المعاد جسماً وروحاً

من المسائل الشائكة في مبحث المعاد هو تبيين كيفيته ، وانّه هل هو جسماني فحسب أو روحاني كذلك ، أو هو جسماني وروحاني معاً ؟ آراء وأقوال ، وها نحن نستعرض الآراء المهمة المطروحة على هذا الصعيد.
Tuesday, March 1, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
موارد بیشتر برای شما
المعاد جسماً وروحاً
 المعاد جسماً وروحاً

 






 

من المسائل الشائكة في مبحث المعاد هو تبيين كيفيته ، وانّه هل هو جسماني فحسب أو روحاني كذلك ، أو هو جسماني وروحاني معاً ؟ آراء وأقوال ، وها نحن نستعرض الآراء المهمة المطروحة على هذا الصعيد.

1. المعاد ، جسماني فحسب

المحكي عن المحدّثين هو انّ المعاد جسماني فحسب ، وذلك لأنّه لا واقعية للإنسان سوى هيكله الجسماني ، وانّ الروح سار في بدنه سريان النار في الفحم والماء في الورد ، فإذا بطل البدن بالموت بطلت الروح أيضاً ، فلا يبقىٰ هناك واقعية باسم الروح حتى تُعاد ، وإنّما المعاد ما يبقىٰ من الإنسان بعد موته من عظامه وسائر أجزاء بدنه.

2. المعاد روحاني فحسب

ذهب أكثر المشائين من الفلاسفة إلى القول بأنّ المعاد روحاني فقط ، لانقطاع الصلة بين الروح والبدن بالموت فيستحيل حينئذ أن تتعلق الروح بالمادة من جديد.

3. المعاد جسماني وروحاني معاً

ذهب المحقّقون من المتكلّمين والحكماء كالشيخ المفيد والسيد المرتضىٰ والشيخ الطوسي والمحقّق الطوسي والعلاّمة الحلّي من الإمامية ، والغزالي والكعبي والحليمي والراغب الاصفهاني من السنّة ، إلىٰ أنّ المعاد جسماني وروحاني ، لأنّ النفس وإنْ كانت مجرّدة إلاّ أنّ تجرّدها ليس تامّاً حتى يستحيل تعلّقها بالمادة من جديد.
هذه هي الآراء المطروحة ، إنّما الكلام في تبيين الضوابط والمعايير التي علىٰ ضوئها يوصف المعاد بالجسمانية والروحانية ، وهذا هو المهم في الباب.
لأنّ القول بكون المعاد جسمانيّاً فقط ، لا يخلو عن غموض ، فلو أريد من جسمانيته هو بعث البدن المنسلخ عن الروح ، فيعود إلى القول بمعاد الإنسان بصورة جماد فاقد للإدراك والشعور ، ومن الواضح انّ مثل هذا لا يقبل الجزاء ولا الثواب والعقاب ، فينتفي الغرض من المعاد.
وإن أُريد منه البدن المرافق مع الروح ، فلا يكون المعاد عندئذٍ جسمانياً فقط ، ولأجل ذلك عاد كثير من المتشرّعة إلى القول بجسمانية المعاد وروحانيته.
واللازم قبل اتّخاذ موقف صريح في ذلك تعيين معيار علىٰ أساسه يطلق الجسمانية أو الروحانية على المعاد. فنقول :
إنّ ثمة ملاكين للوصف بالجسمانية أو الروحانية ، حيث يرجع أحدهما إلىٰ بيان واقع الإنسان وحقيقته ، والآخر إلىٰ بيان نوع الجزاء من كونه جسمانياً أو روحانياً ، وها نحن نستعرض كلا الملاكين.

ألف. ما هي واقعية الإنسان

اختلفت الأنظار في واقع الإنسان وحقيقته ، فأهل الحديث يرون أنّ واقع الإنسان هو الهيكل الظاهري بما أنّ له حساً وحركة وإدراكاً ، وانّه ليس له وراء ذلك واقعية أُخرى باسم الروح والنفس ، فهؤلاء حطُّوا من المكانة الرفيعة للإنسان وجعلوه في عداد الحيوانات ، غير أنّ له صفات خاصة في مجال الحس والإدراك.
فهؤلاء يصحّ لهم وصف المعاد جسمانياً لا بمعنىٰ عود الإنسان جماداً ، بل عوده إلى ما كان عليه في الدنيا من الهيكل الإنساني المساوق للحس والحركة.
فهذه الثُّلّة ليس لها وصف المعاد بالروحانية وراء الجسمانية ، بل المعاد عندها جسماني محض. بالمعنى الذي عرفت.
وفي مقابلهم أهل الفكر والتدبّر من المحقّقين الذين ذهبوا إلىٰ أنّ للإنسان وراء ذلك الهيكل الظاهري المساوق للحس والحركة ، واقعية أُخرى أطلق عليها « النفس المجرّدة » ، وهي مجردة لها ارتباط وثيق بالمادة أي البدن من خلال تدبيره وإدارة شؤونه.
وعند ذاك فلو كان المحشور هو الروح المتعلقة بالبدن فقط ، يكون المعاد روحانياً محضاً ، ولو قلنا بعود الروح والجسم معاً فيصحّ وصف المعاد بالجسمانية والروحانية.
أمّا كونه جسمانياً فلعود الهيكل الإنساني ـ المرافق للحس والحركة ـ إلى المحشر.
وأمّا كونه روحانياً ، فلعود الروح إلى البدن من جديد.
فتلخّص ممّا سبق أنّ من لم يذعن بوجود النفس المجردة يكون المعاد عنده
جسمانياً محضاً ، وأمّا المذعن بها فالمعاد عنده يمكن أن يكون روحانياً محضاً ، أو روحانياً وجسمانياً.
إلى هنا تمّ الملاك الأوّل.

ب. أصناف الثواب والعقاب

وثمة ملاك آخر لوصف المعاد بالجسمانية أو الروحانية ، وهو اختلاف الثواب والعقاب فانّ هناك صنفاً من الثواب والعقاب لا ينالها الإنسان إلاّ ببدنه وهيكله المرافق للحس والحركة ، كالأكل والشرب من نعيم الجنة والالتذاذ برؤية مناظر الجنة الخلاّبة ، فعندئذٍ يكون معاد الإنسان معاداً جسمانياً.
كما أنّ هناك صنفاً آخر لا ينالها الإنسان إلاّ بعقله وروحه ، فلو تجرّد الروح عن البدن لما كان للبدن ذلك كنيل رضوان الله والابتعاد عن رحمته.
وعلىٰ ذلك الاصطلاح درج الشيخ الرئيس في الشفاء (1) وصدر المتألّهين في الأسفار ، والحكيم السبزواري في شرح المنظومة.
قال صدر المتألّهين : إنّ للنفس الإنسانية نشاءات ثلاثة إدراكية.
النشأة الأُولى : هي الصورة الحسية الطبيعية ، ومظهرها الحواس الخمس الظاهرة ، ويقال لها الدنيا لدنوها وقربها ولتقدمها على الأخيرتين.
وعالم الشهادة لكونها مشهودة بالحواس ، وشرورها وخيراتها معلومة لكلّ أحد لا يحتاج إلى البيان ، وفي هذه النشأة لا يخلو موجود عن حركته واستحالته ، ووجود صورتها لا تنفك عن وجود مادتها.
والنشأة الثانية : هي الأشباه والصور الغائبة عن هذه الحواس ، ومظهرها الحواس الباطنة ، ويقال لها عالم الغيب والآخرة لمقايستها إلى الأُولى.
والنشأة الثالثة : هي العقلية وهي دار المقربين ودار العقل والمعقول ، ومظهرها القوة العاقلة من الإنسان إذا صارت عقلاً بالفعل ، وهي لا تكون إلاّخيراً محضاً ونوراً صرفاً.
فالنشأة الأُولى دار القوة والاستعداد والمزرعة لبذور الأرواح ، ونبات النيات والاعتقادات ، والأُخريتان كلّ منهما دار التمام والفعلية وحصول الثمرات وحصاد المزروعات. (2)
ويقول الحكيم السبزواري :انّ الذي بالعقل بالفعل انتقىٰ *** فهو لعالم العقول مرتقىٰ
في المعاد الروحاني وهو الحشر إلى الله وصفاته وأفعاله الإبداعية ، « انّ الذي » من العقل بالقوة « بالعقل بالفعل انتقىٰ » والانتقاء بمعنى الاختيار ، « فهو لعالم العقول » اللام بمعنى إلىٰ « مرتقىٰ » بعد المفارقة عن البدن بالموت ، والمراد من الارتقاء أعمّ ممّا هو بعد أزمنة المكث قليله أو كثيره في عالم المثال متنعماً بالصور البهية المستنيرة وممّا هو بغير مكث فانّ الذي صار عقلاً بالفعل أعمّ من الكامل في الحكمتين العلمية والعملية والكامل في العلمية دون العملية فانّ النفس لا تخلو عن أقسام خمسة : إمّا أن تكون كاملة في الحكمتين العلمية والعملية ، أو متوسطة فيهما ، أو كاملة في العلمية دون العملية ، أو في العملية دون العلمية ، أو ناقصة فيهما. (3)

القرآن والمعاد الجسماني والروحاني

لقد تعرفنا على الملاكين اللّذين يناط بهما وصف المعاد بالجسمانية والروحانية ، وإليك دراسة الآيات القرآنية حتى نستنتج منها ما هو موقف القرآن من جسمانية المعاد وروحانيته حيال كلا الملاكين.

المعاد الجسماني بالملاك الأوّل

قد عرفت أنّ الملاك الأوّل لكون المعاد جسمانياً هو حشر الأبدان لتعلّق النفوس بها.
فلو كان هذا هو المعيار ، فقد تضافرت الآيات عليه وهي علىٰ طوائف.
الطائفة الأُولى : الآيات التي دلّت على إحياء الموتىٰ في هذه النشأة من باب الإعجاز والكرامة ، وفي جميع تلك الآيات كان الحشر بعود البدن الدنيوي لا البرزخي ، بل العنصري.
هذا من جانب ، ومن جانب آخر ترى أنّ القرآن الكريم يصف الدار الآخرة بأنّها الحياة الواقعية ، يقول سبحانه : ( وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (4) فلابدّ من التوفيق بين هذين الأمرين.
وبعبارة أُخرىٰ : يبدو لأوّل وهلة أنّ ثمة تهافتاً وتناقضاً ، فمن جانب يكون المحشور في الآخرة هو البدن الدنيوي ، والحياة الدنيوية حياة غير كاملة ، ومن جانب آخر تكون الحياة الأُخروية هي الحيوان ، فكيف يمكن الجمع بين كون المحشور هو البدن الدنيوي العنصري وبين كون الحياة الأُخروية كاملة ، فلا محيص من القول إنّ البدن المحشور مع أنّه عين البدن الدنيوي لكن يتمتع بكمال خاص.
ونحن مع الاعتراف بأنّ المحشور هو البدن الدنيوي ، لا البدن البرزخي ، ولا الصور المجردة عن المادة ، إلاّ أنّنا نعتقد بكمال هذا البدن.
وربما تتوهم وحدة الحياتين لأنّ نقص الحياة الأُولىٰ لتوقيتها بأمد محدود ، وتمامية الحياة الأُخرى لدوامها.
يلاحظ عليه بأنّه لا يضفي على الحياة الأُخروية الكمال إذا كانتا متساويتين في الكمال ; مع انّا نرىٰ أنّ القرآن يصف الحياة الدنيوية بالمجازية ، والحياة الأُخروية بالحقيقية ، وهذا لا يتماشىٰ إلاّ إذا كانت الحياة الدنيوية حياة كاملة عالية.
وبعبارة أوضح لو كانت الحياة في النشأتين حقيقة واحدة وكان الاختلاف مختصاً بالتوقيت والدوام ، لما كان هناك أيّ حاجة إلىٰ زوال السماوات والأرض وإيجاد نظام آخر ، ولأجل ذلك نأخذ بكلا الأمرين :
ألف. أنّ المحشور هو البدن الدنيوي العنصري لا البرزخي.
ب. أنّ المحشور يحظىٰ بدرجة عالية من الحياة.
نعم الوقوف علىٰ حقيقة الحياة الأُخروية وكمالها أمر مستور علينا.
الطائفة الثانية : الآيات التي تبيّن بدء الخلقة ، وانّ الإنسان خلق من تراب
ويعاد إليها ، ثمّ يخرج منها :يقول سبحانه : ( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ ). (5)
ويقول سبحانه : ( ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ). (6)
الطائفة الثالثة : الآيات التي تشرح كيفية الحشر وانّ الناس يبعثون من القبور :
قال سبحانه : ( فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ). (7)
وقال سبحانه : ( يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ). (8)
الطائفة الرابعة : الآيات التي تدل على أنّ الأعضاء والجوارح تشهد على الإنسان :
يقول سبحانه : ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ). (9)
وقال سبحانه : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ). (10)
الطائفة الخامسة : الآيات التي تدل علىٰ طروء التبدل والتغير على البدن الأُخروي الملازم لكون المحشور بدناً مادياً عنصرياً لا صورياً مجرداً عن المادة.
قال سبحانه : ( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ). (11)
ويقول أيضاً : ( وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ). (12)
الطائفة السادسة : الآيات التي تبيّن شبهة المنكرين للمعاد من امتناع إحياء
العظام البالية ، وهي تدل على أنّ المدّعى كان هو إحياء البدن الدنيوي حسب ما كان.
قال سبحانه : ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ). (13)
وقال سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ). (14)
إنّ هذه الطوائف من الآيات تعرب عن موقف القرآن حيال المعاد الجسماني بالملاك الأوّل وانّ المعاد هو البدن الدنيوي حقيقة.
المعاد الروحاني بالملاك الأوّلقد تعرفت على المعاد الجسماني بالملاك الأوّل ، وإليك الكلام في المعاد الروحاني بنفس ذلك الملاك وهو حشر الإنسان مع روحه ونفسه ، وثمة كلام وهو انّه إن أُريد من المعاد الروحاني هو حشر البدن الدنيوي مع روحه ونفسه فليس ذلك معاداً روحانياً في الاصطلاح بل هو معاد جسماني ، لأنّ من يصف المعاد بالجسماني لا يريد منه البدن المماثل للجماد بل البدن الذي نفخ فيه روحه وصار ذا حس وحركة وعقل وإدراك.
وإن أُريد منه حشر النفوس والأرواح مجردة عن البدن فيصحّ وصفه بالروحاني لكنّه يخالف صريح القرآن لما عرفت من تأكيده علىٰ حشر الأبدان الدنيوية بنحو يكون مناسباً للحشر الأُخروي.

المعاد الجسماني بالملاك الثاني

وثمة ملاك ثان في وصف المعاد بالجسمانية أو الروحانية وهو الثواب والعقاب الذي يواجههما الإنسان.
فقسم لا يدرك إلاّ بالحواس الظاهرية كأكثر ما وعد في سورتي الواقعة والرحمن.
وهناك ثواب وعقاب يدركهما الإنسان بعقله لا بحواسه ولا بقواه الجسمانية.
وبذلك يتضح انّ جزاء الإنسان بما يدركه بالحواس الظاهرية تعبير عن كون المعاد جسمانياً كما أنّ جزاءه بما يدركه العقل والنفس في مقام التجرد تعبير عن كون المعاد روحانياً ، وبما انّ الآيات الواردة في أكثر السور الّتي ترجع إلى الجزاء بالأُمور الحسية ، معلومة لدى القرّاء الأعزاء ، فنعطف عنان القلم إلى المثوبات والعقوبات التي تدرك بالعقل والنفس.

1. رضوان الله

إنّه سبحانه بعد ما يذكر المثوبات المدركة بالحواس يعقبها بذكر جزاء عظيم لا يدرك إلاّ بالعقل ، قال سبحانه : ( وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ). (15)
تجد انّه سبحانه بعد ما يذكر الجنات والأنهار والمساكن الطيبة التي هي ملاكات لجسمانية المعاد يذكر رضوان الله تبارك وتعالى الذي هو جزاء روحاني عقلاني لا صلة له بالأدوات الحسية.
قال الإمام السجاد عليه السلام في تفسير الآية :« إذا صار أهل الجنّة في الجنة ودخل وليّ الله إلىٰ جنانه ومساكنه واتكأ كلّ مؤمن منهم على أريكته حفّته خدّامه. وتهدّلت عليه الثمار ، وتفجّرت حوله العيون ، وجرت من تحته الأنهار وبسطت له الزرابيّ ، وصفّفت له النمارق ، وأتته الخدّام بما شاءت شهوته من قبل أن يسألهم ذلك ، قال : ويخرج عليهم الحور العين من الجنان فيمكثون بذلك ما شاء الله.
ثمّ إنّ الجبّار يشرف عليهم فيقول لهم : أوليائي وأهل طاعتي وسكّان جنتي في جواري ألا هل أُنبّئكم بخير ممّا أنتم فيه ؟ فيقولون : ربّنا وأيّ شيء خير ممّا نحن فيه ؟! نحن فيما اشتهت أنفسنا ، ولذّت أعيننا من النّعم في جوار الكريم ، قال :
فيعود عليهم بالقول ، فيقولون : ربّنا نعم فأتنا بخير ممّا نحن فيه ، فيقول لهم تبارك وتعالى : رضاي عنكم ومحبّتي لكم خير وأعظم ممّا أنتم فيه ، قال : فيقولون : نعم يا ربّنا رضاك عنّا ومحبّتك لنا خير لنا وأطيب لأنفسنا ». ثمّ قرأ عليّ بن الحسين عليهما السلام هذه الآية : ( وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ). (16)

2. البعد عن رحمته

إذا كان نيل رضوانه سبحانه سبباً للّذة والثواب ، يكون البعد عن رحمته سبباً للعذاب ، يقول سبحانه : ( وَعَدَ اللهُ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ). (17)
إنّ هذه الآية ندُّ الآية السابقة ، غير انّ الأُولىٰ تعد المؤمنين والمؤمنات بالنعم الحسية ثمّ الروحية كما عرفت ، وهذه الآية تعد المنافقين والمنافقات بالعذاب الحسي أعني قوله : ( نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ ) والعذاب الروحي الذي يشير إليه بقوله : ( وَلَعَنَهُمُ اللهُ ) واللعن عبارة عن البعد عن رحمة الله تبارك وتعالى. ويعقبه قوله : ( وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) فيمكن أن يكون مشيراً إلىٰ خلودهم في النار أو مشيراً إلىٰ بعدهم الدائم عن رحمة الله ، والمقايسة بين الآيتين وتطبيق كلّ على الأُخرى توقف الإنسان على اللّف والنشر اللافت.

3. الحزن والحسرة

إذا كان البعد عن رحمته سبحانه عذاباً روحياً ، فالحزن والحسرة على ما مضىٰ من العمر الذي أتلفه الإنسان مع ماله من القابليات يُعد عذاباً روحياً ، وقد أشار إليه سبحانه في بعض الآيات بلفظ : ( يَوْمَ الحَسْرَةِ ) و ( حَسَرَاتٍ ) ، قال سبحانه : ( وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ). (18)
أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم : إذا دخل أهل الجنّة الجنة وأهل النار النار ، قيل : يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون ، وقيل : يا أهل النار ، فيشرئبون وينظرون فيجاء بالموت كأنّه كبش أملح ، فيقال لهم تعرفون الموت ، فيقولون : هذا وهذا وكلّ قد عرفه.
قال : فيقدم فيذبح ، ثمّ يقال : يا أهل الجنّة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ، قال : وذلك قوله : ( وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ ) الآية.
ورواه أصحابنا عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام ثمّ جاء في آخره فيفرح أهل الجنّة فرحاً لو كان أحد يومئذٍ ميتاً لماتوا فرحاً ، ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتاً لماتوا. (19)
وقال تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ). (20)
وقال الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام في تفسير قوله : ( كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ) بقوله : « هو الرجل يكتسب المال ولا يعمل فيه خيراً فيرثه من يعمل فيه عملاً صالحاً فيرى الأوّل ما كسبه حسرة في ميزان غيره ». (21)

4. لقاء المحبوب

من المعارف القرآنية هي مسألة لقاء الله ولقاء الرب الذي جاء في غير واحد من السور بتعابير مختلفة :
فتارة يعبر عنه ، ( بِلِقَاءِ اللهِ ) ، قال سبحانه : ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ ). (22)
وأُخرى ب‍ : ( لِّقَاءِ رَبِّهِمْ ) ، يقول سبحانه : ( أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ ). (23)
وثالثة : ( بِلقاءِ رَبِّكُمْ ) ، قال سبحانه : ( اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ... يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ). (24)
ورابعة ب‍ : ( لِقَاءَنَا ) قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ ). (25)
وخامسة : ( مُّلاقُو رَبِّهِمْ ) قال سبحانه : ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُو رَبِّهِمْ ). (26)
وهذه الآيات التي وردت في الذكر الحكيم يربو عددها علىٰ 18 آية ، وقد اختلف المفسرون في تفسير لقاء الله.
فقد فسر بلقاء يوم القيامة تارة بشهادة قوله سبحانه : ( فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ). (27)
وأُخرى بلقاء الآخرة ، قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ). (28)
وأُخرى : بنيل الثواب والعقاب ، قال سبحانه : ( أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (29) ، غير أنّ العرفاء الشامخين أخذوا بحرفية تلك الكلمة وقالوا بلقاء الإنسان ربّه لقاءً قلبياً شهودياً لا لقاءً حسياً بل لقاء يدرك ولا يوصف ولا يمكن التعبير عنه باللفظ والكلمة ، وقد تبنىٰ ذلك المعنى العارف الحكيم الشيخ جواد الملكي التبريزي ( المتوفّى 1343 ه‍ ) فقال في كتابه « لقاء الله » ما هذا مثاله :
ثمّ إنّ المفسّرين أمام تلك الآيات على أحد رأيين :
الرأي الأوّل : الأخذ بما دلّ علىٰ تنزيه الربّ من كلّ جسم وجسمانية ، وبالتالي تأويل ما دلّ من الآيات والروايات على اللقاء بوجه ، وهو انّ المراد هو الموت ولقاء الثواب والعقاب.
الرأي الثاني : حمل ما دلّ على التنزيه بالمعرفة الحسية أو المعرفة بالكنه ، وحمل ما دلّ على اللقاء أو التشبيه على المعرفة الإجمالية ، ومعرفة أسمائه وصفاته التي هي مجلىٰ ذاته سبحانه.
ولا يخفىٰ انّ كلا التفسيرين تفسير مجازي فانّ حمل اللقاء بلقاء الثواب والعقاب مجاز لا دليل عليه ، كما أنّ تفسيره بالمعرفة الإجمالية كمعرفة أسمائه وصفاته مجاز مثله ، فأين معرفة أسمائه كالعالم والقادر على وجه يليق بالحكيم من لقائه سبحانه.
وهناك مسلك ثالث أدق من المسلكين تبنّاه بعض العارفين وهو انّ للّقاء مراتب بين الإمكان والاستحالة ، فيجوز للممكن في سيره وسلوكه لقاء واقعي ، وإن كان بالنسبة إلى الدرجات المستحيلة لقاءً غير واقعي.
ثمّ أيّد ذلك بما ورد في القرآن والأدعية ، فقد ورد فيهما كلمات تعرب عن تحقّق اللقاء حقيقة ، نظير قول الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام : « ولا يحرمني من النظر إلىٰ وجهك » وقوله : « ولكن تراه القلوب بحقائق الإيمان ». وقول الإمام الحسين عليه السلام في المناجاة الشعبانية : « وألحقني بنور عزّك الأبهج فأكون لك عارفاً ».
وقوله عليه السلام : « وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلقة بعزّ قدسك » ، وفي الدعاء الذي علمه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لكميل :
« فهبني صبرت علىٰ عذابك فكيف أصبر علىٰ فراقك ».
إلى غير ذلك من الألفاظ الدالة على اللقاء الحقيقي علىٰ وجه يلازم التنزيه ويفارق التشبيه ، ومع ذلك يكون هناك لقاءٌ حسب ما يمكن تحقّقه للموجود الإمكاني. (30)
ومن أراد الوقوف على التفصيل فعليه الرجوع إلىٰ كتابه.

5. عذاب فراق المحبوب

كما أنّ قرب المحبوب يلازم السرور والفرح ، فهكذا فراقه يثير ألماً روحيّاً ، وقد أشار إليه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في دعائه الذي علّمه لكميل بن زياد النخعي التابعي حيث يقول عليه السلام مخاطباً الله سبحانه : « فهبني صبرت على عذابك ، فكيف أصبر علىٰ فراقك ».
المصادر :
1- الإلهيات : 460 المقالة التاسعة ، الفصل الثامن ، ط 1418 ه‍.
2- الأسفار : 9 / 21 ـ 22.
3- شرح المنظومة : 329 ـ 330.
4- العنكبوت : 64.
5- طه : 55.
6- نوح : 18.
7- يس : 51.
8- القمر : 7.
9- النور : 24.
10- يس : 65.
11- النساء : 56.
12- محمد : 15.
13- يس : 78.
14- سبأ : 7.
15- التوبة : 72.
16- البحار : 8 / 140 ـ 141./التوبة :72
17- التوبة : 68.
18- مريم : 39.
19- مجمع البيان : 3 / 515.
20- البقرة : 167.
21- مجمع البيان : 1 / 251.
22- الأنعام : 31.
23- فصلت : 54.
24- الرعد : 2.
25- يونس : 7.
26- البقرة : 46.
27- السجدة : 14.
28- الأعراف : 147.
29- القصص : 61.
30- رسالة لقاء الله ، المقدمة.

 

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.