
أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبدالله، قال: كنّا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأقبل علي عليه السلام ، فقال النبي: «والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة»، ونزلت: (إنّ الذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصالحاتِ أولئكَ هُم خَيرُ البَريّةِ)(1).
وأخرج ابن عدي عن ابن عباس، قال: لما نزلت (إنّ الذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصالِحات) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيّين».
ومن الغني عن البيان أنّه لو كان مراد صاحب الرسالة من شيعة عليّ عليه السلام مَن يحبه أو لا يبغضه ـ بحيث ينطبق على أكثر المسلمين كما تخيّله بعض القاصرين ـ لم يستقم التعبير بلفظ (شيعة)، فإنّ صرف محبة شخص لآخر أو عدم بغضه لا يكفي في كونه شيعة له، بل لا بُدَّ هناك من خصوصيّة زائدة وهي الاقتداء والمتابعة له، بل ومع الالتزام بالمتابعة أيضاً. وهذا يعرفه كل من له أدنى ذوق في مجاري استعمال الاَلفاظ العربية، وإذا استعمل في غيره فهو مجاز مدلول عليه بقرينة حال أو مقال.
والقصارى إنّي لا أحسب أنَّ المنصف يستطيع أن ينكر ظهور تلك الاَحاديث وأمثالها في إرادة جماعة خاصة من المسلمين، ولهم نسبة خاصة بعلي عليه السلام يمتازون بها عن سائر المسلمين الذين لم يكن فيهم ذلك اليوم من لا يحب عليّاً، فضلاً عن وجود من يبغضه.
ولا أقول: إنّ الآخرين من الصحابة ـ وهم الاَكثر الذين لم يتَّسموا بتلك السمة ـ قد خالفوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يأخذوا بإِرشاده. كلاّ ومعاذ الله! أن يُظنَّ بهم ذلك وهم خيرة مَن على وجه الاَرض يومئذٍ، ولكن لعلَّ تلك الكلمات لم يسمعها كلهم، ومن سمع بعضها لم يلتفت إلى المقصود منها، وصحابة النبي الكرام أسمى من أن تحلّق إلى أوج مقامهم بُغاث الاَوهام. (2)
ثمّ إنّ صاحب الشريعة لم يزل يتعاهد تلك البذور ويسقيها بالماء النمير العذب من كلماته وإشاراته في أحاديث مشهورة عند أئمّة الحديث من علماء السنَّة، فضلاً عن الشيعة، وأكثرها مرويّ في الصحيحين، مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى»(3).
ومثل: «لا يحبّك إلاَّ مؤمن ولا يبغضك إلاَّ منافق»(4).
وفي حديث الطائر: «اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك»(5).
ومثل: «لاَعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبُّ الله ورسوله ويحبُّه الله ورسوله»(6).
ومثل: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي»(7).
و«عليّ مع الحق، والحق مع علي»(8).
إلى كثير من أمثالها ممَّا لسنا في صدد إحصائه وإثبات أسانيده. وقد كفانا ذلك موسوعات كتب الاِمامية، فقد ألّف العالم الحبر السيد حامد
حسين الَّلكْنَهوي كتاباً أسماه: (عبقات الاَنوار)، يزيد على عشرة مجلدات كل مجلد بقدر صحيح البخاري تقريباً، أثبت فيها أسانيد تلك الاَحاديث من الطرق المعتبرة عند القوم ومداليلها، وهذا واحد من اُلوف ممّن سبقه ولحقه»(9).
«والذي بدأ غرس بذرة التشيع هو عبدالله بن سبأ اليهودي، والذي بدأ حركته في أواخر عهد عثمان. وأكّد طائفة من الباحثين القدماء والمعاصرين على أنّ ابن سبأ هو أساس المذهب الشيعي والحجر الاَوّل في بنائه».
أقول: أجاب عنه آل كاشف الغطاء (قدس سرّه الشريف)، وقال:
«أمّا (عبدالله بن سبأ) الذي يلصقونه بالشيعة أو يلصقون الشيعة به، فهذه كتب الشيعة بأجمعها تعلن بلعنه والبراءة منه، وأخفّ كلمة تقولها كتب الشيعة في حقّه، ويكتفون بها عن ترجمة حاله عند ذكره في حرف العين هكذا: (عبدالله بن سبأ ألعَن مِن أنْ يُذكر). انظر رجال أبي علي وغيره.
على أنّه ليس من البعيد رأي القائل: إنّ عبدالله بن سبأ، ومجنون بني عامر، وأبي هلال، وأمثال هؤلاء الرجال أو الاَبطال، كلها أحاديث خرافة وضعها القصّاصون وأرباب السَّهر والمجون؛ فإنّ الترف والنعيم قد بلغ أقصاه في أواسط الدولتين الاُموية والعباسية، وكلّما اتّسع العيش وتوفّرت دواعي اللهو، اتّسع المجال للوضع وراج سوق الخيال، وجَعْل القصـص والاَمثال؛ كي يأنس بها ربّات الحجال، وأبناء الترف والنعمة المنغمرين في بُلَهْنية العيش»(10).
«المسألة الاُولى اعتقادهم أنّ القرآن ليس حجّة إلاّ بِقَيِّم...».
إلى أن قال: «ولكنّ شيخ الشيعة، ومن يسمّونه بـ ثقة الاِسلام (الكليني) يروي في كتابه «أُصول الكافي» ما نصّه: أنّ القرآن لا يكون حجّة إلاّ بقيِّم».
أقول: ليس هذا من اعتقادات الاِماميّة، ولا ذكره واحد منهم في كتابه.
قال الكليني في ديباجة «أُصول الكافي» ص7: «فاعلم يا أخي ـ أرشدك الله ـ أنّه لا يسع أحداً تمييز شيء ممّا اختلف الرواية فيه عن العلماء عليهم السلام برأيه، إلاّ على ما أطلقه عليه السلام بقوله: «اعرضوها على كتاب الله، فما وافق كتاب الله جلّ وعزّ فاقبلوه، وما خالف كتاب الله فردّوه».
وأمّا ما ذكره المصنّف أنّه يروي ما نصّه: «أنّ القرآن لا يكون حجّة إلاّ بقيِّم». فهو ما نقله في ص188 من كلام الراوي وليس من كلام الاِمام عليه السلام .
(قال الراوي): فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجيَ والقدري والزّنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته؛ فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّة إلاّ بقيِّم.
فقلت لهم: مَن قَيِّم القرآن؟
قالوا: ابن مسعود قد كان يعلم، وعمر يعلم، وخذيفة يعلم.
قلت: كلّه؟
قالوا: لا!
فلم أجد أحداً يقال: إنّه يعلم القرآن كلّه إلاّ عليّاً صلوات الله عليه.
أقول: مراده من القَيِّم: الذي يقوم به علم القرآن والذي يعلم القرآن كلّه، كما يشهد له قوله: «فقلت لهم: مَن قيَّـم القرآن»؟... الخ.
وأمّا قوله: «فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجىَ والقدري والزنديق»، فهو يوافق قوله تعالى (هُوَ الذي أنزلَ عليك الكتابَ مِنهُ آياتٌ مُحكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فأمَّا الّذينَ في قُلوبِهم زَيعٌ فيتَّبِعونَ مَا تَشابَهَ مِنهُ ابتغاءَ الفِتنةِ وابتغاءَ تَأويلهِ).
بل قد وردت أحاديث كثيرة في كتب الشيعة من الاَئمّة عليهم السلام : «اعرضوها (أي الاَحاديث) على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فاقبلوه، وما خالف كتاب الله فردّه». «خذوا بما وافق القرآن». «كل شيء لا يوافق القرآن فهو زخرف». «ما جاءك من بَرٍّ أو فاجر يوافق القرآن فخذ به، وما جاءك من بَرٍّ أو فاجر يخالف القرآن فلا تأخذ به». «وإذا جاءكم عنّا حديث فوجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به، وإلاّ فقفوا عنده ثم ردّوه إلينا حتى يستبين لكم». «ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله». «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله، وإلاّ فالذي يأتيكم به أولى به»(11).
«لا تصدّق علينا إلاّ ما وافق كتاب الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم » «فأنظروا أمرنا وما جاءكم عنّا، فإن وجدتموه للقرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً فردّوه» «إذا ورد عليكم روايتان مختلفتان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردّوه»«النص الاَول (الذي يقول بأنّ الرسول لم يبيِّن القرآن إلاّ لعليّ)، والله سبحانه يقول: (وأنزلنا إليك الذكر لِتُبيِّنَ لِلّناسِ مَا نُزِّلَ إلَيهِم)(12).
النص الاَول الذي أورده في ص133 هو: «أنّ رسول الله فسّر القرآن لرجل واحد وهو علي بن أبي طالب عليه السلام ».
التفسير هو: كشف القناع عمّا هو مستور، ومجرّد بيان للآيات بمالها من المعاني الطاهرة فيها ـ عند أهل اللغة ـ ليس تفسيراً، فلا منافاة بين بيان رسول الله آيات القرآن للناس عموماً وتفسيرها لعليٍّ عليه السلام بالخصوص.
«النص الثاني: يقول: بأنّ من ابتغى علم القرآن عند غير علي فقد هلك».
ثم قال: «أقول: من ابتغى علم القرآن من القرآن أو من سنّة المصطفى أو من صحابة رسول الله بما فيهم علي فقد اهتدى، والقول بأنّ من طلب علم القرآن عند غير علي هلك ليس من دين الاِسلام، وهو ممّا علم بطلانه من الاِسلام بالضرورة».
أقول: «ابتغى علم القرآن عند غير عليّ»، أي: عند أحد من الناس غير عليّ عليه السلام ؛ فإنّه باب علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كما سيأتي بيانه منّا في التعليقتين الآتيتين.
ومن الواضح أنّه لو علم معنى آيةٍ من آيةٍ أُخرى لا يصدق عليه أنّه ابتغى العلم عند غير عليّ عليه السلام ، وكذا لو علمه من كلام نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
«أمّا النص الثالث فهو يدّعي أنّ القرآن لم يخاطب به سوى الاَئمّة، ومن هنا فلا يعرف القرآن سواهم».
«قال أبو جعفر عليه السلام : «إنّما يعرف القرآن من خوطب به».
فإنّ من خوطب بالقرآن هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فهو العالم بالقرآن، وقد قال في النص المأثور عنه من طرق أهل السنَّة: «أنا مَدينةُ العِلمِ وعَليٌّ بابُها»(13)؛ فلقد ورثه من عليّ والحسن والحسين وسائر الاَئمة المعصومين عليهم السلام واحداً بعد واحد.
«النصّ الرابع يبيّن أنّ وظيفة الناس ـ سوى الاَئمة الاثني عشر ـ هو قراءة القرآن فقط، ولا يجوز لاَحد أن يتولّى منصب تفسير القرآن حتى ولا رسول الله؛ لاَنّ وظيفته بيان شأن ذلك الرجل».
أقول: النص الرابع ما أورده رابعاً في ص 134: «إنّما على الناس أنْ يقرأوا القرآن كما أُنزل، فإذا احتاجوا إلى تفسيره فالاِهتداء بنا وإلينا».
قوله: «فإذا احتاجوا إلى تفسيره»، أي: لا حاجة إلى تفسيره دائماً، فإنّ التفسير بمعنى كشف القناع عمّا هو مستور، فالمعاني الظاهرة من القرآن لا يصدق عليها التفسير، وقال تعالى: (وَلَقد يَسَّرْنا القرآنَ لِلذّكرِ فَهَل مِن مُدّكِر)(14).
وأمَّا المعاني الخفيّة فإنّه لا يجوز لاَحد أن يخترع معنىً لآيةٍ من آيات القرآن وينسبه إلى كلام الله، بل الاِخبار بها هو وظيفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أن يخبر بها عن الله سبحانه وتعالى، ومع فَقْد رسول الله يرجع فيها إلى باب علم رسول الله وهو عليٌ والاَئمة المعصومون من عترة رسول الله، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديثه المشهورة التي روتها عامة المسلمين من أهل السنَّة وغيرهم:
«أَنا مَدينةُ العِلمِ وعَليٌّ بابها، فَمَن أرادَ العِلمَ فَلْيأتِها مِن بابها»
و: «إنّي تاركٌ فيكم الثقلينِ: كتابَ اللهِ، وعترتي لَن يفترقا حتى يرِدا عَليَّ الحوضَ، لَن تَضلُّوا ما إنْ تَمسَّكتُم بهما»(15).
وسنذكر جملة من أسانيدها الكثيرة فيما يأتي.
وقال في ص 140:
«وممّا يجب أن يعلم أنّ النبي بيَّن لاَصحابه معاني القرآن، كما بين لهم ألفاظه» . . . إلى قوله: «فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرّد ألفاظه».
«ثم إنّ تعميم القول بأنّ الاَئمة يعلمون القرآن كلّه غلوّ فاحش؛ وذلك أنّه كما يقول الطبري: إنّ ممّا أنزل الله من القرآن ما لا يوصل إلى علم تأويله إلاّ ببيان الرسول، ولا يعلمه رسول الله إلاّ بوحي الله، ومنه ما لا يعلم تأويله إلاّ الواحد القهار؛ وذلك ما فيه من أُمور استأثر الله بعلمها كوقت قيام الساعة والنفخ في الصّور».
أقول: وقت قيام الساعة والنفخ في الصور الذي استأثر الله بعلمه لم يذكر في القرآن، فالعلم به خارج عن علم القرآن، وإنّما يقول القرآن: (يَسأَلُونَك عَنِ السّاعةِ أَيَّانَ مُرسيها قُلْ عِلمُها عِندَ رَبِّي لاَ يُجلِّيْها لِوَقتِها إلاّ هُوَ)(16).
وأمّا ما يعلمه رسول الله من علم القرآن فباب علمه علي عليه السلام ؛ لما صرّح به في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها، فمن أراد العلم فليأتهامن بابها»
«المسألة الثالثة: اعتقادهم بأنّ قول الاِمام ينسخ القرآن، ويقيّد مطلقه، ويخصّص عامّه .... بناءً على ذلك فإنّ مسألة تخصيص علم القرآن أو تقييد مطلقه أو نسخه هي مسألة لم تَنْتَهِ بوفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لاَنّ النص النبوي والتشريع الاِلهي استمرّ ولم ينقطع بوفاة الرسول».
أقول: اعتقاد الاِماميّة أنّ القرآن لا ينسخ بغير القرآن، فإنّ حكم الله سبحانه وتعالى لا ينسخ إلاّ بنسخه.
وقد نسب المصنّف جواز نسخ القرآن بكلام الاِمام إلى اعتقاد الاِماميّة، لكنّه لم يجده في موضع من كتب الاِماميّة، وإلاّ استند إليه.
قال: «وقد أشار أبو جعفر النحّاس إلى هذه المقالة ولم ينسبها إلى أحد»!.
ثمّ إنّ اعتقاد الاِمامية أنّ شريعة الاِسلام هي التي نزلت على خاتم النبيّين، ولا نبيّ بعده؛ فلا معنى لاستمرار التشريع الاِلهي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لكنّ رسول الله لم يسعه المجال لبيان تفاصيل أحكام الشريعة إلى عامّة الناس، بل أودعها بعد رحلته عند عليٍّ عليه السلام ليبيّنها للنّاس هو والاَئمة المعصومون عليهم السلام من بعده.
فإنّ نسبة القول إلى اعتقاد الاِماميّة بأنّه لم يكمل التشريع، وأنّ التشريع الاِلهي استمرّ ولم ينقطع بوفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم افتراء محض.
أمّا تخصيص عامِّ القرآن وتقييد مطلقه فالصحيح أنّ قول الاِمام المعصوم الذي أودع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تفاصيل أحكام شريعة الاِسلام عنده يحكي عن قول رسول الله، وقول رسول الله في الشريعة يحكي عمّا نزل إليه من عند الله سبحانه وتعالى؛ فالتخصيص والتقييد ليس من الاِمام نفسه، بل وصل إليه من رسول الله، ووصل إلى رسول الله بالوحي من الله سبحانه وتعالى.
«وقالوا: يجوز لم سمع حديثاً عن أبي عبدالله أن يرويه عن أبيه أو أحد أجداده، بل يجوز أن يقول: قال الله تعالى؛ فكان للاِمام في اعتقادهم تخصيص القرآن أو تقييده أو نسخه، وهو تخصيص أو تقييد أو نسخ للقرآن بالقرآن؛ لاَنّ قول الاِمام كقول الله».
أقول: المستفاد منه أنّ قول الاِمام الذي عنده علم الشريعة يكشف عن قول الله، لا أنّه قرآن، ولا أنّه كقول الله، فلا يلزم منه أن يكون للاِمام حقّ تخصيص القرآن أو تقييده أو نسخه، بل ليس تخصيص القرآن الذي هو كلام الله، ولا تقييده، ولا نسخه إلاّ لله، فلو كان في المعنى المراد من الآية عند الله تقييد أو تخصيص فأخبر به الاِمام لكان حجّة.
وأمّا نسخ آية من القرآن الباقي إلى يوم القيامة إنّما يتحقّق بآية أُخرى من القرآن لا محالة.
«فالاَئمة قد فُوِّضوا في أَمر الدين كما فُوِّض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلهم حقّ التشريع.
تقول كتب الشيعة عن الاَئمة: إنّ الله عزوجلّ فوَّض إلى نبيّه، فقال: (وَمَا آتاكُم الرَّسُولُ فُخُذوهُ وَمَا نَهاكُم عَنهُ فَانتَهُوا)(17) فما فوِّض إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد فوَّضه إلينا.
وقال أبو عبدالله ـ كما تزعم كتب الشيعة ـ : لا والله ما فوَّض الله إلى أحد من خلقه إلاّ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى الاَئمة؛ قال الله عزّوجل: (إنّا أنزَلنا إليكَ الكِتابَ بِالحَقِّ لَتَحكُم بَينَ النَّاسِ بما أراكَ اللهُ)(18)، وهي جارية في الاَوصياء».
أقول: استدلّ للتفويض في الروايتين بقوله تعالى: (وَمَا آتاكُم الرَّسولُ فَخذُوا وَمَا نَهاكُم عَنهُ فَانتَهُوا)، وقوله تعالى: (لِتحكُمَ بَينَ الناسِ بِما أراكَ اللهُ)، والمستفاد من الآيتين أنّ الرسول تجب طاعته في أمره ونهيه، وأنّ له الحكومة على الناس، فالمراد تفويض الحكومة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإلى الاَئمّة بعده، كما في قوله تعالى: (أطيعُوا اللهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ وأُولي الاَمرِ مِنكُم)(19)، فقد أمر فيه بإطاعة الله ثمّ أمر بإطاعة الرسول وأُولي الاَمر، فالطاعة لله هي العمل بالاَحكام الشرعية، ولرسول الله وأُولي الاَمر متابعتهم في الحكومة.
فالتفويض إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاَئمة معناه تفويض الحكومة؛ فإنّ الحكومة بالاَصالة إنّما هي لله سبحانه وتعالى؛ لكونه المولى الحقيقي وأُمور عباد الله كلها بيده وقد فَوَّض الحكومة على الناس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعده إلى أوصيائه الاَئمة المعصومين عليهم السلام ، لا التشريع وجعل الاَحكام الشرعيّة كما توهَّم.
وأمّا الذين أسقطوا روايات الاَئمة المعصومين عليهم السلام عن الاِعتبار، وتوسّلوا في تفاصيل الاَحكام الشرعية إلى القياسات والاستحسانات من عند أنفسهم، فهم المستحقّون لما ذكره المصنّف من أنّ دعواهم تقوم على أنّ دين الاِسلام ناقص، وأنّ كتاب الله وسنّة رسوله لم يكمل بهما التشريع، وينافي قوله تعالى: (اليومَ أَكمَلْتُ لَكُم دِينَكم وَأَتْمَمْتُ عَلَيكُم نِعمتي)(20)، وقوله تعالى: (نَزَّلنا عَليك القُرآنَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيءٍ)(21).
المصادر :
1- الدرّ المنثور للسيوطي 8: 589.
2- البُغَاث: شرار الطير، وما لا يصيد منها، وهو بطيء الطيران. الصحاح 1: 274
3- صحيح مسلم 4: 2404، سنن ابن ماجة 1: 42/115، سنن الترمذي 5: 638/3724 و640/3731، صحيح البخاري 5: 24، حلية الاَولياء 7: 194، تاريخ بغداد 4: 204، ترجمة الاِمام علي عليه السلام من تاريخ دمشق 1: 124، اُسد الغابة 5: 8، والرياض النضرة 3: 117.
4- صحيح مسلم 1: 86/131، سنن ابن ماجة 1: 42/114، سنن الترمذي 5: 635/3717، حلية الاَولياء 4: 185، تاريخ بغداد 2: 255 و8: 417 و14: 426، والرياض النضرة 3: 189.
5- سنن الترمذي 5: 636/3721، مستدرك الحاكم 3: 130، حلية الاَولياء 6: 339، ترجمة الاِمام علي عليه السلام من تاريخ دمشق 2: 105 ـ 151، اُسد الغابة 4: 30، تذكرة الخواص: 44، والرياض النضرة 3: 114.
6- مسند أحمد 4: 52، سنن ابن ماجة 1: 45/121، سنن الترمذي 5: 638/3724، سنن البيهقي 9: 131، صحيح البخاري 4: 65 و73، التاريخ الكبير للبخاري 7: 263، والمصنّف لعبدالرزاق 5: 287/9637.
7- مسند أحمد 3: 17 و5: 181، سنن الترمذي 5: 662/3786 و663/3788، مستدرك الحاكم 3: 109 و148، واُسد الغابة 2: 12.
8- مستدرك الحاكم 3: 124، تاريخ بغداد 14: 321، وترجمة الاِمام علي عليه السلام من تاريخ دمشق 3: 117/1159.
9- أصل الشيعة وأُصولها: 184 ـ 192. 182
10- البُلَهْنِيَة: السعة والرفاهية في العيش. الصحاح 5: 2080
11- بحار الاَنوار 2: 250 و 2: 221 و 2: 242. و 2: 244/50. /الكافي 2: 222/4 باب 98، الكافي 1: 69 و2: 23
12- بحار الاَنوار 2: 244/51و 78: 182/7.و2: 235/20./النحل 16: 44.
13- سنن الترمذي 5: 637/3723، المعجم الكبير للطبراني 11: 65/11061، مستدرك الحاكم 3: 127، وتاريخ ابن عساكر 42: 379
14- القمر 54: 17.
15- مسند ابن حنبل 4: 366، سنن الدارمي 2: 431 ـ 432، صحيح مسلم 4: 1873/36 فضائل الصحابة، سنن الترمذي 5: 663/3788، مستدرك الحاكم 3: 109، سنن البيهقي 10: 144، وكنز العمال للمتقي الهندي 1: 172/872 و1: 186/947.
16- الاَعراف 7: 187.
17- الحشر 59: 7.
18- النساء 4: 105.
19- النساء 4: 59.
20- المائدة 5: 3.
21- النحل 16: 89.
/ج