أ- في ظلال الحديث
يوضح لنا هذا الحديث الشريف أن من لا يحاسب نفسه لا يتصل اتصالاً صادقاً بالعترة الطاهرة، ضرورة أن المتصلين بهم والتابعين لهم والمتمسكين بولايتهم المباركة هم أهل المحاسبة والمراقبة الذين يحرصون في أن يكون غدهم أفضل من يومهم ويومهم أفضل من أمسهم، وتتطلع أنفسهم إلى مستقبل أخروي عامر بالباقيات الصالحات والنعيم المقيم، ولا يتسنى للإنسان التعرف على حقيقة حاله من جهة تقدمه وتأخره بحيث يكون أمسه أفضل من يومه ما لم يحاسب نفسه حساباً دقيقاً ويسألها مستعرضاً ما فعله في الأيام السالفة أو يقوم به في الحاضر.عن أمير المؤمنين عليه السلام:"ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم فإن عمل خيراً استزاده وإن عمل شراً استغفر الله"(1).
وقد حثّ رسول الله صلى الله عليه وآله على كون المحاسبة شديدة قائلاً: "لا يكون العبد مؤمناً حتى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشريك شريكه والسيّد عبده"(2).
وعن مولى المتقين عليه السلام: "حاسبوا أنفسكم بأعمالها وطالبوها بأداء المفروض عليها والأخذ من فنائها لبقائها، وتزوّدوا وتأهبّوا قبل أن تبعثوا"(3).
وبالجملة من يستعرض الأخبار الشريفة في هذا الموضوع يجد الحث المتكرر على المحاسبة والتأكيد على كونها شديدة ودقيقة وتفصيلية وكذلك لزومها في كل يوم فلا يكفي أن تكون سنوية أو شهرية أو أسبوعية بل لا بد أن تكون يومية على الدوام.
يقول الصادق عليه السلام: "حق على كل مسلم يعرفنا أن يعرض عمله في كل يوم وليلة على نفسه، فيكون محاسب نفسه، فإن رأى حسنة استزاد منها، وإن رأى سيئة استغفر منها لئلا يخزى يوم القيامة"(4).
وفي حديث آخر: "إذا أويت إلى فراشك فانظر ما سلكت في بطنك وما كسبت في يومك واذكر أنك ميت وأن لك معاداً"(5).
ب- كيفية المحاسبة
إن الناس يتقنون فنون المحاسبة المالية والقوانين المتبعة في هذا المجال ويقوم التجار وأصحاب المهن والصناعات بتوظيف محاسب مالي للوقوف على واقع الأمر في استعلام ما حققته شركاتهم ومصانعهم من أرباح أو تكبدته من خسائر وبعد ذلك يقرّرون المتابعة في النمط الذي كانوا عليه سابقاً أو العدول عنه حين اكتشاف ثغرات سبّبت تراجعاً في مستوى إنتاجهم، وربما لا تجد مشروعاً تجارياً في العالم إلا ويخضع لهذه العملية الحسابية وما ذلك إلا للمحافظة على رؤوس الأموال وتلافي النقصان والخسران المودي إلى انهيار هذه الشركة أو تلك، ويمكننا أن نعبّر عن تلك العملية أنها صمّام الأمان والصون وبها ضمانة الاستمرار.والواقع أن هذا الأمر مطلوب وضروري، لكن ما هو ضروري أيضاً وأكثر أهمية منه ولا يتعارض معه هو المحاسبة الدينية التي تكون المحاسبة المالية محوراً من محاورها لا يصح إغفاله، وتكمن الأهمية في معنى الربح والخسارة فإذا كانا في المحاسبة المالية، لا يتعدى خطرهما عالم المال وتبعاته، بينما إذا كانا في المحاسبة الدينية يكون معنى الربح هو الجنة ومعنى الخسارة هو النار إن لم يبادر الخاسر إلى جبران خسارته بالتوبة النصوح والعمل الصالح. فكيف بهذا الإنسان تنام عيناه عن محاسبة نفسه ومعرفة حقيقة حاله وهو شديد الحساب في ماله الفاني لقاء الحصول على دراهم معدودة يتركها لغيره ويبقى الوزر على ظهره؟!
من هنا تعال معي نقف على باب أمير المؤمنين عليه السلام باب مدينة العلم ونسأله عن كيفية محاسبة النفس ليجيبنا قائلاً: "إذا أصبح ثم أمسى رجع إلى نفسه وقال: يا نفس إن هذا يوم مضى عليك لا يعود إليك أبداً، والله سائلك عنه فيما أفنيته فما الذي عملت فيه؟ أذكرت الله أم حمدتيه؟ أقضيت حق أخ مؤمن؟ أنفّست عنه كربته؟ أحفظتيه بظهر الغيب في أهله وولده؟ أحفظتيه بعد الموت في مخلّفيه؟ أكففت عن غيبة أخ مؤمن...؟ فيذكر ما كان منه، فإن ذكر أنه جرى منه خير حمد الله عزَّ وجلَّ وكبّره على توفيقه، وإن ذكر معصية أو تقصيراً استغفر الله عزَّ وجلّ وعزم على ترك معاودته"(6).
وليخاطب الإنسان نفسه قائلاً: "يا نفس إذا رغبت عن أن تكوني في زمرة المقرّبين من الأولياء والمؤمنين والأنبياء والمرسلين في جوار رب العالمين لتكوني من جملة الهالكين لقد خسرت الدنيا والدين.. يا نفس من كانت الدنيا همه كثر في الآخرة غمّه، يا نفس إن الدنيا دار مفر والآخرة دار مقر والناس فيها رجلان، رجل باع نفسها فأوبقها، ورجل ابتاع نفسه فأعتقها"(7).
ج- ثمرات المحاسبة
1- السعادة:
في الحديث: "من حاسب نفسه سعد"(8).2- صلاح النفس:
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ثمرة المحاسبة صلاح النفس"(9).3- الأمن من المداهنة:
فيما روي: "من تعاهد نفسه بالمحاسبة أمن فيها المداهنة"(10).4- دوام الربح:
فيما جاء: "من حاسب نفسه ربح ومن غفل عنها خسر ومن خاف أمن"(11).5- إدراك الرغائب:
يقول مولى المتقين عليه السلام: "حاسبوا أنفسكم تأمنوا من الله الرهب وتدركوا عنده الرغب"(12).من فقه الإسلام
س: من لم يعلم مقدار المدة في ذمّته من القضاء، ومع افتراض أن في ذمّته قضاءً، فصام صوماً مستحباً، هل يحسب ذلك الصوم من القضاء فيما لو صامه معتقداً عدم وجود قضاء في ذمّته؟
ج: لا يحتسب ما صامه بنيّة الإستحباب من صوم القضاء الذي يكون في ذمّته.
س: ما رأيكم المبارك في شخص أفطر عمداً بسبب الجوع والعطش والجهل بالمسألة؟ هل يجب عليه القضاء فقط، أم تجب عليه الكفارة أيضاً؟
ج: إذا كان الجاهل مقصراً فبالإضافة إلى القضاء تجب عليه الكفارة أيضاً على الأحوط.
س: من لم يتمكن من الصيام في أوائل سنّ التكليف بسبب الضعف وعدم القدرة، فهل يجب عليه فقط قضاء ذلك أم عليه القضاء والكفارة معاً؟
ج: إذا لم يكن الصوم حرجاً عليه، وقد أفطر عمداً فبالإضافة إلى القضاء تجب الكفارة أيضاً.
س: من لم يعرف عدد الأيام التي أفطر فيها، ولا عدد الصلوات التي تركها فماذا يعمل؟ وما هو حكم من لم يعرف هل إفطاره كان متعمداً أو مستنداً إلى عذر مشروع؟
ج: يجوز له الإكتفاء بالمقدار المتيقن لما فات من الصلاة والصيام، ومع الشك في الإفطار العمدي لا تجب الكفارة.
س: إذا كان الشخص صائماً في شهر رمضان، وفي أحد الأيام لم يستيقظ لتناول الطعام في السحر، ولذلك لم يستطع مواصلة الصيام إلى وقت الغروب، ووقعت له حادثة في أثناء النهار فأفطر، فهل تجب عليه كفارة واحدة أو تجب عليه كفارة الجمع؟
ج: إن استمرّ بالصيام حتى صار بسبب الجوع والعطش وغيرهما حرجاً عليه أفطر وجب عليه القضاء فقط، وليس عليه كفارة.
س: إذا شككت في أنني هل قمت بقضاء ما في ذمتي من صوم أم لا؟ فما هو تكليفي؟
ج: لو كنت على يقين باشتغال ذمتك سابقاً بقضاء الصوم وجب عليك تحصيل اليقين بأنّك قد أدّيته.
س: من لم يصم عند بلوغه، وعلى التفصيل التالي صام من ذلك الشهر 11 يوماً وأفطر يوماً واحداً عند الظهر، ولم يصم 18 يوماً، ففي مورد الثمانية عشر يوماً لم يكن يعلم بوجوب الكفارة عليه فما هو حكمه؟
ج: إذا كان إفطاره صوم شهر رمضان عن عمدٍ واختيارٍ فيجب عليه إضافة إلى القضاء دفع الكفارة أيضاً، سواء كان عالماً حين الإفطار بوجوب الكفارة عليه أم كان جاهلاً.
س: إذا أخبر الطبيب مريضاً بأن الصوم يضرّ به فلم يصم، إلاّ أنّه علم بعد عدّة سنوات أن الصوم لم يكن مضراً به، وأن الطبيب قد أخطأ في إعفائه من الصوم، فهل يجب عليه القضاء والكفّارة؟
ج: إن كان حصل له خوف وقوع الضرر نتيجة إخبار طبيبٍ حاذقٍ وأمينٍ، أو من منشأ عقلائي آخر فلم يصم، وجب عليه القضاء فقط13.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)(14)
عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا، وتجهّزوا للعرض الأكبر")(15)
قد عطّلت عليّ لساني!
قال بعض الصالحين: "بينما أنا أسير في بعض جبال بيت المقدس إذ هبطتُ إلى واد هنالك فإذا أنا بصوت قد علا وإذا تلك الجبال تجيبه لها دوي عال فاتبعت الصوت فإذا أنا بروضة عليها شجر ملتف، وإذا أنا برجل قائم يردد هذه الآية (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا) إلى قوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ)(16)
قال: فجلست خلفه أسمع كلامه وهو يردد هذه الآية إذ صاح صيحة خرّ بها مغشياً عليه قلت: وأسفاه هذا لشقائي، ثم انتظرت إفاقته فأفاق بعد ساعة فسمعته وهو يقول: أعوذ بك من مقام الكذابين، أعوذ بك من أعمال البطالين، أعوذ بك من إعراض الغافلين، ثم قال: لك خشعت قلوب الخائفين وإليك فزعت آمال المقصّرين ولعظمتك ذلّت قلوب العارفين ثم نفض يديه فقال: مالي وللدنيا وما للدنيا ولي، عليك يا دنيا بأبناء جنسك وآلاف نعيمك إلى محبيك فاذهبي وإياهم فاخدعي ثم قال: أين القرون الماضية وأهل الدهور السالفة في التراب يبلون وعلى مرّ الزمان يفنون فناديته يا عبد الله أنا منذ اليوم خلفك أنتظر فراغك فقال: وكيف يفرغ من يبادر الأوقات وتبادره يخاف سبقها بالموت إلى نفسه، أم كيف يفرغ من ذهبت أيامه وبقيت آثامه، ثم قال: أين أنت لها ولكل شدة أتوقع نزولها ثم لهي عني ساعة وقرأ (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)(17)
ثم صاح صيحة أخرى أشد من الأولى وخر مغشياً عليه منها فقلت: قد خرجت نفسه فدنوت منه فإذا هو يضطرب ثم أفاق وهو يقول: ما أنا ما خطأي هب لي إساءتي بفضلك وجللني بسترك وأعف عن ذنوبي بكرم وجهك إذا وقفت بين يديك، فقلت له: بالذي ترجوه لنفسك وتثق به إلاّ كلمتني فقال: عليك بكلام من ينفعك كلامه ودع كلام من أوبقته ذنوبه إني لفي هذا الموضع منذ ما شاء الله أجاهد إبليس ويجاهدني فلم يجد عوناً عليّ ليخرجني فما أنا فيه غيرك فإليك عني فقد عطلت عليّ لساني ومالت إلى حديثك شعبة من قلبي فأنا أعوذ بالله من شرك، ثم أرجوه أن يعيذني من سخطه، ويتفضل عليّ برحمته قال: فقلت هذا ولي الله أخاف أن أشغله فأعاقب في موضعي هذا فانصرفت وتركته".
المصادر :
1- رسائل الشهيد الثاني، ص151.
2- البحار، ج70، ص72.
3- غرر الحكم، حديث 4934.
4- تحف العقول، ص301.
5- ميزان الحكمة، حديث 3844.
6- البحار، ج70، ص70.
7- محاسبة النفس للكفعمي.
8- مستدرك الوسائل، ج12، ص154.
9- غرر الحكم، حديث 4656.
10- م.ن. حديث 8080.
11- البحار، ج70، ص73.
12- ميزان الحكمة، حديث 3853.
13- أجوبة الاستفتاءات، ج1، ص250 249.
14- الحشر:18.
15- البحار، ج70، ص73.
16- آل عمران:30.
17- الزمر:47.