يستدلّ القرآن الكريم علىٰ ضرورة إحياء الناس بعد موتهم ـ التي هي سنّة قطعية لا مناص عنها ـ بطرق مختلفة :
1. المعاد ، رمز الخلقة.
2. المعاد ، مظهر العدل الإلهي.
3. المعاد ، مجلىٰ الوعد الإلهي.
4. المعاد ، مظهر رحمته الواسعة.
5. المعاد ، نهاية السير التكاملي للإنسان.
6. المعاد ، مظهر ربوبيته.
1. المعاد : رمز الخلقة
من الأسئلة المثارة عند كلّ إنسان هو السؤال عن أصل الخلقة وانّه لماذا خلق ، وماذا أُريد من خلقه ؟والناس أمام هذا السؤال على صنفين :فصنف يرىٰ أنّ حظ الإنسان هو علّتان من العلل الأربع :
الف. العلّة المادية.
ب. العلة الصورية.
وكأنّ العالم بجزئياته وذراته تفاعلت فيما بينها وشكّلت صورة الإنسان ، وليس وراء هاتين العلتين علّة أُخرى ، فهم ينكرون العلة الفاعلية ( الخالق ) والعلّة الغائية ويقتصرون على العلّة المادية والصورية ، وبذلك أراحوا أنفسهم من عناء الإجابة ، بل أذعنوا بأنّه ليس وراء خلق الإنسان هدف ولا غاية.
وصنف آخر يرىٰ أنّ وراء العلّتين الماضيتين ، علّتين أُخريين : أحدهما : العلّة الفاعلية ، والأُخرى : العلة الغائية ، والمراد من الأُولى ما يخرج المادة والصورة إلى الوجود ، كما أنّ المراد من الثانية الغرض المترتب على الفعل ، وحيث إنّ الفاعل موجود حكيم لا يفعل عبثاً دون غرض ، فلفعله غرض مترتب عليه ، وليس هو إلاّ العبور من قنطرة الدنيا إلى الآخرة وانتقاله إلى نشأة أُخرى يُعد غرضاً أسمىٰ لفعله سبحانه.
وتدل على تلك الغاية طائفتان من الآيات :
الأُولى : ما تدل علىٰ أنّ إنكار المعاد يلازم العبث.
الثانية : ما تصف فعله سبحانه ( الإيجاد ) بالحق المطلق الذي لا يدانيه الباطل ، وما هو كذلك يمتنع أن يكون عبثاً بلا غرض.
أمّا ما يدل على الطائفة الأُولىٰ فلفيف من الآيات :
1. ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ). (1)
ولأجل انّ العبث لا يدبُّ إلى فعله ولا يتسرب إلى إيجاده ، يصفه بعد تلك الآية بالملك الحق ، ويقول : ( فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) (2).
2. ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) (3).
والآية تعرب عن أنّ نفي الغاية لخلق السماوات والأرض وما بينهما كان شعار الكافرين بل ربما أنكر البعضُ العلةَ الفاعلية ، قال سبحانه : ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ ) (4).
تجد انّهم كانوا ينسبون الإحياء والإماتة إلى الدهر والزمان.
3. ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ) (5).
وهذه الآية تصف فعله سبحانه بالحقّ ، وانّ الخلق كان فعلاً موصوفاً بالحقّ المحض ، وما هو كذلك يلازم الغرض ويفارق العبث وإلاّ لم يكن حقّاً مطلقاً.
4. ( عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ) (6).
والمراد من النبأ العظيم هو يوم القيامة ، ويصفه بكونه نبأً قطعياً لا ريب فيه.
إنّه سبحانه يذكر في الآيات التالية النظام السائد في الكون ، ويقول : ( أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا * وَالجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا * وَأَنزَلْنَا مِنَ المُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ). (7)
ثمّ إنّه سبحانه يردف هذه الآيات بآيات القيامة التي يصفها بيوم الفصل ، ويقول : ( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا * يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ). (8)
والنظم المنطقي بين هذه الطوائف الثلاث من الآيات في سورة واحدة عجيب جداً ، ففي الطائفة الأُولى يذكر المعاد بما أنّه أمر مفروغ عنه.
وفي الطائفة الثانية يذكر شيئاً من النظام السائد في الكون.وفي الطائفة الثالثة يذكر يوم القيامة مشعراً بأنّه لولا هذا اليوم لعاد خلق النظام السائد فيه أمراً عبثاً.وبذلك تظهر الصلة بين الآيات.
وأمّا ما يدل على الطائفة الثانية ـ أعني : انّ الحقّ المطلق يلازم الهدف وليس هو إلاّ استمرار الحياة في النشأة الأُخرى ـ فلفيف من الآيات :
1. ( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ). (9)
ترى أنّه سبحانه يصف نفسه ب ( هُوَ الحَقُّ ) ويردفه بقوله : ( وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَىٰ ) مشعراً بأنّ الحقّ المطلق لا ينفك عن إحياء الموتى لاستمرار الحياة وصون الفعل عن اللغوية.
وبعبارة أُخرى : انّ الموجود لا يوصف بكونه حقاً على الإطلاق إلاّ إذا كانت ذاته وصفاته وفعله نزيهة عن النقص ، ولا يكون فعله كذلك إلاّ إذا كان مقروناً بالغاية.
ثمّ إنّه سبحانه يؤكد على كونه حقّاً مطلقاً ويقول : ( وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ). (10)
2. وعلى ذلك المنوال جرى كلامه سبحانه في الآية التالية :
( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ). (11)
فالذكر الحكيم يصفه بأنّه الحقّ وانّ ما يدعونه من دونه هو الباطل والحقّ المطلق ما يكون نزيهاً من النقص في ذاته ووصفه وفعله ، ولما كانت نزاهته في الأوّلين أمراً لا غبار عليه ، برهن على نزاهة فعله بالآية التالية وقال :
( وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ ). (12)
3. وربما يتفنّن القرآن فيذكر إحياء الموتىٰ واستمرار الحياة أوّلاً ، ثمّ يذكر برهانه بأنّ وعد الله حقّ على خلاف ما مضىٰ في الآيات السابقة ، ويقول :
( مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ). (13)
ثمّ يذكر في آية أُخرى قوله : ( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ). (14)
ثمّ يعقبها قوله : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الْغَرُورُ ). (15)
والإمعان في تلك الآيات يورث الإعجاب ، فهو يذكر بعث النفوس أوّلاً ، ثمّ يردفه في آية أُخرى بأنّه سبحانه هو الحقّ.ثمّ يطرح في آية أُخرىٰ مسألة الجزاء وانّه لا يجزي والد عن ولده ، ويصف وعد الله بالحقّ ، ففي كلا المقامين جاء المدّعىٰ مرفقاً بالدليل ، فوصفه بالحقّ كوصف وعده به آية صحّة المدعىٰ وانّه لا مناص من إحياء الموتىٰ وإلاّ لعاد الحقّ المطلق حقّاً نسبياً.
وهذا النوع من الكلام من إنسان أُمّي لا يجيد القراءة والكتابة دليل على أنّ كتابه ليس وليد فكره ونتاج عقله ، بل هو وحي إلهي نزل به الروح الأمين علىٰ قلبه ليكون من المنذرين.
ثمّ إنّ الذكر الحكيم يحثّ المؤمنين على التفكير في خلق السماوات والأرض واختلاف اللّيل والنَّهار وغيرها من الأنظمة السائدة في الكون حتّى يعلموا أنّ فعله سبحانه لم يكن باطلاً ولا عبثاً. قال سبحانه : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ). (16)
وقد نقل عن النبي صلی الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « الدنيا مزرعة الآخرة ».
وكأنّ الإنسان يزرع في هذه الحياة الدنيا ويحصد ما زرعه في الآخرة ، وهو يشير إلى وجود الغاية لخلق الإنسان والعالم.
الإمام علي عليه السلام وهدف الخلقة
وقد نقل عن أمير المؤمنين عليه السلام خطب وكلمات تشير إلىٰ سرّ الخلقة وهدفها وانّها لا تتحقق إلاّ بالبعث بعد الموت والنشأة بعد النشأة ، وها نحن نسرد بعض كلماته :1. قال عليه السلام : « وإنّ الخلق لا مقصر لهم عن القيامة ، مُرقِلين في مضمارها إلى
الغاية القصوى ». (17)
2. ويقول عليه السلام أيضاً في نفس تلك الخطبة : « قد شخصوا من مستقر الأجداث ، وصاروا إلىٰ مصائر الغايات ». (18)
3. ويقول عليه السلام : « فانّ الغاية القيامة ، وكفىٰ بذلك واعظاً لمن غفل ، ومعتبراً لمن جهل ، وقبل بلوغ الغاية ما تعلمون من ضيق الارماس ، وشدّة الإبلاس ، وهول المطلع ». (19)
4. وفي وصية كتبها لولده الإمام الحسن عليه السلام يقول : « واعلم يا بنيّ أنّك إنّما خلقت للآخرة لا للدنيا ، وللفناء لا للبقاء ، وللموت لا للحياة ، وأنّك في قلعة ودار بلغة ، وطريق إلى الآخرة ». (20)
2- المعاد مظهر العدل الإلهي
القول بالعدل وانّه يلزم على الله سبحانه أن يتعامل مع عباده بالعدل ، من فروع القول بالتحسين والتقبيح العقليين. وقد ذهبت العدلية إلىٰ أنّ العقل له قابلية إدراك الفعل الحسن أو القبيح واقعاً ، فالموضوع لحكمه هو فعل الفاعل المختار وانّه ينقسم إلى حسن وقبيح.وبذلك يظهر انّ حكمه على الموضوع بأحد الوصفين حكم عام يعمّ فعل الواجب والممكن دون مدخلية لوجود الفاعل وجوباً أو إمكاناً ، فالفعل بما هو صادر عن فاعل عالم مختار إمّا حسن يجب العمل به ، وإمّا قبيح يجب الاحتراز عنه. إلاّ أنّ الله سبحانه لا يقوم إلاّ بالفعل الحسن ، وبالتالي لا يتعامل مع عباده إلاّ بالعدل ، يقول سبحانه :
( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ). (21)
وقال سبحانه : ( إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ). (22)
بل هو لا يظلم ولا ينسب إليه الظلم أبداً ، قال سبحانه : ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ). (23)
أي لا ينسب الظلم إليه ، نظير قول القائل في النيل من خصمه : « وليس بنبّال » أي لا صلة بينه وبين رمي النبل.
نعم ربما يقال بعجز العقل عن إدراك محاسن الأفعال ومساويها وبالتالي لا يمكن الوصول إليها إلاّ من خلال تنصيص الشرع. وقد أوضحنا وهن ذلك القول في بحوثنا الكلامية ، وذكرنا انّ لازمه عدم إمكان الحكم بالحسن والقبح مطلقاً لا عقلاً ولا شرعاً. (24)
فخلاصة القول : إنّ فعله سبحانه يوصف بالعدل لا بالجور والظلم ، وعليه فمقتضى حكمته أن يتعامل مع العباد بالعدل.
هذا من جانب ، ومن جانب آخر انّ عباده أمام تكاليفه علىٰ صنفين ، مطيع وعاص ، فيتصور بادئ الأمر أربعة احتمالات :
الف. أن يُثيب الجميع.
ب. أن يُعاقب الجميع.
ج. أن يغض النظر عن إثابتهم أو عقابهم.
د. أن يثيب المطيع ويعاقب العاصي.
والاحتمالات الثلاثة الأُول من الوهن بمكان ، لأنّها تناقض العدل ، فالتسوية بين المطيع والعاصي سواء أكانت بإثابة الجميع أو عقابهم كذلك أو تركهم سدى يعد ظلماً وجوراً ، وهو أمر قبيح ، وفعله سبحانه نزيه عنه ، فيتعيّن الاحتمال الرابع.
وبتعبير آخر : انّ التسوية بين العباد سواء أكانت بشكل إثابة الجميع أو عقوبتهم أو تسويتهم إنّما يتجه إذا كان الجميع سالكاً طريقاً واحداً من سبيلي الإطاعة والعصيان ، فلو أطاع الجميع لكانت إثابتهم نفس العدل ، ولو عصوا لكانت عقوبتهم كذلك ، كما أنّ له سبحانه أن يتركهم سدىٰ ، وأمّا إذا كانوا مطيعين فلأنّ الثواب تفضّل من الله سبحانه فله أن لا يتفضل وليس بحقّ عليه ، كما أنّ عقوبتهم حقّ فله أن يتغاضىٰ عن حقّه.
إنّما الكلام فيما إذا كان العباد على صنفين بين مطيع وعاص ، فالتسوية في هذه الصورة سواء أكانت بصورة إثابة الجميع أو عقوبتهم ، أو تركهم سُدى ظلم قبيح على الله سبحانه ، فلا محيص عن التفريق بإثابة المطيع ومعاقبة العاصي.
وحيث إنّ الحياة الدنيا يتساوىٰ في الانتفاع بنعمها المطيع والعاصي ، فلابدّ من يوم آخر يكون مجلى لعدله سبحانه ومظهراً له ، وليس هو إلاّ يوم القيامة.
يقول سبحانه : ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ). (25)
ويقول أيضاً : ( أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ). (26)
ويقول أيضاً : ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ). (27)
وهذه الآيات تثبت انّ التسوية بين المطيع والعاصي لا يليق بساحته سبحانه. وثمة آيات أُخرى تعيّن اليوم الذي يكون مظهراً لعدله.
1. يقول سبحانه : ( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ). (28)
2. ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ). (29)
3. ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ... * لِّيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ). (30)
4. ( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ ). (31)
5. ( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ). (32)
وممّا يلفت النظر انّه سبحانه بعدما يطرح الحياة الأُخروية وقيام القيامة ، يعقبها بقوله : «لتجزى» أو « ليجزىٰ » أو « ليروا » مشعراً بأنّ الهدف الإلهي من حشر الناس في ذلك اليوم هو إثابة المطيع ومعاقبة العاصي.
وأنت إذا قارنت هذه الطائفة من الآيات التي تصرّح بأنّ الهدف من الحشر هو الجزاء مع ما مضى في الطائفة الأُولى من الآيات تجد انّ التسوية لا تتماشىٰ مع عدله وانّ الجزاء هو مقتضى العدل الإلهي.
ما ذكرناه هو المستفاد من الآيات الكريمة ، وثمة كلمات منقولة عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وفيها إشارة إلى انّ يوم الجزاء مجلىٰ لعدله سبحانه :
1. « وذلك يوم يجمع الله فيه الأوّلين والآخرين لنقاش الحساب وجزاء الأعمال ». (33)
2. « فجدّدهم بعد إخلاقهم ، وجمعهم بعد تفرّقهم ، ثم ميّزهم لما يريده من مسألتهم عن خفايا الأعمال وخبايا الأفعال وجعلهم فريقين : أنعم علىٰ هؤلاء وانتقم من هؤلاء ... ». (34)
3. المعاد مجلى الوعد الإلهي
وعد سبحانه المطيعَ بالثواب والعاصيَ بالعقاب ، فله أن يغضَّ النظر عن عقاب العاصي لأنّه حقه ، ولكن ليس له غض النظر عن الوعد للفرق بين الوعد والوعيد.أمّا الأوّل فيجب العمل به ويعدُّ خُلْفه قبيحاً ، بخلاف الوعيد فلا يعدُّ خُلفه إخلالاً بالعدل ، وقد صبّ الشاعر المفلق هذا المعنى في قالب شعريّ وقال :
وانّي إذا أوعدته أو وعدته *** لمخلف ميعادي ومنجز موعدي
وقال الآخر :
إذا وعد السّراء انجز وعده *** وإن أوعد الضرّاء فالعفو مانع
وإن شئت قلت : الخلف في الوعد إسقاط لحقّ الغير. وإمساك عن أداء ما عليه من الحقّ ، وأمّا الوعيد فانّه إسقاط لحقّ نفسه ، والعقل يستقل بقبح الأوّل دون الثاني.
وعلى ضوء ذلك فله سبحانه أن يغضَّ النظر عن العاصي دون العمل بوعده للمطيع فلابدّ من يوم يكون مجلىٰ لإنجاز وعده وإظهار عدله.
وهذا البرهان يمتاز عمّا سبقه ، بأنّ السابق بصدد بيان انّ التسوية بين المطيع والعاصي أمر قبيح سواء أكان هناك وعداً ووعيداً أم لا ، ولذلك قلنا : إنّه لو كان الجميع مطيعين فلا يضرّ عدم الإثابة بعدله ، أو كانوا عاصين فلا يخلُّ العفو كذلك ، وإنّما المخل هو التسوية بين المطيع والعاصي.
وأمّا هذا البرهان ، فهو مبني علىٰ مقدمة شرعية وحكم عقلي.
أمّا المقدمة فقد أرشدنا القرآن إليها ، إذ وعد فيها المؤمنين كما أوعد الكافرين والمنافقين.
وأمّا الحكم العقلي فهو انّ غضّ النظر عن عقاب العاصي لا يخلُّ بالعدل ، ولكن الخلف بالوعد قبيح عند العقل.وليس لإنجاز وعده وقت سوى حشر الناس بعد الموت.
وأمّا الآيات الواردة في هذا المضمار فهي على أصناف :
فصنف يدل على أنّ قيام القيامة وعد من الله سبحانه ، وصنف آخر يدل على أنّه ظرف لمجلى وعده ووعيده.
وصنف ثالث يدلّ على أنّ هذا الوعد قطعيّ الوقوع والتحقق ، وإليك البيان :
أمّا الصنف الأوّل فيدل عليه الآيتان التاليتان :
قال سبحانه : ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ). (35)
وقال سبحانه : ( فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ). (36)
وأمّا الصنف الثاني فقد وردت فيه الآيات التالية :
قال سبحانه : ( وَأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ ). (37)
وقال سبحانه : ( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ). (38)
وقال سبحانه : ( وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ). (39)
وهناك صنف ثالث يدل على أنّ هذا الوعد قطعي الوقوع والتحقّق.
قال سبحانه : ( رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ المِيعَادَ ). (40)
وقال سبحانه : ( وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعَادَ ). (41)
ثمّ إنّ المتكلّمين استدلوا على لزوم المعاد بأمرين ، أشار إليهما المحقّق الطوسي في تجريد الاعتقاد ، بقوله : « ووجوب إيفاء الوعد والحكمة تقتضي وجوب البعث ». (42)
ففي هذه العبارة إشارة إلى دليلين :
الأوّل : وجوب إيفاء الوعد ، وهذا هو الذي مرّ بيانه آنفاً.
الثاني : الحكمة ، ولعلّها إشارة إلى ما مرّ من أنّ الحشر هو رمز الخلقة.
4. المعاد مظهر رحمته الواسعة
يستفاد من بعض الآيات انّ حشر الناس يوم القيامة من مظاهر رحمته سبحانه وانّه التزم على نفسه أن ينظر إلى العباد بعين الرحمة ولذلك حشرهم يوم القيامة ، قال سبحانه :( قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل للهِ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ ). (43)
تجد انّه سبحانه يردف قوله : ( كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) بقوله :
( لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) مشعراً بأنّ جمع الناس يوم القيامة من مظاهر رحمته.
وثمة سؤال وهو انّه كيف يكون حشر الناس من مظاهر رحمته مع أنّ الكفّار والمنافقين معذّبون في الدرك الأسفل من النّار ؟
والإجابة عنها واضحة.
إذ انّ الهدف من وراء البعث والنشور إيصال كلّ ممكن إلى كماله المطلوب ، ونيل الرحمة الإلهية وهو غاية طبيعية للحشر ، فلو تخلّف الكافر عن نيل ذلك الكمال والرحمة فلا يضرّ بالهدف المتوخّى من البعث.
وهذا نظير الامتحان ، فانّ الغاية منه إظهار ما في كنه الممتَحن من الكمال على نحو لولاه لما ظهر ، فمثلاً ابتلاء إبراهيم بذبح إسماعيل كان سبباً لظهور الكمالات الكامنة فيه كالاخلاص لله.
وعلى ضوء هذا فانّ رسوب شخص لا يضرّ بالغاية المتوخاة منه ، مادام التقصير يعود إلى الراسب لا غير.
ونظيره المقام ، فالغرض من خلق الإنسان وبعثه شيء واحد ، وهو إيصاله إلى الكمال المطلوب ، فلو قصر الكافر فيكون هو المسؤول في ذلك المجال فحسب.
5. المعاد نهاية السير التكاملي للإنسان
قالت الحكماء : إنّ الحركة تتوقف علىٰ أُمور ستة :1. المقولة ، أي ما يقع فيه الحركة كالكيف.
2. العلّة الفاعلية التي يعبر عنها بالمحرّك.
3. العلّة المادية التي تقبل الحركة.
4. الزمان أي مقدار الحركة.
5. المبدأ.
6. المنتهىٰ ( العلّة الغائية ).
فهذه الأُمور ممّا لا تنفك عن الحركة ومنها الغاية التي تتحرك المقولة إليها وتسكن عندها ، والإنسان منذ نشوئه في رحم أُمّه لم يزل متحركاً من صورة إلىٰ صورة ومن حالة إلىٰ حالة ، وتستمرّ الحركة معه حتىٰ بعد ولادته فلا تزال تتوارد عليه الصور ، فلا ترىٰ له قراراً وثباتاً مادام في عالم الطبيعة.
وحيث إنّ الغاية من لوازم الحركة فيجب أن تكون لحركة الإنسان غاية تُعد الكمال المطلوب لحركته ، وهذه الغاية غير متحققة في عالم الطبيعة بل في الآخرة ليصل المتحرك إلى كماله المطلوب.
وهذا البرهان الفلسفي يثبت وجود النشأة الأُخرىٰ التي تعد غاية وهدفاً لحركة الإنسان من النقص إلى الكمال.
ويمكن استظهار ذلك البرهان من طوائف من الآيات :
1. الآيات التي تتكفل لبيان المراحل التي مرّت على خلقة الإنسان وانتهت إلى بعثه يوم القيامة.
قال سبحانه : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ). (44)
فالمراحل التي مرّت على الإنسان منذ أن كان خلية في رحم أُمّه إلى أن صار بشراً سوياً تحكي عن عدم ثباته وقراره وحركته وتحوله المرافق لعدم تحقق الغاية وإنّما يستقر بانتقاله من هذه النشأة إلى نشأة أُخرى وبعثه يوم القيامة.
فالآيات الآنفة الذكر إلى قوله : ( ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ ) تُبيّن حركة الإنسان وتحوله المستمر ، وقوله : ( ثُمَّ إِنَّكُم ... ) تبيّن حصول الغاية التي تلازم قراره وثباته واستقراره.
2. الآيات التي تتكفّل لبيان خلق الإنسان من نطفة ثمّ يحكم عليه بالنشأة الأُخرى إيماء إلى ذلك البرهان ، قال سبحانه : ( وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَىٰ * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَىٰ ). (45)
وكأنّ النشأة الأُخرى غاية لحركة الإنسان من الصورة المنوية إلى الصورة الإنسانية.
3. الآيات التي تصف يوم القيامة بأنّه المنتهىٰ والمستقر والمساق والرجعىٰ ودار القرار.
قال سبحانه : ( وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَىٰ * وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ المُنتَهَىٰ ). (46)
وقال سبحانه : ( إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ ). (47)
وقال سبحانه : ( إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المَسَاقُ ). (48)
وقال تعالى : ( إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ ). (49)
وقال عزّ من قائل : ( إِنَّمَا هَٰذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ) (50).
وكأنّ وجود الإنسان في خِضمِّ بحر متلاطم تسوقه الأمواج العاتية من جانب إلى آخر فلم يزل في حركة وسيلان وتصرم حتى انتقاله إلى النشأة الأُخرى ، فعندئذ يصل إلىٰ غايته المنشودة وتكون منتهىٰ حركته واستقرار ذاته ووجوده ونهاية سيره إلىٰ ربّه.
وفي كلمات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمحات إلى هذا البرهان لمن تأمل فيها وأمعن النظر ، قال : « وإنّ الخلق لا مقصر لهم عن القيامة ، مرقلين في مضمارها إلى الغاية القصوى ». (51)
وقد اعتمد علىٰ ذلك البرهان صدرالمتألهين وقرره بوجه واضح وقال :
الآيات التي فيها ذكرت النطفة وأطوارها الكمالية وتقلّباتها من صورة أنقص إلىٰ صورة أكمل ومن حال أدون إلىٰ حال أعلىٰ ، فالغرض من ذكرها إثبات انّ لهذه الأطوار والتحوّلات غاية أخيرة ، فللإنسان توجه طبيعي نحو الكمال ودين إلهي فطري في التقرب إلى المبدأ الفعال ، والكمال اللائق بحال الإنسان المخلوق أوّلاً من هذه المواد الطبيعية ، والأركان لا يوجد في هذا العالم الأدنىٰ ، بل في عالم الآخرة التي إليها الرجعى وفيها الغاية والمنتهى ، فبالضرورة إذا استوفى الإنسان جميع المراتب الخلقية الواقعة في حدود حركته الجوهرية الفطرية من الجمادية والنباتية والحيوانية وبلغ أشدّه الصوري وتمّ وجوده الدنيوي الحيواني فلابدّ أن يتوجّه نحو النشأة الآخرة ، ويخرج من القوة إلى الفعل ، ومن الدنيا إلى الأُخرى ، ثمّ المولىٰ وهو غاية الغايات منتهى الأشواق والحركات. (52)
6. المعاد ، مظهر ربوبيته
الربّ في اللغة بمعنى الصاحب ، يقال : « ربّ الدار » و « رب الضيعة » وشأن الرب هو تدبير المربوب وإيصاله إلى الكمال وصيانته عن الزوال كما هو حال صاحب الدار والضيعة ، وبذلك يعلم انّ الربوبية غير الخالقية ، فالثانية هي مرحلة الإيجاد والإنشاء ، وأمّا الأُولى فهي مرحلة المحافظة على المُنشأ وتربيته وسوقه إلى الكمال.وحيث إنّ حقيقة الربوبية والمربوبية في الإنسان تتجلّىٰ في كونه عبداً لله تبارك وتعالىٰ ، وشأن العبد هو الإطاعة بما أمر ونهىٰ عنه والتجنّب عن معصيته ومخالفته ، ولا ينفك ذلك عن يوم يحاسب فيه العبد حتى يتجلّى مدىٰ إطاعته وامتثاله ، ولذلك نرى أنّه سبحانه حينما يخبر عن لقاء الإنسان يوم القيامة يؤكد علىٰ ربوبيته ويقول : ( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ ) (53)
فكأنّ مقتضى الربوبية مثول العبد أمام الله تبارك وتعالى في يوم يحاسب فيجزى حسب ما عمل ، وقال سبحانه : ( وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ). (54)
فكأنّ منكر المعاد يكفر بربوبية الله تبارك وتعالى ولو أذعن بها لما أنكر المعاد ، إذ هو اليوم الذي يحشر فيه جميع العباد للسؤال بمقتضى الربوبية.
الدوافع والشبهات لإنكار المعاد إنّ الإيمان بالمعاد كالتوحيد أصلان لا ينفكان ، وقد أُمر الأنبياء بتبليغهما وتعليمهما للناس ليؤمنوا بأنّ الربَّ واحد وانّ الله يبعث من في القبور.
وقد كان الإيمان بالمعاد شديد الوقع علىٰ أكثر الناس في العهود السابقة لا سيما في العهد النبوي فراحوا ينكرونه بشدة ، ودفعهم إلى ذلك أمران :
الأمر الأوّل : الدوافع النفسية التي تدفعهم إلى إنكار المعاد وعدم قبوله.
الأمر الثاني : الشبهات الطارئة على أذهانهم.
المصادر :
1- المؤمنون : 115.
2- المؤمنون : 116.
3- ص : 27.
4- الجاثية : 24.
5- الدخان : 38 ـ 40.
6- النبأ : 1 ـ 5.
7- النبأ : 6 ـ 16.
8- النبأ : 17 ـ 18.
9- الحج : 6.
10- الحج : 7.
11- الحج : 62.
12- الحج : 66.
13- لقمان : 28.
14- لقمان : 30.
15- لقمان : 33.
16- آل عمران : 190 ـ 191.
17- و نهج البلاغة : الخطبة 156.
18- نهج البلاغة : الخطبة 156.
19- 3 نهج البلاغة : قسم الخطب ، الخطبة 190.
20- نهج البلاغة : قسم الرسائل ، الرسالة 31.
21- آل عمران : 18.
22- يونس : 44.
23- فصلت : 46.
24- لاحظ كشف المراد : 59 .
25- ص : 28.
26- القلم : 35 ـ 36.
27- الجاثية : 21.
28- يونس : 4.
29- إبراهيم : 48 ـ 51.
30- سبأ : 3 ـ 5.
31- طه : 15.
32- الزلزلة : 6.
33- نهج البلاغة : الخطبة102.
34- نهج البلاغة : الخطبة 109.
35- الأنبياء : 104.
36- الزخرف : 83.
37- ق : 31 ـ 32.
38- الحجر : 43.
39- هود : 17.
40- آل عمران : 9.
41- آل عمران : 194.
42- كشف المراد : المقصد السادس ، المسألة الرابعة.
43- الأنعام : 12.
44- المؤمنون : 12 ـ 16.
45- النجم : 45 ـ 47.
46- النجم : 39 ـ 42.
47- القيامة : 12.
48- القيامة : 30.
49- العلق : 8.
50- غافر : 39.
51- نهج البلاغة : الخطبة 156.
52- الأسفار : 9 / 159.
53- الانشقاق : 6.
54- الرعد : 5.