
مسالة الجبر والتفويض من المسائل الشائكة التي دام النزاع والبحث فيها عبر قرون , فاختارت كل طائفة مذهبا.
فمن قائل انه ليس للانسان اي دور في فعله وعمله وانه مكتوف اليدين , مسير في حياته يسير على ما خط له من قبل .
الى تفويضي يثبت له قدرة وارادة مستقلة , وكانه اله آخر في الارض , مستغن عن ربه في فعله .
ولـكـن مـذهـب الـحق هو المذهب الوسط بين الجبر والتفويض ,الذي تبناه القرآن الكريم والسنة النبوية , وركز عليه ائمة اهل البيت (علِهم السلام)وهو الموافق للعقل والبرهان .
السير التاريخي للمسالة .
ان مسالة الجبر والتفويض من المسائل الشائكة التي شغلت بال الحكما والفلاسفة منذ عصور قديمة , وكانت مطروحة على بساط البحث بين حكما الاغريق الى ان طلعت شمس الاسلام وبزغ نوره , فـتـداولـت الـمـسـالـة بـيـن حـكـمـا الاسـلام ومتكلميه , نجم عنها فيما بعد, آرا ونظريات بين الافراطوالتفريط.فـمـن ذاهـب الـى الـجبر وان افعال العباد مخلوقة للّه تبارك وتعالى , كخلق اجسامهم وطبائعهم , ولـيـس للعباد فيها صنع حتى قيل بعدم الفرق بين حركة يد الكاتب والمرتعش , الى آخرذاهب الى الـتـفويض وان افعال العباد مفوضة اليهم مخلوقة لهم ,لا صلة لها باللّه سبحانه سوى انه اقدر العبد على العمل , وليس له تعالى ارادة ومشيئة متعلقة بافعالهم بل هي خارجة عن نطاق ارادته ومشيئته .
وقد اقام كل من الطائفتين دلائل وبراهين على مذهبه سوف نقوم باستقصائها ان شا اللّه تعالى .
والـمذهب الحق هو مذهب ائمة اهل البيت (علِهم السلام) من نفي الجبر والقدر (1), وان الحقيقة في افعال الـعـباد هو الاخذ بالامربين الامرين , فلا جبر حتى تسلب المسؤولية عن الانسان ليكون بعث الانبيا سـدى , وجهود علما التربية وزعماالاصلاح عبثا, ولا تفويض حتى يقوض اصل التوحيد في الخالقية ويـؤله الانسان ويكون خالقا ثانيا في مجال افعاله ,يخرج بذلك بعض ما في الكون عن اطار ارادة اللّه ومشيئته .
صفاته تعالى عين ذاته .
اتـفـق الحكما والمتكلمون على ان له سبحانه صفات جمال وكمال , ويعبر عنها بالصفات الجمالية والـكـمـالية والثبوتية , كالعلم والقدرة والحياة وغيرها, ولكن اختلفوا في كيفية وصفه سبحانه بها, وملاك الاختلاف هو:ان بـسـاطة الذات وعدم تركبها عقلا وخارجا تابى عن وصفهاباوصاف كثيرة في مرتبة الذات , فان حـيـثـية العلم غير حيثية القدرة كما انهما غير حيثية الحياة , فكيف يمكن ان يجتمع وصف الذات بالبساطة مع وصفها بالعلم والقدرة والحياة في مقام الذات ؟.
وقد تخلصت كل من الاشاعرة والمعتزلة عن هذا المازق بنحو خاص .
فـذهـبـت الاشـاعـرة الى ان هذه الصفات ليست صفات ذاتية وانما هي من لوازم الذات , ففي مقام الذات لا علم ولا قدرة ولاحياة , وانما تلازمها هذه الاوصاف دون ان يكون بينهما وحدة في الوجود والتحقق .
ولما استلزم ذلك القول بوجود القدما الثمانية المركبة من الذات والاوصاف الثبوتية السبعة , ذهبت الـمـعـتزلة الى نفي الصفات عنه تعالى بتاتا لا في مرتبة الذات ولا في مرتبة الفعل ,بل قالوا ان ذاته نائبة مناب الصفات , بمعنى ان خاصية العلم تترتب على الذات دون ان يكون هناك علم وراها, كما ان اثـرالقدرة التي هي اتقان الفعل يترتب على ذاته دون ان يكون هناك قدرة وراها, فما يتوقع من الـصـفـات كـالـكـشـف فـي الـعـلـم واتـقان الفعل في القدرة يترتب على ذاته من دون ان يكون لتلك الاوصاف وجود وتحقق في مرتبتها, وقد اشتهر عنهم قولهم :((خذ الغايات واترك المبادئ )).
لنذكر شيئا حول النظريتين وان كانتا خارجتين عن محطالبحث .
امـا الاشاعرة , فقد حاولوا الحفاظ على بساطة الذات باخراج الصفات الثبوتية عن حد الذات وجعلها فـي مـرتـبـة تالية لازمة لها قديمة مثلها الا انهم وقعوا في ورطة القول بالقدماالثمانية , فصار الاله الواحد تسعة آلهة , وهو اشبه بالفرار من محذور الى آخر افسد منه .
اضف اليه ان لهذا القول مضاعفات نشير الى اثنين منها:
1- لو كانت زائدة على الذات كانت مرتبة الذات خالية عنهاوالا لكانت مرتبة الذات عين تلك السلوب لـهـذه الـكـمـالات ,والـخلو ان كان موضوعه الماهية كان امكانا ذاتيا, لكن لا ماهية للواجب تعالى , فـمـوضـوع ذلـك الـخـلـو وجـود صـرف هـو حـاق الـواقـع وعين الاعيان , وان كان موضوعه هو الامـكـان الاسـتعدادي القائم بالمادة , والمادة لابد لها من صورة والمركب منهما جسم ,يلزم كونه سبحانه جسما تعالى عن ذلك علواكبيرا (2).2- ما اعتمد عليه سيدنا الاستاذ (دام ظله ) وحاصل ما افاد ان الوجود في اي مرتبة من المراتب فضلا عـن الـمـرتبة العليا لاينفك عن الكمال , اي العلم والشعور والقدرة والارادة , فكل مرتبة من مراتب الوجود, تلازم مرتبة من مراتب الكمال , فاذاكانت الذات في مرتبة تامة من الوجود يستحيل انفكاك الكمال التام عنها.
بـرهـانـه : ان الـكمالات المتصورة من العلم والارادة والقدرة والحياة اما من آثار الوجود او من آثار الـمـاهية او من آثار العدم ,ولا شك في بطلان الثالث , فدار الامر بين رجوعه الى الماهية اوالوجود, وحيث ان الماهية امر اعتباري لا تتاصل الا بالوجود,فتنحصر الواقعية بالوجود.
وعـلـى صعيد آخر: ان الوجود حقيقة واحدة ذات مراتب مشككة , فكل مرتبة من مراتب الوجود غير خالية عن اصل الحقيقة (الوجود) وانما تختلف فيه شدة وضعفا, فيستنتج من هذين الامرين :.
1- اصالة الوجود واعتبارية الماهيات .
2- ان الوجود حقيقة واحدة سارية في جميع المراتب .
عدم انفكاك الكمالات عن حقيقة الوجود في عامة المراتب خصوصا في المرتبة التامة , اعني : صرف الوجود وبحته (3) .
وبـذلك يظهر وهن نظرية المعتزلة ايضا حيث انكرواصفاته تعالى من راس تخلصا من ورطة القدما الثمانية , بيدانهم وقعوا في محذور آخر وهو: خلو الذات عن الصفات وقيامها مناب الصفات , اذ يردها كلا الامرين ايضا:.
الف - ان موضوع الخلو اما الامكان الماهوي او الامكان الاستعدادي .
ب- الوجود لا ينفك عن العلم وسائر الكمالات .
ثـم ان الـمراد من عينية الصفات للذات ليس اتحاد مفاهيمهامع الذات او اتحاد مفاهيم بعضها مع الاخـر, لان الـمفاهيم من مقولة الماهيات وهي مثار الكثرة , كما ان الوجود مدار الوحدة ,بل المراد وحدة واقعية هذه الصفات مع واقعية الذات , وان الذات بوحدتها كافية في انتزاع هذه الصفات عنها وانهابصرافتها وخلوها عن اي شي غير الوجود, كاف في الحكم عليها بالعلم والقدرة والحياة .
الارادة الذاتية للّه سبحانه .
اتـفق اهل الحديث على نفي الارادة الذاتية وان ارادته سبحانه هي احداثه وايجاده تمسكا بالروايات الواردة عن ائمة اهل البيت (علِهم السلام).ولـكـن سـلـب الارادة الذاتية عنه سبحانه يستلزم خلو الذات عن الكمال المطلق للموجود بما هو مـوجـود, وتـصـور ما هواكمل منه ژتعالى , لان الفاعل المريد, افضل واكمل من الفاعل غير المريد, فيكون سبحانه كالفواعل الطبيعية غير المريدة التي تعد من مبادئ الاثار.
وامـا مـوقـف الـروايات التي رويت عن ائمة اهل البيت (علِهم السلام),فالامعان فيها يعرب عن انها بصدد نفي الارادة الحادثة المتدرجة عنه سبحانه .
روى صـفوان بن يحيى قال : قلت لابي الحسن (علِهم السلام): اخبرني عن الارادة من اللّه ومن الخلق ؟ فقال : ((الارادة مـن الخلق :الضمير, وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل , واما من اللّه تعالى فارادته احداثه لا غير ذلك , لانه لا يروي ولا يهم ولا يتفكر,وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق , فارادة اللّه : الـفعل لا غير ذلك , يقول له كن فيكون بلا لفظ, ولا نطق بلسان , ولاهمة ولا تفكر ولا كيف لذلك , كما انه لا كيف له )(4)
تـرى ان الراوي يسال الامام عن واقع الارادة في الواجب والممكن , فبما ان واقعها في الممكن هي الارادة الـحـادثـة ,فنفاها الامام عن اللّه سبحانه وفسرها بالاحداث والايجاد, فلواثبت الامام في هذا الـمجال ارادة ذاتية له سبحانه مقام الذات ,لاوهم ذلك ان ارادتها كارادة الانسان الحادثة , مثلا انه سـبـحانه كالانسان يروي ويهم ويتفكر, فمثل هذه الرواية واضرابها ليست بصدد نفي الارادة الذاتية بتاتا, بل بصدد نفي الارادة الحادثة ـ كالارادة البشرية ـ في مقام الذات .
شبهة نفاة الارادة الذاتية .
ثـم ان نـفـاة الارادة فـي ذاتـه سبحانه تمسكوا ببرهان عقلي مفاده ان القائلين بالارادة الذاتية للّه سـبـحـانه يفسرونها بعلمه المحيط,ولكن ارادته لا تصح ان تكون عين علمه , لانه يعلم كل شي ولا يـريـد كل شي , اذ لا يريد شرا ولا ظلما ولا كفرا ولا شيئا من القبائح والاثام , فعلمه متعلق بكل شي وارادته ليست كذلك ,فعلمه عين ذاته , اما ارادته فهي صفة زائدة على ذاته .فـهـذه شـبهة قد احتج بها بعض مشايخنا الامامية (رضوان اللّه عليهم ) على اثبات ان الارادة زائدة على ذاته تعالى .
وقد اجاب عنها صدر المتالهين واوضحها سيدنا الاستاذبماحاصله :
ان فـي الـقبائح والاثام كالشر والظلم والكفر جهتين : جهة وجود, وجهة عدم , وان شئت قلت : جهة كـمـال وجـهة نقص ,وارادته كعلمه يتعلق بجهة الوجود والكمال , ويستحيل ان يتعلق بجهة العدم والـنقص , فذاته سبحانه كشف تام عن الجهة الاولى وهي ايضا مراده , ويستحيل ان تكون ذاته كشفا تاما عن العدم والنقص , فان الاعدام والنقائص ليست بشي , لانهابطلان محض .
وبعبارة اخرى : ان العلم يكشف عن المعلوم بما هو موجود ولايكشف عن الاعدام وما في وزانها من الـنـقـائص والـشـرور, بل يكون كشفه عنها بالتبعية والعرض , فصرف الوجود ـ الذي هوكل الاشيا, وبـسـيـط الـحـقـيـقة التي بوحدتها وبساطتها جامعة لكل الاشيا ـ انما يكشف في مقام الذات عن الاشـيـاوالـموجودات دون الاعدام والنقائص المحضة , وقد ثبت في محله ان واقع القبائح من الشر والظلم والكفر, عدم وبطلان محض , فلا يتعلق بها العلم ولا الارادة الا تبعا وعرضا.
اقول : قد اشار الى هذا الجواب صدر المتالهين , وقال : ان فيض وجوده يتعلق بكل ما يعلمه خيرا في نـظـام الـوجود, فليس في العالم الامكاني شي مناف لذاته ولا لعلمه الذي هو عين ذاته ولا امر غير مـرضـي بـه , فـذاتـه بذاته كما انها علم تام بكل خيرموجود, فهي ايضا ارادة ورضا لكل خير, الا ان اصـنـاف الـخـيـرمتفاوته وجميعها مرادة له ـ الى ان قال : ـ فالخيرات كلها مرادة بالذات , والشرور الـقـلـيـلـة الـلازمة للخيرات الكثيرة ايضا انمايريدها بما هي لوازم تلك الخيرات لا بما هي شرور, فـالـشـرورالـطـفيفة النادرة داخلة في قضا اللّه بالعرض , وهي مرضي بهاكذلك , فقوله تعالى : (ولا يـرضـى لـعـبـاده الـكفر) (5) وما يجري مجراها من الايات معناه ان الكفر وغيره من القبائح غير مرضى بها له في انفسها وبما هي شرور ولا ينافي ذلك كونها مرضيابها بالتبعية والاستجرار (6) .
فـتلخص من ذلك : ان علمه تعالى انما يتعلق بالموجود بماهو موجود الذي يساوق الخير والكمال , فـلابـد ان يـكـون كشفه عن نقيضه الموسوم بالعدم والشر بالتبع والعرض فيكون وزان العلم وزان الارادة , وبالعكس يتعلق كل بما يتعلق به الاخربالذات وبالعرض .
الى هنا تبين ان الشبهة غير مجدية في سلب الارادة عن مقام الذات .
نـعـم لا نـشـاطـر القوم الراي في ارجاع الارادة الى العلم بالمصالح ,وذلك لان اصل الارادة كمال , وارجاعه الى العلم الذي هو من مقولة الكيف , يستلزم سلب كمال عن ذاته وتصور اكمل منه .
وبه يظهر عدم تمامية القولين في باب الارادة :.
الف ـ ارجاع ارادته الى الفعل والاحداث , كما عليه اهل الحديث .
ب ـ ارجاع ارادته الى العلم بالمصالح .
فان القولين يشتركان في سلب كمال عنه .
واما ما هي حقيقة ارادته , فهذا خارج عن موضوع البحث موكول الى ابحاث عليا.
في كلامه سبحانه .
اتـفـق الـمـسـلـمون تبعا للذكر الحكيم على كونه سبحانه متكلما, قال سبحانه : (وكلم اللّه موسى تـكـليما) (7) وقال سبحانه :(وما كان لبشر ان يكلمه اللّه الا وحيا او من ورا حجاب او يرسل رسولا فيوحي باذنه ما يشا انه علي حكيم ) (8) .ولكنهم اختلفوا في تفسير كلامه .
فـذهـبـت المعتزلة والامامية الى انه من صفات الفعل وان كلامه هو فعله , واستشهدوا عليه ببعض الايـات والـروايات , قال سبحانه : (ولو ان ما في الارض من شجرة اقلام والبحر يمده من بعده سبعة ابحر ما نفدت كلمات اللّه ان اللّه عزيز حكيم ) (9).
وقـال امـيـر الـمؤمنين (علِهم السلام) : ((يخبر لا بلسان ولهوات , ويسمع لابخروق وادوات , يقول ولا يلفظ, ويـحـفـظ ولا يـتحفظ, ويريدولا يضمر, يحب ويرضى من غير رقة , ويبغض ويغضب من غير مشقة , يـقول لمن اراد كونه كن فيكون , لا بصوت يقرع ولابندا يسمع , وانما كلامه سبحانه فعل منه انشاه ومثله , ولم يكن من قبل ذلك كائنا, ولو كان قديما لكان الها ثانيا)(10).
وما ورد عنه (علِهم السلام) يبين نوعا من كلامه والنوع الاخر منه ايجاد الكلام في الشجر والجبل .
وحاصل تلك النظرية ان وصفه سبحانه بكونه متكلما,بمعنى قيام الكلام به قياما صدوريا لا حلوليا, كـمـا ان اطلاقه علينا كذلك , الا ان الفرق ان ايجادنا بالالة دونه تعالى , فاللّه سبحانه يخلق الحروف والكلمات في الحجر والشجر اونفوس الانبيا بلا آلة فيصح وصفه بالتكلم .
الكلام في وصفه سبحانه بفعل يصلح ان يصدر عنه بلاتوسط شي , ومن الواضح ان العقل دل عـلـى امـتـناع وصفه سبحانه بهذا الملاك , فان الكلام امر حادث متدرج متصرم ,والتصرم والتجدد نـفس ذاته , وجل جنابه ان يكون مصدرا لهذا النوع من الحدث بلا واسطة , لان سبب الحادث حادث كمابرهن عليه في الفن الاعلى في مسالة ربط الحادث بالقديم ,فكيف تكون ذاته القديمة البسيطة الثابتة مبدا لموجود حادث متصرم متجدد؟ وبذلك يظهر انه لا يصح وصفه بالتكلم بهذا الملاك , لان الكلام في وصفه سبحانه بما يصح صدوره عنه بلا توسيط,والمتجدد بما هو متجدد لا يصح صدوره عنه بلا واسطة .
نعم يمكن ايجاد الكلام المتصرم في الشجر والحجروالنفس النبوية لكنه بحاجة الى توسط شي آخر كما هو الحال في صدور كافة الموجودات الطبيعية التي جوهرها التصرم والتجدد .
وامـا مـا هـو معنى نزول الوحي وانزال الكتب على الانبياوالمرسلين , فهو من العلوم البرهانية التي قلما يتفق لبشر ان يكشف مغزاها؟ فالبحث عنه متروك لاهله ومحله .
اذا وقفت على عقيدة المعتزلة في نفي الكلام عنه سبحانه ,فحان حين البحث عما عليه الاشاعرة .
نظرية الاشاعرة في تكلمه سبحانه .
ذهبت الاشاعرة الى ان التكلم من صفات الذات لا من صفات الفعل , وفسروا كلامه بالكلام النفسي وبالمعنى القائم بذاته في الازل .الـكـلام النفسي عندهم غير العلم في الاخبار, وغير الارادة والكراهة في الانشا ففي الجمل الخبرية مثل قولك : زيد قائم ,امور ثلاثة :.
الف ـ الكلام اللفظي .
ب ـ المدلول اللفظي (من التصور والتصديق ).
ج ـ الكلام النفسي .
وفي مثل الانشائيات كقولك : كل , او لا تشرب الخمر, امورثلاثة :
الف ـ الكلام اللفظي .
ب ـ المدلول اللفظي (الارادة والكراهة ).
ج ـ الكلام النفسي .
والـحـاصل انهم اعتقدوا ان في جميع الموارد معنى قائما بالنفس غير المدلول , من دون فرق بين الجمل الخبرية او الانشائية ,واطلقوا عليه : الكلام النفسي , بيد انهم خصصوا باب الاوامرباسم خاص واسـمـوه : الـطـلـب , فالارادة مدلول لفظي والطلب كلام نفسي , وبذلك ذهبوا الى مغايرة الارادة والطلب .
ومـن هـنا ظهر منشا عنوان هذه المسالة اي وحدة الارادة والطلب او مغايرتهما, فانها نتيجة القول بالكلام النفسي المغاير للمدلول اللفظي في الاخبار (التصديق ) والانشا(الارادة والكراهة ).
ثم انهم عجزوا عن تفسير الكلام النفسي على وجه يجعله مغايرا للعلم في الاخبار والارادة والكراهة في الانشا, ومع ذلك اصروا على وجود ذلك الامر في كل متكلم من غير فرق بين الواجب والممكن , الا انه في الواجب قديم وفي الممكن حادث .
وقد استدلوا على ذلك بوجوه :
ادلة الاشاعرة على وجود الكلام النفسي :ان الانسان قد يامر بما لا يريده كامتحان عبده وانه هل يطيعه اولا؟ فالمقصود هو الاختبار فحسب , فثمة طلب دون ارادة (11) .
وبـعبارة اخرى : ان صدور الاوامر الامتحانية يتوقف على وجود مبدا في النفس تترشح منه , وبما انه لـيـس هناك مبدا باسم الارادة , فلا يصلح له الا الطلب القائم بالنفس , وهو الكلام النفسي في مورد الانشا.
والـجـواب : ان البحث عن حقيقة الارادة ومبدئها موكول الى الفن الاعلى , والذي يناسب ذكره في المقام هو ما يلي :.
ان كـل فـعل اختياري , مسبوق بالتصور ثم التصديق بفائدة وغاية , اذ لايتصور صدور الفعل بلا غاية , كـيف , وهي من العلل الاربعة : وربما يتمسك في نفيها بالافعال العبثية , ولكنه استدلال باطل , لان المنتفي فيها هو الغايات العقلائية , لاالغايات المسانخة للافعال الجزافية .
فـاذا حـصـل الـتصديق بفائدة الفعل فتارة تجدها النفس ملائمة لطبعها فتشتاق اليه لاجل الفائدة وكثرة الحاجة , يعقبهاتجمع وتصميم من قبل النفس فتحرك الاعضا نحو الفعل .
واما اذا لم تجده النفس ملائما لطبعها فلا تتحرك نحوه ,لكن لو حكم العقل بصلاح الفعل فتعزم بلا اشتياق , كشرب الدوا المر, او قطع اليد الفاسدة .
وبـهـذا يـعـلـم ان الـشوق ليس من مبادئ الاختيار والارادة ,على وجه الاطلاق فالاوامر الصورية والحقيقية بما انها من الافعال الاختيارية رهن سبق امور منها:
التصور والتصديق بالفائدة والشوق , والتصميم والجزم ,فالبعث , غير انهما يختلفان في الغاية .
توضيحه : انه لا فرق بين الاوامر الامتحانية في ان الهيئة في كلاالموردين مستعملة في البعث نحو الـشـي وانما الاختلاف في الغاية , فهي في الاولى عبارة عن تحصيل ما يترتب على وجودالفعل من فوائد وعوائد, ولكنها في الثانية تحصيل العلم بحال العبد من خير وصلاح او شر وفساد, والاختلاف في الغاية لايكون منشا للاختلاف في استعمال الهيئة ومدلولها.
وامـا الارادة فان اراد الاشعري من انتفائها في الامرالامتحاني عدم تعلقها بوقوع الفعل خارجا, فهو امـر مـسلم , من غير فرق بين الاوامر الصورية والاوامر الحقيقية , فانه يمتنع تعلق الارادة على فعل الغير بما هو خارج عن سلطان المريد.
وان اراد انتفا تعلق الارادة بالبعث الذي يستفاد من التلفظبلفظ الامر, فلا نسلم انتفاها, وذلك لان البعث فعل اختياري فلابد ان تسبقه الارادة بمبادئها.
وحـصـيـلـة الـكـلام انـه لو اراد من انتفا الارادة , الارادة المتعلقة بفعل الغير, فهي منتفيه في كلا القسمين , لان ارادة الانسان لاتتعلق الا بفعل نفسه لا بفعل الغير, لانه خارج عن سلطانه .
وان اراد مـن انـتـفـائهـا, الارادة الـمـتعلقة بالبعث والزجر اللذين يعدان من فعل الفاعل , فالارادة مـوجـودة في كلا المقامين , كيف بمسبوقيتهما بالارادة .
ثـم ان المحقق الخراساني اجاب عن الاشكال ـ وقسم الارادة والطلب ـ بعد الحكم بوحدتهما ـ الى قـسـمـيـن : حـقيقية وانشائية , فقال بوجودهما حقيقة في الاوامر الحقيقية , وبعدمهما حقيقة في الاوامر الاختبارية , وبوجودهما فيهما انشا.
وقـد اشـار الـى هـذا الـجـواب بـقـولـه ((فانه كما لا ارادة حقيقة في الصورتين (صورتي الاختبار والاعـتـذار) لا طـلـب كـذلـك فـيهما,والذي يكون فيهما انما هو الطلب الانشائي الايقاعي الذي هومدلول الصيغة او المادة (12).
يلاحظ عليه بامرين :
الاول : ان الارادة مـن الامـور الـتـكـوينية الحقيقية , ولا تقع مثل هذه الامور في اطار الانشا, وانما يتعلق الانشا بالامورالاعتبارية , فتقسيم الارادة الى حقيقية وانشائية ليس بتام .
الـثاني : قد عرفت وجود الارادة الحقيقية في الصورتين ,وهو تعلقها حقيقة بالبعث والطلب , وان لم تتعلق بنفس الفعل الخارجي , الذي هو خارج عن سلطان الامر.
اکمال مـا ذكـرنـا من ان تعلق الارادة بشي فرع وجود الغاية فيه , لايهدف الى لزوم وجود غاية زائدة على الـذات مـطـلـقـا بـل اعـم منهاومن غيرها, فالغاية في المريد الممكن هي التي تناسب مقام الفعل ومرتبته فهي زائدة عليها, وانما ارادته سبحانه تعلقت بايجاد الاشيا او ببعث الناس الى افعال خاصة , فـالـغـايـة هي ذاته لا شي خارج عنها, لما حقق في محله من ان العلة الغائية , هي ما تقتضي فاعلية الـفـاعـل , وتـؤثـر فـيـه وتخرجه عن مرحلة القوة الى مرحلة الفعل , على وجه لولا الغاية لما كانت مصدراللفعل .
والـغـايـة بـهذا المعنى تستحيل على اللّه سبحانه , بان يريدايجاد شي او بعث الناس نحو شي لغاية خـارجـة عن ذاته مكملة لها في مقام الايجاد والانشا, لان كل فاعل يفعل لغرض غير ذاته , فهو فقير مستفيض محتاج الى ما يستكمل به , وهويناسب الفقر والامكان , لا الغنى والوجوب .
اضـف الـيه انه لو كان لفعله سبحانه في مجال التكوين والتشريع غاية ورا ذاته لزم تاثيرها فيها, وهو يـلازم كـون الـذات حـامـلة للامكان الاستعدادي , فيخرج بحصول الغاية عن مرحلة الاستعداد الى مـرحـلـة الـفـعلية , فيكون مركبا من مادة وصورة , وهو يلازم التركيب والتجسيم والجهة , الى غير ذلك من النواقص .
الدليل الثاني للاشاعرة :
اسـتدلت الاشاعرة على تغاير الطلب والارادة ـ لغاية اثبات الكلام النفسي في الانشاات ـ بان العصاة كـافـريـن كـانـوا ام مـسـلمين , مكلفون بما كلف به اهل الايمان , لان استحقاق العقاب فرع وجود الـتـكليف , ومن المعلوم ان التكليف الحقيقي فرع وجود مبدا مثبت له , وعندئذ يقع الكلام فيما هو المبداللتكليف , اهي الارادة ام الطلب .
فـان قيل بالاول , يلزم تفكيك مراده سبحانه عن ارادته , وهومحال , وان قيل بالثاني فهو المطلوب فثبت ان ورا الانشائيات امرا نفسانيا باسم الطلب غير الارادة وهو المصحح لتكليف العصاة .
وقـد اجـاب عـنه المحقق الخراساني بالتفريق بين الارادة التكوينية والارادة التشريعية , بان امتناع التفكيك يختص بالاولى دون الثانية .
يـلاحـظ عـلـيـه : بما ذكرنا من ان الارادة من الامور التكوينية ,ولها حكم واحد, فان كان التفكيك ممتنعا, فلا فرق حينئذ بين التكوينية والتشريعية , والا فيجوز في كلا الموردين .
والـجـواب : ان الارادة فـي جـميع المصاديق غير منفكة عن المراد,غير انه يجب تمييز المراد عن غيره , ففي غير مقام البعث تتعلق ارادته سبحانه بالايجاد والتكوين فلا شك ان تعلقها به يلازم تحقق المراد, قال سبحانه : (انما امره اذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون ) (13) .
واما في مقام البعث فتتعلق ارادته بنفس البعث والطلب وهو امر متحقق لا ينفك عنه , وقد تقدم ان ارادة الفاعل لا تتعلق الا بفعل نفسه لا بفعل غيره , لان فعل الغير خارج عن سلطانه فكيف تتعلق به ؟.
هـذه بـعض ما استدل به الاشاعرة على مغايرة الطلب والارادة , ولهم ادلة اخرى , فمن اراد فليرجع الى كتبهم الكلامية .
هذا بعض الكلام حول اتحاد الطلب والارادة استعرضناه ليكون مقدمة لمسالة الجبر والتفويض .
لاشباع الموضوع اکثر وللتعرف علی مباني الجبر والاختيار والتفويض وابطال او اثابات ذلک راجع المزيد من الواضيع علی موقعنا وفي نفس العمود تحت عنوان الجبر والتفويض لتقف علی حقائق مفردات الموضوع ولتتضح الصورة لديک اکثر . نحتاج رايک .
المصادر :
1- المراد من القدر هنا التفويض , وقد استعمل القدر على لسان ائمة اهل الحديث في المفوضة , وقد ذكرنا ما يفيدك حول هذا اللفظ في الجز الاول من كتابنابحوث في الملل والنحل لاحظ ص 111 ـ 117.
2- تعليقة المحقق السبزواري على الاسفار: 6 / 133.
3- ثمة براهين اخرى لاتحاد الصفات مع الذات ذكرها صدر المتالهين في اسفاره :6/ 133 ـ 136.
4- الكافي : 1 / 109, باب الارادة انها من صفات الفعل .
5- الزمر / 7.
6- الاسفار: 6 / 343 ـ 345.
7- النساء / 164.
8- الشورى / 51.
9- لقمان / 27.
10- نهج البلاغة , الخطبة 181, ج 2 / 146, ط عبده .
11- شرح المواقف : 2 / 49.
12- كفاية الاصول , 1 / 96.
13- يس / 82.
/ج