كان موقف السيدة زينب في مجلس يزيد بن معاوية من اروع مواقف الدفاع عن الحق ، وتحدي جبروت الطغيان والظلم .
فيزيد بن معاوية كان أمامها متربعاً على كرسي ملكه ، وفي أوج قوته ، وزهو انتصاره ، تحف به قيادات جيشه ، ورجالات حكمه ، وزعماء الشام ، وتشير الروايات التاريخية الى حضور بعض الدبلوماسيين الأجانب كرسول قيصر ملك الروم ، وبالتالي فقد كان يزيد حريصاً على التمتع بكامل هيبته ، والظهور بأعلى درجات القوة والسيطرة .
وتعرف السيدة زينب فظاظة يزيد وغلظته ، وتهوره في القمع والأرهاب ، وإن أي استفزاز له يمكن أن يدفعه الى أسوأ الأجراءات فليس له رداع من دين أو عقل .
كما أن أجواء المجلس كانت مهيأة ومعدة ليكون الإجتماع مهرجاناً للأحتفال بانتصار الحاكم على ثورة أهل البيت .
من ناحية أخرى فقد كانت السيدة زينب في ظروف بالغة القسوة والشدة ، جسدياً ونفسياً ، فهي لا تزال تعيش تحت وطأة الفاجعة وتأثيرها الهائل على أحاسيسها ومشاعرها ، ولأجواء الشماتة والأذلال التي استقبلتها في الشام وقع كبير على نفسها ، ومجرد حضورها سبية أسيرة في مجلس عدو ظالم حاقد قد ارتضع وتوارث عداء أسرتها منذ عهود وعقود ، وهي من هي في خدرها وصونها وعزها ، إن ذلك وحده كفيل بتحطيم المعنويات وهزيمة الروح .
وجسدياً فإن السفر كان مرهقاً وشاقاً ، حيث كان السير حثيثاً تنفيذاً لرغبة السلطة في الوصول بأسرع وقت الى الشام ، ومراكب السفر وهي الجمال لم تتوفر لها أدنى وسائل الراحة التي اعتادها المسافرون في ذلك الزمن .
والمرافقون العسكريون لقافلة السبايا كانوا جفاة صلفين في تعاملهم مع النساء والأطفال كزجر بن قيس وشمر بن ذي الجوشن ، حيث يقذفون السبايا بالشتم والسب ويضربونهم بالسياط لأدنى مناسبة .
وعامل الجوع والعطش كان له دور في انهاك السيدة زينب وارهاقها حيث كان الجنود يقترون على السبايا في الطعام والشراب ، مما يدفع السيدة زينب للتنازل عن حصتها لسد جوع وعطش الأطفال ، متحملة مضاضة الجوع والعطش .
ويصف الأستاذ عبد الباسط الفاخوري حالة قافلة السبايا الى الشام بقوله : « ثم إن عبيدالله جهز الرأس الشريف وعلي بن الحسين ومن معه من حرمه بحالة تقشعر منها ومن ذكرها الأبدان ، وترتعد منها مفاصل الأنسان بل فرائص الحيوان » (1) .
اضافة الى كل ذلك فقد أحيط دخول السبايا الى الشام وحضورهم في مجلس يزيد باجراءات بالغة الصعوبة قصد منها ايقاع أكبر قدر من الأذلال والهوان بنفوس السبايا .
وتمادى يزيد في اظهار شماتته وفرحه وصرح بما في مكنون نفسه من انه ينتقم من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومن أهل بيته حيث صار يتمثل بابيات شعر لعبدالله بن الزبعرى جاء فيها :
ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا واستهلوا فرحــاً *** ثم قالوا يا يزيد لا تشل
قد قتلنا القرم من ساداتهم *** وعـدلناه ببدر فاعتـدل
لعبت هـاشم بالمـلك فلا *** خبر جاء ولا وحي نزل
لست من خندف ان لم أنتقم *** من بني أحد ما كان فعل
وسمعت العقلية زينب ترنم يزيد بهذ الأبيات ، التي يعلن فيها كفره بالرسالة والوحي ، وإن دافعه الى قتل أهل البيت هو الأنتقام وأخذ ثأر قتلى المشركين في بدر ، ورأته كذلك يعبث برأس أخيها الحسين . . هنا قررت السيدة زينب أن تتحمل مسؤليتها في مواجهة هذا الكفر الصريح ، وأن تمارس دورها الرسالي في اعلان الحق ، فتفجر بركان ارادتها الأيمانية ، ووقفت خطيبة قائلة :
« الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على رسوله وآله أجمعين ، صدق الله ( سبحانه ) حيث يقول : ( ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن ) (2) .
أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء ، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى . أن بنا على الله هواناً ، وبك عليه كرامة ؟ .
وأن ذلك لعظم خطرك عنده ؟ فشمخت بأنفك ، ونظرت في عطفك ، جذلان مسرورا ، حين رأيت الدنيا لك مستوسقه ، والأمور متسقة ، وحين صفالك ملكنا وسلطاننا فمهلاً مهلاً ، لا تطش جهلاً ، أنسيت قول الله ( تعالى ) ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين ) (3) .
أمن العدل يابن الطلقاء ! .
تخديرك حرائرك واماءك ، وسوقك بنات رسول الله سبايا ، قد هتكت ستورهن ، وأبديت وجوههن ، تحدوبهن من بلد الى بلد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل ، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد ، والدني والشريف ، ليس معهن من حماتهن حمي ، ولا من رجالهن ولي ؟ .
وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء ، ونبت لحمه من دماء الشهداء ؟ .
وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنآن ، والإحن والأظفان ؟ .
ثم تقول غير مستأثم ولا مستعظم :
لأهلوا وأستهلوا فرحاً * ثم قالوا يا يزيد لا تُشل
منحنياً على ثنايا أبي عبدالله سيد شباب أهل الجنة ، تنكتها بمخصرتك ، وكيف لا تقول ذلك ؟ وقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشأفة ، بإراقتك دماء ذرية محمد ، ونجوم الأرض من آل عبد المطلب .
وتهتف بأشياخك ، زعمت أنك تناديهم ، فلتردن وشيكاً موردهم ، ولتودّنّ أنك شللت وبكمت ، ولم تكن قلت ما قلت وفعلت .
اللهم خذ لنا بحقنا ، وانتقم ممن ظلمنا ، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا .
فهوالله ما فريت الا جلدك ، ولا حززت الا لحمك ، ولتردن على رسول الله بما تحملت من سفك دماء ذريته ، وانتهكت من حرمته في ذريته ولحمته ، حيث يجمع الله شملهم ، ويلم شعثهم ، ويأخذ بحقهم : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ) (4) .
وحسبك بالله حاكماً ، وبمحمد خصيماً وبجبرئيل ظهيراً .
وسيعلم من سوّل لك ، ومكنك من رقاب المسلمين ( بئس للظالمين بدلاً ) (5) أيّكم ( شر مكاناً وأضعف جنداً ) (6) ؟ .
ولئن جرت عليّ الدواهي مخاطبتك ، إني لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكثر توبيخك ، لكن العيون عبرى ، والصدور حرى ! ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء ! ! فهذه الأيدي تنطف من دمائنا ، والأفواه تتحلب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي ، تنتابها العواسل ، وتعفرها أمهات الفراعل ! ! ولئن اتخذتنا مغنماً ، لتجدنا وشيكاً مغرماً ، حين لا تجد الا ما قدمت يداك وما ربك بظلام للعبيد ، والى الله المشتكى وعليه المعول .
فكد كيدك ، واسع سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا يرحض عنك عارها .
وهل رأيك الا فند ؟ وأيامك الا عدد ؟ وجمعك الا بدد ؟ .
يوم ينادي المنادي : ألا لعنة الله على الظالمين .
والحمد لله رب العالمين ، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة ، والرحمة ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ، ويوجب لهم المزيد ، ويحسن علينا الخلافة ، إنه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعمة الوكيل »
تأملات في الخطاب
إن خطاب السيدة زينب ( عليها السلام ) في مجلس يزيد يعتبر وثيقة فكرية سياسية تسلط الأضواء على خلفيات المعركة بين أهل البيت والأمويين كما تناقش بعض التفاصيل والقضايا الهامة في تلك المعركة ، وتقدم استشرافاً وتصوراً مستقبلياً لآثار المعركة ونتائجها .ونشير فيما يلي الى أبرز وأهم آفاق هذا الخطاب الرائع العظيم :
أولاً : المعركة في منظار القيم والمبادئ
فالأمويون وان كانوا يتظاهرون بالأسلام ، ويحكمون باسمه ، الا أنهم يتعاملون مع الحياة ، وينظرون للأمور حسب المعادلات المادية ، وضمن دائرة المصالح الدنيوية العاجلة بعيداً عن القيم والمبادئ .ويريدون لجمهور الأمة أن ينظر الى واقعة كربلاء من منظارهم المادي الجاهلي ، حيث يصرح يزيد بأنه قد قام بأخذ ثارات بدر ومعارك الإسلام الأولى ضد أسلافه المشركين ، والمسألة في نظر الأمويين لا تعدو أن تكون دفاعاً عن عرش السلطة وكرسي الحكم ، وهو أمر مشروع بالعقلية المصلحية .
ويرى الأمويون أن القوة التي بأيديهم ، والأنتصارات التي أحرزوها ، تكفي دليلاً على أحقيتهم وشرعيتهم كواقع يفرض نفسه .
وفي مواجهة هذا المنطق الأموي المادي الأنتهازي كانت السيدة زينب في خطابها تؤكد على الرجوع الى القيم والمبادئ الدينية والأحتكام اليها في تقويم الواقع وتفسير أحداثه ، فلابد من محاكمة ما يجري على ضوء كتاب الله ، والنظر الى المعركة من خلال الرؤية الدينية التي يريد الأمويون تغييبها والغاءها في واقع حياة المسلمين .
لذلك تذكر يزيد بن معاوية بأن لا ينظر الى نفسه من خلال ما يملك من قوة وسلطة : « أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء » . فليس في ذلك دلالة على الأحقية والمشروعية والرضا الآلهي ، فقد يفسح الله المجال واسعاً أمام الكافرين لتتضاعف قوتهم وامكانياتهم دون أن يعني ذلك أحقيتهم أو رضا الله عنهم ، بل يكون ذلك سبباً لزيادة انحطاطهم وعذابهم عند الله .
والحسين وأهل بيته ليسوا مهزومين مغلوبين قد خسروا الحياة وابتلعهم الموت بل هم وفق مقياس المبادئ الآلهية شهداء خالدون وأحياء عند ربهم ، لأنهم قتلوا في سبيل الله .
واذا كانت المآسي قد حلت بأهل البيت فانهم يحتسبونها عند الله ، حيث لم تحدث لهم في سياق صراع دنيوي مصلحي وإنما لأنهم يحملون رسالة الله ويدافعون عن دينه ، وحسب المبادئ والقيم فهناك عدالة آلهية ، وهناك دار أخرى تكون فيها النتائج الحاسمة : « وحسبك بالله حاكماً وبمحمد خصيماً ، وبجبرئيل ظهيراً ولتردن على رسول الله » .
والصراع بين أهل البيت والأمويين في نظر السيدة زينب ليس صراعاً قبلياً على الزعامة ، بل هو مظهر وامتداد للصراع الأبدي الدائم بين الخير والشر ، بين حزب الله وحزب الشيطان .
ثانياً : ـ ادانة الجرائم الأموية
ففي مجلس يزيد وأمامه وبحضور أتباعه ومؤيديه ، أعلنت السيدة زينب الأدانة والأستنكار لما ارتكبه من جرائم بحق أهل البيت ، وأوضحت مظلومية أهل البيت وعمق مأساتهم بقتل رجالات أهل البيت ، وسوق نسائهم سبايا بتلك الحالة المفجعة ، وترك جثث أهل البيت دون مواراة . كما توبخه بشدة على أقواله التي تنضح كفراً وتشكيكاً في الدين ، وتعنفه على ما فعله برأس أخيها الحسين .ومن يعرف مدى غرور يزيد وتجبره يدرك وقع هذا التوبيخ والأدانة على نفسه .
يقول المرحوم الأستاذ توفيق الفكيكي : وكان الوثوب على أنياب الأفاعي ، وركوب أطراف الرماح ، أهون على يزيد من سماع هذا الأحتجاج الصارخ (7) .
ثالثاً : ـ الجذور العائلية الفاسدة
فسياسات يزيد المنحرفة ، ومواقفة الفاسدة ، لم تنطلق من فراغ ، وإنما هي امتداد واستمرار لسلوكيات أسلافه المشركين والمنافقين ، لذلك تذكره السيدة زينب بجدته « هند » أم معاوية وزوج أبي سفيان ، والتي قادت حملة التأليب والتحريض على قتال رسول الله والمسلمين ، وأغرت « وحشي » بقتل الحمزة بن عبد المطلب عم رسول الله ، ثم مثلت بجسمه وانتزعت كبده وحاولت مضغها بأسنانها ، اظهاراً لحقدها البشع ، وبغضها المتوحش لرسول الله وذويه ، ويزيد في اعتداءاته الأليمة على أهل البيت لم يأت بشيء غريب ، وإنما هو شر خلف لشر سلف ، تقول ( عليها السلام ) « وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء » .وتتوعده السيدة زينب بأن مصيره هو مصير أسلافه عتبة وشيبة والوليد وانه لاحق بهم في نار جهنم : « وتهتف بأشياخك زعمت أنك تناديهم فلتردن وشيكاً موردهم » .
رابعاً : الأشادة بأهل البيت :
في مجتمع تربى على بغض أهل البيت ، وفي أجواء معباة ضد الأسرة العلوية ، ووسط مجلس انعقد للشماتة بمقتل الحسين ، تقف السيدة زينب صادحة بالحق ، مشيدة بفضائل أسرتها الكريمة .فهي تخاطب يزيد معلنة للأمة أن هذه الدولة والكيان الاسلامي إنما أشادته سيوف بني هاشم ، وتضحيات آل الرسول بالدرجة الأولى « وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا » فأهل البيت هم القادة الحقيقيون لهذه الأمة وهم الأولى بالسلطة والحكم .
ولأهل البيت فضل عظيم على يزيد بالذات فأبوه وجده وأسرته هم طلقاء عفو رسول الله عند فتح مكة لذلك تخاطبه العقيلة : « أمن العدل يا ابن الطلقاء » .
أما شهداء كربلاء فتصفهم السيدة زينب بأنهم : « ذرية محمد ونجوم الأرض من آل عبد المطلب » وتذكر أخاه الحسين باعتباره : « سيد شباب أهل الجنة » .
وتعتز السيدة زينب بفضل اسرتها وأمجادها العظيمة قائلة : « والحمد لله رب العالمين الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة » .
خامساً : المستقبل لمن ؟
يتبختر يزيد بانتصاره على أهل البيت ، ويظن أنه كسب المعركة لصالحه ، ووسائل أعلامه تكرر وتجتر هذا الوهم على مسامع الناس ، لكن العقيلة زينب تسنف أوهامه ، وتسفه أحلامه ، وتقرر أمام مجلسه الحاشد أنه قد تلطخ بأوحال الهزيمة ، وسقط في حضيض الهوان ، وإن تظاهر بالنصر وتراءى له الظفر .أنها تتحدى يزيد في أن يتمكن من تحقيق هدفه بطمس خط أهل البيت ، مهما جند من قواه واستخدم من قدراته : فكد كيدك واسع سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا » فخط أهل البيت يمثل الحق والعدل ن ويجسد الوحي الآلهي ، وسوف تبقى البشرية متطلعة للحق والعدل وسوف يظهر الله دينه على الدين كله .
كما تظهر العقيلة سخريتها واحتقارها لمظاهر القوة التي أحاط بها يزيد نفسه :
« وهل رأيك الا فند ، وأيامك الا عدد ، وجمعك الا بدد » .
ورهان السيدة زينب على النصر وثقتها بالظفر ليس محجماً بحدود الدنيا الفانية ، بل تتطلع للآخرة هناك حيث عدالة الله ، وحيث تكون العاقبة للمتقين ، والنار والخزي للظالمين .
سادساً : العزة الأيمانية
تلك المرأة السبية الأسيرة التي سيقت الى مجلس يزيد مكتفة بالحبال ، تقف أمام الحاكم المتغطرس المتجبر صارخة به : « يا ابن الطلقاء » ومنذرة له : « ولتودّن أنك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت » وداعية عليه : « اللهم خذلنا بحقنا وانتقم ممن ظلمنا ، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا » .وتتحداه قائلة : « فوالله ما فريت الا جلدك ولا حززت الا لحمك » وتكرر تحديها له هاتفة : « فكد كيدك واسع سعيك » .
وبصراحة أوضح تبدي احتقارها له وأنها أكبر وأسمى من أن تكلمه أو تخاطبه لولا ما فرضته عليها الظروف فتقول : « ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك إني لاستصغر قدرك ، واستعظم تقريعك ، وأستكثر توبيخك » .
فمن يداني ابنة علي في شجاعتها وعزتها وبطولتها ؟ .
إنها ابنة أبيها وهي تفرغ عن لسانه وروحه .
لذلك تحطمت كبرياء يزيد أمامها وانهار غروره ، وأصابته الحيرة والأرتباك ، فلم يزد أن تمثل بعد خطابها بقول الشاعر :
يا صحيحة تحمد من صوائح *** ما أهون النوح على النوائح
وكأنه يفسر خطاب السيدة زينب بأنه نوع من الأنفعال الطبيعي لما تعانيه من مصيبة ! !
مواجهة حادة
بعكس ما كان يقصده ويهدفه يزيد من دخول السبايا الى مجلسه بأن يستعرض قوته ، ويؤكد انتصاره ، ويوجه لأهل البيت ضربات جديدة من الأذلال والهوان .فقد انعكس الأمر ، وتحول المجلس الى ساحة محاكمة لجرائمه ، وميدان معركة تكبد فيها هزيمة نكراء . . وفوجئ يزيد بحصول مالم يكن يتوقع ، وفقد السيطرة على نفسه ، ولم يعد يدري كيف يواجه الموقف ، بينما استمرت العقيلة زينب توجه له ضربات التحدي ، وسهام التبكيت والاحتقار .
ونظر رجل من أهل الشام ومن القريبين من يزيد الى السيدة فاطمة بنت الامام علي ـ وحسب روايات أخرى بنت الامام الحسين ـ فقال مخاطباً يزيد : يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية لتكون خادمة عندي ! ! .
فاسودت الدنيا في عين السيدة فاطمة ، وانتابها الرعب والقلق ، فلاذت بزعيمة الركب العقيلة زينب ، فطمأنتها زينب وهدأت روعتها حيث رفعت صوتها لتسمع يزيد قائلة للرجل :
ـ كذبت ولؤمت ما ذلك لك ولا لأميرك .
واستشاط يزيد غضباً لهذه الضربة القاصمة لصرح هيبته الزائفة ومقامه الباطل
فرد بانفعال : كذبت ولله ، إن ذلك لي ، ولو شئت أن أفعله لفعلت .
فعاجلته السيدة زينب بضربة أكثر وقعاً وصرامة حين قالت :
« كلا والله ما جعل الله لك ذلك الا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا » .
وطفح الكيل في نفس يزيد وما عاد يتحمل ما يسمع من كلمات التحدي والتحقير وفي مقر حكمه وبين أنصاره وجمهوره فصاح غاضباً :
ـ إياي تستقبلين بهذا ؟ انما خرج من الدين أخوك وأبوك ! .
وإذا كان يزيد منفعلاً قد فقد السيطرة على نفسه فإن السيدة زينب كانت في قمة الأطمئنان والثبات ، لذلك أجابته واثقة :
ـ بدين الله ودين أبي ودين أخي وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك إن كنت مسلماً ! ! .
وما عسى أن يكون جواب يزيد أو موقفه تجاه هذا التحدي الصارخ ، فهو يتربع على عرش خلافة المسلمين لكن السيدة زينب تجعل اسلامه موضع شك ، وتعلن على رؤوس الأشهاد فضل أسرتها عليه وعلى أسرته بهديهم للاسلام . . لذك لم يحر يزيد جواباً ولم يجد رداً فلجأ الى الشتم ، بحنق وغيظ ، حيث خاطب زينب قائلاً : كذبت يا عدوة الله ! ! .
لكن غضب يزيد وانفعاله وشتمه لم يسكت العقيلة زينب ولم يضع حداً لهجومها عليه وتحديها له ، بل أوضحت أمام الجمع أن دافع يزيد الى الشتم هو سوء استخدامه لموقعه باعتباره حاكماً يمارس الظلم والقهر ، قالت ( عليها السلام ) :
ـ أنت أمير مسلط ، تشتم ظالماً ، وتقهر بسلطانك .
فسكت يزيد وأفحم واعترف بخسارته المعركة ، حيث إن الرجل الشامي كررعليه الطلب وكأنه يريد أن يعرف النتيجة ، وينتزع من يزيد الاعتراف بالهزيمة أمام تحدي السيدة زينب له ، فقال الشامي :
ـ يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية ! .
فصب يزيد عليه جام غضبه قائلاً له :
ـ اعزب وهب الله لك حتفاً قاضياً (8) .
ردود الفعل
خلافاً لما كان يقصده يزيد من مجيء السبايا ورؤوس الشهداء إلى الشام ، بأن يصنع من خلال ذلك جواباً مضاداً لثورة الحسين ، ويدعم عرش حكمه وسلطته ، فقد حصل العكس من ذلك تماماً ، حيث سادت النقمة وانتشر الاستياء في مختلف أوساط العاصمة الأموية ، استنكاراً لما فعله يزيد .ومما رصده لنا التاريخ من مظاهر الاستنكار ما يلي :
ممثل ملك الروم :
وكان في مجلس يزيد ممثل ملك الروم ، فلما رأى رأس الامام بين يدي يزيد تأثر من ذلك وسأل يزيد : رأس من هذا ؟ .
أجابه يزيد : رأس الحسين .
فسأل : من الحسين ؟ .
قال يزيد : ابن فاطمة .
وسأله : من فاطمة ؟ .
قال يزيد : ابنة رسول الله .
فانذهل ، وقال : نبيكم ؟ .
أجابه يزيد : نعم .
ففزع ممثل ملك الروم : وأبدى انزعاجه قائلاً : تباً لكم ولدينكم ، وحق المسيح إنكم على باطل ، إن عندنا في بعض الجزائر ديراً فيه حافر فرس ركبه المسيح فنحن نحج اليه في كل عام ، من مسيرة شهور وسنين ، ونحمل اليه النذور والأموال ، ونعظمه أكثر مما تعظمون كعبتكم ، افٍ لكم .
ثم قام وخرج غضباناً من مجلس يزيد (9) .
حبر يهودي :
وحضر حبر يهودي مجلس يزيد أثناء دخول السبايا ، وسمع خطاب الامام زين العابدين فتأثر الحبر والتفت الى يزيد سائلاً : من هذا الغلام ؟ .أجابه : علي بن الحسين .
فسأل : من الحسين ؟ .
قال : ابن علي بن أبي طالب .
وسأل الحبر : من أمه ؟ .
أجابه يزيد : بنت محمد .
فاندهش الحبر وأعلن استنكاره أمام يزيد قائلاً : يا سبحان الله ! ابن بنت نبيكم قتلتموه ، بئسما خلفتموه في ذريته ، فوالله لو ترك نبينا موسى بن عمران فينا سبطاً لظننت أنا كنا نعبده من دون ربنا ، وأنتم فارقكم نبيكم بالأمس فوثبتم على ابنه وقتلتموه سوأة لكم من أمة ! .
وغضب يزيد من قوله ، وأمر بتنكيله ، فقام الحبر وقد رفع عقيرته قائلاً : إن شئتم فاقتلوني ، إني وجدت في التوراة من قتل ذرية نبي فلا يزال ملعوناً أبداً ما بقي ، فاذا مات أصلاه الله نار جهنم (10) .
قيصر ملك الروم :
فقد وصلته أخبار قتل الحسين وأخبار السبايا ، فكتب الى يزيد مستنكراً :ـ « قتلتم نبياً أو ابن نبي » (11) .
رأس الجالوت :
وممن أظهر استنكاره وادانته لما حدث الزعيم الديني لليهود رأس الجالوت فقد قال لمحمد بن عبد الرحمن : إن بيني وبين داود سبعين أباً ، وإن اليهود تعظمني وتحترمني وأنتم قتلتم ابن بنت نبيكم ؟ (12) .شيخ من أهل الشام :
أخرج ابن جرير عن أبي الديلم قال : لما جيء بعلي بن الحسين ( رضي الله تعالى عنهما ) أسيراً فأقيم على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال : الحمد لله الذي قتلكم وأستأصلكم ! .فقال له علي ( رضي الله تعالى عنه ) : أقرأت القرآن ؟ .
قال : نعم .
قال : أقرأت الـ ( حم ) (13) ؟ .
قال : نعم .
قال : أما قرأت : ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ) (14) .
قال : فانكم لأنتم هم ؟ .
قال : نعم (15) .
وفي نص آخر : دنا شيخ من الامام زين العابدين ، وقال له :
ـ الحمد لله الذي أهلككم وأمكن الأمير منكم ! .
فقال ( عليه السلام ) له : يا شيخ أقرأت القرآن ؟ .
قال : بلى .
قال : أقرأت : ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ) (16) .
وقرأت قوله تعالى : ( وآت ذا القربى حقه ) (17) ، وقوله تعالى : ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى ) (18) ؟ .
قال الشيخ : نعم قرأت ذلك .
فقال الامام : نحن والله القربى في هذه الآيات .
ثم قال له الامام : أقرأت قوله ( تعالى ) : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) (19) ؟ .
قال : بلى .
فقال الامام : نحن أهل البيت الذين خصهم الله بالتطهير .
قال الشيخ : بالله عليك أنتم هم ؟ .
قال الامام : وحق جدنا رسول الله إنا لنحن هم من غير شك .
فوقع الشيخ على قدمي الامام يقبلهما ويقول : أبرأ الى الله ممن قتلكم . وتاب على يد الامام مما فرط في القول معه وبلغ يزيد فعل الشيخ وقوله : فأمر بقتله (20) .
الصحابي أبو برزة الأسملي :
وكان هذا الصحابي حاضراً في مجلس يزيد فلما رأى أحوال السبايا وعبث يزيد برأس الحسين أعلن استياءه واستنكاره .قال الطبري : فقام رجل من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقال له : أبو برزة الأسلمي ، وقال :
أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين ؟ أما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذاً لربما رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يرشفه ! أما أنك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك ، ويجيء هذا يوم القيامة ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) شفيعه .
ثم قال فولى (21) .
وفي رواية أخرى : قال أبو برزة الأسلمي : أشهد لقد رأيت النبي يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن ، ويقول : انتما سيدا شباب أهل الجنة قتل الله قاتلكما ، ولعنه وأعد له جهنم وساءت مصيرا .
فغضب يزيد منه وأمر به فأخرج سحباً (22) .
من داخل الأسرة الأموية
وهكذا كانت أمواج السخط والأستنكار تتلاطم بتأثير قافلة السبايا حتى ضربت أطناب البيت الأموي الحاكم ، وتعالت أصوات المعارضة لما حصل في أوساط عائلة يزيد ، فيحيى بن الحكم أخو مروان بن الحكم اعترض على يزيد في مجلسه وشتم ابن زياد أمامه متعاطفاً مع آل الرسول حيث أنشد البيتين التاليين :لهام بجنب الطف أدنى قرابه *** من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل
سمية أمسى نسلها عدد الحصى *** وليس لآل المصطفى اليوم من نسل
قال : فضرب يزيد بن معاوية في صدر يحيى بن الحكم ، وقال : اسكت (23) .
وابنة يزيد عاتكة بادرت الى رأس الإمام الحسين فطيبته ، وقالت نادبة : رأس عمي (24) .
أما معاوية بن يزيد فموقفه واضح اذ رفض حتى تولي الخلافة بعد أبيه يزيد وأعلن تنديده لسياسة أبيه وجده .
وزوجته هند لم تستطع كتمان ألمها واعتراضها ، يقول ابن الأثير : ثم دخلوا على يزيد فوضعوا الرأس بين يديه وحدثوه ، فسمعت الحديث هند بنت عبدالله بن عامر بن كريز ، وكانت تحت يزيد ، فتقنعت بثوبها وخرجت ، فقالت :
يا أمير المؤمنين أرأس الحسين بن علي ابن فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ .
قال : نعم ، فاعولي عليه ، وحدّي على ابن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وصريخة قريش ، عجل عليه ابن زياد فقتله قتله الله (25) .
هذا الأستياء الشامل والأستنكار من مختلف الأوساط أظهر ليزيد فشل سياسته وتخطيطه ، وجعله يتمنى لو لم يقدم على قتل الحسين ، أو على الأقل لو تستر على جريمته ولم ينشرها على رؤوس الملأ عبر قافلة السبايا والرؤوس . وصدرت عن يزيد كلمات وتصريحات عديدة يلقي فيها المسؤلية عن قتل الحسين ومآسي عائلته على عبيدالله بن زياد . . ككلامه لزوجته وقوله مخاطباً رأس الحسين .
والله يا حسين لو كنت أنا صاحبك ما قتلتك ! ! (26) .
وينقل ابن الأثير أنه ، لما وصل رأس الحسين الى يزيد حسنت حال ابن زياد عنده وزاده ووصله وسره ما فعل ، ثم لم يلبث الا يسيراً ، حتى بلغه بغض الناس له ولعنهم وسبهم ، فندم على قتل الحسين فكان يقول :
وما عليّ لو احتملت الأذى ، وأنزلت الحسين في داري وحكمته فيما يريد ، وان كان عليّ في ذلك وهن في سلطاني حفظاً لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ورعاية لحقه وقرابته ، لعن الله ابن مرجانة فإنه اضطره ، وقد سأله أن يضع يده في يدي أو يلحق بثغر حتى يتوفاه الله ، فلم يجبه الى ذلك فقتله ، فبغضنى بقتله الى المسلمين ، وزرع في قلوبهم العداوة ، فأبغضني البر والفاجر بما استعظموه من قتلي الحسين ، ما لي ولابن مرجانة ، لعنه الله وغضب عليه (27) .
المصادر :
1- ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 367 .
2- سورة الروم آية 10 .
3- سورة آل عمران أية 178 .
4- سورة آل عمران آية 169 .
5- سورة الكهف آية 50 .
6- سورة مريم آية 75 .
7- ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 378 ـ 380 . ( مقتل الحسين ) المقرم ص 357 ـ 359 .
8- ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 381 .
9- ( تاريخ الأمم والملوك ) الطبري ج 6 ص 256 . / ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 389 . ( الكامل في التاريخ ) ابن الأثير ج 4 ص 86 .
10- ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 394 .
11- المصدر السابق ص 395 .
12- المصدر السابق ص 396 .
13- سورة الشورى آية 1 .
14- سورة الشورى آية 23 .
15- سورة الشورى آية 23 .
16- ( تفسير روح المعاني ) الآلوسي ج 25 ص 31 .
17- سورة الإسراء آية 26 .
18- سورة الأنفال آية 41 .
19- سورة الأحزاب آية 33 .
20- ( مقتل الحسين ) المقرم ص 349 .
21- ( تاريخ الأمم والملوك ) الطبري ج 6 ص 267 .
22- ( الكامل في التاريخ ) ابن الأثير ج 4ص 85 .
23- ( الكامل في التاريخ ) ابن الأثير ج 4 ص 85 .
24- ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 400 .
25- ( الكامل في التاريخ ) ابن الاثير ج 4 ص 84 .
26- المصدر السباق ص 85 .
27- المصدر السابق ص 87 .
/ج