدياتها الثقافية والسياسية والاقتصادية.
7- الحذر في التعامل وتبادل المعلومات مع المنظمات والهيئات الدولية المعنية بالشؤون الثقافية، مع السعي الحثيث في تكوين منظمات دولية إسلامية مناظرة، يستغني بها المسلمون عن غيرها، مع توثيق الصلة بين المنظمات والهيئات الإسلامية والعربية الحالية، المحلية منها والإقليمية والدولية.
8- دعم برامج وخطط الترجمة للعلوم والمعارف الأجنبية، التي تحتاجها الأمة لنهضتها، والتوسع في أنشطتها بهدف تعليم الأمة المسلمة بلغتها العربية، مع قصر الترجمة على العلوم التقنية، وتطبيقاتها الصناعية، دون غيرها من مجالات الثقافة العامة.
9- اعتماد اللغة العربية لغة الاتصال والتخاطب والكتابة بين المسلمين بصورة عامة، باعتبارها وعاء الأمة الحضاري، وأداتها الثقافية والفكرية، والاقتصار في استخدام اللغات الأجنبية الحية ضمن حد الضرورة التي لابد منها، وعدم السماح لها باحتلال مواقع التأثير بدلاً عن اللغة العربية.
10- وضع الضوابط الشرعية والتربوية لإحكام خطط الانفتاح على الثقافات الأخرى، بما يحقق الاستفادة الصالحة، واقتناص الحكمة النافعة في غير انفلات أخلاقي، أو ضلال عقائدي.
11- إحياء حاسة التفريق عند المسلمين بين مفهوم العلم، باعتباره خاصية إنسانية لا وطن لها، وبين مفهوم الثقافة، باعتبارها خاصية أممية، تنفرد كل أمة بخصوصياتها: العقائدية، والسلوكية، والاجتماعية.
12- إعادة تأصيل الفروع المختلفة للعلوم الإنسانية من الوجهة الإسلامية؛ لكونها - في الجملة - تمثل ثقافة وافدة، قد أصبحت جزءاً من برامج كثير من مؤسسات الأمة التربوية، مع السعي الحثيث في بناء مجموعة جديدة من هذه العلوم الإنسانية مستمدة من تراث الأمة الثقافي، وتاريخها الحضاري.
13- وضع الضوابط الشرعية والتربوية لجميع الأنشطة الفنية والإعلامية بما يكفل حصرها ضمن الإطار المقبول شرعاً، و يسخرها لخدمة الدين، ونشر رسالته السامية للبشرية، وهذا بالضرورة يتطلب خدمة الرسالة الإعلامية والفنية بما يحقق رواجها وانتشارها بنجاح في وسط ثقافي عالمي شديد التنافس.
14- إعادة مفهوم الكف عن الممنوعات الشرعية إلى أذهان المسلمين باعتباره سلوكاً إسلامياً يثاب عليه المسلم بامتناعه؛ فإن كثيراً من عناصر الثقافة الوافدة لا يمكن الوقاية منها، أو التحصُّن من خطرها إلا بالكف عنها، لاسيما وأن مهارات الانتقاء الموفقة عن الثقافات الأخرى ليست قدرة متاحة لكل شخص، ومع ذلك لابد من التدريب على هذه المهارات الانتقائية، مع درجة كافية من التحصين الضروري للثبات على الحق، وضبط السلوك الخلقي.
15- التسليم الكامل بأنه بقدر ما بين الرجل والمرأة من التشابه في الإنسانية والحاجات والغايات، بقدر ما بينهما من الاختلاف والتباين في الوظائف والأساليب والطبائع، فالتشابه بين الجنسين لا يعني التطابق والتساوي، والاختلاف بينهما لا يعني الاحتقار والانحطاط، فلكل جنس وظيفة ومهام تناسب طبيعته وفطرته، وتحقق إنسانيته وشخصيته، وهذا الفهم من شأنه تقليص مجالات التنافس بين الجنسين، وتضييق ميادينها، ومن ثمَّ دفع كل جنس لما خُلق له، ومساعدته للاهتداء إلى سبيله المرسومة، فالفروق بين الجنسين قائمة في أصلها على اختلاف الوظائف والمسؤوليات، وعند هذه النقطة المحورية تصطدم الثقافة الإسلامية بمعاييرها الربانية مع كثير من الثقافات الحديثة الوافدة، وتصبح قضية المرأة - بأبعادها المختلفة - المؤشر الحقيقي لمدى ارتباط الأمة المسلمة بثقافتها.
16- إعادة الوعي الإيماني الصحيح إلى أذهان المسلمين بحجم الحياة الآخرة ونعيمها في مقابل الحياة الدنيا وزينتها، بما يكفل انضباط المسلم أمام مغريات الثقافات الوافدة وفتنتها، ويحقق درجة من الثبات على المبادئ الأخلاقية، والأصول الشرعية، وهذا لا يتحقق إلا باعتماد التربية الإيمانية أساساً ضرورياً في بناء الإنسان المسلم، وتكوين شخصيته الإسلامية المتميزة بإيمانها، باعتبارها الحصن الحصين ضد الغزو الثقافي الوافد .
17- الوعي بعظم ما ابتليت به الأمة المسلمة في غالب أقطارها حين حرمت من تطبيق شريعتها بصورة متكاملة؛ إذ تمثل القوانين الوضعية أعظم غزو ثقافي وافد أصاب الأمة في عمقها، وفي أخص خصوصياتها، التي تميزها عن غيرها من الأمم، وهذا بالضرورة يوجب على الأمة بصورة عامة، والحكومات بصورة خاصة العودة الصادقة إلى الشريعة الإسلامية، باعتبارها المصدر الوحيد للتشريع عند المسلمين، ووضع الخطط المناسبة لاستئناف حياة إسلامية وفق ما يعتقده المسلمون شريعة يدينون بها، ومنهاجاً للحياة يسيرون في ضوئه.
18- تفعيل مبدأ الإجماع عند علماء المسلمين المعاصرين، باعتباره المصدر الثالث من مصادر التشريع الإسلامي، المكون لثقافة المسلم في كل عصر، بحيث يعود للمسلمين احترامهم لهذا المبدأ، وثقتهم فيه، ومن ثمَّ أخذهم به اعتقاداً وعملاً، وهذا يتطلب وضع آلية حديثة، تُسند إلى جهة شرعية موثوقة، تكون محور تلاقي العلماء بأشخاصهم أو بأقلامهم، ولعل في الشبكات العنكبوتية الحديثة ما يحقق هذا الغرض بصورة متفوقة، مع اتخاذ التدابير الفنية والإدارية اللازمة لضمان سلامة توثيق المعلومات، وانتسابها إلى أصحابها بكل دقة .
19- احترام اجتهادات العلماء، بصورة عامة؛ لكونها جزء من تراث الأمة الإسلامية الثقافي والفكري، المنبثق عن النظر في الوحي المنزل - في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم - بحيث يستغني المسلمون بثروتهم العلمية، ونظرات علمائهم الاجتهادية عن التطلع إلى التشريعات الوضعية المنبثقة - في أصل الأمر -عن الأهواء الجاهلية، المعرضة عن الوحي المبارك، وهذا يتطلب إعادة ترتيب وتدوين تراث الأمة الثقافي، بفروعه المختلفة، وتسهيل الوصول إليه؛ ليكون متاحاً للباحثين .
20- الوعي بصعوبة الفصل - في هذا العصر - بين التطفل على الغير في علومه ومعارفه ومنتجاته، وبين المحافظة على الشخصية الثقافية دون خدوش، وهذا بالضرورة يتطلب الاعتماد على الذات الإسلامية في التقدم والنهضة، والتعاون فيما بين المسلمين لتحقيق درجة الاكتفاء الذاتي للخروج من الأزمة الحضارية المعاصرة.
21- الوعي بحجم وخطر الثقافة الوافدة عبر وسائل الإعلام المختلفة، ولا سيما المرئية منها، مقابل ضآلة ثقافة الكتاب، ولاسيما الكتاب الإسلامي، مما يوجب التأكد على بث الوعي الجاد بين المسلمين بأهمية الكتاب، باعتباره مصدراً ضرورياً لتكوين شخصية المسلم، وبناء عقله، ونضج تفكيره، مع التحذير من الرسالة الإعلامية الوافدة، وخصوصاً المرئية منها, بما تحمله في كثير من الأحيان من انحراف فكري وسلوكي، يتعارض - بصورة صارخة - مع أبسط المبادئ التربوية الإسلامية.
22- توسيع دائرة الثقافة الإسلامية لتشمل جميع بلاد الدنيا، وجميع فئات الناس، على مختلف مشاربهم وعقائدهم؛ بحيث تكون للمسلمين مزيد وعي وثقافة، وتكون لغير المسلمين دعوة وإرشاداً، وهذا يتحقق من خلال تبسيط الخطاب الثقافي الإسلامي، وبثه عبر كل وسيلة اتصال مشروعة؛ ليستوعب الجميع بلغاتهم المختلفة، وحدود قدراتهم المتفاوتة.
23- نشر التعليم الإسلامي ليستوعب جميع المسلمين، بحيث يكون متاحاً لكل الفئات والطبقات في المجتمع ذكوراً وإناثاً، بأيسر السبل والتكاليف، وهذا لا يتحقق إلا بخطة تعليمية شاملة تهدف إلى التوسع في إقامة المدارس والمعاهد والجامعات، واستخدام وسائل التعليم الحديثة عن بعد بكل أنواعها المختلفة، بما يكفل الوصول بالمعرفة الإسلامية الصحيحة إلى جميع المسلمين في العالم، بما في ذلك المناطق النائية عن العمران.
24- إحياء التعاون بين مؤسسات المجتمع المختلفة، ونبذ الازدواجية والتناقض في أهدافها وغاياتها ووسائلها، لتعمل جميعاً على مواجهة التحدي الثقافي الوافد، وهذا يوجب تأهيل هذه المؤسسات بأنواعها المختلفة : الأسرة، المدرسة، المسجد، وسائل الإعلام … لتكون أداة ثقافة إسلامية، ومحضناً تربوياً، وحصناً منيعاً ضد الثقافة الوافدة.
25- الربط بين الثقافة الإسلامية وواقع الحياة العملية؛ بحيث يجد الناشئ فيها حلولاً وإجابات عن مشكلاته الواقعية، فيرتبط في ذهنه الدين بالحياة، وهذا يتطلب التوصية بأهمية استيعاب مناهج التربية الإسلامية لحاجات الطلاب، وربطها بواقعهم الفعلي، وتلمسها لمشكلاتهم القائمة، بحيث يستغني بها التلميذ عن المصادر الثقافية المشبوهة.
26- إعطاء العلوم التطبيقية بأنواعها المختلفة حقها من الاهتمام في مقابل العلوم النظرية، بما يكفل للمسلمين امتلاك التقنية اللازمة وتطويرها للاكتفاء الذاتي، دون الحاجة إلى الغير، الذي لا يقدمها عادة إلا وهي مشوبة بثقافته، مختلطة بمفاهيمه وتصوراته، وهذا يتطلب التوسع في تعليم العلوم الحديثة، وتشجيع البحث العلمي، وفتح مراكز للمعلومات، وتوثيق الصلات وتبادل الخبرات بين المراكز العلمية في البلاد الإسلامية.
27- اعتماد جرعات ضرورية من الثقافة الشرعية لجميع طلاب المراحل التعليمية المدنية والعسكرية؛ بما يضمن تكوين الشخصية الإسلامية السوية، وإعطاء الطالب قسطاً من ثقافته الدينية التي تزوده بالمعتقد الصحيح، وتعينه على أداء عبادته على الوجه المشروع، وهذا يوجب وجود مناهج دينية في جميع مراحل التعليم المختلفة، تعنى بالعلوم الشرعية الضرورية للمسلم في معتقده وعبادته.
28- تدريس العلوم والمعارف المختلفة بنوعيها : النظرية والتطبيقية من الوجهة الإسلامية، فلا يُقاس حجم الوجهة الدينية في التعليم بكثرة موادها الدراسية فحسب، وإنما تُقاس - إضافة إلى ذلك - بمدى صلتها أو تعارضها مع الدين، بحيث تصب كل المعارف والعلوم بفروعها المختلفة في رحاب الله تعالى، فتكون موارد دينية؛ إذ المعرفة في أصلها من عند الله تعالى، سواء كانت المعرفة الواردة عن طريق الوحي، أو المعرفة المبثوثة في الكون، فكلاهما يدل على الله جل جلاله، ويعبِّد الناس له سبحانه وتعالى، فلا يمكن - والحالة هذه - أن يتعارضا؛ وهذا الفهم يوجب ربط المعرفة التعليمية بالدين، بحيث لا تتعارض أي فكرة - أياً كانت - مع مفهوم إسلامي صحيح، بل تتسق معه وتؤيده.
29- التسليم الأكيد بالارتباط الوثيق بين الثقافة والإعلام بما لا يدع مجالاً للشك بأن الثقافة الإسلامية مرهونة - إلى حد كبير - بقدرة ونزاهة وصدق الرسالة الإعلامية، وهذا بالضرورة يحتم على المؤسسات الإعلامية في بلاد المسلمين إعادة النظر في أهدافها وبرامجها وأساليبها، بما يخدم رسالة الأمة، ويعزز ثقافتها، ويغنيها عن غيرها.
30- إعادة النظر في البعثات الخارجية للدول الأجنبية، ولاسيما للنساء، في ضوء المفاهيم الإسلامية، مع ضرورة تقويم التجارب السابقة للابتعاث الخارجي في ضوء الأهداف التي وضعت له؛ فإن الواقع التطبيقي يشهد تجاوزات شرعية، إضافة إلى انخفاض مستوى مخرجاته في مقابل حجم مدخلاته الهائلة؛ إذ لم يتحقق للأمة هدف اكتفائها من العلوم والمعارف، واستغنائها عن أعدائها، باعتباره هدفاً استراتيجياً للابتعاث، وإنما زاد ارتباط المبتعث ببلاد بعثته شوقاً من جهة، ومصدراً للمعرفة من جهة أخرى، ولم تزل الأمة قابعة في ذيل ركب الحضارة الحديثة، تتكفف غيرها، وتتطفل على موائد أعدائها، مما يهدد كيانها وثقافتها، وهذا الوضع يوجب بالضرورة السعي الجاد في إغناء المسلمين بمراكز العلم ضمن الوطن الإسلامي، وتضييق فرص الابتعاث للدول الأجنبية على الدراسات العليا النادرة للرجال المؤهلين ثقافياً واجتماعياً، مع الاستمرار في تقويم التجارب وفق حاجات الأمة المتجددة، ومتطلبات العصر الحديث، والجدوى من استمرار الابتعاث.
31- وضع خطة للغزو الثقافي المعاكس لغير المسلمين، فيكون الهجوم بدلاً عن الدفاع، فتتخذ الأمة عبر بعض مؤسساتها الثقافية الدعوية خططاً لبث المعرفة الإسلامية بصفائها إلى غير المسلمين، فهذا من شأنه دعوتهم من جهة، وإشغالهم بالدفاع في ساحاتهم من جهة أخرى.
32- كشف الصلة بين المذاهب الهدامة المنتسبة إلى الإسلام وبين الغزو الثقافي الأجنبي، مما يوجب فضح أهداف هذه المذاهب وغاياتها الهدامة في إضلال الأمة، وتشويه شخصيتها الإسلامية في صور شاذة لا تنتمي إلى الإسلام في شيء.
33- مساندة الأقليات المسلمة في العالم أمام التحديات الثقافية الرامية إلى محو شخصيتهم الإسلامية، وإذابتهم في كيانات مجتمعاتهم، وهذا يتطلب التعاون مع هذه الأقليات عن طريق الهيئات الرسمية والخيرية للمحافظة على هويتهم الإسلامية، من خلال تزويدهم بالكتاب المدرسي، والنشرة الثقافية، والوسيلة الإعلامية، مع إقامة الدورات العلمية، والتوسع في منح الابتعاث لمؤسسات التعليم المختلفة في الوطن الإسلامي.
34- دعم الهيئة الإسلامية العالمية للتعليم التابعة لرابطة العالم الإسلامي، لتكون أداة محورية لربط مؤسسات المسلمين التعليمية في العالم، بما يمكن الجميع من تبادل الخبرات، وتنسيق الجهود، وهذا يستلزم دعم الهيئة الفتية مادياً بالميزانية اللازمة لتنفيذ خططها التعليمية، ومعنوياً بالدعاية لها، وتسهيل مهمتها، وحضور اجتماعاتها، وتلبية دعوتها.
35- السعي الجاد في استقطاب العقول المسلمة المبدعة ضمن إطار البلاد الإسلامية، والاستفادة الصادقة من خبراتها وإنتاجها، مع احترام وتقدير جهودها ودعمها بما يكفل كفَّها عن التطلع نحو إغراء الدول الأجنبية المادي والمعنوي، وهذا بالضرورة يوجب دعم المؤسسات العلمية في البلاد الإسلامية بالوسائل المتنوعة لتكون أداة جذب للعقول المفكرة، والشخصيات المبدعة، قادرة على اكتشافهم من جهة، وقادرة أيضاً على تنميتهم من جهة أخرى. مع التأكيد على أهمية توعية المبدعين بضرورة خدمتهم لأمتهم، وأن إخفاق المؤسسات العلمية في بلادهم لا يكفي عذراً للهجرة إلى أعدائهم، وبث معارفهم عندهم، فهذه أقل ما يُقال فيها أنها خيانة للأمة، وهروب من مواجهة الواقع بالإصلاح والتغيير، مع اقتراح إنشاء منظمة إسلامية عالمية تعنى بشؤون المبدعين من جميع التخصصات، فتقوم بحصرهم، والتواصل معهم، ورعاية حاجاتهم، وتكون أداة اتصال فيما بينهم.
36- العمل الجاد على إعداد المعلم المسلم إعداداً علمياً متكاملاً، باعتباره محور العملية التعليمية، وهذا يتطلب إعادة النظر في الخطط الدراسية لإعداده؛ بحيث تتناسب مع وضع الأمة وتخلفها المعاصر، وحاجتها الملحة إلى الطاقات المبدعة في كل ميدان، للخروج من أزماتها الحضارية الخانقة.
37- مراجعة التوصيات المنبثقة عن المؤتمرات والندوات والحلقات الإسلامية الكثيرة الخاصة بالقضية الثقافية، ولاسيما المؤتمرات التعليمية الإسلامية العالمية الأربع، وما يتمخض عنه هذا المؤتمر الحالي؛ بحيث تفعَّل هذه التوصيات، وتُنشر بين جميع المؤسسات التربوية؛ للاستفادة منها، باعتبارها المنطلق لضبط ثقافة المسلم المعاصر، والمحافظة على شخصيته الإسلامية.
إن الناظر في هذه التوصيات والمقترحات ليهوله حجم الإصلاح المطلوب؛ فإن المشكلة الثقافية - بما تحمله من التنوع - تكاد تتشعب في كل مجالات وأنشطة الأمة، فهي قضية محورية وأساسية، لا يمكن للأمة المسلمة أن تخرج من أزماتها المعاصرة، وإخفاقاتها المتتالية إلا بحل المشكلة الثقافية، ضمن المسارين المهمين: الأصالة بمعنى المحافظة على الثوابت وعدم الذوبان، والمعاصرة بمعنى الانتقاء الموفق ضمن مسيرة التقدم الحضاري، ولاشك أن هذين المسارين يتطلبان من الجهود الروحية والفكرية والاقتصادية والسياسية ما هو كثير، ولعل ذلك يتحقق في القريب، فليس شيء على الله بعزيز، حين تصدق النيات وتخلص المقاصد، ويتحول القول إلى عمل .
هذا والله تعالى الموفق.
المصدر :
کتاب التربية الاقتصادية