
يقول نزار عن نفسه : "ولدت في دمشق في آذار (مارس) 1923 بيت وسيع، كثير الماء والزهر، من منازل دمشق القديمة، والدي توفيق القباني، تاجر وجيه في حيه، عمل في الحركة الوطنية ووهب حياته وماله لها. تميز أبي بحساسية نادرة وبحبه للشعر ولكل ما هو جميل. ورث الحس الفني المرهف بدوره عن عمه أبي خليل القباني الشاعر والمؤلف والملحن والممثل وباذر أول بذرة في نهضة المسرح المصري.
امتازت طفولتي بحب عجيب للاكتشاف وتفكيك الأشياء وردها إلى أجزائها ومطاردة الأشكال النادرة وتحطيم الجميل من الألعاب بحثا عن المجهول الأجمل. عنيت في بداية حياتي بالرسم. فمن الخامسة إلى الثانية عشرة من عمري كنت أعيش في بحر من الألوان. أرسم على الأرض وعلى الجدران وألطخ كل ما تقع عليه يدي بحثا عن أشكال جديدة. ثم انتقلت بعدها إلى الموسيقى ولكن مشاكل الدراسة الثانوية أبعدتني عن هذه الهواية.
حياته المبكرة
نزار قباني طفلاً في عام 1935.
خلال طفولته انتحرت شقيقته وصال، بعد أن أجبرها أهلها على الزواج من رجل لم تكن تحبّه، وهو ما ترك أثرًا عميقًا في نفسه، وربَّما ساعد في صياغة فلسفته العشقيّة لاحقًا ومفهومه عن صراع المرأة لتحقيق ذاتها وأنوثتها.(4)ولم يكشف عن حقيقة هذه الحادثة باكرًا بل قال أنها توفيت بمرض القلب، إلا أن كوليت خوري كشفت قصة الإنتحار،(5) وهو ما ثبت لاحقًا في مذكراته الخاصة، إذ كتب: "إن الحبّ في العالم العربي سجين وأنا أريد تحريره". يصف نزار حادثة الإنتحار بقوله: "صورة أختي وهي تموت من أجل الحُبّ محفورة في لحمي... كانت في ميتتها أجمل من رابعة العدويّة". كما ارتبط بعلاقة قوية مع أمه.
عام 1939 كان نزار في رحلة مدرسية بحريّة إلى روما، حين كتب أول أبياته الشعريّة متغزلًا بالأمواج والأسماك التي تسبح فيها، وله من العمر حينها 16 عامًا، ويعتبر تاريخ 15 أغسطس 1939 تاريخًا لميلاد نزار الشعري، كما يقول متابعوه. وفي عام 1941 التحق نزار بكلية الحقوق في جامعة دمشق، وتخرّج منها في عام 1945. ونشر خلال دراسته الحقوق أولى دواوينه الشعريّة وهو ديوان "قالت لي السمراء" حيث قام بطبعه على نفقته الخاصة، وقد أثارت قصائد ديوانه الأول، جدلاً في الأوساط التعليمية في الجامعة وقد كتبَ له مُقدّمة الديوان منير العجلاني الذي أحبّ القصائد ووافق عليها. وقد ذاع صيته بعد نشر الديوان كشاعر إباحي. وفي تعليقه حول صدور ديوانه الأوّل كتب:
"قالت لي السمراء" حين صدوره أحدث وجعًا عميقًا في جسد المدينة التي ترفض أن تعترف بجسدها أو بأحلامها ... لقد هاجموني بشراسة وحش مطعون، وكان لحمي يومئذ طريًا.
عمله
تخرج نزار عام 1945 من كليّة الحقوق بجامعة دمشق والتحق بوازرة الخارجية السوريّة، وفي العام نفسه عُيّن في السفارة السوريّة في القاهرة وله من العمر 22 عامًا. ولمّا كان العمل الدبلوماسي من شروطه التنقّل لا الإستقرار، فلم تطل إقامة نزار في القاهرة، فانتقل منها إلى عواصم أخرى مختلفة، فقد عُيّن في عام 1952 سفيرًا لسوريا في لندن لمدة سنتين واتقن خلالها اللغة الإنكليزية ثم في أنقرة، ومن ثمّ في عام 1958 عيّن سفيرًا لسوريا في الصين لمدة عامين. وفي عام 1962 عيّن سفيرًا لسوريا في مدريد لمدة 4 سنوات. إلى أن استقرَّ في لبنان بعد أن أعلن تفرغه للشعر في عام 1966, حيث أسس دار نشر خاصة تحت اسم «منشورات نزار قباني».بدأ نزار قباني بشكل بارز بكتابة الشعر العمودي ثم انتقل بعدها إلى شعر التفعيلة، حيث ساهم في تطوير الشعر العربي الحديث إلى حد كبير. تناولت كثير من قصائده قضية حرية المرأة، إذ تناولت دواوينه الأربعة الأولى قصائد رومانسية. ومن ثمّ تحوّل نحو الشعر السياسي بعد نكسة حرب 1967، وأصدر عدة قصائد لاذعة ضد الحكومات والأنظمة العربية عمومًا وضد حكم البعث في سوريا ومنها «هوامش على دفاتر النكسة»، و«عنترة» و«يوميات سياف عربي».(6)عائلته
تنحدرُ عائلة القبّاني من أسرة عربيّة حجازية ترجع بنسبها إلى الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام، ثم انتقلت إلى جهة العراق فأقام اجدادها فيها، وفي عهد الحروب الصليبية أقبل بعضهم إلى سورية، ثم تشعّبوا في بلاد الشام.(7) والده هو توفيق القبّاني يملك مصنع لإنتاج الحلويات والمُلبّس،كما شاركَ في المُقاومةِ الوطنيّة ضدالانتداب الفرنسيّ، وكان منزله مكانًا لاجتماع أقطابِ المُعارضة الوطنيّة في العشرينيات من القرن المُنصرم. وجدّه هو أبو خليل القباني الرائد المسرحي الشهير الذي أدخل فنّ المسرح إلى الأدب العربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولدى نزار شقيقتين هما: وصال وهيفاء قباني. وثلاث أشّقاء هم: معتز ورشيد وصباح قباني الذي ترأس هيئة الإذاعة والتلفزيون السوريّة في ستينيات القرن العشرين، ثُمّ سفيرًا لسوريا في الولايات المتحدة. والدته فايزة آقبيق من أصلٍ تُركي، وكان نزار متعلقًا بها كثيرًا، ويُقال أنها ظلت ترضعه من صدرها حتى بلغ السابعة من عمره، وتطعمه الطعام بيدها حتى بلغ الثالثة عشرة من عمره، حتى قالوا عنه إنه يعاني من عقدة عقدة أوديب. وكتب لها قصائدًا كثيرة يدمج فيها بين حنينه لدمشق مهده الأول وحنينه لأمه. وقصائده عن أمّه في ديوانه الرسم بالكلمات خير دليل على شغف الطفل بصورة الأم التي ألهمته في نصوصه.تزوج نزار مرّتين، زوجته الأولى كانت ابنة خاله زهراء آقبيق وأنجب منها هدباء وتوفيق. وقد توفيّ توفيق عام 1973 وكان طالباً بكلية طب جامعة القاهرة في السنة الخامسة، والذي ترك الأثر الكبير في حياته، وقد نعاه نزار بقصيدة "الأمير الخرافي توفيق قباني" وتوفيّت زوجته الأولى في 2007. وكان زواجه الثاني من امرأة عراقيّة الأصل تُدعى بلقيس الراوي التقى بها في أمسية شعريّة في بغداد. ولكنها لقيت حتفها أثناء الحرب الأهلية اللبنانية في حادث انتحاري استهدف السفارة العراقيّة في بيروت حيث كانت تعمل عام 1982. وقد رثاها نزار بقصيدته الشهيرة بلقيس التي قال فيها أن الجميع كان لهم دورٌ بقتلها، وقد أنجب منها ابنيه عمر وزينب ولم يتزوّج بعدها.
آخر سنواته ووفاته
بعد مقتل زوجته، غادر نزار لبنان وكان يتنقل بين باريس وجنيف حتى استقر في النهاية في لندن حيث قضى الخمسة عشرة عامًا الأخيرة من حياته، واستمرّ بنشر دواوينه وقصائده المثيرة للجدل خلال فترة التسعينيات ومنها «متى يعلنون وفاة العرب؟» و«المهرولون».في عام 1997 كان قباني يعاني من تردي في وضعه الصحي وبعد عدة أشهر توفي في 30 أبريل 1998 عن عمر ناهز 75 عامًا في لندن. بسبب ازمة قلبية. في وصيته والتي كان قد كتبها عندما كان في المشفى في لندن أوصى بأن يتم دفنه في دمشق التي وصفها في وصيته:
«الرحم الذي علمني الشعر, الذي علمني الإبداع والذي علمني أبجدية الياسمين»
تم دفن قباني في دمشق بعد أربعة أيام حيث دفن في باب الصغير بعد جنازة حاشدة شارك فيها مختلف أطياف المجتمع السوري إلى جانب فنانين ومثقفين سوريين وعرب.(8)
الذكرى والإنتقاد
قال النقاد عن نزار أنه "مدرسة شعرية" و"حالة إجتماعية وظاهرة ثقافية" وأسماهُ حسين بن حمزة "رئيس جمهورية الشعر". كما لقبّه "أحد آباء القصيدة اليومية": إذ قرّب الشعر من عامة الناس. الأديب المصري أحمد عبد المعطي حجازي وصف نزار بكونه "شاعر حقيقي له لغته الخاصة، إلى جانب كونه جريئًا في لغته واختيار موضوعاته"، لكنه انتقد هذه الجرأة "التي وصلت في المرحلة الأخيرة من قصائده "لما يشبه السباب". الشاعر علي منصور قال أن نزار قد حفر اسمه في الذاكرة الجماعيّة وأنه شكل حالة لدى الجمهور "حتى يمكن إعتباره عمر بن أبي ربيعة في العصر الحديث".(9)وعن شعره السياسي قال حسين بن حمزة: " أذاق العرب صنوفًا من التقريظ جامعًا بين جلد الذات وجلد الحكام، في طريقة ناجعة للتنفيس عن الغضب والألم".(10)له أيضًا دور بارز في تحديث مواضيع الشعر العربي (الحديث)"إذ ترأس طقوس الندب السياسي واللقاء الأول مع المحرمات"،وكذلك لغته "إذ كان نزار مع الحداثة الشعرية، وكتب بلغة أقرب إلى الصحافة تصدم المتعوّد على المجازات الذهنية الكبرى. وقد ألقت حداثته بظلال كثيفة على كل من كتب الشعر، وذلك لكون قصائد نزار سريعة الإنتشار".(11)
من ناحية أخرى، كانت قصيدته «خبز وحشيش وقمر» سببًا بجدال ضخم انتشر في دمشق ووصل تحت قبة البرلمان، نتيجة اعتراض بعض رجال الدين عليه ومطالبتهم بقتله،فما كان منه إلا أن أعاد نشرها خارج سوريا، رغم ذلك فقد قررت محافظة دمشق تسمية الشارع الذي ولد فيه على اسمه، وقد قال نزار إثر قرار المحافظة
هذا الشارع الذي أهدته دمشق إليّ، هو هدية العمر وهو أجمل بيت أمتلكه على تراب الجنّة. تذكروا أنني كنت يومًا ولدًا من أولاد هذا الشارع لعبت فوق حجارته وقطفت أزهاره، وبللت أصابعي بماء نوافيره.
في عام 2008 ولمناسبة الذكرى الخامسة والثمانين لمولده، وتزامنًا مع احتفالية دمشق "عاصمة الثقافة العربية" واليوم العالمي للشعر، طاف محبّو الشارع وشخصيات من المجتمع المدني وألقوا في الشوارع والساحات قصائد له "عن عشق دمشق"، كما قامت الأمانة العامة للإحتفالية بطبع كتاب تذكاري يؤرخ عنه بعنوان «نزار قباني" قنديل أخضر على باب دمشق» وهو من تاليف خالد حسين.(12) كذلك تعمل وزارة الثقافة السورية على إعداد متحف خاص عنه، كما قامت شركة الشرق السوريّة بإنتاج مسلسل تلفزيوني عنه.(13)
وكان الرسم والموسيقى عاملين مهمين في تهيئتي للمرحلة الثالثة وهي الشعر. في عام 1939، كنت في السادسة عشرة. توضح مصيري كشاعر حين كنت وأنا مبحر إلى إيطاليا في رحلة مدرسية. كتبت أول قصيدة في الحنين إلى بلادي وأذعتها من راديو روما. ثم عدت إلى استكمال دراسة الحقوق
وقد طبعت جميع دواوين نزار قباني ضمن مجلدات تحمل اسم ( المجموعة الكاملة لنزار قباني ) ، وقد أثار شعر نزار قباني الكثير من الآراء النقدية والإصلاحية حوله، لأنه كان يحمل كثيرا من الآراء التغريبية للمجتمع وبنية الثقافة ، وألفت حوله العديد من الدراسات والبحوث الأكاديمية وكتبت عنه كثير من المقالات النقدية .
الحب والتصوف والقرآن والبحث عن الحرية صفحات مجهولة من حياة نزار قباني
بعد انتقاله للعيش في أوروبا في ثمانينيات القرن المنصرم على إثر اندلاع الحرب الأهلية وحملات الإعلام المصري ضده على خلفية انتقاده اتفاقية كامب ديفيد ومقتل زوجته بلقيس، قرر الشاعر الراحل نزار قباني إقامة حاجز يمنع دخول النساء إلى قلبه وتفرغ للتأمل والتصوف والحياة العائلية، فكان متصوفا في طقوس فرحه وحزنه وقراءته للقرآن.
وأثناء مرضه ووجوده في إحدى مستشفيات العاصمة لندن قرر زعيم عربي ولأول مرة أن يزوره ، إلا أن نزار رحل ولم ترحل حملات المتطرفين ضده عندما حاولوا منع الصلاة عليه في جامع بلندن. رحل نزار فأين ذهبت أغراضه من كتب وأقلام ونظارته وعكازه؟
كتب نزار إحدى قصائده على كيس أدوية من الورق كان بجانب سريره، وحاول تأسيس حزب شعري مختلف عن الأحزاب العربية. جمعته رفقة يومية بفنجان قهوته قبل أن يدخل مكتبه الكائن في منزله والانطلاق في رحلة الكتابة. كانت أغنية عبد الحليم حافظ "قارئة الفنجان" الأحب إلى قلبه كما كانت قصيدته نهر الأحزان الاجمل بنظره، وأحب لقاءاته وجلساته كانت مع أدونيس ومحمود درويش.
ابنة نزار قباني الكبرى "هدباء"قالت بحديث خاص ومشوق عن تفاصيل حياة الشاعر نزار قباني في سنواته التسع اللندنية التي كان يفضل أن يسميها بـ"سنوات المنفى الاختياري".
قصة رحيله من مصر
بعد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان ومقتل زوجته بلقيس انتقل نزار قباني للعيش في مصر عام 1983 وتعرض لهجوم عنيف هناك من قبل الاعلام المصري على خلفية قصيدة ضد الرئيس أنور السادات انتقده فيها وانتقد اتفاقية كامب ديفيد للسلام المصري مع اسرائيل. ورغم وجود أصدقاء وقفوا إلى جانبه مثل يوسف ادريس ومحمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين ومحمد عبد الوهاب واعتباره أن مصر أم الدنيا لم تتوقف الحملة ضده طوال عام كامل وخاصة من قبل أنصار التطبيع مع اسرائيل آنذاك وخاصة أنيس منصور . وقرر نزار الانتقال إلى سويسرا عام 1984 وبقي فيها 5 سنوات ثم ذهب إلى لندن عام 1989 وقضى فيها 9 سنوات حتى رحيله.لماذا لم يرجع إلى سوريا ؟
ولكن لماذا لم يرجع من سويسرا إلى بلده سوريا؟ تجيب هدباء نزار قباني : لم يكن هناك من خيار سوى التساؤل هل يقدر أن يكتب أو لا إذا عاد؟!، وسوريا لم يعش فيها والدي إلا الطفولة والنشأة والدراسة والعمل الدبلوماسي، ولم يفكر حينها وهو خارج سوريا إذا كان بإمكانه أن يكتب أم لا، وعندما اختار العودة للعيش في لبنان قال "عدت إلى بلد لا يضربني على أصابعي عندما أكتب. كان يكره الرقابة كثيرا وهناك صحف كتب لها مثل الأسبوع العربي أو المستقبل أو الحياة إذا قالوا له سنحذف كلمة واحدة كان يرفض نشر المقال.
وكما يفهم من كلام ابنته، التي رافقته في سنواته الأخيرة، أن الأسباب التي دفعته للرحيل إلى أوروبا كثيرة منها: غياب بيروت عن ساحة خياراته بعد أن كانت خياره الأول والأخير والهجوم المصري عليه الذي حرمه من البديل العربي الثاني عن لبنان، فضلا عن بحثه عن حرية الكتابة، وكان يبحث عن توفير الأمان لأولاده عمر وزينب فضلا عن وجودي أنا في لندن. كان يعاني مع العالم العربي. كتابته كانت تنبع من ألم ومعاناة تجاه ما يحصل في العالم العربي. وحتى في سنوات المنفى -كما كان يسميها- كان يسافر لنشر أعماله في بيروت عبر دار النشر الخاصة به التي تحمل اسم "منشورات نزار قباني".
في بيت نزار اللندني ..
وفي تفاصيل الحياة اليومية لنزار قباني في بيته اللندني، تقول ابنته: والدي كان يحب البقاء في البيت (بيتوتي كما يقال بالعامية) وحياته الشعر والترتيب والقراءة والكتابة. يستحم ويخرج من غرفة إلى غرفة بكامل أناقته متوجها إلى مكتبه ليستمع للموسيقى الكلاسيكية ويضع ورقا أبيض ثم يشرب قهوته ويتفرغ للورقة البيضاء ويعتبر أنه يجب أن يعمل من العاشرة صباحا حتى الواحدة ظهرا، ثم يتناول طعام الغداء وينام حتى الرابعة ظهرا وبعد ذلك في السابعة أو الثامنة مساء تأتي فترة القراءة للشعر العربي والأوروبي المترجم. لم يكن والدي اجتماعيا، ولم يكن يذهب لرؤية أحد في الجاليات العربية أو غيرها واقتصر خروجه على حضور الأنشطة الفكرية أو أمسيات مشتركة أو استقبال اصدقاء مثل أدونيس ومحمود درويش وبلند الحيدري وعبد الرحمن منيف والعراقي الربيعي أثناء زيارتهم لندن.
وكان نزار قباني محبا للحدائق البريطانية ودائم الزيارة لها ويقول إنها من إعجاز الله، وذات يوم قال لابنته : "انظروا إلى الديمقراطية وكيف أعطوا للناس الحيز الكبير من المساحات من حدائق عامة حتى تستمتع الناس".
نزار وأدونيس
وتكشف هدباء بعض جوانب لقاءات الشاعرين نزار قباني وأدونيس: كانت علاقة قوية مع احترام للاختلافات الفكرية . والدي كان يمثل قمة البساطة الشعرية ويهمه أن يفهم الناس شعره، فيما يمثل أدونيس قمة الصعوبة ولا أعرف إذا كان يمهمه الوصول للناس أم النخبة. كانوا يتكلمون دائما عن الشعر والسياسة والوطن وذات يوم قال له والدي " يا أدونيس أجهد نفسي حتى أفهمك أنت بشرفك هل تفهم حالك ..لمن تكتب يا أدونيس؟!"، ثم يضحكون.لا امرأة بعد بلقيس .. وبداية التصوف
وأبى نزار قباني، الذي تزوج مرتين في حياته وكانت له معجبات كثيرات، أن يدخل امرأة أخرى إلى قلبه بعد مقتل زوجته بلقيس في بيروت -كما تقول ابنته هدباء- وتضيف: لم يحب والدي بعد بقليس، لكن نزار الذي أحب المرأة لم ينته ولكن انتهت مرحلة وأقفل عليها .
بلقيس ..
يا كنزاً خرافياً ..
ويا رمحاً عراقياً ..
وغابة خيزران ..
يا من تحديت النجوم ترفعاً ..
من أين جئت بكل هذا العنفوان ؟
بلقيس ..
أيتها الصديقة .. والرفيقة ..
والرقيقة مثل زهرة أقحوان ..
ضاقت بنا بيروت .. ضاق البحر ..
ضاق بنا المكان ..
بلقيس : ما أنت التي تتكررين ..
فما لبلقيس اثنتان ..
وکانت قصيدة بلقيس اجمل واروع واطول ماقاله في الشعر وبعدها نسي الشعر وهجر النساء وترک لبنان ..
وبدأت مرحلة تأمل وتفرغ للأولاد والأحفاد، وكان سعيدا في عالمه الجديد الفكري التأملي، و لم تكن هناك امرأة في حياته بعد بلقيس، حتى هاتفه لم يعطه لأحد، وعلاقته مع الكثيرين كانت تتم من خلالي.
كان نزار قارئا نهما في تلك الفترة وابرز الكتب التي كانت قريبة إلى قلبه أشعار المتنبي ومحمود درويش وأدونيس وأنسي الحاج والشعر الفرنسي الحديث وخاصة أعمال بودلير. وقال لابنته ذات يوم: أديت رسالتي 50 سنة كتبت وأعطيت أحاديث والآن أريد نوعا من التصوف. وتضيف "كان القرآن كتابه المفضل ويؤمن به ويحبه ومعجب بإعجاز اللغة العربية
حزب شعري في حياته
أبرز القصائد السياسية التي كتبها نزار في منفاه الاختياري كانت: "قمعستان"، "السياف العربي"، "المهرولون"، "متى يعلنون وفاة العرب"، "أطفال الحجارة". وكان يقول لابنته: شعري السياسي ضد من هدم الوطن ولكني أكتب بحب وأهدم حتى أبني.وتتحدث ابنته عن قصيدة "حزب المطر" قائلة: والدي أراد القول إنها تمطر في لندن ولكنه مطر يحمل معه حرية تتيح لي الكتابة في كل وقت بينما في البلاد الثانية الشمس ساطعة بلا حرية فمن يلحق بي لنؤسس حزب المطر، وفعلا وصلته اتصالات كثيرة للانضمام إلى حزب المطر.. كان المنفى رحمة له ولهدى نعماني ودرويش وأدونيس كان لديهم القدرة على الكلام.
وتشير هدباء قباني إلى وجود قصائد لوالدها لم تنشر بعد وهي قصائد في الحب والوطن مشددة على أن عائلته لا تريد التجارة بأدبه ولكنها عازمة على نشرها في الوقت المناسب.
أغنية قارئة الفنجان
وكانت الموسيقى رفيقة نزار في سنواته الأخيرة، وأما الأغنية التي كانت الأحب إلى قلبه فهي "قارئة الفنجان" التي كتبها للراحل عبد الحليم حافظ. تقول ابنته: لقد أحب هذه الأغنية التي أداها عبد الحليم رغم أنها لم تكن الأحب إليه كقصيدة وذلك بسبب معاناة عبد الحليم ثلاث سنوات في التلحين. أما أحبّ القصائد إلى قلبه فكانت "نهر الأحزان" وقصيدة "خبز وحشيش وقمر" و "متى يعلنون وفاة العرب".المتطرفون يلاحقونه
وفي شهر رمضان كان نزار يتمنى الصوم لكن وضعه الصحي لم يسمح بذلك. وعن هذا الشهر تحكي ابنته: لم يصمه والدي بسبب قلبه وأدويته، كنا نفطر معا، وكان يقول شعري هو صلاتي وشعري هذا كله من الله وأنا عاجز أن أعمل شيئا دون الله.ثم تضيف "عندما توفي وأثناء الصلاة عليه في جامع بلندن خرج بعض المتطرفين الجزائريين هنا يقولون أوقفوا الصلاة هذا كافر لا تجوز الصلاة عليه وجنّ الناس وقالوا لا أحد يعرف ما في قلبه".
قصيدة على علب أدويته
وذات يوم من الأشهر الـ8 الأخيرة في حياته التي قضاها مريضا عام 1998 أصيب نزار بذبحة قلبية ولم يتعاف منها وكان يحتاج لجراحة ثانية بعد الجراحة التي أجراها قبل 15 سنة وكان يعرف ذلك ولكن لم يكن يحتمل إجراء جراحة أخرى.في تلك الأشهر الثمانية كان قلم نزار عصيا على الانكسار واستمر في النزيف على أوراقه. تقول هدباء : أبقيت الأوراق والقلم بجانب سريره حتى آخر3 أشهر عندما أصابه التعب الشديد فتركت الأوراق حتى آخر دقيقة، ولم يكتب فأخذت الأوراق وتركت القلم، وذات يوم استيقظ ليلا وأراد الكتابة ولم يجدها فأفرغ كيس الأدوية المصنوع من الورق وكتب على جوانبه قصيدة واحتفظنا بها. كنت أحس أنه إذا كتب فهذا دليل على أنه يتعافى.
اتصال من زعيم عربي
وتمسك نزار قباني بحياته الخاصة وكان يقول لابنته " إذا وقع أي شئ عليّ احميني" ، وتقول ابنته: أنا لم اسمح لأحد برؤيته في المستشفى وهو مريض . اتصل السفير الأردني وقال إن جلالة الملك حسين يريد رؤية نزار والاطمئنان عليه فاعتذرت وقلت: أرجوكم.. ليست لديه القدرة على استقبال أحد، وجاء من مصر محمد حسنين هيكل وكذلك جاء محمود درويش وكل اصدقائه.وبسبب شعره السياسي وهجائه للأوضاع العربية كان ثمة خوف من تعرضه لاعتداء جسدي ولكن "شجاعته على الورق كانت أقوى .. كان جسديا مثل كل الناس يخاف ولكن شجاعته كانت تأتي على الورقة ويحس بمسؤوليته عن الناس" – كما تقول ابنته.
تصف هدباء والدها بأنه كان ناطقا باسم الناس، وتشير إلى حادثة جرت في العراق بعد إنهاء أمسيته الشعرية عندما صرخ أحد الشباب "أنت سارق" فقال له والدي "ماذا تقول وما قصدك؟ أأنت كتبتها وأنا أخذتها؟"، فقال الشاب "هذا الكلام الذي كنت تقوله أنا كنت أريد أن أقوله"، ولهذا "كان والدي يقول أفكار الناس ويحكي بلسانهم".
وفي هذه السنوات التسع برزت طقوس الفرح والحزن في حياة نزار قباني "فالحزن لم يفارقه من يوم موت ابنه توفيق وعمره 22 عاما وانكسر ظهره برحيله وكتب أجمل القصائد فيه، وموت بلقيس ومآسي العالم العربي والحزن كان شريكا في حياته" – كما تروي ابنته. وتضيف: "أما الفرح فكان فيه مثل الأطفال، يفرح لكل شيء جديد من فكر جديد عن الحرية والحياة والكتابة وفي أعياد ميلاد أولاده. وعندما مرض لم يكن خائفا من الموت لأنه مؤمن كما كان لطيفا وقال: شكرا يا بنات أتعبتكم يا بنات".
متحف نزار قباني
وبعد رحيله عن الحياة جمعت عائلته أغراضه الشخصية مثل عكازه ونظارته وأقلامه وأوراقه وكتبه وأرسلتها إلى بيروت وحفظت في مكان ما "حتى يوما ما نتمكن من إقامة متحف صغير يحكي كيف كان يجلس نزار ويكتب وعندما نخرجها سنفعل ذلك دون فضل من أحد علينا ووالدي لم يحب أن يكون علينا فضل من حكومة أو دولة ولا نريد أن يستولي عليه أحد" كما قالت ابنته هدباء.المصادر :
راسخون 2015 / نوري العلوي
1- نزار قباني، القصة السورية، 3 تشرين الأول 2011.
2- سيرة حياة نزار قباني، موقع نزار قباني، 3 تشرين الأول 2011.
3- لقاء مفتوح مع نزار قباني على قناة mbc في عام 1993
4- كتاب رواية اسمها سورية من صـ1131 إلى صـ1142، الطبعة الثانية 2007.
5- كوليت خوري ونزار قباني، صحيفة الرياض، 3 تشرين الأول 2011.
6- نبذة عن حياة نزار قباني، موقع الخيمة، 3 تشرين الأول 2011.
7- محمد رياض المالح. إتمام الأعلام (الطبعة الأولى). بيروت: دار صادر. صفحة 302.
8- جنازة نزار قباني تطاردني، نزاريات، 17 أبريل 2012.
9- شعراء مصريون في ذكراه: محمد سعيد، صحيفة الأخبار اللبنانية، العدد 512 تاريخ 29 نيسان 2008.
10- رئيس جمهورية الشعر -صحيفة الأخبار اللبنانية، العدد 512 تاريخ 29 نيسان 2008
11- القارئ أولاً، وائل عبد الفتاح، صحيفة الأخبار اللبنانية، العدد 512 تاريخ 29 نيسان 2008.
12- خليل صويلح، صحيفة الأخبار اللبنانية، العدد 512 تاريخ 29 نيسان 2008.
13- نزار قباني في مسلسل يؤرخ لسيرته، صحيفة الوطن، 2 تشرين الأول 2011.