تعتبر طريقة تفسير القرآن بالقرآن من أقدم الطرق في تفسير القرآن، وهي إحدى أقسام المنهج النقلي؛ لأنّ الأخير ينقسم إلى قسمين: تفسير القرآن بالقرآن وتفسير القرآن بالرواية. وقد استحسن جميع المفسّرين والمتخصّصين إلّا ما شذّ هذه الطريقة في التفسير، واستفادوا منها في الكثير من الموارد، بل إنّ بعضهم اعتبرها من أفضل الطرق في التفسير.
المراد من تفسير القرآن بالقرآن
يعتمد هذا المنهج على توضيح آيات القرآن بواسطة آيات أخرى وبيان مقصودها. وبعبارة أخرى: تكون آيات القرآن بمثابة المصدر لتفسير آيات أخرى.وعرّفه بعضهم بأنّه: "مقابلة الآية بالآية وجعلها شاهداً لبعضها على الآخر ليستدلّ على هذه بهذه لمعرفة مراد الله تعالى من القرآن الكريم"(1).
تاريخ منهج تفسير القرآن بالقرآن
يعتبر كما ذكرنا تفسير القرآن بالقرآن من أقدم طرق التفسير، ويرجع استخدامه إلى زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقد استخدمه الأئمّة عليهم السلام وبعض الصحابة والتابعين.وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك.
1ـ سُئل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن معنى "الظلم" في الآية الكريمة: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْم﴾(2)فأجاب صلى الله عليه وآله وسلم وبالاستناد إلى الآية ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾(3)بأنّ المقصود بالظلم في الآية الأولى هو الشرك المذكور في الآية الثانية(4).
يتبيّن من خلال هذا الحديث والأحاديث المشابهة أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم استخدم هذا المنهج في التفسير، فإنّه صلى الله عليه وآله وسلم قام بتعليم أتباعه عمليّاً على استخدامه.
2ـ استنتج الإمام عليّ عليه السلام من خلال الآيتين ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾(5) ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾(6)بأنّ أقلّ مدّة للحمل هي ستّة أشهر. باعتبار أنّ مدّة الرضاع سنتين كما تشير الآية الأولى، ومدّة الحمل والرضاع معاً ثلاثون شهراً(7)كما تشير الآية الثانية، والجمع بينهما يقتضي كون أقلّ الحمل ستّة أشهر. وهذا نوع من تفسير القرآن بالقرآن.
وقد استخدم مفسِّرو الشيعة هذا المنهج بعد ذلك مع ظهور تفاسير مثل التبيان للشيخ الطوسي ومجمع البيان للشيخ الطبرسي، وكذلك مفسِّرو أهل السنّة.
وقد ذكر العلّامة المجلسيّ في كتابه بحار الأنوار الآيات الّتي تتعلّق بموضوع معيّن في بداية كلّ فصل. وهذا يعني أنّه استفاد من الطريقة الموضوعية في تفسير القرآن بالقرآن. وقد حظي هذا المنهج باهتمام واسع خاصّةً عند المفسِّرين في القرن الأخير، كما يتّضح ذلك في تفسير الميزان للعلّامة الطباطبائي، وآلاء الرحمن للشيخ البلاغي و...
لماذا يجب تفسير القرآن بالقرآن؟
اعتمد أصحاب هذا المنهج على عدّة أدلّة للاستدلال على جواز ولزوم هذا التفسير، من القرآن والسنّة والسيرة.1- الدليل القرآني
أ- قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾(8).
استدلّ العلّامة الطباطبائي قدس سره بهذه الآية على تفسير القرآن بالقرآن فقال: "وحاشا أن يكون القرآن تبياناً لكلّ شيء ولا يكون تبياناً لنفسه"(9).
ب- قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا﴾(10). قال العلّامة الطباطبائي قدس سره عند استدلاله بهذه الآية: "كيف يكون القرآن هدى وبيّنة وفرقاناً ونوراً مبيناً للناس في جميع ما يحتاجون إليه ولا يكفيهم في احتياجهم إليه وهو أشدّ الاحتياج"(11).
ج- قال تعالى:﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾(12). فقد قسّمت هذه الآية آيات القرآن إلى مجموعتين: محكمات ومتشابهات. وكلمة "المحكم" من "الإحكام" بمعنى "المنع"، ولهذا يقال للمواضيع الثابتة القويّة محكمة؛ لأنّها تمنع عن نفسها عوامل الزوال. كما أنّ كلّ قول واضح وصريح لا يعتريه أيّ خلاف يقال له "قولٌ محكم"، وعليه فإنّ الآيات المحكمة هي الآيات ذات المفاهيم الواضحة والّتي لا مجال للخلاف والجدل حولها.
أمّا الآيات المتشابهة فهي الآيات ذات المعنى المعقّد، أو الّتي تحتمل معاني متعدّدة، والّتي لا يتّضح معناها المقصود إلّا في ضوء الآيات المحكمة. وقد أطلق على الآيات المحكمة "أُمُّ الكتاب" أي هي الأصل والمرجع للآيات الأخرى، وبعبارة أخرى: لا بُدّ من إرجاع الآيات المتشابهات إلى المحكمات لكي يتّضح معناها. وهذه الطريقة هي إحدى أنواع تفسير القرآن بالقرآن.
د- إنّ تكرار الآيات يستلزم هذه الطريقة في التفسير: لأنّه لكي نفهم بعض الآيات لا بدّ من مراجعة الآيات المشابهة، فقد جاء ذكر قصّة النبيّ موسى عليه السلام وفرعون في سور: الأعراف: 105ـ 136، طه: 9ـ 98، الشعراء: 10ـ 67، النمل، ولا يمكن تفسير هذه الآيات ورفع الإبهام عنها ما لم يتمّ مراجعة هذه السور بآياتها المتعلّقة بموضوع النبيّ موسى عليه السلام وفرعون وإلّا فإنّه قد يؤدّي إلى وقوع المفسِّر في أخطاء.
2- الدليل الروائي
يمكن الاستدلال بالسنّة على مطلوبيّة تفسير القرآن بالقرآن من جهتين:
أ- السنّة العمليّة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام ، حيث استخدموا هذه الطريقة عمليّاً.
ب- الأحاديث الخاصّة الّتي أشارت إلى هذا الأمر، ومنها:
ما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ القرآن ليصدّق بعضه بعضاً فلا تكذبوا بعضه ببعض"(13).
وقال الإمام عليّ عليه السلام: "وكتاب الله بين أظهركم ناطق لا يعي لسانه، وبيت لا تُهدم أركانه، وعزّ لا تهزم أعوانه.. كتاب الله تبصرون به، وتنطقون به، وتسمعون به، وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، ولا يختلف في الله ولا يخالف بصاحبه عن الله"(14).
3- الدليل العقلي
من أجل فهم أيّ كلام لا بُدّ من مراعاة القرائن الموجودة فيه، فإذا جاء ذكر أحد المطالب بصورة مطلقة وعامّة، وفي مكان آخر بصورة مقيّدة وخاصّة، فلا بدّ من النظر إلى الكلام بصورة كلِّية باعتباره مجموعة كاملة، وهذه هي طريقة العقلاء في فهم أيّ كلام.
والقرآن الكريم غير مستثنى، من هذه القاعدة، وهذا هو نفس الشيء الّذي يُعرف باسم تفسير القرآن بالقرآن، يعني الاستفادة من بعض الآيات كقرائن لفهم وتفسير آيات أخرى، والشارع المقدّس لم يمنع من هذه الطريقة العقلائية، بل قام بتأييدها طبقاً للأحاديث السابقة. وعندما نراجع طريقة الأئمّة عليه السلام والصحابة والتابعين ومفسِّري القرآن على طول التاريخ نرى أنّهم استخدموا هذه الطريقة، أي الاستفادة من بعض الآيات في فهم آيات أخرى. ومن خلال استمرار طريقتهم هذه نستدلّ على جواز هذا المنهج بالإضافة إلى عدم وجود منع من الشارع.
حجيّة ظواهر القرآن
يتوقّف تفسير القرآن على بعض المسلَّمات ومنها حجّية ظواهر القرآن، حيث يمكن للمفسِّر أن يستدلّ بظواهره.والمراد من ظاهر القرآن الكريم هو المعنى الّذي يفهمه العارف باللغة العربية بموجب القوانين الثابتة عند أهل العرف وأبناء اللغة من اللفظ.
ومذهب المشهور من علماء مدرسة أهل البيت عليهم السلام حجيّة ظواهر القرآن الكريم، واستدلّوا على ذلك بوجوه منها:
أ - أنّ القرآن نزل بلسانٍ عربي مبين.
ب - أنّ القرآن معجزة الإسلام الخالدة.
وقد تحدّى الباري عزّ وجلّ المشركين على الإتيان بسورة من مثله، ولا معنى للتحدّي إلّا إذا فرض أنّ الّذين تحدّاهم القرآن كانوا يفهمون معانيه من خلال ظواهره.
ج - حديث الثقلين
والقاضي بضرورة التمسّك بالقرآن والعترة، ومعنى التمسّك بالقرآن ليس مجرّد الاعتقاد بأنّه قد نزل من عند الله تعالى، بل الأخذ به والعمل بما فيه من أوامر ونواهي والاستناد إليه في كلّ اعتقاد أو قول أو فعل.
د- روايات العرض على القرآن
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ على كلّ حقٍّ حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه" (15)، وعن الإمام الصادق عليه السلام: "كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف" فإنّ أخبار العرض على القرآن خير شاهد على إمكان فهم معانيه.
أمّا الأخباريون فقد استدلّوا على عدم حجّية ظواهر القرآن بما يلي:
1- إنّ فهم القرآن مختصّ بأهله، وهم المخاطبون الحقيقيّون به، وهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام.
2- إنّ القرآن يحتوي على مضامين عالية وعميقة لا يفهمها إلّا الراسخون في العلم، ولا تنالها الأفكار العاديّة للناس.
3- إنّ القرآن الكريم يشتمل على آيات متشابهة وهو ما يؤدّي إلى المنع عن اتباع ظواهر الكتاب.
4- إنّنا نعلم علماً إجماليّاً بوجود مخصِّصات ومقيّدات لكثير من ظواهر القرآن الكريم ممّا يعني عدم إمكانيّة التمسّك بالظواهر القرآنية.
وأجاب علماء الأصول عن هذه الإشكالات بإجابات، منها:
1- المقصود من اختصاص فهم القرآن بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليه السلام ، وأنّهم المخاطبون الحقيقيّون هو الفهم الكامل للقرآن أعمّ من المحكم والمتشابه، والمنع من الاستقلال بالفتوى دون مراجعة الروايات، وأمّا بعد مراجعة القرائن النقلية، أو بعد البحث وعدم العثور على روايات معتبرة، فلا يوجد مانع من الأخذ بظواهر القرآن الكريم، إضافة إلى ذلك فإنّ الروايات نفسها قد أرجعتنا إلى القرآن والاستدلال به. كما في رواية عبد الأعلى مولى آل سام، قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: عثرت فانقطع ظفري، فجعلت على إصبعي مرارة، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال عليه السلام: "يُعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّ وجلّ، قال الله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ امسح عليه".(16)
2- لا يوجد تعارض بين وجود مضامين عالية وصعبة الفهم في القرآن، والرجوع إلى الظواهر الواضحة والاستدلال بها.
3- إنّ ظواهر القرآن ليست من المتشابهات، أي إنّ المقصود من المتشابهات هنا هو الآيات المجملة، ولكن ظواهر القرآن ليست مجملة ولا متشابهة.
4- إنّ الأخذ بظواهر القرآن يكون بعد مراجعة المخصِّصات والمقيِّدات والروايات الأخرى، وعندها ينحلّ العلم الإجمالي ويرتفع حينئذ المانع من الأخذ بالظواهر.
المصادر :
1- دروس في المناهج والاتجاهات التفسيريّة، محمّد عليّ الرضائي، ص 42.
2- سورة الأنعام، الآية: 82.
3- سورة لقمان، الآية: 13.
4- مسند أحمد،ج1،ص378.
5- سورة لقمان، الآية: 14.
6- سورة الأحقاف، الآية: 15.
7- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 40، ص 180، .
8- سورة النحل، الآية: 89.
9- تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج 1، ص 14ـ 15.
10- سورة النساء، الآية: 174.
11- تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج 1، ص 14.
12- سورة آل عمران، الآية: 7.
13- كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، علاء الدين علي المتّقي بن حسام الدين الهندي (ت 975)، ج 1، ص619، ح 2861، مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1399هـ.
14- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده، ج 2، ص 16.
15- الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 69.
16- سورة الحج، الآية: 78./ وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 1، ص 327.