لقد تكاملت نواحي العظمة في شخصية السيدة زينب فتجسدت فيها معالي الصفات ومكارم الأخلاق ، وذلك هو سر تفردها وخلودها .
وإنما تتحدد قيمة الأنسان ومكانته حسب ما يتمتع به من مواهب وكفاءات ، ويترشح عنه من فضائل وأخلاق .
وشخصية السيدة زينب زاخرة بالمواهب العالية ، وسيرتها طافحة بالمكارم الرفعية .
لقد رافقنا حياة السيدة زينب عبر الفصول السابقة وهي وليدة ناشئة ، وفتاة يافعة ، وزوجة ناضجة ، وأم مربية ، ورأيناها تقف الى جانب أمها في آلامها وأحزانها ، وتواكب مسيرة أبيها في منعطفات الزمن وأحداثه ، وتواسي أخاها الحسن في محنته وابتلائه ، ثم تشارك أخاها الحسين في ثورته العظيمة الخالدة ، وتقود بعده ركب النهضة المقدسة .
ومن خلال تلك المواقف والأحداث تجلت لنا كفاءات السيدة زينب وعظمة شخصيتها ، وتبدي لنا من نورها المضيء ، وأفقها الرحيب بقدر ما كانت أبصارنا تستوعب الرؤية والنظر .
رائدة المعرفة
بالعلم ميز الله الانسان على سائر المخلوقات حتى الملائكة : ( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبؤني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ) (1) .وبالعلم يتمايز بنو آدم فيما بينهم : ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) (2) .
( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) (3) .
و « العلم رأس الخير كله » و « أكثر الناس قيمة أكثرهم علماً » ، « وأقل الناس قيمة أقلهم علماً » ، كما يقول الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) (4) .
أو كما يقول الإمام علي ( عليه السلام ) : « قيمة كل امرئ ما يحسنه » (5) .
فالعلم ساحة سباق وتنافس بين أبناء البشر يتقدم فيها من حاز منه بنصيب أوفر .
والمرأة كانسانة معنية بهذا السباق في ميدان العلم ، ولها حضورها في ساحة ، وقيمتها كالرجل تتحدد بما تحسنه من العلم والمعرفة .
لذلك قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة » .
واذا ما رأينا الجهل معشعشاً أكثر في أوساط نسائنا فذلك دليل على تخلفنا وانحرافنا عن هدي الرسالة .
لقد اثبتت المرأة في الماضي والحاضر أنها لا تقل عن الرجل استعداداً للمعرفة وكفاءة في طلب العلم . . فحتى العلوم التخصصية الهامة أحرزت فيها المرأة تفوقاً وتقدماً . . وكذلك المجالات العلمية التي تحفها المخاطر والصعوبات فحادثة « تشالنجر » لازالت ماثلة أمام الأذهان حينما تحطمت المركبة الفضائية المتطورة بعد 73 ثانية من انطلاقها في الجو بسبب شرخ في خزان الوقود بتاريخ ( 28 ـ 1 ـ 1986 م ) وكان ضمن طاقمها المكون من ستة أفراد فتاتان تعملان في أبحاث الفضاء هما « كريستا مكوليف » و « جودث رثنك » .
وقبل سنتين نشرت وسائل الإعلام تحقيقاً عن امرأة عربية متخصصة في فيزياء « البلازما » وهي الحال الرابعة للمادة التي يقال أن كتلة الكون تتألف منها .
تلك المرأة هي « مها عاشور عبدالله » أستاذة الفزياء في جامعة « لوس أنجلس » في الولايات المتحدة الأمريكية ، وقد تجاوزت هذه المرأة كل المستحيلات ، فاختارتها وكالة الفضاء الأمريكية « ناسا » مستشارة رئيسية في وضع خطة الأبحاث الأساسية في فيزياء الفضاء ، وقد منحت جائزة نساء العلم الأميركية .
وذكرت « مها » المعروفة بأبحاثها المشتركة مع أبرز علماء فيزياء الفضاء من فرنسا واليابان والصين والأتحاد السوفيتي ( سابقاً ) والمانيا أنها غالباً ما تجد نفسها المرأة الوحيدة في المؤتمرات العلمية الدولية ، وتعتقد أن النساء العربيات أكثر أقداماً على العلوم من الغربيات ، وان نسبتهن في الكليات العلمية العربية لا تقل كثيراً عن الرجال ، وانهن لو أعطين الفرصة فسيحققن الكثير .
وتعد « مهى » العالمة المصرية التي أصدرت الى الآن ( 210 ) بحثاً من أبرز المتخصصين في ظاهرة « الشفق القطبي » الجوية المحاطة بالغموض والأساطير .
واضافة الى اللجنة الأستشارية في « ناسا » تشغل عضوية « هيئة علوم الكمبيوتر المتقدمة » وهي مسؤولة التنسيق عن الأفادة من علوم فيزياء الفضاء في « المؤسسة القومية للعلوم » التي تعتبر من أهم مراكز اعداد القرار العلمي في الولايات المتحدة .
و « مها » حفيدة فلاح من قرية « مطوبس » غير البعيدة عن الأسكندرية في مصر (6) .
فساحة العلم مفتوحة أمام المرأة ، وميدان المعرفة متسع لمشاركتها ، واهتمامها بطلب العلم وتلقي المعرفة واجب شرعي عليها أكثر مما هو حق لها ، كما ينص الحديث الشريف : « طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة » .
لكن ظروف التخلف والأنحطاط هي التي جعلت المرأة عندنا أسيرة الجهل محرومة من نعمة المعرفة والعلم ( غالباً ) .
وقراءة شخصية السيدة زينب تعطي لأمتنا دفعة انطلاق لتجاوز هذا الواقع الخاطئ .
فقد اهتمت السيدة زينب بتلقي العلم والمعرفة منذ نعومة أظفارها وفي وقت مبكر من حياتها ، فانها روت عن أمها فاطمة الزهراء (7) .
وقال الطبرسي : انها روت أخباراً كثيرة عن أمها الزهراء (8) .
بالطبع كان عمرها عند وفاة أمها السادسة .
وفي طليعة ما روت عن أمها الزهراء خطبتها العظيمة في الأحتجاج على الخليفة الأول أبي بكر حول منطقة فدك التي كانت تحت يد الزهراء فصادرها الخليفة وضمها الى بيت المال . . وخطبة الزهراء هذه طويلة مفصلة تتضمن زيادة على موضوعها الأساس حول فدك الكثير من المفاهيم والتعاليم الإسلامية ، وكل أسانيد هذه الخطبة تنتهي الى السيدة زينب فهي التي حفظت خطبة أمها وانتقلت عبرها الى الأجيال .
وقد أشار ابن أبي الحديد المعتزلي الى أسانيد الخطبة المنتهية كلها الى السيدة زينب نقلاً عن أبي بكر الجوهري ، والذي وصفه بقوله . عالم محدث ، كثر الأدب ، ثقة ورع ، أثنى عليه المحدثون ، ورووا عنه مصنفاته (9) .
ويذكر أبو الفرج الأصفهاني لخطبة الزهراء سنداً آخر عن ابن عباس بروايته عن السيدة زينب قال : والعقيلة هي التي روى ابن عباس عنها كلام فاطمة في فدك ، فقال : « حدثتني عقيلتنا زينب بنت علي » (10) .
وكما روت عن أمها الزهراء ، فقد روت أيضاً عن أبيها علي ، وعن أخويها الحسنين (11) .
وروت عن مولى لجدها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ذكر ابن عساكر ان اسمه طهمان أو ذكوان (12) .
لكن الشيخ النقدي نقل عن كتاب ( الورع ) لأحمد بن حنبل أن اسم ذلك المولى ميمون أو مهران ، فقال : ومن ذلك ما في كتاب ( الورع ) لاحمد بن حنبل المطبوع بمصر حديثاً عن عطاء بن السائب قال : حدثتني أم كلثوم ابنة علي ـ هي زينب ـ قال : أتيتها بصدقة كان أمر بها .
قالت : احذر شبابنا فإن ميموناً أو مهران أخبرني أنه مر على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال : يا ميمون أو يا مهران إنا أهل بيت نهينا عن الصدقة وإن موالينا من أنفسنا فلا تأكل الصدقة (13) .
وروت أيضاً عن فضليات نساء عصرها كأم أيمن مولاة النبي وحاضنته ، وأم سلمة زوج رسول الله ، وأم هاني بنت أبي طالب (14) ، وأسماء بنت عميس أم عبدالله بن جعفر (15) .
ولم تختزن السيدة زينب العلم لنفسها أو تحتكره لذاتها بل أفاضت من معارفها ومروياتها على أبناء الأمة ، فكانت تتحدث ليس فقط للنساء بل حدثت العديد من رجالات بيتها وسائر الأصحاب والتابعين . . فقد روى عنها جابر ، وعباد العامري (16) ، وابن اخيها علي بن الحسين زين العابدين (17) ، وروى عنها حبر الأمة عبدالله بن عباس (18) ، وزوجها عبدالله بن جعفر (19) ، وروى عنها محمد بن عمرو الهاشمي ، وعطاء بن السائب (20) ، وروى عنها أحمد بن محمد بن جابر ، وزيد بن علي بن الحسين (21) .
وروت عنها بنت أخيها فاطمة بنت الحسين (22) ، وقد مر علينا سابقاً أنها كانت مهتمة بتعليم النساء وتثقيفهن ضمن مجالسها العلمية .
ويكفي لأدراك مقام زينب الريادي في ميدان المعرفة والعلم أن نتأمل ما رواه الصدوق محمد بن بابويه ( طاب ثراه ) من أنه كانت لزينب نيابة خاصة عن الإمام الحسين ( عليه السلام ) بعد شهادته ، وكان الناس يرجعون اليها في الحلال والحرام حتى برئ زين العابدين (23) .
كما أن شهادة الإمام زين العابدين في حقها لم تكن جزافاً ولا مبالغة وهو الإمام المعصوم حيث قال لها : « أنت بحمد الله عالمة غير معلمة وفهمة غير مفهمة » (24) .
في محراب العبادة
في محراب العبادة عبادة الخالق والقرب منه هي المرتكز والمحور في الشخصية الإيمانية ، بل هي مقياس الأنسانية والتحرر في شخصية الأنسان ، فالبديل عن التعبد لله والخضوع له هو العبودية للشهوات وللمصالح المادية الزائلة .إن التعبد لله يعني انسجام الأنسان مع فطرته النقية ، واستجابته لنداء عقله الصادق بأن للحياة خالقاً يمسك بأزمتها واليه مصيرها .
والتعبد لله هو النبع الذي يروي منه الأنسان ظمأه الروحي ، ويتزود من دفقاته بدوافع الخير ونوازع الصلاح .
فكلما أقبل الأنسان على ربه ، وأخلص في عبادته ، تجلت انسانيته أكثر وتجسدت القيم الخيرة في شخصيته .
ففي الحديث القدسي الذي ينقله الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) عن الله ( سبحانه ) أنه قال :
« لا يزال عبدي يتقرب اليّ بالنوافل حتى أحبه فأكون أنا سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، وقلبه الذي يعقل به ، فاذا دعاني أجبته ، واذا سألني أعطيته » (25) .
والسيدة زينب وهي العالمة بالله و ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) (26) وهي الناشئة في أجواء الأيمان والعبادة والتقوى كانت قمة سامقة في عبادتها خضوعها للخالق ( عز وجل ) .
كانت ثانية أمها الزهراء في العبادة . وكانت تؤدي نوافل الليل كاملة في كل أوقاتها حتى أن الحسين ( عليه السلام ) عندما ودع عياله الوداع الأخير يوم عاشوراء قال لها : « يا أختاه لا تنسيني في نافلة الليل » . كما ذكر ذلك البيرجندي ، وهو مدون في كتب السير (27) .
وعن عبادة السيدة زينب ليلة الحادي عشر من المحرم يقول الشيخ محمد جواد مغنية : وأي شيء أدل على هذه الحقيقة من قيامها بين يدي الله للصلاة ليلة الحادي عشر من المحرم ، ورجالها بلا رؤوس على وجه الأرض تسفي عليهم الرياح ، ومن حولها النساء والأطفال في صياح وبكاء ودهشة وذهول ، وجيش العدو يحيط بها من كل جانب . . . إن صلاتها في مثل هذه الساعة تماماً كصلاة جدها رسول الله في المسجد الحرام ، والمشركون من حوله يرشفونه بالحجارة ، ويطرحون عليه رحم شاة ، وهو ساجد لله ( عز وعلا ) ، وكصلاة أبيها أمير المؤمنين في قلب المعركة بصفين ، وصلاة أخيها سيد الشهداء يوم العاشر والسهام تنهال عليه كالسيل .
ولا تأخذك الدهشة ـ أيها القارئ الكريم ـ اذا قلت : ان صلاة السيدة زينب ليلة الحادي عشر من المحرم كانت شكراً لله على ما أنعم ، وانها كانت تنظر الى تلك الأحداث على أنها نعمة خص الله بها أهل بيت النبوة من دون الناس أجمعين ، وانه لولاها لما كانت لهم هذه المنازل والمراتب عند الله والناس (28) .
وروي عن ابنة أخيها فاطمة بنت الحسين قولها : « وأما عمتي زينب فإنها لم تزل قائمة في تلك الليلة في محرابها تستغيث الى ربها فما هدأت لنا عين ولا سكنت لنا رنة » (29) .
أما كيف كانت تتخاطب السيدة زينب مع ربها ؟ وبماذا كانت تناجيه ؟ فإن المصادر التاريخية قد احتفظت لنا ببعض القطع والفقرات من أدعيتها ومناجاتها نذكر منها ما يلي :
« يا عماد من لا عماد له ، ويا ذخر من لا ذخر له ، ويا سند من لا سند له ، ويا حرز الضعفاء ، ويا كنز الفقراء ، ويا سميع الدعاء ، ويا مجيب دعوة المضطرين ، ويا كاشف السوء ، ويا عظيم الرجاء ، ويا منجي الغرقى ، ويا منقذ الهلكى ، يا محسن ، يا مجمل ، يا منعم ، يا متفضل ، أنت الذي سجد لك سواد الليل ، وضوء النهار ، وشعاع الشمس ، وحفيف الشجر ، ودوي الماء ، يا الله يا الله الذي لم يكن قبله قبل ، ولا بعده بعد ، ولا نهاية له ، ولا حد ولا كفؤ ولا ند ، بحرمة اسمك الذي في الآدميين معناه المرتدي بالكبرياء والنور والعظمة ، محقق الحقائق ، ومبطل الشرك والبوائق ، وبالأسم الذي تدوم به الحياة الدائمة الأزلية ، التي لا موت معها ولا فناء ، وبالروح المقدسة الكريمة ، وبالسمع الحاضر والنظر النافذ ، وتاج الوقار ، وخاتم النبوة ، وتوثيق العهد ، ودار الحيوان ، وقصور الجمال ، ويا لله لا شريك له » (30) .
ومن الأدعية والتسبيحات التي كانت تواظب على قراءتها هو :
« سبحان من لبس العز وتردى به ، سبحان من تعطف بالمجد والكرم ، سبحان من لا ينبغي التسبيح الا له ( جل جلاله ) ، سبحان من أحصى كل شيء عدداً بعلمه وخلقه وقدرته ، سبحان ذي العزة والنعم ، اللهم ، إني اسألك بمعاقد العز من عرشك ، ومنتهى الرحمة من كتابك ، وباسمك الأعظم ، وجدك الاعلى ، وكلماتك التامات التي تمت صدقاً وعدلاً ، أن تصلى على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين ، وأن تجمع لي خيري الدنيا والآخرة ، بعد عمر طويل ، اللهم أنت الحي القيوم ، أنت هديتني ، وأنت تطعمني وتسقيني ، وأنت تميتني برحمتك يا أرحم الراحمين (31) .
ومن أدعية أبيها التي كانت تدعو بها بعد صلاة العشاء :
« اللهم أني اسألك يا عالم الأمور الخفية ، ويامن الأرض بعزته مدحية ، ويامن الشمس والقمر بنور جلاله مشرقة مضيئة ، ويا مقبلاً على كل نفس مؤمنة زكية ، ويا مسكّن رعب الخائفين وأهل التقيّة يا من حوائج الخلق عنده مقضية ، يا من ليس له بواب ينادى ، ولا صاحب يغشى ، ولا وزير يؤتى ، ولا غير رب يدعى ، يا من لا يزداد على الإلحاح إلا كرماً وجوداً ، صل على محمد وآل محمد واعطني سؤلي انك على كل شيء قدير » (32) .
صبر وشجاعة
معروف أن المرأة تمتاز برقة المشاعر ، وشفافية العواطف ، مما يساعدها على القيام بدور الأمومة الحانية ، لذلك يكون تأثيرها العاطفي أسرع وأعمق من الرجل غالباً .واذا كانت تلك الحالة تمثل الأستعداد الأولي في نفس المرأة فلا يعني ذلك انها تأسر المراة وتقعد بها عن درجات الصمود والصبر العالية .
فبإمكان المرأة حينما تمتلك قوة الأرادة ونفاذ الوعي وسمو الهدف أن تضرب أروع الأمثلة في الصبر والشجاعة أمام المواقف الصعبة القاسية .
وهذا ما أثبتته السيدة زينب في مواجهتها للآلام والأحداث العنيفة التي صدمتها في باكر حياتها وكانت هي الختم لسنوات عمرها .
لقد ابدت السيدة زينب تجلداً وصبراً قياسياً في واقعة كربلاء وما أعقبها من مصائب .
والا فكيف استطاعت أن تنظر الى أخيها الحسين ممزق الأشلاء يسبح في بركة من الدماء ، وحوله بقية رجالات وشباب أسرتها من أخوتها وأبناء اخوتها وأبناء عمومتها وأبنائها ، ثم تحتفظ بكامل السيطرة على أعصابها وعواطفها ، لتقول كلمة لا يقولها الأنسان الا في حالة التأني والثبات والأطمئنان ، وهي قولها :
« اللهم تقبل منا هذا القليل من القربان » (33) .
وأكثر من ذلك فهي تصبر ابن أخيها الإمام زين العابدين حينما رأته مضطرباً بالغ التأثر عند مروره على جثث القتلى ـ كما مر علينا سابقاً ـ .
ويعبر الشيخ النقدي عن فظيع مصائب السيدة زينب وعظيم تحملها لها بقوله : وبالجملة فإن مصائب هذه الحرة الطاهرة زادت على مصائب أخيها الحسين الشهيد اضعافاً مضاعفة ، فانها شاركته في جميع مصائبه ، وانفردت عنه ( عليها السلام ) بالمصائب التي رأتها بعد قتله من النهب والسلب والضرب وحرق الخيام ، والأسر ، وشماتة الأعداء .
أما القتل فان الحسين قتل ومضى شهيداً الى روح وريحان ، وجنة ورضوان ، وكانت زينب في كل لحظة من لحظاتها تقتل قتلاً معنوياً بين أولئك الظالمين ، وتذري دماء القلب من جفونها القريحة (34) .
وأي مستوى من الصبر عند السيدة زينب حينما تصف ما رأته من مصائب بأنه شيء جميل : « والله ما رأيت إلا جميلاً » رداً على سؤال ابن زياد لها : كيف رأيت صنع الله بأخيك ؟ ! .
عفة ومهابة
عفة المراة لا تعني الأنكفاء والأنطواء ، ولا تعني الجمود والأحجام عن تحمل المسؤولية وممارسة الدور الأجتماعي ، وقد رأينا السيدة زينب وهي تمارس دورها الاجتماعي في أعلى المستويات .لكن العفة تعني عدم الابتذال ، وتعني حفاظ المرأة على رزانتها وجدية شخصيتها أمام الآخرين .
فاذا استلزم الأمر أن تخرج المرأة الى ساحة المعركة فلا تتردد في ذلك، واذا كانت هناك مصلحة في التخاطب مع الرجال فلا مانع وهكذا في سائر المجالات النافعة والمفيدة .
أما الأبتذال واستعراض القوام والمفاتن امام الرجال فهو مناف للعفة والحشمة .
وبعد أن استقرأنا دور السيدة زينب ومواقفها العلمية والسياسية والإجتماعية فلنتأمل الآن ما يقوله أحد المعاصرين لها والمجاورين لمنزلها برهة من الزمن ، ليتضح لنا معنى العفة والأحتشام عند السيدة زينب .
حدث يحيى المازني قال : كنت في جوار أمير المؤمنين في المدينة مدة مديدة وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته فلا والله ما رأيت لها شخصاً ولا سمعت لها صوتاً (35) .
زهد وعطاء
كانت زينب تعيش في كنف زوجها عبدالله بن جعفر في المدينة ، وهو رجل موسر غني ، وباذل كريم ـ كما سبق الحديث عنه ـ لكن حياة الراحة والرفاه حيث البيت الواسع والخدم والحشم ، والمال والثروة ، لم تتمكن من قلب السيدة زينب ، فتخلت عن كل تلك الأجواء المريحة ، واختارت السفر مع أخيها الحسين حيث المصاعب والمشاق والآلالم المتوقعة لم يكن قلب زينب متعلقاً بشيء من متاع الدنيا ، بل كانت نفسها منشدة الى آفاق السمو والرفعة .وروي عن الإمام زين العابدين أنه قال عنها : « انها ما ادخرت شئياً من يومها لغدها أبداً » (36) .
ونقل عنها أنها كانت أثناء سفر الأسر الى الشام كانت تتنازل في غالب الإيام عن حصتها من الطعام لصالح الأطفال الجائعين والجائعات من الأسارى وتطوي يومها جائعة ، حتى أن الجوع كان يقعد بها عن التمكن من أداء صلاة الليل قياماً فتؤديها وهي جالسة (37) .
وقد مر علينا سابقاً أنها حينما رجعت الى المدينة مع قافلة السبايا نزعت حليها وحلي أختها لتقدمه هدية للنعمان بن بشير مكافأة له على حسن صحبته ورفقته .
إلى الرفيق الأعلى
اذا كان الموت شبحاً مرعباً لكل انسان . وإذا كانت مفارقة الحياة أقسى وأشد ما يزعج الأنسان فإن الأمر كان مختلفاً لدى السيدة زينب . . فالموت بالنسبة لها كان يعني لقاء الله والأقتراب أكثر من رحمته .والموت عند السيدة زينب قنطرة ومعبر الى جنة الله العريضة الواسعة ونعيمه السرمدي الخالد .
وكانت ترى في الموت وسيلة نقل سريعة توصلها الى رحاب أحبتها السابقين حيث تلقى جدها النبي وأمها الزهراء وأباها المرتضى وأخويها العزيزين .
لقد طال فراقها لجدها المصطفى وأمها البتول ، فامتلأت نفسها شوقاً الى لقائهما لكن ستار الحياة يفصل بينها وبينهما ، فمتى يماط هذا الستار ليكتحل ناظرها برويتهما ؟ .
والموت بعد ذلك أصبح الوسيلة الوحيدة المتاحة للسيدة زينب للإعلان عن احتجاجها ورفضها وسخطها على واقع الألم والضيم والعناء .
لكن الأمر بيد الله فهو وحده يقرر الآجال وبيده الموت والحياة . . وحينما قدر الله ( تعالى ) لها الرحيل عن دار الدنيا ، استقبلت قضاءه بصدر رحب ، فذلك ينسجم مع ما يجري في أعماق نفسها من مشاعر وخلجات .
واسلمت الروح لله . . ورجعت نفسها المطمئنة الى الحق راضية مرضية لتدخل جنة الله بسعادة وهناء ولتلاقي صفوة عباده الأعزاء محمد وفاطمة وعلي والحسن والحسين .
إنه لا يمكننا تصوير مدى سعادة السيدة زينب بعروج روحها الى الملكوت الأعلى .
هل نشبه تلك اللحظات بوصول المسابق الى نهاية شوط السباق ناجحاً منتصراً ؟ فهو وإن كان حين الوصول في غاية التعب والمشقة لما بذله من جهد ، لكنه فور وصوله سينقلب الى حالة أخرى هي ذروة السعادة ومنتهى الراحة .
نعم . . لقد أكملت السيدة زينب امتحانها بنجاج ، وقطعت شوط الحياة الصعب باخلاص ويقين ، وطوت ستة عقود من سنيّ الدنيا في جهاد رسالي متواصل .
واختلف المؤرخون في تحديد سنة وفاتها ، والأرجح عند كثير من الباحثين أنها توفيت سنة ( 62 هـ ) الموافق ( 683 م ) (38) بينما ذهب آخرون الى أن وفاتها سنة 65 هـ .
ويتفق المؤرخون على أن وفاتها كانت في الخامس عشر من شهر رجب (39) .
وهكذا انتقلت العقيلة زينب الى الرفيق الأعلى . . وبقي ذكرها خالداً ينير للبشرية طريق الكرامة والمجد .
المصادر :
1- سورة البقرة آية 31 .
2- سورة الزمر آية 9
3- سورة المجادلة آية 11
4- ( ميزان الحكمة ) الري شهري ج 6 ص 451 ـ 455
5- ( نهج البلاغة ) الإمام علي ( قصار الحكم ) رقم : 81 .
6- جريدة ( الحياة ) اليومية ، تصدر في لندن تاريخ : ( 22 ـ 12 ـ 1411 هـ ) .
7- ( معجم رجال الحديث ) الخوئي ج 23 ص 19 .
8- ( أدب الطف ) جواد شبر ج 1 ص 243 .
9- ( شرح نهج البلاغة ) ابن أبي الحديد ج 16 ص 210 ـ 211 .
10- ( مقاتل الطالبيين ) الأصفاني ص 91 .
11- ( زينب الكبرى ) النقدي ص 35 .
12- ( تاريخ مدينة دمشق ) « تراجم النساء » ابن عساكر ص 119 .
13- ( زينب الكبرى ) النقدي ص 38 .
14- المصدر السابق ص 35 ـ 41 .
15- ( تراجم النساء ) ابن عساكر ص 119 .
16- ( معجم رجال الحديث ) الخوئي ج 23 ص 190 .
17- ( أدب الطف ) جواد شبر ج 1 ص 238 .
18- ( مقاتل الطالبيين ) الأصفهاني ص 91 .
19- ( زينب الكبرى ) النقدي ص 35 .
20- ( تراجم النساء ) ابن عساكر ص 119 .
21- ( زينب الكبرى ) النقدي ص 37 .
22- ( تراجم النساء ) ابن عساكر ص 119 .
23- ( زينب الكبرى ) النقدي ص 35 .
24- المصدر السابق ص 34 .
25- ( ميزان الحكمة ) الري شهري ج 8 ص 111 .
26- سورة فاطر آية 28 .
27- ( أدب الطف ) جواد شبر ج 1 ص 242 .
28- ( مع بطلة كربلاء ) مغنية ص 42 .
29- ( زينب الكبرى ) النقدي ص 62 .
30- ( عقيلة الطهر والكرم ) موسى محمد علي ص 70 .
31- ( عقيلة بني هاشم ) علي الهاشمي ص 15 .
32- المصدر السابق ص 16 .
33- ( زينب الكبرى ) النقدي ص 75 .
34- ( زينب الكبرى ) النقدي ص 97 .
35- المصدر السابق ص 22 .
36- المصدر السابق ص 61 .
37- المصدر السابق ص 63 .
38- ( زينب الكبرى ) النقدي ص 122 . / ( السيدة زينب ) بنت الشاطئ ص 155 .
39- المصدران السابقان . / ( مع بطلة كربلاء ) مغنية ص 90 .