تحتل مسألة حقوق الإنسان ـ يوماً بعد آخر ـ أهميةً متزايدة في العالَم المعاصر. وقد ظهرت منظمات عالميّة أخذت على عاتقها الدفاع عن حقوق الإنسان وفق منظورها الخاص ، ووفق أهداف ومصالح الجهات الممولة لها ، وقد اتخذت قضية حقوق الإنسان في غالب الأحيان سلاحاً سياسياً تستخدمه الدول المستكبرة ضد الدول الإسلامية التي ترفض الدوران في فلكها والخضوع لهيمنتها. وأخذت هذه القوى تُسخِّر ـ لهذه الغاية ـ الأقلام المأجورة ، وتستخدم دور النشر والطباعة لترويج بضاعتها هذه لأغراض تسويقية. كذلك أخذ زعماء وعلماء الدّيانات المحرّفة ، يستغلون هذه القضية الحساسة خدمةً لأغراضهم التبشيرية ، ويظهرون دياناتهم بمظهر المدافع الحقيقي عن حقوق الإنسان ، ويصدّرون في كل عام عشرات الكتب والنشرات التي تظهر اهتمامهم الموهوم بهذه المسألة ، والايحاء بأنّهم أوّل من نادى بحقوق الإنسان ، وصاغ بنودها.
وللأسف الشديد أنّ الكتب والإصدارات الإسلامية المؤلفة في هذا الحقل ، من القلّة بحيث لا تتناسب مع تزايد الاهتمام العالمي بحقوق البشر.
إنّ الرَّسول الأكرم صلی الله عليه وآله وسلم قد أعلن عن المساواة بين البشر ـ وهو حق من أكبر الحقوق الأساسية للإنسان في كلِّ زمان ومكان ـ وذلك في خطبته التاريخيّة في حجة الوداع ، قبل أسابيع قليلة من رحيله في السنة العاشرة للهجرة. أي قبل أكثر من أربعة عشر قرناً !
( عن أبي سعيد الخدري قال : خطبنا رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم في أوسط أيّام التّشريق خطبة الوداع فقال : « يا أيُّها النّاس إنّ ربّكم واحدٌ ، وإنّ أباكم واحدٌ، ونبيكم واحدٌ ، ولا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا أحمر على أسود ، ولا أسود على أحمر إلاّ بالتقوى .. » ) (1). وعنه أيضاً : « الناس سواء كاسنان المشط » (2).
وبذلك أعلن صلی الله عليه وآله وسلم مبدأ المساواة التامة بين جميع أفراد النوع الإنساني بصرف النظر عن اللغة واللَّون والجنس ، وهذا المبدأ لم ينبس به أحد قبل ظهور الإسلام ؛ لأن الناس كانوا يعتدّون بأجناسهم إلى أقصى حدّ ، حتى كبار الفلاسفة منهم.
ألم يقل افلاطون : اني لاَشكر الله على ثلاث: أن خلقني إنساناً ولم يخلقني حيواناً ، وأن جعلني يونانياً ولم يجعلني من جنس آخر ، وأن أوجدني في عهد سقراط (3) !
بينما نجد العكس تماماً عند أول الناس اسلاماً الإمام علي عليه السلام ، كما جاء في عهده لمالك الأشتر ـ الذي يُعد وثيقة تاريخية في غاية الأهمية ـ : « وأشْعِر قلبك الرَّحمة للرَّعيَّة .. ولا تكُونَنَّ عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنمُ أكلهُمْ ، فإنَّهُم صِنفانِ : إمّا أخٌ لَكَ في الدِّينِ ، أو نَظيرٌ لَكَ في الخَلْقِ » (4)
إنّ غاية الإسلام الأساسية هي إقامة مجتمع سليم ، مبني على أساس العدالة. ويتطلب هذا التوجه ـ بطبيعة الحال ـ الاهتمام برعاية الحقوق المتبادلة بين أفراد المجتمع.
والملاحظ أن القرآن الكريم في تعبيره عن أداء حق الغير أو حق الجماعة ، تارة يعبر عنه بطلب الإحسان ، كما في قوله تعالى : ( وأَحْسِن كَما أحْسَنَ اللهُ إليكَ ) (5) ، وتارة أُخرى يعبر عنه في صورة أمر آخر كقوله تعالى : ( وَأَوفوا الكَيْلَ إذا كِلْتُمْ وزِنُوا بالقِسْطاسِ المُسْتَقِيم ذلكَ خيرٌ وَأحسَنُ تَأوِيلاً ) (6) ، وقد يعبر عن ذلك في صورة النهي كقوله تعالى : ( وَلا تَأكُلُوا أَموَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إلى الحُكَّامِ لتأكُلوا فَرِيقاً مِنْ أموالِ النَّاسِ بالاِثمِ وأنتم تَعْلَمُونَ ) ( 7)
كلّ ذلك من أجل أن يسود العدل ، وتصان حقوق الآخرين من المصادرة. وبذلك نجد القرآن الكريم قد عُني بالجانب الاجتماعي من حياة الجماعة ، عناية لا تقل عن عنايته بصلة الفرد بربّه ، ولا يصور الفرد المسلم إنساناً منعزلاً في خلوة ، أو راهباً في صومعة ، بل يصوره دائماً في جماعة تترتب عليهم حقوق متبادلة.
وجاء في رسالة الحقوق ، المرّوية عن الإمام زين العابدين عليه السلام ـ والتي يمكن اعتبارها نموذجاً فذّاً في هذا الشأن ـ ما يكشف لنا بجلاء عن نظرة الإسلام الشمولية للحقوق التي لا تقتصر على بيان حقوق الإنسان ، بل تثبت الحق لغير الإنسان أيضاً.
كما أشارت هذه الرسالة ـ في البداية ـ إلى أنّ حقوق الناس ناشئة عن حقوق الله تعالى ، وهو سبحانه قد جعل حقوق عباده مقدمة على حقوقه.
الآثار السلبية الدنيوية لمن عق والديه
هذه بعض الآثار الأخروية المترتبة على عقوق الوالدين ، ولعل من أبرزها التعرض لسخط الله تعالى ، وعدم قبول الطاعات وغير ذلك من آثار. ومن يطّلع على أحاديث أهل البيت : يجد حشداً من الأحاديث في هذا المجال ، وهنا سوف نقتصر على إبراز الآثار السلبية في دار الدنيا لمن أساء لوالديه ، ويمكننا تصنيفها حسب النقاط الآتية :أولاً : التعرض للفقر والفاقة :
يقول الإمام جعفر الصادق عليه السلام في هذا الخصوص : « أيّما رَجلٍ دعا على ولده أورثه الفقر » (8)
ثانياً : المقابلة بالمِثل :
إنّ الأولاد الذين يسيئون التصرف مع آبائهم ، سوف يقابلهم أبناؤهم بالمِثل ، ولا يقيمون لهم وزناً عندما يكبرون ، ويؤكد هذه الحقيقة ما ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام : « برّوا آباءكم ، يبرّكم آبناؤكم » (9) ، وقد أثبتت التجارب العملية هذه الحقيقة ، وغدت من المسلّمات عِبَر الأجيال ، فالذي يعق والديه يواجه الحالة نفسها مع أبنائه لا محالة.
ثالثاً : العقوق يُورِثُ الذّلة والمهانة :
مما لا شك فيه ، ان الفرد الذي يعق والديه ، ينظر له المجتمع بعين السخط والاستخفاف ، ويصبح منبوذاً مذموماً على الصعيد الاجتماعي ، ولا يُذكر إلاّ بالعار والشنار ، مهما تستر خلف سواتر الأعذار ، يقول الإمام الهادي عليه السلام : « العقوق يعقب القلّة ، ويؤدي إلى الذِّلة » .. ويمكن حمل كلمة « القلّة » في الحديث على إطلاقها ، فتشمل القلة في المال والفقر المعنوي والاجتماعي ، المتمثل بقلة الأصدقاء والمعارف الذين لا يلقون حبال ودّهم إلى من عقّ والديه ، وكيف تحصل الثقة بمن قطع حبال الودّ مع والديه ، وهما من أقرب المقربين إليه ؟
القدوة الحسنة
إنَّ اقتحام العقول والنفوس بغية التأثير في الناس ، أصعب بكثير من اقتحام المواقع والثغور ، وذلك لأن الناس يختلفون اختلافاً بيّناً في طريقة التفكير ، وفي مركّب المزاج وفي مستوى الثقافة ، ونتيجة لكلِّ ذلك ، تصبح عملية التعامل معهم ، والتأثير فيهم عملية صعبة وشاقة ، وتحتاج إلى قدرات ومتطلبات من نمط خاص ، لا تتوفر إلاّ عند الخواص من أهل الصَّبر ، والعلم بمواقع الأمر. وأهل البيت في مقدمة هذا الطراز الرّفيع من القادة ، الذين تمكنوا من اجتذاب الناس وامتلكوا أزمّة قلوبهم ، ومفاتيح عقولهم من خلال القدوة الحسنة والسلوك السويّ ، خصوصاً وأنّ الناس ـ عادة ـ لا تتأثر بلسان المقال ، بقدر ما تتأثر بلسان الحال. ومن الشواهد الدالة على إلتزام الأئمة : العملي بحقوق الوالدين ، وتأثر الناس بهذا السلوك ، ان الإمام علي بن الحسين عليه السلام كان يأبى ان يؤاكل أمّه ، واسْتَلْفَتَ هذا الموقف أنظار أصحاب الإمام والمحيطين به ، وسألوه باستغراب : إنك أبرّ الناس وأوصلهم للرّحم ، فكيف لا تؤاكل أمك ؟! فقال عليه السلام: « إني أكره أن تسبق يدي إلى ماسبقت إليه عينها ، فاكون قد عققتها » (10)هذا الموقف الذي يستحق الإعجاب والتقدير ، يكشف العمق السلوكي لروّاد مدرسة أهل البيت : ، ويعطي درساً لا ينسى في وجوب رعاية حقوق وحرمة الوالدين.
وتجدر الاشارة إلى أن الإمام زين العابدين عليه السلام كان يدعو لوالديه ، ويشير إلى عظم حقهما عليه ، فيقول : « يا الهي أين طول شغلهما بتربيتي ؟ وأين شدة تعبهما في حراستي ؟ وأين إقتارهما على أنفسهما للتوسعة عليّ هيهات ما يستوفيان مني حقهما ، ولا أدرك ما يجب عليَّ لهما ، ولا أنا بقاضٍ وظيفة خدمتهما » (11)
وفي دعاء آخر تضمنته الصحيفة السجادية ، يقول عليه السلام : « اللّهم اجعلني أهابهما هيبة السّلطان العسوف ، وأبرّهما برّ الأم الرّؤوف ، واجعل طاعتي لوالديّ وبرّي بهما أقرّ لعيني من رقدة الوسنان ، وأثلج لصدري من شربة الظّمآن حتّى أُوثر على هواي هواهما » (12)
وقد سلك بقية الأئمة : هذا المسلك نفسه ، وعملوا على استئصال كلّ ما من شأنه الحطّ من مكانة الوالدين ، ومن الشواهد الدالة على ذلك : عن ابراهيم بن مهزم قال : خرجت من عند أبي عبدالله عليه السلام ليلةً ممسياً فأتيت منزلي بالمدينة وكانت أُمّي معي ، فوقع بيني وبينها كلام فأغلظت لها. فلمّا أن كان من الغد صلّيت الغداة وأتيت أبا عبدالله عليه السلام ، فلما دخلت عليه ، قال لي مبتدئاً : « يا أبا مهزم ، مالك ولخالدة أغلظت في كلامها البارحة ؟ أما علمت أنّ بطنها منزل قد سكنته ، وأنّ حجرها مهد قد غمزته ، وثديها وعاء قد شربته » ؟! قال : قلت : بلى ، قال : « فلا تغلظ لها » (13). وكان لهذه الكلمات فعل السحر على الابن فسارع للاعتذار من أمه.
والذي يؤسف له ، أنّ الكثيرين من شباب اليوم ـ بسبب التربية الخاطئة ، أو البيئة المنحرفة ، أو الثقافة الوافدة ـ يكيلون السّباب واللعان للوالدين ، على أتفه الأسباب ، ويصبّون جام غضبهم عليهم ، عندما يُسْدِيان لهم النصيحة المخلصة ، مما يترك أثراً سيئاً على نفسيهما ، فيصابان بخيبة أمل مريرة.
هذا في الوقت الذي يدعو الأئمة : إلى مخاطبة الوالدين بعبارات عذبة ، ومهذبة ، تحمل معاني التقدير والشعور بالعرفان وعدم رفع الصوت على الوالدين .. عن الحكم قال : قلت لأبي عبدالله عليه السلام : إنّ والدي تصدّق عليَّ بدار ، ثمّ بدا له أن يرجع فيها، وان قضاتنا يقضون لي بها ، فقال عليه السلام: « نعم ما قضت به قضاتكم ، وبئس ما صنع والدك ، انما الصدقة لله عزّ وجل فما جعل لله عزّ وجل فلا رجعة له فيه ، فان أنت خاصمته فلا ترفع عليه صوتك ، وإن رفع صوته فاخفض أنت صوتك » (14)
ونخلص في نهاية هذا المطلب إلى القول بان حقوق الوالدين جسيمة ، فقد قرن القرآن حقهما مع حقه تعالى في مستوى واحد مع اختلاف في الرّتبة ، فله عزّ وجلّ حقّ العبادة ولهم حقّ الإحسان.
ومنح القرآن الكريم الأم حقاً أكبر ، لما تُقدِّمه من تضحيات أكثر. وقد تصدّرت هذه المسألة الحيوية سلّم أولويات السيرة النبوية التي اعتبرت عقوق الوالدين من أكبر الكبائر. ثم إنَّ الأئمة : ـ وهم القوّامون على الأمة ـ قد عملوا على عدّة محاور لتوعية الناس بمكانة الوالدين ، فقاموا بتفسير ماورد في ذلك من آيات قرآنية ، واستثاروا الوازع الأخلاقي والوجداني ، وحددوا ـ أيضاً ـ الحكم الشرعي ، وهو أن حقّ الوالدين فريضة من أكبر الفرائض ، ثم عينوا تفصيلاً الحقوق المترتبة على الأولاد تجاه والديهم ، زد على ذلك كشفوا عن الآثار السلبية الدنيوية والأخروية ، لمن عقّ والديه ، وشكّل سلوكهم السويّ تجاه والديهم ، قدوة حسنة للاجيال في هذا المجال.
المصادر :
> 1- كنز العمال 3 : 93 / 5655 و 3 : 699 / 8502 قريب منه.
2- كنز العمال 9 : 38 / 24822.
3- كتاب ، مع الأنبياء في القرآن الكريم ، لعفيف عبدالفتاح طبّارة 417 ، ط 16 ، دار العلم للملايين ـ بيروت.
4- نهج البلاغة ـ ضبط الدكتور صبحي الصالح ـ ص 427 انتشارات هجرت ط 1395 ه.
5- القصص 28 : 77
6- الإسراء 17 : 35
7- البقرة 2 : 188 ).
8- بحار الأنوار 104 : 99.
9- بحار الأنوار 74 : 65.
10- في رحاب أئمة أهل البيت للسيد محسن الامين ـ 2 : 195.
11- التفسير الكاشف ـ محمد جواد مغنيَّه ـ 2 : 321 ـ دار العلم للملايين ط 3.
12- الصحيفة السجادية الكاملة : 132 دعاء 26 ، نشر وتحقيق مؤسسة الإمام المهدي (عج) ط 1.
13- بحار الانوار 74 : 76.
14- وسائل الشيعة 19 : 204 / 1 باب 11 من كتاب الوقوف والصدقات.
/ج