الصناعات المنزلية أقدم صناعات الإنسان التي رافقته عبر مراحل تطوره الاقتصادي، واستثمرت معه حتى ظهور أنظمة المصانع الحديثة، حيث "كانت تجري عمليات الصنع في منازل العمال، وكانت هذه العمليات تتم يدوياً في معظمها"، وقد شهد المجتمع المسلم -في الزمن الأول- ازدهار هذا النوع من الصناعات على أيدي النساء، وثبوت جدواها الاقتصادية، فقد شملت العديد من الصناعات مثل: الدباغة، والنسج، والغزل، والنقش، والصبغ، والخرازة، ونحوها من الصناعات المختلفة، وكانت المرأة المُتْقنة لصنعها من هؤلاء النساء، العارفة بأصولها تسمى: "صناع اليد: أي حاذقة ماهرة بعمل الأيدي".
وقد نجح هذا النوع من الصناعات في مساعدة النساء على الجمع بكفاءة بين مزاولة حرفهن الصناعية، وبين القيام بحق الزوج ومهام الأسرة؛ إذ لا يحق للزوج شرعاً أن يمنعها من مزاولة مهاراتها المباحة ما دامت تعمل ذلك في البيت، ولا تفوِّت حقاً له، بل لا يحق له أن يمنعها من إدارة تجارتها ما دامت تنطلق في إدارتها من بيتها، فقد أتاحت لها وسائل الاتصال الحديثة بأنواعها المختلفة فرص التعامل الاقتصادي بكل تفصيلاته من مكتب بيتها دون حرج، في حين تجد المرأة المعاصرة عنتاً شديداً في التوفيق بين دورها الأسري وبين عملها خارج نطاق منزلها؛ حيث يفرض عليها التصنيع والعمل الحديث أسساً جديدة تُغيِّر من وضعها الاجتماعي، فتنقل جهدها في عمليات التشغيل والإنتاج من المنزل إلى المصنع، وتُدخلها في حرج التعامل مع الرجال الأجانب.
وقد مرَّ على الصناعات المنزلية في أوروبا وبعض بلاد الشرق الأقصى فترة سادت فيها الحرف العائلية، والإنتاج الأسري قبل ظهور الآلة الأوتوماتيكية وتطورها، فقد كانت منتجات الصناعات المنزلية تعمُّ الدنيا وفرة، وتفرض نفسها جودة، حتى إنه لم توجد صناعة من الصناعات -حتى الثقيلة منها والكبرى- إلا كان للمنزل والمرأة دور في إنتاجها بصورة كلية أو جزئية؛ بل حتى بعد ظهور التجمعات الصناعية في أوروبا -في أول الأمر- فقد بقي للأسرة المنتجة دورها التنافسي مع هذه التجمعات تارة، والتعاوني تارة أخرى، حتى برز دور الآلة في السرعة والإتقان، وقلَّة التكاليف المالية، وعدم الحاجة إلى الخبرة العمالية الكبيرة .
وظهر معها أرباب العمل من دهاة الاقتصاد، من الإقطاعيين القدماء والرأسماليين الجدد، الذين سيطروا على وسائل الإنتاج من خلال إحكام تجارة السوق، ومصادر المواد الخام، إضافة إلى امتلاكهم الآلة المتطورة، ففرضوا على صُنَّاع المنازل -كلَّ قادر منهم- أن يعملوا تحت أيديهم كأجراء، ضمن تجمعات صناعية كبيرة بعيدة عن المنازل، تجمع أخلاطاً من الناس: ذكوراً وإناثاً، وكباراً وصغاراً، ليس بينهم رابطة اجتماعية سوى العمل، فرغم ما حققته هذه النقلة الصناعية الحديثة -من المنزل إلى المصنع ومن اليد إلى الآلة- فقد خسرت في الجانب الإنساني أضعاف ما ربحته في الجانب المادي؛ حيث أضعفت من دور المنزل اقتصادياً، وشلَّته تربوياً، وعطَّلت طاقات بشرية كان يمكن أن تسهم في التنمية من خلال البيوت، وكرَّست الجميع لخدمة مصالح فئات قليلة من المحتكرين الاقتصاديين الذين مارسوا في سبيل جمع المال أشد وأبشع أنواع الظلم والخسف بالعمال، مع ما أحدثته الآلة المتطورة من سلب خبرات الصنَّاع، وإرهاقهم نفسياً بالعمل الروتيني السلبي الذي لا يجد فيه الصانع الماهر ثمار خبرته.
إن هذا الوضع الاقتصادي المأساوي لا يتناسب مع نظام الإسلام الاقتصادي الذي يحترم الإنسان، ويقدر جهده ضمن مناشط التنمية المختلفة، ويحميه نفسياً وخلقياً من كل ما يؤذيه، ولاسيما المرأة بطبيعتها الخاصة ودورها الاجتماعي الذي لا يتحمل قسوة العمل خارج المنزل؛ ولهذا يختفي ذكر دور النساء عند الحديث عن الصناعات الخارجية في التاريخ الإسلامي؛ لكونه أداء لا يناسب طبائع الإناث.
ومن هنا كان من الضروري إحياء الصناعات المنزلية وتطويرها لضمان مشاركة الفتاة وأعضاء الأسرة بصورة صحيحة في التنمية الاقتصادية الشاملة ابتداء من الصناعات اليدوية المألوفة الثابتة الجدوى: كالخياطة، والتطريز، والنسج، والجلود، وصناعة الفخار، والخزف، والزخارف ونحوها، ومروراً بالصناعات الغذائية الناجحة:
كتعليب التمور، وحفظ الخضروات، وتمليح السمك، وتجفيف الفواكه، وعمل المخللات والمربيات وغيرها، وانتهاء بالصناعات التجميعية الحديثة لقطع الأجهزة الصغيرة، وشيء من أعمال الصيانة والإصلاح الآلي، وإنتاج قطع الغيار البديلة، التي أثبتت في الجملة جدواها الاقتصادية في الدول النامية أمام العديد من الصناعات الكبيرة ذات التقنيات العالية، مع ضرورة الاستفادة القصوى من فرص العمل المتاحة عبر شبكات الحاسب الآلي، والإنترنت التي تسمح للفتاة بالمشاركة الإنتاجية ضمن مكتب منزلها دون حرج، حيث تُتيح هذه الطريقة الحديثة في الولايات المتحدة وحدها أكثر من 40 مليون فرصة عمل.
ولعل من أهم وسائل إحياء هذه الصناعات: دعم الاقتصاد الأسري مادياً بالمساعدات المالية، والقروض الحسنة، ومعنوياً بالخبرات الاقتصادية في دراسات الجدوى، واقتراح المشروعات الاستثمارية الآمنة الصغيرة والمتوسطة، التي تناسب وسائل الإنتاج العائلي، مع نقل بعض الحرف الخارجية إلى المنزل، والعمل على تطويرها فنياً لتناسب طبيعة العمل الداخلي، وتخرج عن طابعها التقليدي المتواضع ليصبح إنتاجها في حجم اقتصادي منافس، بحيث تُكيَّف بعض التقنيات الحديثة لاحتياجات المشروعات الصغيرة من خلال تطوير الآلة المنزلية تقنياً لتلبي بصورة سريعة ومتقنة حاجات السوق الاستهلاكية، وتعود في الوقت نفسه على الفتاة الصانعة وأسرتها بالوفرة المالية.
وهذا المقترح التقني لا ينبغي استهجانه؛ فإن التطور الآلي محكوم إلى حد كبير بالحاجة الإنسانية، والمعرفة التقنية باب واسع لا حدود له، فما قد يكون اليوم خيالاً قد يكون في القريب واقعاً حياً؛ ففي أوروبا رغم انتشار مصانع النسيج في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي بقيت صناعات الغزل المنزلية مزدهرة ومنافسة بسبب تطوير أحد العلماء لآلة الغزل المنزلية، فالآلة جوهر العمليات الصناعية الحديثة، فلا يستنكر في سبيل التنمية الاقتصادية، وحاجات الأسرة المسلمة، وطبيعة الفتاة ودورها الاجتماعي أن تُدعم بحوث تطوير الآلة المنزلية المنتجة، ودعمها بشيء من التقنية الحديثة البسيطة، مع تسهيل سبل نقل المواد الخام، وأعمال التسويق، وطرق التدريب الذاتية المُيسرة؛ لتصب كلها في خدمة المشروعات الصغيرة التي يقوم عليها اليوم الاقتصادي العالمي، وتدخل في جوهر التنمية الصناعية الشاملة؛ ولتكون النواة الضرورية اللازمة لمشروعات استثمارية كبيرة.
وقد أثبت الواقع الاقتصادي القائم جدوى المشروعات الصناعية الصغيرة، التي تقل فيها التكاليف المالية، وتستوعب العدد الأكبر من الأيدي العاملة، حيث يتوجه العالم الصناعي نحوها بقوة؛ فإن (50%) من الإنتاج الصناعي الياباني تقوم به شركات صغيرة، تستوعب (75%) من العمالة اليابانية، حيث يشترك كثير من النساء اليابانيات من منازلهن في أعمال هذه الشركات وصناعاتها المتنوعة، وتدعم خطة تايوان الاقتصادية المشاريع الصناعية الصغيرة بقوة، في الوقت الذي تسعى فيه للتخفيف من التكتلات الصناعية الكبيرة، وتحاول بعض دول الخليج السير في هذا الاتجاه، حيث تمثل المنشآت الصناعية الصغيرة (84%) من مجمل المنشآت العاملة في القطاع الكويتي حتى عام 1995م، وهذه - كما تظهر- وجهة عالمية، أثبتت جدواها الاقتصادية، ومن جهة أخرى تستغل هذه المشروعات الصناعية الصغيرة كل طاقات الأسرة، وتسد حاجاتها الاقتصادية، وتشغل فراغ فتياتها، وتهيء لهن الظروف الاجتماعية الملائمة للقيام بأدوارهن التربوية بصورة جادة دون حرج خلقي، أو حرمان أبوي.
دور الأسرة الممتدة في التنمية الاقتصادية العائلية
الأسرة الممتدة، أو العائلة الممتدة هي العائلة التي تضم ضمن نطاقها الأسري أكثر من جيلين من الأبناء، تربط بينهم علاقات اجتماعية حميمة، وتصورات فكرية متشابهة، ومصالح اقتصادية حيوية مشتركة، وهي نمطٌ اجتماعي كان إلى عهد قريب مصدر الفرد الثقافي -ذكراً كان أو أنثى- ومورده المالي، ودليل صحته العامة، وملاذه النفسي والروحي، وذلك عندما كانت العائلة وحدة إنتاج واستهلاك، وسلطة اجتماعية في وقت واحد، حين كان الجميع بما فيهم الفتيات يعملون لصالح الأسرة، وفي سبيل خدمتها وتنمية ثرواتها، بحيث تبقى الفتاة في هذا الوسط الاجتماعي الفاعل مكفولة اقتصادياً، تُنتج وتستهلك في الوقت نفسه، متحررة من العبودية المقيتة لأرباب العمل الأجانب، ثم لم يلبث هذا الوضع العائلي طويلاً بعد الثورة الصناعية الغربية وآثارها العالمية حتى تفتَّت إلى أسر صغيرة نووية الحجم، مفككة الأجزاء، متباينة المفاهيم، يختلف أفرادها في كل شيء من جليل الأمر وحقيره، ليس بينهم روابط اجتماعية أو اقتصادية يخشون زوالها.وبناء على هذا لم تعد العائلة الأم ملْهمة الفرد التربوية، حين تولت المدرسة هذه المهمة، ولم تعد ملاذ الفرد الصحي حين تولت المصحات هذه المسؤولية، ولم تعد ملجأ المسنين حين تولت الملاجئ هذه الرعاية، ثم هي فوق ذلك لم تعد مورد الفرد الاقتصادي حينما اغتصبت منها المؤسسات الخارجية وسائل التنمية والإنتاج، فلم تعد أكثر من أداة مضطربة للإنجاب، تتنازعها مخاوف الانفجار السكاني، وتعوقها موانع الحمل في جو ملوَّث بالشبهات والشهوات، بعد أن أصبح الولد عبثاً اقتصادياً معطلاً في حين كان ضمن العائلة الممتدة عنصراً مهماً للإنتاج والتنمية، وأصبح في الجانب الاجتماعي مشكلة نفسية وخلقية حين فقد تكرار نماذج الوالدين في شخصيات أخرى من أعضاء الأسرة الممتدة، وكانت الفتاة هي الخاسر الأكبر في كل هذه التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي انتابت العائلة الممتدة حين اضطرت أن تقوم بنفسها بعد أن تخلى عنها الجميع، حتى أصبحت العلاقة واضحة بين الأسر النووية الحجم والفتيات العاملات خارج البيوت.
إن هذا الوضع المجذوم للشكل العائلي لا يمكن إصلاحه بصورة صحيحة إلا من خلال إعادة بناء مفاهيم القبيلة والجماعة والقرابة على مبادئ: صلة الرحم، والتعاون الجماعي، والتكافل الاجتماعي التي جاء بها الإسلام، بحيث تُفرَّغ هذه المفاهيم الوشائجية من نوازعها الجاهلية، وبواعثها العِمِّيَّة -كما حصل في الزمن الأول- لتبقى ضمن مفهوم "العاقلة"، الذي يقوم على مبدأ التكافل الاقتصادي في نظام التشريع الجنائي الإسلامي، ومن ثم تقوم بين أفراد العائلة الواحدة المتكاتفة بواعث التعاون الاقتصادي الذي ندب إليه الإسلام، والذي تفرضه طبيعة التجمع القرابي، فتقوم بينهم مشروعات استثمارية صغيرة، بجهود ذاتية متواضعة، يشترك في بنائها الجميع الذكور والإناث بالتمويل والعمل، كلٌ حسب قدرته، ودرجة كفاءته، فتستغنى الأسرة بإنتاجها الاقتصادي، وتستغل طاقاتها المتاحة، وتمنح شبابها العاطل فرصاً للعمل، وتحفظ فتياتها من ذلِّ الضرب في الأرض، مع إسهامها -غير المباشر- في اقتصاديات البلاد العامة.
وقد شهد الواقع العملي بالجدوى الاقتصادية لمثل هذه المبادرات التنموية المتواضعة؛ فإن العديد من المشاريع الصناعية المعاصرة تقوم على جهود بضعة من العمال، وميزانيات مالية صغيرة لا ترهق الفئام من أبناء الأسرة الممتدة، وقد أوضحت الإحصائيات أن (60%) من النساء العاملات في اليابان إنما يعملن في مشروعات صغيرة خاصة بالأسرة، وتحقق إحداهن مع باقي الشعب إدخاراً مالياً يصل إلى (21%) من دخلها العام، مما يجعل لهذه المشروعات إيجابية كبيرة في بناء اقتصاد الأسرة الممتدة، ويتيح للفتاة فرصاً استثمارية ناجحة من جهة، ومأمونة من جهة أخرى.
الدور الأخلاقي والاقتصادي لتوطين عائلة الفتاة الريفية
تظهر أهمية التنمية الاقتصادية الأسرية في استقرار عائلة الفتاة الريفية وتوطينها، بحيث لا تضطر تحت وطأة الحاجة الاقتصادية وضعف الخدمات العامة في الريف للنزوح إلى المدن، فإن المدينة العصرية مع ما تتصف به من بريق الحضارة، وتتمتع به من الوفرة المالية، والخدمات المدنية، وفرص العمل: فإنها تتسم -في كثير من الأحوال- بالضعف الأخلاقي العام، وصراع القيم والمعايير، وكثرة الحركة والاضطراب، وتأخر سن الزواج، إلى جانب عوامل أخرى لا تتناسب وطبيعة نشأة الفتاة الريفية؛حيث تهيء لها المدينة بصخبها ظروفاً أكثر للانحراف من حيث التفاوت المالي بين النازحين الريفيين وأبناء المدن، وتشتت كيان الأسرة الريفية، والتكدس الشعبي على هوامش المدن الحضارية، ووفرة فرص تعاطي المخدرات،والسلوك الإجرامي، واحتراف البغاء؛ فإن غالب البغايا يأتين من الأرياف تحت وطأة الحاجة والفقر؛ فإن العلاقة قوية بين الفقر واحتراف البغاء، والمتاجرة بالنساء -على قدمها- فإنها اليوم في المجتمعات المتحضرة أوسع ما تكون؛ لذا فإن "الهجرة لا تعني الانتقال من القرى والبادية، أو مجرد تغيير في الإقامة أو الحركة من منطقة إلى أخرى؛ بل تنطوي على أبعاد أكثر أهمية، إلى تغيير شامل للحياة، وارتباطات جديدة للمهاجر في المجتمع الجديد".
هذا إلى جانب ما يسببه هذا الزحف الريفي من تضخم لحجم المدن، واستنزاف شديد لطاقاتها المحدودة من الخدمات العامة، دون مردود اقتصادي إيجابي من أبناء الريف العاطلين، الذين يسهمون بصورة غير مباشرة في تنامي مشكلة الفراغ، التي تزداد حدَّتها مع زيادة معدلات الهجرة الريفية، ولهذا كانت بريطانيا في السابق حريصة في بعض فترات الكساد الاقتصادي: على تشجيع عودة النازحين إلى قراهم الريفية حفاظاً على أمن المدن واستقرارها من فوضى العاطلين الريفيين.
والعجيب أنه مع هذه السلبيات الأخلاقية والاقتصادية الكبيرة للمدن الحضارية المعاصرة: يبقى الريف الطبيعي على فطرته بعيداً إلى حد كبير عن هذه المظاهر الانحرافية، والأزمات السلوكية؛ فوقت الفراغ الذي يشكو منه أبناء المدن يكاد ينعدم عند الفتاة الريفية، ومشكلة العنوسة وتأخر سن الزواج لا تعرفهما الأسرة الريفية، وأزمتا المخدرات، وجُناح الأحداث تقلان بصورة مطردة كلَّما قلَّ عدد السكان، وقربت مساكنهم من القرى والأرياف، إلى جانب رسوخ العادات والتقاليد في المجتمع الريفي، واستقرار الأسرة في صور من التكتلات المتماسكة المترابطة، التي تشيع بين أفرادها مظاهر التعاون الاقتصادي، الذي يُسهم فيه النساء والفتيات بفعالية كبيرة؛ حتى إن إنتاجهن الغذائي يُقدَّر بخمسين في المائة من إنتاج العالم، وربما وصل في إفريقيا وحدها إلى (90%) ويستمتعن -في بعض المناطق- بملكية ربع الأراضي تقريبا، وأقل ما يمكن أن تعمله الفتاة الريفية الساذجة لتبقى ضمن عناصر الإنتاج: أن ترعى الماشية كما هو معلوم عند الريفيين العرب، فالفتاة في الريف منتجة في كل أحوالها، ولم تعرف السلبية الاقتصادية إلا بعد انتقالها إلى المدينة، وامتهانها العمل المؤسسي.
إن السبب الرئيس في بروز ظاهرة الهجرة الريفية الحديثة هو المشكلة الاقتصادية، في عدم توزيع الثروة والمشاريع والبرامج التنموية بصورة عادلة بين المناطق، مما أسهم بقوة في تخلف الريف، وازدهار المدن، حيث الثروة المالية والنهضة الصناعية التي عمَّت المناطق الحضرية، وأغرت الريفيين بفرص العمل والمدخول الجيد، وحاربتهم في الوقت نفسه بتطور الآلة الزراعية التي أغنت عن كثير من العمالة الريفية، ولما كان أهل الريف أكثر الفئات الاجتماعية تضرراً بالبطالة: قامت الهجرات الجماعية نحو المدن، مخلِّفة وراءها من لا يستطيع السفر من العاجزين وكبار السن وغالب النساء، حتى إن حجم النازحين يشكل في العالم الثالث ما بين 30-55% من سكان بعض المدن الحضرية، يبحثون في المدن وعلى هوامشها عن قوتهم وقوت أولادهم ونسائهم، فكان نصيب الفتاة الريفية النازحة - في الغالب- أحقر الأعمال وأكثرها إرهاقاً وتعرضاً للفتن، مما جعلها في كثير من الأحيان موضعاً رخيصاً للاتجار الجسدي.
إن توطين العائلة الريفية -والحالة هذه- ليست مسألة اختيارية إذا عُلم أن غالب سكان العالم يقطنون الأرياف، منهم (80%) من سكان البلاد النامية، حيث تمثل المرأة العربية الريفية (70%) من مجموع نساء البلاد العربية المسلمة، مما يجعل مسالة التوطين الريفي بالنسبة للنساء والفتيات على الخصوص قضية حيوية في غاية الأهمية.
ثم إن السعي الجاد في توطين العائلة الريفية لا يتحمل التأجيل؛ فإن النزوح من الأرياف نحو المدن ظاهرة عالمية عنيفة وسريعة، تنذر _ إذا استمرت - بخلو الأرياف من أهلها، وحصول أزمات عامة في المدن الحضرية يصعب حلها والسيطرة عليها، فعلى الرغم من أن الإحصائيات في الماضي تشير إلى أن أغلب الناس -لاسيما النساء- يحيون في الأرياف، فإن تقارير عام 1990م تشير إلى تدني نسبة سكان الأرياف إلى 57% من مجموع السكان، وأما تقارير عام 2000م فتشير إلى أن 31% فقط من سكان الدول العربية يسكنون الأرياف، وهذه لا شك ظاهرة حضرية خطيرة، تنذر بخلل في التركيب البشري بين المدن والأرياف،وما قد يترتب على هذا الخلل من أزمات: اجتماعية وأخلاقية واقتصادية عنيفة.
وعلى الرغم من ميل الفتيات النازحات نحو الاستقرار في المدن، وعدم رغبتهن مطلقاً في العودة إلى أريافهن التي نشأن فيها، فإن سياسة توطين الفتاة الريفية تبدأ بتعديل مفاهيم التحضير في أذهانهن من كونها مجرد انتقال من الريف إلى المدينة، أو انخراط متكلَّف في سوق العمل، أو بروز مشين في الحياة العامة: إلى كون التحضير تغييراً إيجابيا في التفكير والسلوك، والاتجاهات المتعلقة بالعمل والإنتاج؛ بحيث تصبح الفتاة عضواً منتجاً في كل أحوالها حيثما كانت، ومن ثمَّ دعم عائلتها بأسباب الاستقرار في الريف من خلال:
توفير الخدمات العامة، وفتح مجالات استثمار صناعية تتناسب مع طبيعة الحياة الريفية، مع دعم مجالات الاستثمار المحلية كالإنتاج الحيواني، والاستثمار الزراعي على الطريقة النبوية في إحياء الأراضي وتمليكها وتوزيع المياه، بحيث تُستغل الأراضي الصالحة والطاقات البشرية المتاحة كأقوى ما يكون، فلا يُسمح بالاحتكار لأحد من الناس دون استثمار، مع ضرورة استخدام الإدارة اللامركزية لدعم سلطات الريف المحلية لتستقل بعض الشيء بقراراتها عن سلطة المدينة، فتتهيأ للعائلة الريفية من جملة هذه الوسائل أسباب الاستقرار في الموطن الأصلي دون حرج الانتقال إلى المدن، ومعاناة مشكلات الهجرة الاقتصادية والأخلاقية.
وقد صدر عن ندوة الخبراء المنعقدة عام 1415هـ بطهران، حول دور المرأة في تنمية المجتمع الإسلامي: التوصية بما يدعم هذه الوجهة ويؤيدها، فقد جاءت عن الندوة التوصية التالية: "التركيز الصحيح على المهم للمرأة الريفية في الإنتاج والتنمية، وتسهيل حصولهن على الموارد الضرورية من بينها الأرض والقروض، والأسعار المؤمنة والتسويق، ودعم روابط وجماعات المرأة الريفية والحضرية باعتبارها آليات لتقدمهن الاجتماعي والاقتصادي والثقافي".
المصدر :
کتاب التربية الاقتصادية
/ج