آراء الحكماء في المعاد الجسماني

تضافرت الآيات علىٰ أنّ الحشر يتعلّق ببدن جسماني مرافق للروح والنفس ، وأنّ ما خلق أوّلاً هو المعاد في الآخرة ، غير أنّه اختلفت كلمات العلماء في واقع هذا البدن الجسماني الذي يتعلق به الروح ، فها نحن نذكر بعض الآراء:
Wednesday, March 2, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
موارد بیشتر برای شما
آراء الحكماء في المعاد الجسماني
 آراء الحكماء في المعاد الجسماني

 






 

تضافرت الآيات علىٰ أنّ الحشر يتعلّق ببدن جسماني مرافق للروح والنفس ، وأنّ ما خلق أوّلاً هو المعاد في الآخرة ، غير أنّه اختلفت كلمات العلماء في واقع هذا البدن الجسماني الذي يتعلق به الروح ، فها نحن نذكر بعض الآراء:

الأوّل : المعاد الجسماني ورأي المعلم الثاني الفارابي ( المتوفّى 339 ه‍ )

وحاصل كلامه : أنّ الناس علىٰ صنفين ، فصنف بلغ من الكمال درجة استغنى بها عن البدن ، ولا همّ لهم سوى الرغبة في إدراك حقائق العالم العلوي ، وصنف يسمّيهم الفارابي « بالبدنيين » على عكس الصنف الأوّل ، لا همّ لهم سوى إدراك البدن وما يترتبط بالعالم السفلي.
ويفسره صدر المتألّهين بقوله : إنّ هؤلاء إذا فارقوا الأبدان وهم بدنيُّون وليس لهم تعلّق بما هو أعلىٰ من الأبدان ، فيشغلَهم التزامَ النظر إليها والتعلّق بها عن الأشياء البدنية ، وإنّما لأنفسهم إنها زينة لأبدانهم فقط ولا يعرف غير الأبدان والبدنيات ، أمكن أن يعلقهم نوع تشوقهم إلى التعلّق ببعض الأبدان التي من شأنها أن تتعلق بها الأنفس لأنّها طالبة بالطبع ـ إلى أن قال : ـ ويجوز أنْ يكون هذا الجرم متولداً من الهواء والأدخنة ويكون مقارناً لمزاج الجوهر المسمّىٰ روحاً الذي لا يشك الطبيعيون أنّ تعلّق النفس به لا بالبدن. وانّه لو جاز أن لا يتحلل ذلك الروح مفارقاً للبدن والاخلاط ويقوم ، لكانت النفس تلازمه الملازمة النفسانية. (1)
ثمّ إنّ الشيخ الرئيس استحسنه وقال في حقّه : ويشبه أيضاً أن يكون ما قاله بعض العلماء حقّاً ، وهو : انّ هذه الأنفس إن كانت زكية وفارقت البدن وقد رسخ فيها نحو من الاعتقاد في العاقبة التي تكون لأمثالهم علىٰ مثل ما يمكن أن يخاطب به العامة وتصور في أنفسهم عن ذلك ، فانّهم إذا فارقوا الأبدان ولم يكن لهم معنى جاذب إلى الجهة التي فوقهم ، لا كمال فيسعدوا تلك السعادة ، ولا شوق كمال فيشقوا تلك الشقاوة ، بل جميع هيئاتهم النفسانية متوجهة نحو الأسفل منجذبة إلى الأجسام ، ولا منع من المواد السماوية عن أن تكون موضوعة لفعل نفس فيها. (2)
إنّ من عجيب القول تفسير البدن بالبدن الناشئ من الهواء والأدخنة ، مع أنّه يشترط أن يكون بين النفس والبدن نوع انسجام وإمكان تعلّق ، فكيف يجوّز المعلم الثاني تعلّق النفس بهذا النوع من البدن ؟
وقد نقده صدر المتألّهين بقوله : إنّ القول بتجويز أن يكون موضوع تصور النفس وتخيلها بعد التجرّد عن هذا البدن متولداً من الهواء والدخان ، كيف يصحّ من رجل ذي بضاعة من الفلسفة الطبيعية ، فكيف من الفلسفة الإلهية ، أليس مثل هذا الجسم الدخاني المتولّد من بعض المواد العنصرية ، يتفرق ويتحلل بأدنى سبب إذا لم يكن له طبيعة حافظة إياه عن التبدد وعن التحلل شيئاً فشيئاً بإيراد البدل كما في الروح الطبي حتى يبقىٰ تهيئه لتصرف النفس فيكون هو في ذاته نوعاً نباتاً بل حيواناً لكونه موضوع الإدراك التخيلي فإذاً أليس هذا عين التناسخ ؟!
وأليس صار هذا الجرم الدخاني حيواناً غير إنسان تعلّقت به نفس الإنسانية فصار هذا الإنسان منسلخاً عن إنسانيته إلى حيوان آخر ؟! (3)
وأظن ـ وظن الألمعي صواب ـ انّ الذي دعا المعلم الثاني والشيخ الرئيس إلى القول بتعلّق الروح بالبدن المتولّد من الهواء والدخان ، أمران :
الأوّل : تصوّر انّ تعلّق النفس بالبدن الدنيوي العنصري تناسخ وهو باطل.
الثاني : انّ الصور الحسية التي بها تلتذ النفس أو تتألم أُمور حسية ، والنفس في إدراك هذا النوع من الأُمور رهن أدوات مادية أعني البدن ، فلا مناص من تصوير بدن يكون أداة لتصور النفس تلك الصور الحسية الملذة أو المؤلمة ، وحيث إنّ تعلّق النفس بالبدن الدنيوي تناسخ ممّا حدا إلى القول بخلق هذا البدن من الدخان والهواء.

الثاني : المعاد الجسماني ورأي صدر المتألّهين ( 979 ـ 1050 ه‍ )

ذهب صدر المتألّهين إلى المعاد الجسماني ، وانّ البدن المحشور في الآخرة هو البدن الدنيوي ، ويصرُّ علىٰ هذا القول في أوائل البحث علىٰ نحو يذعن الإنسان بأنّه بصدد إثبات ما عليه المتشرعة من المعاد الدنيوي العنصري ، هذا بالنظر البدوي ، وأمّا حينما ينتقل إلى أواخر البحث فيذهب إلى تعلّق النفس ببدن مثالي برزخي ، مطابق لما عليه الإشراقيون من الفلاسفة ، بيد انّهم عجزوا عن إثبات عينية
البدن المثالي للبدن الدنيوي ، ولكن صدر المتألّهين قام بهذا العمل الجبار ورفض التعددية بين البدنين وأرجع الاختلاف بينهما إلى الاختلاف في الكمال والنقص.
توضيح النظريتين : انّ الإشراقيين قالوا بوجود بدن مثالي للإنسان في عالم المثال ، كما أنّ له بدناً طبيعياً مادياً في هذه النشأة ، والنفس بعد مفارقتها البدن الدنيوي تتعلّق ببدن مثالي مستقل نشأ من ذي قبل.
ثمّ إنّ الدافع من وراء طرح هذه النظرية تصوّر أنّ تعلّق النفس بالبدن الدنيوي يعد تناسخاً وهو أمر باطل لا محالة ، مضافاً إلىٰ أنّ النفس إنّما تلتذ أو تتألم بالصور الحسية ، والنفس في إدراكها للصور الحسية بحاجة إلىٰ بدن ، فمسّت الحاجة إلىٰ تصوير بدن للنفس حتى يتحقق به إدراك الصور الحسية جميلها وقبيحها ، لذيذها ومؤلمها.
إلاّ أنّ هذه النظرية لا تصمد أمام النقاش.
أمّا أوّلاً : إذا كان البدن المثالي مغايراً للبدن الدنيوي ومخلوقاً من ذي قبل ، فكيف ينطبق على هذا النوع من الحشر ، قوله سبحانه : ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) ؟ (4)
وثانياً : أنّ البدن المثالي المخلوق من ذي قبل له استعداد لتعلّق النفس به ، حينها يتهيأ لقبول الفيض الإلهي ، من قبل الله سبحانه ، فتتعلّق النفس بالبدن في ظرفها ، فلو تعلّقت به نفس أُخرى بعد الموت يلزم اجتماع نفسين في بدن واحد ، وهو عين التناسخ.
ولما أثارت هذه النظرية إشكالاً واضحاً عدل عنها صدر المتألّهين وذهب إلى الوحدة بين البدنين المادي والمثالي ، وأنّ التفاوت بينهما بالكمال والنقص وانّ البدن المثالي هو عين البدن المادي لكن بنحو أكمل ، وبذلك استطاع التخلّص من الإشكال الأوّل من لزوم كون المعاد في الآخرة هو البدن الدنيوي.كما أنّه تخلّص من الإشكال الثاني بأنّ البدن المثالي لم يخلق من ذي قبل بل خلق مع البدن الدنيوي ويتكامل في ظل تكامله.
وقد استدل على وجود ذلك البدن بأُمور منها :
انّ النفس تفعل وتنفعل بهذا البدن المثالي في عالم النوم ، واستقرب وجود ذلك البدن المثالي بوجهين : ذكرهما تلميذه عبد الرزاق اللاهيجي في كتابه :
1. انّ الإنسان في هذه النشأة يتصوّر جميع أجزاء بدنه وأعضائه ظاهرة وباطنة ، والمتصوّر بالذات غير هذا البدن الدنيوي وليس إلاّ البدن المثالي.
2. انّ الإنسان يفعل ويتفاعل في النوم ببدن غير مادي ، فهو يتكلّم ويذهب ويقعد ويضرب ، كلّ ذلك ببدن غير مادي ، وليس هو إلاّ البدن المثالي.
وعلى ذلك فالبدن المثالي ليس مخلوقاً من ذي قبل ، وإنّما يخلق بالتكامل الذي يناله الإنسان. (5)
ثمّ إنّ صدر المتألّهين بنىٰ ما اختاره من المعاد على مقدمات كثيرة ، ربت علىٰ إحدى عشرة مقدمة غير انّ المهم منها لا يتجاوز عن ثلاث مقدمات ، وإليك نقلها :
الأصل الأوّل :
التشكيك في الوجودإنّ الوجود حقيقة واحدة ولها مراتب ومظاهر ، وليس التفاوت بينها إلاّ بالشدّة والضعف ، والكمال والنقص.
وبتعبير آخر : ليس في لوح الواقع إلاّ شيءٌ واحدٌ وهو الوجود ، فإذاً يرجع التفاوت بين الوجودات إلى الشدّة والضعف والنقص والكمال ، وليست الشدة والضعف إلاّ نفس الوجود ، فلا الوجود الشديد مركب من وجود وشدة ، ولا الوجود الضعيف مركب من وجود وعدم ، بل كلّها وجود لكن بمراتب ودرجات متعددة.
الأصل الثاني : انّ هوية الإنسان بنفسه
إنّ هوية البدن وتشخصه إنّما يكون بنفسه لا بجرمه ، فزيد مثلاً زيد بنفسه لا بجسده ، ولأجل ذلك يستمر وجوده وتشخّصه مادامت النفس باقية فيه ، وإن تبدّلت أجزاؤه وتحولت لوازمه ، من أينه وكَمّه وكيفه ووضعه ومتاه ، كما في طول عمره ; وكذا القياس لو تبدلت صورته الطبيعية بصورة مثالية ، كما في المنام ، وفي عالم القبر والبرزخ إلى يوم البعث ، أو بصورة أُخروية كما في الآخرة ، فانّ الهوية الإنسانية في جميع هذه التحوّلات والتقلّبات واحدة هي هي بعينها ، لأنّها واقعة على سبيل الاتصال الوحداني التدريجي ، ولا عبرة بخصوصيات جوهرية وحدود وجودية واقعة في طريق هذه الحركة الجوهرية ، وإنّما العبرة بما يستمرّ ويبقىٰ وهي النفس لأنّها الصورة التمامية في الإنسان التي هي أصل هويته وذاته ، ومجمع ماهيته وحقيقته. (6)
وعلى هذا فالإنسان في حركته الجوهرية من الجماد إلى النبات ، ومنه إلى الحيوان ، ثمّ الإنسان ، وإن مرّت به تلك المراحل ، لكنّها ـ في الواقع ـ علل إعدادية لحصول النفس الإنسانية ، وعليه تكون واقعية نفسها وحقيقتها الكمال الذي وصلت إليه في نهاية الحركة ، فالإنسان هو الإنسان وإن تجرّد عن الجرم والجسم والجسد والبدن ، بشهادة أنّه قد مرّ عليه أبدان وأجساد وهو بعدُ شخص واحد ووحدته محفوظة ، ولذا لو جنىٰ في شبابه ولاقىٰ جزاءه العادل في هرمه لا يكون ظلماً في حقّه.
الأصل الثالث : العوالم الثلاثة
إنّ أجناس العوالم والنشآت مع كثرتها منحصرة في ثلاثة ، وإن كانت دار الوجود واحدة لارتباط بعضها مع بعض :
أدناها عالم الصور الطبيعية الكائنة الفاسدة.
وأوسطها عالم الصور الإدراكية الحسيّة المجرّدة عن المادة.وأعلاها ، عالم الصور العقلية والمثل الإلهية.
فاعلم أنّ النفس الإنسانية مختصة من بين الموجودات بأنّ لها هذه الأكوان الثلاثة مع بقائها بشخصها ، فللإنسان كون طبيعي وهو بحسبه إنسان بشري. ثمّ يتدرج في هذا الوجود ويتكامل ويتلطف شيئاً فشيئاً في تجوهره إلىٰ أن يحصل له كون آخر مثالي ، وهو بحسبه إنسان مثالي ، وله أعضاء مثالية وهو الإنسان الثاني.
ثمّ قد ينتقل من هذا الكون أيضاً نتيجة تكامله فيحصل له كون عقلي ، وهو بحسبه إنسان عقلي ، وله أعضاء عقلية وهو الإنسان الثالث.
وهذه المراحل التي يمرّ بها الإنسان مختصة بنوعه. فإنّ الأشياء وإن كانت برُمَّتها سائرة إلى الحضرة الإلهية ، لكن الذي يمرّ على الصراط المستقيم منتهياً إلىٰ غاية الغايات ليس هو إلاّ النوع الإنساني.
فالإنسان بحسب فطرته الأصلية يتحرك نحو الآخرة بالتدريج ويرجع إلىٰ غاية مقصودة ، فيبتدئ بوجوده الدنيوي المادي إلىٰ وجوده الأُخروي الصوري إذ نسبة الدنيا إلى الآخرة نسبة النقص إلى الكمال ، ونسبة الطفل إلى البالغ ، فإذا بلغ الوجود أشده الجوهري يخرج من هذا الوجود الدنيوي إلىٰ وجود أُخروي ويستعد للخروج من هذه الدار إلىٰ دار القرار.
ثمّ إنّه استنتج من هذه الأُصول ، وقال : من تدبّر في هذه الأُصول لم يبق له شكّ وريب في مسألة المعاد وحشر النفوس والأجساد ، ويعلم يقيناً ويحكم بأنّ هذا البدن بعينه سيحشر يوم القيامة بصورة الأجساد ، وينكشف له أنّ المعاد في المعاد مجموع النفس والبدن بعينهما وشخصهما وانّ المبعوث في القيامة هذا البدن بعينه لا بدن آخر مبائن له عنصرياً ـ كان كما ذهب إليه جمع من الإسلاميين ـ أو مثالياً ـ كما ذهب إليه الإشراقيون ـ فهذا هو الاعتقاد الصحيح المطابق للشريعة والملة الموافق للبرهان والحكمة. (7)
وإيضاحاً لمختاره نقول : إنّ مقتضى الأصل الأوّل انّ الإنسان في حركته الجوهرية ينتقل من كمال إلى كمال ، ومقتضى الأصل الثالث انّ له نشاءات ثلاث :
طبيعية ، ومثالية ، وعقلية ، وبحكم الأصل الثالث انّ فعلية شيء بصورته لا بمادته ، فالإنسان في النشأة المثالية هو الإنسان في النشأة الطبيعية ، لأنّ الصورة محفوظة بكمالها لا بحدودها ، ففعلية البدن هو صورته وهي محفوظة في عالم المثال ، كما أنّ فعلية الإنسان نفسه وهي أيضاً محفوظة ، فإذا حشر الإنسان بالبدن المثالي الذي كانت النفس تلازمه في عالم الطبيعة ، يكون حشره حشر البدن العنصري لكن لا بحدوده.
هذه عصارة ما ذكره صدر المتألّهين في تفسير المعاد الجسماني وهو يختلف عن مسلك الإشراقيين في واقع البدن المثالي ، فانّه على مسلكهم يكون بدناً مخلوقاً من ذي قبل تتعلّق به النفس بعد فراقه عن البدن ، وعلى مسلكه يكون البدن المثالي مخلوقاً مع البدن العنصري وفي داخله وحالّة فيه ويتكامل مع تكامله على نحو لو تركت النفس تعلّقها بالبدن الدنيوي لبقيت متعلّقة بالبدن المثالي ، وتمكث في عالم البرزخ إلىٰ يوم القيامة ثمّ تحشر معه متعلّقة به.
فهنا سؤال وهو انّ حاجة النفس إلى البدن المثالي يدور حول أحد أمرين :
الأوّل : انّ تكامل النفس بعد تركها البدن الدنيوي رهن تعلّقها بذلك البدن حتى تتكامل تحت ظل ذلك التعلّق.
الثاني : انّ النفس بحاجة إلى ذلك البدن لأجل نيل الثواب والعقاب ولولاه لما تيسر لها نيلهما.
أما الثاني فهو مخالف لمختاره في القوة الخيالية للنفس ، فانّها قوة جوهرية معلولة للنفس قائمة بها قيام المعلول بالعلة ، وليست حالَّة في البدن ولا في أعضائه ، وعلىٰ هذا تكون الصور المخلوقة بتلك القوة مخلوقة للقوة قائمة بها ، قيام المعلول بالعلة من دون أن تكون حالّة في الأعضاء.
فإذا كانت القوّة والصور القائمة بها ، أُموراً جوهرية قائمة بالنفس فلا حاجة لها بالبدن المثالي.
نعم القوة الخيالية في النشأة الأُولىٰ لا تستطيع خلق الصور إلاّ عن طريق إعمال القوى الحسية الموجودة في الأعضاء ، فلا يُبصر إلاّ بالعين ، ولا يُسمع إلاّ بالسمع ، وحيث إنّ الصور في هذه النشأة تأتي إلى النفس والقوة من خارج ذاتهما فلا محيص من الاستعانة بالبدن العنصري ، وهذا بخلاف الصور الجميلة أو المؤلمة في النشأة الأُخرىٰ فانّ الصور تبرز من داخل النفس والقوة إلىٰ خارجهما حسب الملكات التي يكتسبها الإنسان طيلة عمره ، فالنفس ذي الملكة الحسنة تخلق صوراً جميلة يلتذ بها على خلاف الملكة السيئة ، وعلىٰ ذلك فلا حاجة للنفس ولا للقوّة الخيالية في إيجاد الصور للبدن المثالي.
فتعين الوجه الأوّل ، وهو انّ النفس في تكاملها رهن البدن المثالي فعندئذٍ نطرح هنا أمرين :
الأوّل : انّ كثيراً من الناس يعوزهم الاستعداد اللازم للانتقال إلى عالم العقول ، بل يبقوا في عالم المثال أبد الدهر ، وعندئذٍ يكون استخدام البدن المثالي أمراً زائداً طفيلياً لا ينفع.
وأمّا الأنبياء والأولياء فلهم استعداد الانتقال إلى عالم العقول فيتركون البدن المثالي لغاية الوصول إلى عالم العقل ، فيكون حشرهم الجسماني أمراً مؤقتاً لا أمراً دائمياً وهو علىٰ خلاف القرآن.
الثاني : المختار عند صدر المتألّهين في العوالم الثلاثة انّها عوالم غير منفصلة فمع انّ كلاً في طول الآخر ، لكن عالم العقل باطن عالم المثال ، وعالم المثال باطن عالم الطبيعة.
فالنفس في عالم الطبيعة واجدة للمراتب الثلاثة دفعة واحدة فهي بما انّها مبدأ للحياة الحيوانية مظهر لعالم الطبيعة وبما انّها تدرك الصور الحسية مظهر لعالم المثال ، وبما انّها تدرك المفاهيم الكلية والحقائق المرسلة مظهر عالم العقل ، ولأجل ذلك اشتهر قولهم : « النفس في وحدتها كل القوى » فهي بوجودها الجمعي جامعة لتلك المراتب دفعة واحدة وإن كانت كلّ مرتبة في طول الأُخرى.
فإذا كانت هذه حالة النفس ، فلماذا لا تحافظ على تلك الحالة في عالم الحشر أيضاً ، بأن يكون لها حشر طبيعي ومثالي وعقلاني ، فهي بوجودها الطبيعي تثاب وتعاقب بما يناسب عالم الطبيعة كما أنّها بوجودها المثالي تثاب بالصور وتعاقب بها ، كما أنّها بمرتبتها العقلية تصل إلىٰ ما هو الغاية القصوىٰ ، وحيث إنّه لا تزاحم بين المراتب في وجود النفس فلا مانع من أن يكون حشر واحد للنفس في جميع مراتبها لا بحدودها ؟
وخلاصة القول : إنّ عالم الطبيعة تدبر بالعوالم الثلاثة ، فعالم الطبيعة تحت ظل عالم المثال ، كما أنّ كليهما تحت ظل عالم العقل ، فلا تزاحم بين العوالم الثلاثة خارج النفس ، كذلك لا تزاحم بين تلك العوالم في وجود النفس في الحشر الأُخروي.
وفي الختام نعطف نظر القارئ العزيز إلى أنّ لو كان القول بتعلّق النفس بالبدن المثالي لأجل الجمع بين الشريعة والبرهان ، فهذا الجمع بعيد عن الصواب لا سيما وإنّ أكثر الآيات الواردة في المعاد الجسماني صريحة في المعاد العنصري لا في المعاد المثالي.
الثالث : المعاد الجسماني والرأي السائد بين المتكلّمين
الرأي السائد بين المتكلّمين هو انّه سبحانه يخلق من الأجزاء المتفرقة للبدن بدناً ، فيعيد إليه نفسه المجردة الباقية بعد بلاء البدن ، ولا يضر انّه غير البدن الأوّل بحسب الشخص ، ولا يبعد أن يكون قوله تعالى : ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ الخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ) (8) إشارة إلى هذا.
فإن قيل : على هذا يكون المثاب والمعاقب باللّذات والآلام الجسمانية ، غير من عمل الطاعة وارتكب المعصية.
قلنا : العبرة في ذلك بالإدراك وإنّما هو للروح ولو بواسطة الآلات وهو باق بعينه ، وكذا الأجزاء الأصلية من البدن ، ولهذا يقال للشخص من الحداثة إلى الشيخوخة انّه هو بعينه وإن تبدلّت الصور والهيئات ، بل كثير من الآلات والأعضاء ، ولا يقال لمن جنىٰ في الشباب فعوقب في المشيب إنّها عقوبة لغير الجاني.
ويدل عليه من الآيات :
قوله سبحانه : ( قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ). (9)
وقوله تعالى : ( فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ). (10)
( أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ). (11)
( وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ). (12)
( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا ). (13)
( يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ). (14)
( أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ) (15). إلى غير ذلك من الآيات.
وبالجملة فإثبات الحشر من ضروريات الدين وإنكاره كفر.
فإن قيل : الآيات المشعرة بالمعاد الجسماني ليست أكثر وأظهر من الآيات المشعرة بالتشبيه والجبر والقدر ونحو ذلك وقد وجب تأويلها قطعاً ، فلنصرف هذه أيضاً إلىٰ بيان المعاد الروحاني ، وأحوال سعادة النفوس وشقاوتها بعد مفارقة الأبدان على وجه يفهمه العوام ، فانّ الأنبياء مبعوثون إلى كافة الخلائق لإرشادهم إلى سبيل الحقّ ، وتكميل نفوسهم بحسب القوة النظرية والعملية وتبقية النظام المفضي إلىٰ صلاح الكلّ وذلك بالترغيب والترهيب بالوعد والوعيد والبشارة بما يعتقدونه لذة وكمالاً ، والإنذار عمّا يعتقدونه ألماً ونقصاناً ، وأكثرهم عوام تقصرعقولهم عن فهم الكمالات الحقيقية واللذات العقلية وتقتصر على ما ألّفوه من اللذات والآلام الحسية وعرفوه من الكمالات والنقصانات البدنية ، فوجب أن تخاطبهم الأنبياء بما هو مثال للمعاد الحقيقي ترغيباً وترهيباً للعوام وتتميماً لأمر النظام ، وهذا ما قاله أبو نصر الفارابي إنّ الكلام مثل.
قلنا : إنّما يجب التأويل عند تعذر الظاهر ، ولا تعذر هاهنا سيما على القول بكون البدن المعاد مثل الأوّل لا عينه. وما ذكرتم من حمل كلام الأنبياء ونصوص الكتاب على الإشارة إلىٰ مثال معاد النفس والرعاية للمصلحة العامة ، نسبة للأنبياء إلى الكذب فيما يتعلّق بالتبليغ والقصد إلى تضليل أكثر الخلائق والتعصب طول العمر لترويج الباطل وإخفاء الحقّ لأنّهم لا يفهمون إلاّ هذه الظواهر التي لا حقيقة لها عندكم.
نعم لو قيل : إنّ هذه الظواهر مع إرادتها من الكلام وثبوتها في نفس الأمر ، مثل للمعاد الروحاني واللذات والآلام العقلية ، وكذا أكثر ظواهر القرآن على ما يذكره المحقّقون من علماء الإسلام ، لكان حقاً لا ريب فيه ولا اعتداد بمن ينفيه. (16)
إنّ ما ذكره سعد الدين التفتازاني كلام حقّ لا سترة عليه ، وهو الموافق للقرآن الكريم.
ونضيف إلىٰ كلامه أمرين :
الأوّل : انّ القرآن يطرح إمكان المعاد من خلال بيان قصص تتضمن عود الموتى إلى الحياة ، كقصة إبراهيم ، وعزير ، وأُمّة من بني إسرائيل ، وقصة البقرة ، وغيرها ، فلا يمكن أن تفسر تلك البراهين بالمثَل.
الثاني : انّ ثمة فرقاً بين ما دلّ على الجبر ، وبين ما دلّ على المعاد الجسماني ، فما يدل على الأوّل يخالف العقل الصريح ، ولفيف من الآيات ، كما يضاد الغاية من وراء بعث الأنبياء ، فلا محيص عن التأويل.
وأمّا المعاد الجسماني فليس هناك أيّ داع إلى التأويل ، سوى الشبهات التي نطرحها على طاولة البحث ، وسنحللها بفضل من الله سبحانه حينها حتىٰ تنجلي الحقيقة ناصعة لا يشوبها لبس ولا غموض.
الرابع : المعاد الجسماني ورأي بعض المتكلمين
ذهب لفيف من المتكلّمين إلى أنّ للإنسان أجزاءً أصلية صلبة لا يتطرق إليها الزيادة والنقصان ولا التغيّر والتبدّل ، وإنّما تطرأ إلى ما يضيف إليها. (17)
وبعبارة أُخرى : المعاد عبارة عن جمع متفرقات أجزاء مادية لأعضاء أصلية باقية عندهم ، وتصويرها مرّة أُخرى بصورة مثل الصورة السابقة ليتعلّق النفس بها مرّة أُخرى.
يقول الإمام الرازي : إنّ قوله تعالى في سورة الواقعة من الآيات إشارة إلىٰ جواب شبهة المنكرين الذين هم من أصحاب الشمال المجادلين ، فانّهم قالوا :
( أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ ) (18) وأشير إلى إمكانها هذا بوجوه أربعة :
أوّلها ، قوله تعالى : ( أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ ). (19)
وجه الاستدلال بهذا انّ المني إنّما يحصل من فضلة الهضم الرابع ، وهو كالطل المنبث في أطراف الأعضاء ولهذا يشترك كلّ الأعضاء ويجب غسلها بالالتذاذ الواقع لحصول الانحلال عنها كلّها ، ثمّ إنّ الله تعالى سلّط قوّة الشهوة على البنية حتّى إنّها تجمع تلك الأجزاء الطلية ، فالحاصل انّ تلك الأجزاء كانت متفرقة جداً أوّلاً في أطراف العالم.
ثمّ إنّ الله جمعها في بدن ذلك الحيوان وجمعها الله في أوعية المني ثمّ إنّه أخرجها ماءً دافقاً إلىٰ قرار الرّحم ، فإذا كانت هذه الأجزاء متفرقة فجمعها وكوَّن منها هذا الشخص فإذا افترقت بالموت مرة أُخرى ، فكيف يمتنع عليه جمعها مرّة أُخرى ؟! (20)
انّ ما ذكره المتكلّمون إنّما هو لإثبات انّ المعاد عنصري لا مثالي ، وهذا حقّ في الجملة ، لكن القول بأنّ لكلّ إنسان أجزاء صلبة لا تتبدل ولا تتغير إلىٰ شيء فهو أمر لم يثبته العلم ولا التجربة ولا البرهان العقلي.نعم لو تضافرت عليه الأخبار نأخذ به تعبداً. (21)
المصادر:
1- الأسفار : 9 / 148 ـ 149.
2- الإلهيات من الشفاء : 472 ـ 473
3- الأسفار : 9 / 149 ـ 150.
4- يس : 79.
5- گوهر مراد : 371.
6- الأسفار : 9 / 190.
7- الأسفار : 9 / 194 ـ 198.
8- يس : 81.
9- يس : 78 ـ 79.
10- يس : 51.
11- القيامة : 3 ـ 4.
12- فصلت : 21.
13- النساء : 56.
14- ق : 44.
15- العاديات : 9.
16- شرح المقاصد : 2 / 212 ـ 213 ، ط الآستانة.
17- كشف المراد : 259 ، المسألة الرابعة في وجوب المعاد الجسماني.
18- الصافات : 16 ـ 17 والواقعة : 47 ـ 48.
19- الواقعة : 58 ـ 59.
20- الأسفار : 9 / 153 ـ 154.
21- الأسفار : 9 / 153 ـ 154.

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.