
إنّ بعض الفقهاء وحين بحثهم عن الشهادة الثالثة قد خلطوا بين النصوص الأذانية والنصوص الإيمانية الواردة في علي بن أبي طالب في الإسراء والمعراج والأدعية وتقارن ذكر الولاية مع ذكر النبّوة في كلّ الشريعة.
فلو أراد الفقيه الاستدلال على الجزئية الواجبة لما أمكنه التمسك بهذه الأدلة الإيمانية وحدها ، بل عليه أن يأتي بنصّ خاص قد ورد في الأذان ، وأمّا الذي يريد الإشارة إلى محبوبيّتها والتأكيد على رجحانها النفسيّ فيمكنه الاستدلال بذلك من باب وحدة الملاك وبقصد القربة المطلقه.
وکذلک فان الإشارة إلى حقيقة الأمر المركّب وأنّه يتألف من أجزاء متعدّدة ، والجزء فيه لا يخلو من وجهين :
1 ـ إما أن يكون جزءا واجبا ، ويسمّى بـ « جزء الماهية ».
2 ـ وإما أن يكون جزءا مستحبّا ، ويسمى بـ ( جزء الكمال أو الفرد ) وقد عبرنا عنها بالجزئية تسامحا.
والجزء الواجب هو ما يُقوّم ماهية المُركّب ولا يتحقّق المركَّبُ بدونه ، بمعنى أنّ أمر الشارع يتعلّق بالمركّب دون الأجزاء ، لأن الجزئية من الأحكام الوضعيّة لا التكليفية ، وهي من الأمور غير القابلة للجعل (1) ، فالنزاع فيها لم يكن لفظيّا حتّى يمكن تصحيحه ، وعليه فالأمر يتعلّق بالكلِّ بما هو كلٌّ ، فمثلاً الحجُّ مؤلّفٌ من الإحرام ، والطواف ، والسعي ، والوقوف بعرفات ، ورمي الجمار و ...
ولا يتحقّق الحجُّ إلاّ بإتيان جميع هذه الأجزاء ، ولا يمكن التخلّي عن بعضها ، فلو نقصَ واحدة من هذه الأجزاء عُدَّ حجّه باطلاً.
وأمّا الجزء المستحبّ فهو الجزء غير الضروري بل الكمالي فيه ، فلو فعله المكلّف لكان منه فضيلة ، ولو تركه فهذا لا يوجب الإخلال بأصل العمل.
مثاله : القنوت ، فهو مستحبُّ سواء في الصلاة أو في غيرها ، وكذا الاستغفار فهو مستحب سواء في الصلاة أو في غيرها ، وقد ورد استحبابه بعد التسبيحات في الركعتين الثالثة والرابعة ، فإنّ الإتيان به فضيلة ، لكن تركه لا يضرّ بالصلاة. بل كلُّ ما في الأمر هو عدم حصوله على الثواب الكامل المرجوّ من عبادته ، ومن هذا القبيل قوله صلی الله عليه وآله وسلم : لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد (2).
ولا تختلف الجزئية الواجبة بين أن تكون ضمن الصلاة الواجبة أو الصلاة المستحبة ، فمثلاً : الركوع هو جزء واجب في الصلاة سواء كانت الصلاة واجبة أو مستحبة ، أي أنّ المكلّف لو لم يأت بالركوع فصلاته باطلة ، سواء كانت الصلاة واجبة أم مستحبة ، وهكذا الحال بالنسبة إلى الطواف ، فهو جزء واجب في الحج سواء للعمرة المفردة أو لحجّة الإسلام.
والآن لنأتي إلى موضوع الشهادة الثالثة ، فالبعض يرى استحباب الإتيان بها لأ نّها شرط الايمان ، أو أنّه مستحب ضمن مستحب ، والآخر يرى جزئيَّتها ضمن الأذان والإقامة.
والذين يرون جزئيتها ، البعض منهم يرى جزئيتها الواجبة والاخر يرى جزئيتها المستحبّة ، بمعنى أنّ الذين يرون جزئيتها الواجبة يعتقدون بأنّ الشهادة بالولاية في الأذان والإقامة هي من الاجزاء المقوّمة للماهية وبدونه لا يتحقّق الأذان ، أي أنّ الدليل على شرعيّة الأذان حينما صدر عن الشارع كان متضمّنا للشهادة الثالثة ، فلا يمكن أن يتحقق الأذان بدونها ، وهذا هو رأي نزر قليل من علمائنا.
أمّا القائلون بجزئيتها الندبيّة ـ أي ما يتحقق به الكمال ـ وهم الأكثر بين فقهائنا ، فيرونها كالقنوت في الصلاة.
وهناك من يرى حرمة أو كراهة الاتيان بها حسب تفصيل قالوا به.
وإليك الآن الأقـوال المطروحة فيها ، ثمّ بيان ما نريد قوله بهذا الصدد ، والأقوال في المسألة ، هي :
1 ـ إنّ الشهادة الثالثة هي شرط الإيمان لا جزء الأذان ؛ لكونها مستحبّا نفسيا وعملاً راجحا بالأصالة ، وهو عمل حسن لا يختص بالأذان فحسب ، بل هو ما يجب الاعتقاد به قلبا ، فالمسلم يمكنه أن يأتي بالشهادة الثالثة على أمل الحصول على الثواب المرجوّ من إعلانها ، بقصد القربة ، لا بعنوان الجزئية الواجبة أو الاستحبابية ، بل إعلاما لما يعتقد به قلبا من الولاية لعلي وأبنائه المعصومين.
فإذا كان كذلك فليكن واضحا صريحا معلنا في الأذان ، وذلك للعمومات الكثيرة الواردة في القرآن الحكيم ، كقوله تعالى : ( أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلي الاْءَمْرِ مِنْكُمْ ) وقوله : ( فَأنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) وقوله : ( مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرْى ، فَلِلَّهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُربَى ) ، والاحاديث النبوية المتواترة في علي وما جاء عن المعصومين ، ومنها ما جاء في رواية القاسم بن معاو ية عن الصادق عليه السلام ؛ « إذا قال أحدكم لا إله إلاّ اللّه ، محمد رسول اللّه ، فليقل : عليّ امير المؤمنين [ ولي اللّه ] » (3).
وهذا هو الرأي المشهور عند أصحابنا رضوان اللّه تعالى عليهم.
قال العلاّمة بحر العلوم :
وصورةُ الأذان والإقامه *** هذا الشِّعار رافعا أعلامه
أو سنّة ليس من الفصولِ *** وإن يكن من أعظم الأُصولِ
وأكمل الشهادتين بالتي *** قد أكمل الدين بها في الملّةِ
وإنها مثل الصلاة خارجه *** عن الخصوص بالعموم والِجَه
2 ـ إن الشهادة الثالثة هي شطر الأذان وجزء منه كسائر الأجزاء ، يجب الإتيان بها ، وإن تَرَكَها أخلّ بالأذان ، فلا يتحقّق الأذان بدونها ، وبهذا تكون جزءا واجبا لابدّ من الإتيان به حتّى يتحقّق الأذان.
وقد اراد الشيخ عبدالنبي النجفي العراقي الذهاب إلى هذا الراي في رسالته المسماة « الهداية في كون الشهادة بالولاية في الأذان والاقامة جزء كسائر الاجزاء » لكنه لم يجرا وقال بكلام هو أقل من ذلك ، وهو قريب من كلام صاحب الجواهر ، لكن السيد محمد الشيرازي في كتابه « الفقه » (4) ورسالته العملية قال بالجزئية.
قال العراقي ـ ملخّصا رأيه في آخر رسالته ، غير مفتٍ بالجزئية الواجبة ـ قال : فإنّ مقتضى القاعدة الأوّليّة وجوب الشهادة فيهما [ أي الأذان والإقامة ] كما فصّلنا ، لكنّ دعوى الشهرة على الخلاف يمنعنا عن القول بالوجوب ، فلابدّ أن نقول بها وأنّه مشروع فيهما بنحو الجزئية الندبية دون الاستحباب النفسيّ أيضا فضلاً عن الطريقي ، لعدم مقاومة الأدلّة معه (5).
وكان قد قال قبل ذلك :
وعليه ، لولا دعوى تسالم [ صاحب ] الجواهر من شهرتهم على عدم كونها من الأجزاء الواجبة فيهما ، لكنّا نقول بها فيهما ، على النحو الذي نقول بها في غيرها من الجزئية الواجبة ، لأنّ وزان أدلّتها يكون وزان أدلّة سائر الأجزاء ، فدلالتها على أصل المشروعية للشهادة بالولاية بعد الرسالة فيهما ممّا لا غبار فيه ، غايةُ الأمر ادُّعي ـ كما عن الجواهر ـ قيام الشهرة المنقولة على عدم كونها من الأجزاء الواجبة (6) ، فلو تمَّ حينئذ فتكون من الأجزاء المستحبة ، إذ هو مقتضى الجمع بين الدليلين ... (7).
3 ـ إن الشهادة الثالثة جزءٌ مستحبٌّ في الأذان ، كالقنوت في الصلاة ، والسلام على النبيّ في الصلاة ، وما يماثلها من أحكام عبادية ، وهي أُمور يستحبّ الإتيان بها ، كما لا ضير في تركها.
وقد ذهب كثير من فقهائنا ومحدّثينا إلى هذا القول كالشيخ المجلسي (8) ، وصاحب الجواهر (9) ، وصاحب الحدائق (10) ، وغيرهم.
4 ـ إن الشـهادة الثالثة يؤتى بها من باب : الاحتياط ، لأ نّه طريق النجاة ، وهو حسنٌ في كلّ الأحوال ، أي أنّ رجحانها عندهم طريقيُّ وليس بنفسي ، ولذا تراهم يجوّزون الإتيان بها احتياطا لا باعتبارها جزءا من الأذان ، وذلك لقوّة أدلة الشطريّة عندهم وعدم وصولها إلى حدٍّ يمكنهم طبقَها الإفتاء بالجزئية ، فيأتون بها احتياطا.
وقد قال الشيخ عبدالنبي العراقي ـ في رسالته آنفة الذكر ـ عنهم : وهم الأكثرون بالنسبة إلى القائلين بالشطرية الواجبة ، والأقلّون بالنسبة للقائلين بالجزئية الاستحبابية (11) ، قال بهذا ولم يذكر أسماءهم.
5 ـ وهناك رأي خامس يدّعي أنّ الإتيان بالشهادة الثالثة هو عمل مكروه ، وذلك لعدم ثبوت النصوص الدالّة على الشهادة الثالثة عنده ، هذا من جهة ، ومن جهة أُخرى يعتقد بأنّ الكلامَ في الأذان غير جائز ، وبذلك تدخل الشهادة الثالثة عنده في باب التكلّم المنهيّ عنه (12) ، قال الوحيد البهبهاني في «حاشية المدارك» : ومما ذكرنا ظهر حال « محمد وآله خير البرية » و « أشهد أن عليّا ولي اللّه » بأنهما حرامان بقصد الدخول والجزئية للأذان ، لا بمجرد الفعل.
نعم ، توظيف الفعل في أثناء الأذان ربّما يكون مكروها ، لكونه مغيرا لهيئة الأذان بحسب ظاهر اللفظ ، أو لكونه كلاما فيه ، أو للتشبّه بالمفوضة ، إلاّ أنّه ورد في العمومات : أنه متى ذكرتم محمدا فاذكروا آله أو متى قلتم : محمد رسول اللّه فقولوا : علي ولي اللّه ، كما رواه في الاحتجاج ... (13) ، مع العلم بأنّ الكثير من الفقهاء قد أجازوا الكلام في الأذان. وحتى في الإقامة.
وقد ذهب إلى هذا الرأي الفيض الكاشاني في كتابه « مفاتيح الشرائع » فقال : وكذا غير ذلك من الكلام وإن كان حقّا ؛ بل كان من أحكام الإيمان ، لأنّ ذلك كلّه مخالف للسنّة ، فإِنِ اعتقده شرعا فهو حرام (14) ، ومال إليه آخرون.
6 ـ القول برجحان الشهادة الثالثة ، لأ نّها صارت شعارا للشيعة.
وهذا ما قاله السيّد الحكيم (15) والسيّد الخوئي (16) وآخرون
وهناك ثلاثة آراء أُخرى تدّعي الحرمة ، ذكرت كل واحدة منها ببيان وتعليل خاص به.
7 ـ فقال البعض بحرمة الإتيان بها ، لعدم ورودها في النصوص الشرعية عن المعصومين ، فيكون الإتيان بها بدعة ، لأ نّه إدخال ما ليس من الدين في الدين ، إذ أنّ الأذانَ أمرٌ توقيفيّ ، وحيث لم تثبت هذه الجملة فيما جاء عن الأ ئمّة في الأذان فيجب تركها.
وقد ادّعى الشيخ الصدوق قدسسره بأن هذه الزيادة هي من وضع المفوِّضة لعنهم اللّه ، ومعنى كلامه : أنّ قول « محمد وآل محمد خير البرية » ، و « أنّ عليّا أمير المؤمنين » ، ليس من أجزاء الأذان والإقامة الواجبة ولا المستحبّة (17) ، في حين ستقف لاحقا على أنّ بعض الشيعة كانوا يؤذّنون بهذا الأذان في عهد الرسول ، والأئمّة ، وقبل ولادة الصدوق ; لمحبوبيتها وللحدّ من أهداف الحكام .
هذا ، وقد مال إلى هذا الرأي المحقّق السبزواري في «ذخيرة المعاد» (18) ، والشهيد الثاني في «روض الجنان» (19) وغيرهما (20).
8 ـ ومنهم من ذهب إلى حرمتها ، لتوهمّ الجاهل بأنّها جزء ، وذلك لإصرار المؤذّنين على الإتيان بها على المآذن ، وعدم تركهم لها لمرّة واحدة ؛ فإنّ هذا ياسين في حاشيته على رسالة الصدر الكاظمي : 35 ،
الإصرار من المؤذنين يوهم الجاهلين بأنّها جزء من الأذان ، فيجب تركه حتّى لا يقع الجاهل في مثل هكذا توهّم.
وقد أشار الوحيد البهبهاني إلى هذا الراي في شرح مفاتيحه (21) ، ورَدَّهُ.
لأن توهمُّ الجزئيّة لا يوجب الحرمة ، لأنَّ التوهمُّ إما أن يكون من قِبَلَ الجاهل أو من قبل العالم؟ وتصوّر وقوع التوهّم من قِبَلِ العالِم بعيد جدّا ، فطالما أكَّد العلماء في مؤلّفاتهم وصرّحوا بأقوالهم بأنَّ الشهادة الثالثة ليست جزءا مِنَ الأذان ودعموا أقوالهم بالأدلّة.
وأمّا توهّم الجاهل فقد جزم الوحيد البهبهاني بأ نّه ليس من وظيفة العلماء رفع هذا التوهّم عنهم (22) ، لان الجهال قد فوّتوا كثيرا من الأُمور عليهم لجهلهم وقصور فهمهم ، وما على العالم إلاّ البلاغ وبيان الأمور ، وعلى المكلّف أن يسعى لتعلّم أحكام دينه ، وإلاَّ فسيكون مقصِّرا ، وبذلك يكون هو المدان أمام حكم اللّه لا العالم.
وأيُّ توهّم يمكن تصوّره مع وقوفنا على الصيغ المختلفة لهذه الشهادة : « أشهد أنَّ عليّا وليُّ اللّه » ، « أشهد أنَّ عليّا أمير المؤمنين وأولاده المعصومين حجج اللّه » ، ( أشهد أن عليا حجة اللّه ) ، و ( أشهد أن عليا أمير المؤمنين ولي اللّه ) عند الاصحاب.
كل هذه الصيغ تُظهر بأنّها ليست جزءا من الأذان ، وقد أشار الشيخ الصدوق ; إلى بعضها إذ قال : أنَّ البعض يقول : « أشهد أنَّ عليّا وليُّ اللّه » ، والبعض الآخر يقول : « أشهد أنّ محمّدا خير البريَّة » وثالث : « محمد وآل محمد خبر البرية مرتين ، وفي بعض رواياتهم بعد أشهد ان محمدا رسول اللّه أشهد أن عليا ولي اللّه مرتين ، ومنهم من روى بدل ذلك : أشهد ان عليا أمير المؤمنين حقا مرتين » وحكى السيّد المرتضى بأن هناك من يقول « محمد وعلي خير البشر » وكلُّ هذا يدلّ على أنّه لم يُؤتَ بالشهادة الثالثة بعنوان أنّها جزء من الأذان ، بل يؤتى بها على أنّها عمل محبوب وذكر فيه فضيلة عامّة وهي من شروط الإيمان.
9 ـ وهناك من يقول بحرمتها أو كراهتها (23) ، لأجل فوت الموالاة بين فصول الأذان ، وبذلك تكون حرمتها أمرا وضعيا وهي بطلان الأذان بها ، لأنّ الّذي أَتى بالشهادة الثالثة فقد فوَّت الموالاة بزعمهم من جهتين :
من جهة فوت شرطية الاتّصال ـ بين محمد رسول اللّه ، وبين حيّ على الصلاة.
ومن جهةِ حصول المانع بعدَ فوت الموالاة من جهة مانعيّة الانفصال.
ولو دقّقنا النظر بهذا الأمر لوجدنا أن ليس ثمّة علاقة له بالموالاة ، وقد ذهب صاحب المستند وآخرون إلى عدم لزوم الموالاة في الأذان (24) ، وقالوا بجواز التكلّم في الأذان ، بل جوّزوا فيه حتّى الكلام الباطل ، فكيف والحال هذه إذا كان التكلم أثناء الأذان بكلامٍ محبوب وله رجحان ذاتيُّ وبالأصالة ، ألا وهو الشهادة بالولاية لعلي بن أبي طالب.
فإذا كان الكلام العاديّ جائزا وغير مخلٍّ بالأذان ، فهل يعقل أن يكون التشهد بالولاية كلاما مخلاً وغير جائز فيه.
إن فوت الموالاة ليس بمخل بالأذان ، لأنّ العامّة لا تعتقد بإخلال جملة : « الصلاة خير من النوم » بالموالاة ، وكذلك جمهور الشيعة فانها لا تعتقد أنّ الشهادة بالولاية مخلة ، وهي عندهم ـ مع الفارق ـ نظير ما فعله أمير المؤمنين مع ذلك السائل واعطاءه خاتمه وهو في الصلاة.
فإذا كان اعطاء الصدقة لا يخل بالصلاة الواجبة ، فكيف يخل الإتيان بالشهادة الثالثة في الأذان المستحب؟
وزبدة القول : لمَّا لم يكن في البين ثمّة كلام باطل مضاف ، فإنَّ الأذان سوف لا يخرج عن صيغته السليمة ، وهو نحو مشي المتوضّئ عدّة أقدام ثم مسحه على قدميه ، وهذا لا يُّعد إخلالاً بالموالاة في الوضوء عند المتشرِّعة يقينا.
وبهذا فقد وقفنا على أهمّ الأقوال وأشهرها وإليك الآن قولاً آخر يمكن إضافته إلى الأقوال السابقة ، وهو :
10 ـ من المعلوم شرعا أنّ الامور المستحبّة أو المباحة هي مما يجوز تركها ، لكن قد تحرم في بعض الأحيان ، وقد تجب في حالات أُخرى ، فمثلاً شرب الماء مباحٌ ، ولكنه قد يجب عند العطش الشديد والخوف من الهلاك ، وقد يحرم عند نهي الطبيب من شربه.
والأمر المستحبّ مثل ذلك ، فقد يحرم الاتيان به إذا استلزم الضرر البالغ ، وقد يجب الإصرار عليه لو رأينا الاخرين يريدون محوه ، وقد يجب الاتيان به من باب الشعارية كما هو ديدن الفقهاء فيما لو دعت إليه المصلحة الشرعية القطعية أو دفع المفسدة القطعية ، ولا شك في أن الشهادة بالولاية لعلي من هذا القبيل اليوم.
لأنّ ذكر الإمام علي وآل بيته الأطهار محبوبٌّ على كلّ حال ـ وبشكل مطلق ـ لكن من دون قصد التشريع ، مؤكّدين بأنّ جزمنا بمحبوبيتها في كل حال لا يلزمنا القول بتشريعها أو أنّها أحد أجزاء الأذان ، نعم قد يمكن القول بمطلوبيتها والاصرار عليها في الازمنة المتأخرة ، وذلك لارتفاع التقيّة ـ إلى حد ما ـ ولأ نّها صارت شعارا لمذهب الحق ، يبيّن فيه الشيعي إيمانه باللّه واقراره بنبوة رسول اللّه ، ومكانة الإمام علي.
ويشتد ضرورة توضيح هذا الأمر خصوصا بعد أن اتّهمونا خصومنا ونسبوا إلينا الكثير من الاكاذيب ؛ « كقولنا بأُلوهيّة الإمام عليّ » ، أو « اعتقادنا بخيانة الأمين جبرئيل ، بدعوى ان اللّه بعث جبرئيل إلى عليّ فغلط ونزل على النبيّ محمّد » ، وغيرهما ، فكلّ هذه الأكاذيب تدعونا لأن نجهر بأصواتنا : « أشهد أن لا إله إلاّ اللّه » نافين بذلك كوننا من الغلاة القائلين بأُلوهيّة الإمام علي ، بل نحن نوحّد اللّه ونعبده. وكذا يجب علينا أن نقول : « أشهد أن محمدا رسول اللّه » التزاما بالشرع ، واعلانا باتباعنا للنبي صلی الله عليه وآله وسلم واوامره ونواهيه ولكي ننفي ما افتروه علينا من مقولة « خان الامين ».
وبعد كل ذلك علينا الجهر ومن على المآذن والمنابر وفي كلّ اعلان ب : « أشهد أن عليّا ولي اللّه » دفعا لاتّهامات المتَّهِمين وافتراءات المفتَرِين ، وإن عليّا واولاده المعصومون عندنا ما هم إلاّ حجج رب العالمين على عباده أجمعين ـ مؤكدين من خلال رسائل فقهائنا العظام ـ بأن ما نشهد به ليس جزءً داخلاً في الأذان ، بل هو شعار نتخذه لبيان توحيدنا للّه رب العالمين ، والإشادة برسوله الأمين محمد ، وأنّ عليّا واولاده المعصومين عبيداللّه واوليائه وحججه على عباده.
نقول بذلك إعلاءً لذكرهم ، الذي جدّ القوم لاخماده هذا من جهة. ومن جهة أُخرى قد يمكننا أن نعدّ ترك الشهادة الثالثة حراما اليوم ، وذلك مقارنة بأُمور مستحبّة أُخرى ، لأ نّا قلنا قبل قليل بأن بعض الأُمور المباحة والمستحبّة قد تصير واجبة أو محرّمة بالعنوان الثانوي ، كأن نرى البعض يؤكّد على إبعاد سنّة ثابتة (كما في قول الأئمة : «ليس منّا من لم يؤمن بالمتعة» ، مع أنّها مستحبة ، لكن محاولة اعداء أهل البيت تحريمها ، جعل الاعتقاد باستحبائها أو جوازها واجبا.) أو يُحرّم امرا مباحا ، فيجب على المسلم أن يحافظ على هذه السنة وأن يصر على الاتيان بها ، وقد يصير في بعض الاحيان ذلك الأمر المستحب أو المباح واجبا بالعنوان الثانوي.
ومن الأمثلة على ذلك ما رواه الفريقان سنة وشيعة عن أمير المؤمنين علي أنّه رأى ضرورة شرعية لأن يشرب الماء واقفا في رحبة مسجد الكوفة (25) ؛ دفعا لتوهم كثير من المسلمين حرمة الشرب واقفا ، وكذلك من هذا القبيل ما ورد عن بعض المعصومين : أنّه شرب الماء أثناء الطعام مع أنّه منهي (26) عنه ؛ دفعا لتوهم حرمة شرب الماء أثناء الطعام ، ومن هذا القبيل أيضا ترك النبي صلی الله عليه وآله وسلم لنوافل بعض أيام شهر رمضان (27) خوفا على الأمة من الوقوع فيما هو عسير.
وكذا الحال بالنسبة إلى ترك المستحبّ ، فقد يكون حراما في بعض الحالات ، فمثلاً الكلّ يعلم بأن بناء المساجد ليس واجبا ، وكذا الصلاة فيها ، أمّا تخريبها وعدم الصلاة فيها فهي محرمة يقينا لقوله تعالى ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ) (28) ، ومثلها البناء على المشاهد المشرِّفة فهي ليست بواجبة أما تهديم القبور فهي حرام قطعا ، لأن في ذلك توهينا واضعافا للعقيدة والمذهب ، وهكذا الحال بالنسبة للأمور المستحبّة الأُخرى ، والتي يسعى الخصم لمحوها ، فينبغي الحفاظ عليها ، وقد أكدّ الفقهاء على لزوم المحافظة على الأُمور المباحة ، التي حُرِّمت من قبل الآخرين ، كلّ ذلك إصرارا وثباتا على الحكم الإلهي.
فلو كان هذا في الأمر المباح ، فكيف بالأمر المحبوب في نفسه الذي أكدّ عليه الشرع وجاءت به الأدلّة الكثيرة التي ستقف عليها لاحقا.
کان هذا هو عرض لهذه الأقوال ليکون هناک تصور لمبحث الشهادة الثالثة .
المصادر :
1- فوائد الأصول تقريرات المرحوم النائيني بقلم الشيخ محمد علي الكاظمي 4 : 380 ـ 402 .
2- سنن الدارقطني 1 : 419 / ح 1 / باب الحث لجار المسجد على الصلاة فيه ، و 1 : 420 / ح 2 ، مستدرك الحاكم 1 : 373 / ح 898 ، وانظر قرب الاسناد : 145 / ح 522.
3- الاحتجاج 2 : 230 ، وبحار الأنوار 81 : 112 ، انظر بحار الانوار 27 : 1 و 2.
4- الفقه 19 : 331 ـ 335.
5- الهداية ، للعراقي : 49.
6- جواهر الكلام 9 : 87.
7- الهداية ، للعراقي : 46.
8- بحار الأنوار 81 : 111.
9- جواهر الكلام 9 : 87.
10- الحدائق الناضرة 7 : 404.
11- الهداية ، للعراقي : 10.
12- مستند الشيعة 4 : 487.
13- حاشية المدارك 2 : 410 طبعة مؤسسة آل البيت :.
14- مفاتيح الشرائع 1 : 118 / المفتاح 35 ، باب ما يكره في الأذان والإقامة.
15- مستمسك العروة 5 : 544. وسنشرح كلامه في آخر الكتاب «الشعارية».
16- كتاب الصلاة 2 : 287 ، مستند العروة الوثقى 13 : 259 ـ 260.
17- مستند الشيعة 4 : 486.
18- ذخيرة المعاد 2 : 254.
19- روض الجنان : 242.
20- كالشيخ جعفر كاشف الغطاء في كشف الغطاء 3 : 145 ، والعلاّمة في نهاية الاحكام 1 : 412.
21- مصابيح الظلام في شرح مفاتيح الشرائع ، للوحيد البهبهاني 7 : 33.
22- مصابيح الظلام 7 : 34.
23- الحاشية على مدارك الاحكام 2 : 410 ، وانظر المستند ، للنراقي 4 : 486.
24- مستند الشيعة 4 : 486.
25- سنن النسائي (المجتبى) 1 : 69 / باب عدد غسل اليدين / ح 95 ، مصنف عبدالرزاق1 : 38 ـ 40 / ح 122 / ح 123.
26- الكافي 6 : 382 / باب آخر في فضل الماء من كتاب الاشربة / ح 4 ، وعنه في وسائل الشيعة 25 : 236 / ح 31781.
27- صحيح البخاري 1 : 313 / ب 7 / ح 882 ، و 2:707/ح 1908 صحيح مسلم 1:524 / باب الترغيب في قيام شهر رمضان / ح 761 ، سنن أبي داود 2:49/ح 1373.
28- البقرة : 114.
/ج