
أثبتنا في الباب الاول من هذه الدراسة ، شرعية « حي علي خير العمل » ، وأنّها كانت تقال على عهد رسول اللّه صلی الله عليه وآله وسلم ، وقد أذّن بها بعض الصحابة كبلال ، وابن عمر ، وأبي رافع ، وأبي محذورة ، وزيد ابن أرقم ، وعبداللّه بن عباس ، وجابر بن عبد اللّه الأنصاري ، وأنس بن مالك ، وأبي أُمامة بن سهل بن حنيف ، والإمام علي ، والحسن ، والحسين ، وعقيل بن أبي طالب وعبداللّه بن جعفر ، وعلي بن الحسين ، وزيد بن علي (1) وغيرهم من آل البيت عليهم السلام .
لكن العامة ـ كلهم أو بعضهم ـ ادعوا نسخها ، فتساءلنا كيف نسخت ، ولم ، واين ومتى؟ ولم نسخت هذه الفقرة بالخصوص من الأذان؟ بل لماذا نرى غالب المسائل الخلافية يقال عنها : إنّها نسخت ، مثل : « حي على خير العمل » فما هو الناسخ يا ترى؟ قال السيّد المرتضى من الإمامية : وقد روت العامة أن ذلك [ حي على خير العمل ] مما كان يقال في بعض أيام النبي ، وإنما أدعي أن ذلك نُسخ ورفع ، وعلى من ادّعى النسخ الدلالة له ، وما يجدها.
وفي كتاب « الأحكام » ـ من كتب الزيدية ـ قال يحيى بن الحسين صلوات اللّه عليه : وقد صحّ لنا أنّ « حي على خير العمل » كانت على عهد رسول اللّه يؤذّن بها ولم تطرح إلاّ في زمن عمر بن الخطاب ، فإنّه أمر بطرحها وقال : أخافُ أن يتّكل الناس عليها ، وأمر بإثبات « الصلاة خير من النوم » مكانها.
وعن الباقر ، قال : كان أبي علي بن الحسين يقول : كانت في الأذان الأول ، فأمرهم عمر فكفّوا عنها مخافة أن يتثبّط الناس عن الجهاد ويتّكلوا ، أمرهم فكفّوا عنها (2).
وعن الإمام زيد بن علي أنّه قال : ممّا نقم المسلمون على عمر أنّه نحّى من النداء في الأذان « حي على خير العمل » ، وقد بلغت العلماء أنّه كان يؤذّن بها لرسول اللّه حتّى قبضه اللّه ، وكان يؤذن بها لأبي بكر حتى مات ، وطرفا من ولاية عمر حتى نهى عنها.
وعن أبي جعفر الباقر ، قال : كان الأذان بـ « حي على خير العمل » على عهد رسول اللّه وبه أُمروا أيّام أبي بكر ، وصدرا من أيّام عمر ، ثمّ أمر عمر بقطعه وحذفه من الأذان والإقامة ، فقيل له في ذلك ، فقال : إذا سمع الناس أنّ الصلاة خير العمل تهاونوا بالجهاد وتخلّفوا عنه ، ورو ينا مثل ذلك عن جعفر بن محمد ، والعامّة تروي مثل هذا (3).
وروى الصدوق في « علل الشرائع » بسنده عن ابن أبي عمير أنّه سأل أبا الحسن الكاظم عن سبب ترك « حي على خير العمل » فذكر العلة الظاهرة والباطنة لهذا الامر ، فقال :
أمّا العلّة الظاهرة ، فلئلاّ يدع الناس الجهاد اتّكالاً على الصلاة.
وأمّا الباطنة فإنّ « خير العمل » الولاية ، فأراد [ عمر ] من أمرِهِ بترك « حي على خير العمل » من الأذان أن لا يقع حثٌّ عليها ودعاء إليها (4).
الحيعلة الثالثة معيار الانتماء ومحك الاختلاف
قال سعد التفتازاني المتوفّى 793 ه ، في شرح المقاصد في علم الكلام وفي حاشيته على شرح العضد ، وكذا القوشجي المتوفّى 879 ه في شرح التجر يد في مبحث الإمامة ، وغيرهما : إنّ عمر بن الخطاب خطب الناس وقال : أيّها الناس ، ثلاثٌ كُنَّ على عهد رسول اللّه أنا أنهى عنهنّ وأحرّمهنّ وأعاقب عليهنّ ، وهي : متعة النساء ، ومتعة الحجّ ، وحيّ على خير العمل (5).وقال المجلسيّ الأوّل في روضة المتّقين : أنّه روى العامّة أنّ عمر كان يباحث = [ يجادل ] مع رسول اللّه في ترك حيّ على خير العمل ، ويجيبه [ الرسول ] بأنّها من وحي اللّه ، وليست منّي وبيدي ، حتى قال عمر : [ أيام خلافته ] : ثلاث كنّ في عهد رسول اللّه وأنا أحرّمهن وأعاقب عليهنّ : متعة النساء ، ومتعة الحج ، وقول حي على خير العمل ، رواه العامة في صحاحهم (6).
فهنا سؤال يرد على الأذهان ، وهو : ما وجه الترابط بين المنع عن المتعتين وبين رفع حي على خير العمل من الأذان؟ وعلى أيّ شيء يدل؟ ولماذا نرى الذي يقول بشرعيّة « الصلاة خير من النوم » لا يقول بإمامة علي بن أبي طالب ، ومن يقول بـ « حي على خير العمل » يرى شرعية الولاية لعلي بن أبي طالب؟
وهل حقا أنّ « حي على خير العمل » يرتبط بموضوع الإمامة والخلافة؟ وإذا كان فكيف يستدلّ به؟
ولكي يقف المؤمن على السبب الخفيّ في محو تشريع الحيعلة الثالثة وما دعا عمر لأن يحذفها ، لان السائل سأل عن سبب الترك ، والإمامُ وضّحها لأنّ عمر حذفها كي لا يقف المسلمون على تفسيرها معها ، فحذفها خوفا من مستلزماتها.
وهل من الصدفة في شيء أن يكون الإمام عليٌّ هو محور هذه الفقرات الثلاث؟
إن موضوع « حي على خير العمل » ما هو إلاّ نافذة واحدة من النوافذ الكثيرة إلى الفقه الأصيل والفقه المحرَّف ، وإنّ شأنه في مفردات الفقه الخلافيّ شأنُ التكبير على الميّت أربعا أم خمسا ، وشأن حكم الأرجل في الوضوء هل هو المسح أو الغسل؟ وأنّ المتعة جائزة أم حرام؟ والتختّم في اليمين أو الشمال؟ والمصلي هل عليه القبض أو الارسال؟ وهل أن الجهر بالبسملة سنة أم الإخفات بها هو السنة؟ وأن صلاة الضحى والتراو يح شرعية أم بدعية؟ وهكذا عشرات المسائل في الفقه المقارن.
فالذي يكبّر على الميّت خمسا يقول : لا أتركها لقول أحد (7) ، والقائل بالمسح على الأرجل يراها موافقه للذكر الحكيم ، حيث لا يوجدُ في كتاب اللّه إلاّ غسلتان ومسحتان (8) ، وأمّا الذي يمنع من المتعة فيستدلُّ بمنع عمر لها (9) ، وهكذا الحال بالنسبة إلى غيرها من الأُمور الخلافيّة عند الطرفين ، فالبعض يستدلّ بالنصّ القرآنيّ والحديث المتواتر النبويّ ولا يرتضي استبدالهما بقول أحد ، وهناك من يأخذ بسيرة الشيخين معيارا للنفي والإثبات.
إذن هناك سنّة لرسول اللّه ، وهناك سنّة للشيخين ، فالبعض كان لا يرتضي ترك سنّة رسول اللّه لقول أحد ، والآخر يرى الخليفة هو الأعلم بالأحكام وروح التشريع فيجب اتّباعه حتّى لو خالف سنّة النبيّ الثابتة.
إنّ ربط عمر بن الخطاب بين هذه المسائل الثلاث ـ المتعتين وحيَّ على خير العمل ـ يعني في آخر المطاف ارتباط الأمر بالخلافة والإمامة ومنزلة الهاشميّين ، لأنّ هذه المسائل الثلاث أبرز عناوين مدرسة التعبّد المحض التي ترى وتعتقد بإمامة علي عليه السلام ، وقول عمر : « أنهي عنها » أو « اعاقب عليها » بمثابة اعتراف مبدئيّ منه بشرعية « حيّ على خير العمل » واعتراف ضمنيّ كاشفٌ عمّا يجول في دواخله ، ولذلك ربط نهيه عن « حي على خير العمل » بنهيه عن متعتي النساء والحج اللَّتين أكّد الإمام علي وابن عباس ورعيل من الصحابة على شرعيّتهما (10) ، بخلاف عمر والنهج الحاكم اللذين دعيا إلى تركهما.
فترك هذه الثلاث عمري ، وأمّا لزوم الاعتقاد بشرعيّتها فهو علوي ونبوي ، إذا الأمر لم يكن اعتباطا ، بل جاء لوجود رابطة وعلاقة متينة بين كلّ الأُمور المنهيّ عنها متأخراً والمعمول بها عند الرعيل الأول ، ولأجل هذا نرى ارتباطا تاريخيّا وثيقا بين القول بامامة عليّ والقول بشرعيّة الحيعلة الثالثة ، وبين رفض الولاية والإمامة لعليّ والقول برفع « حي على خير العمل ».
قال ابن أبي عبيد : إنّما أسقط « حي على خير العمل » مَنْ نهى عن المتعتين ، وعن بيع أمّهات الأولاد ، خشيةَ أن يتّكل الناس بزعمه على الصلاة ويَدَعُوا الجهاد ، قال : وقد رُوي أنّه نهى عن ذلك كلّه في مقام واحد (11).
وثبت أيضا أنّ رسـول اللّه أذّن ، وكان يقول : « أشهد أنِّي رسول اللّه » ، وتارة يقول : « أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه » ، وأنكر العامّة أذانه عليه السلام (12).
نعم ان النهج الحاكم طرح مفاهيم وتبنى افكارا تصب فيما يهدفون إليه ، منها تشكيكهم في أذان الرسول ؛ لعدم ارتضاء الشيخين التأذين بها في خلافتهما ، فأرادوا القول بعدم أذان رسول اللّه ، لكي يعذروا الشيخين ولكي يقولوا بأ نّهم اقتدوا برسول اللّه في عدم أذانه!!
إِبعادُ قريشٍ آلَ البيت عن الخلافة!!
لا شكّ ـ نظرا لرواية الإمام الكاظم عليه السلام الآنفة ـ في أنّ موضوع الخلافة والإمامة يرتبط بنحوٍ وآخر بمسألة الحيعلة الثالثة في الأذان ، وأنّ عمر أراد أن لا يكون حَثٌّ عليها كي يوقف مستلزماتها وتواليها معها ، وأنّ البحث عن دواعي إبعاد عمر أهل البيت عن الخلافة له ارتباط وثيق مع تصر يحات رسول اللّه عن آل البيت وأنّهم عترته وخلفاؤه من بعده ، وهم القربى المأمور بمودّتهم في القرآن ، والمؤكَّد على اتّباعهم في سنّة رسول اللّه ، لقوله صلی الله عليه وآله وسلم : « أذكّركم اللّه في أهل بيتي ، أذكّركم اللّه في أهل بيتي ، أذكّركم اللّه في أهل بيتي » (13).
وبما أنّ الإمام عليّا هو أعلم الناس وأقضاهم ، وهو خير البشر ، وإمام المتّقين ، وقائد الغرّ المحجّلين (14) ، وأنّ عمر كان قد عرف بأنْ ليس بين هذه النصوص وبين التصريح باسم عليّ إلاّ خطواتٍ ، سعى لإبعاده وإبعاد كلّ شيء يَمُتُّ إليه.
ومن المعلوم أنّ عمر بن الخطّاب كان لا يرضى باجتماع النبوّة والخلافة في بني هاشم ، لذلكَ سأل ابنَ عبّاسٍ عمّا في نفس عليّ بن أبي طالب بقوله : أيزعم أنّ رسول اللّه نصّ عليه؟
قال ابن عباس : نعم ، وأزيدك : سألت أبي عما يدّعيه ، فقال : صدّق ، قال عمر : لقد كان من رسول اللّه في أمره ذَروٌ من قول لا يثبت حجّة ، ولا يقطع عذرا ، كان يَرْبَعُ في أمره وقتا ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعتُ من ذلك إشفاقا وحيطةً على الإسلام ... فعلم رسولُ اللّه أنّي علمت ما في نفسه فأمسك (15).
وقال العيني في عمدة القاري : واختلف العلماء في الكتاب الذي هَمَّ النبيّ بكتابته ، فقال الخطّابي : يحتمل وجهين ، أحدهما أنّه أراد أن ينصّ على الإمامة بعده فترتفع تلك الفتن العظـيمة كحرب الجمل وصفين (16).
وقد تناقل أصحاب كتب التاريخ والسـير أنّ عمر بن الخطاب منع من تدو ين حديث رسول اللّه ، كي لا يختلط التنزيل مع أسباب النزول ، ونحن فصّلنا البحث عن هـذا الأمر في كتابنا ( منع تدو ين الحديث ) فليراجع.
قال المعلمي ـ من علماء العامّة ـ تعليقا على مرسلة ابن أبي مُليكة في منع أبي بكر لحديث رسول اللّه : إنْ كان لمرسل ابن أبي مُليكة أصل فكونه عقب الوفاة يشعر بأ نّه يتعلّق بأمر الخلافة.
كأنّ الناس عقب البيعة بقوا يختلفون يقول أحدهم : أبو بكر أهلها ، لأنّ النبي قال : كيت وكيت ، فيقول آخر : وفلان [ أي علي ] قد قال له النبي : كيت وكيت.
فأحبّ أبو بكر صرفهم عن الخوض في ذلك وتوجيههم إلى القرآن (17).
فقريش كانت لا ترتضي أن تكون الخلافة في عليّ وولده ، بل كانت تريد مشاركة الرسول في الوصاية والخلافة ، وقد اشترطت على رسول اللّه بالفعل أن يشركها في أمر الخلافة ، وأنّهم لا يبايعوه إلاّ أن يجعل لهم في الأمر نصيبا ، فنزل فيهم قوله تعالى : ( يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الاْءَ مْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الاْءَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ) (18) ، مؤكدا سبحانه وتعالى لهم بأن ليس بيده صلی الله عليه وآله وسلم شيء ، فإنّ اللّه هو الذي ينصب الخليفة والخلفاء والأمراء وأيّامهم.
لكنّهم كانوا يتصوّرون أنّ بمقدورهم التلاعب بالذكر الحكيم وتغيير الآي الكريم.
وممّا قيل بهذا الصدد : أنّ ضيفين نزلا قرية انطاكية ، فأبى أهلها أن يضيّفوهما ، فنزل فيهم الوحي ، وصار هذا عارا وشنارا عليهم ، فأرادوا أن يغيّر الرسول ما نزل فيهما بإبدال حرف الباء في ( أبوا ) ويجعلها تاءا ( أتوا ) في قوله تعالى : ( حَتَّى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا ) (19) فجاؤوه بأحمال الذهب والفضة والحرير كرشوة له صلی الله عليه وآله وسلم في مقابل ما يريدونه ، لكنّه أبى مستنكِرا فعلهم (20).
إنّ قبائل العرب ـ وخصوصا قريشا ـ كانوا لا يعلمون بأنّ دين اللّه خالصٌ نقيٌّ ، ورسوله مُطهّرٌ زكيٌّ مصطفى ، بعيدٌ عن الأهواء والمغريات ، ولاجل هذا نزل الوحي موضحا لهم ، بأ نّه صلی الله عليه وآله وسلم ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْءَقَـاوِيلِ * لاَءَخَـذْنَا مِنْـهُ بِالْيمِينِ * ثُمَّ لَقَطَـعْنَا مِنْهُ الْوَتِـينَ * فَـمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) (21) ، وأنّه ( مَا يَكُـونُ لِي أَنْ أُبَـدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّـبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَـذَابَ يَـوْمٍ عَظِيمٍ ) (22).
فنحن لو جمعنا ما مرّ عن ابن عباس آنفا ، وما قاله عمر بأ نّه عرف مقصود رسـول اللّه ، وأنّه أراد أن يصـرّح باسم الإمام عليّ وأن ينصّ عليه بالإمامـة ، فمنعه إشفاقا على الإسلام ، كلّ ذلك لو جمعناه مع قوله « إن الرجل ليهجر » (23) أو « إنّ النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب اللّه حسبنا » (24) ، لعلمنا أنّ تلك النصوص قيلت تعريضا بالنبيّ وآله ، لأ نّه وحسب كلامه كان قد عرف تأكيدات النبي على أهل البيت في حجّة الوداع « أُذكّركم اللّه في أهل بيتي ، أُذكّركم اللّه في أهل بيتي ، أُذكركم اللّه في أهل بيتي » (25) ، وفي حديث الثقلين « كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا » ، وفي عشرات بل مئات الأحاديث الأخرى.
فإنّ تأكيد النبيّ على العترة ، وأنّ تركهم يعني الضلال عن الجادّة ، يفهمنا بارتباط أمر آل البيت بالشريعة ، لا بالمحبّة فقط كما يصوّره البعض.
فنحن لو جمعنا كلّ هذه المفردات ، وطابقناها مع مواقف النهج الحاكم بعد رسول اللّه من أهل بيت الرسالة ، وموت الزهراء وهي واجدة على أبي بكر وعمر (26) ، لعرفنا مدى المفارقة بين ترك بِرِّ فاطمة وترك الدعوة للولاية بـ « حيّ على خير العمل » في الأذان ، ولماذا جاء تفسير « حيّ على خير العمل » في كلام الإمامين الباقر والصادق بـ « بر فاطمة وولدها » وغيرها من النصوص الأخرى.
إنّ وقوف الرسول كل يوم على باب فاطمة ولمدّة ستة أشهر بعد نزول آية التطهير ، وقوله لأهل بيت الرسالة : « الصلاة ، الصلاة إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا » (27) يؤكّد على وجود ترابط بين التوحيد والنبوّة والإمامة في الأذان وكذا في الصلاة ، بل في كلّ شيء ، وقد كان الرسول الأكرم هو حلقة الوصل والرابط بين ركيزتي التوحيد ( الصلاة ) والعترة ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (28).
وكان القوم قد عرفوا هذا الارتباط من خلال الآيات الكثيرة النازلة في حقّ أهل البيت ، وتأكيدات الرسول المتوالية عليهم ، فأرادوا إبعادهم عما خصهم به اللّه ورسوله حسدا وازورارا ، وهم يعلمون بهذه الحقيقة ، وأنّ موضوع آل البيت ولزوم اتّباع عترته كان من موارد الابتلاء والفتنة التي أخبر بها رسول اللّه أُمّته ، وقد نقلنا سابقا ما جاء عن أبي سفيان ومعاوية في الأذان وأنّهما كانا لا يحبّان أن يذكر اسم النبي محمّد في الأذان.
بل إنّ معاوية ، وعثمان حذفا اسمه صلی الله عليه وآله وسلم من آخر الأذان.
وجاء في مجمع الزوائد عن عبدالرحمن بن أبي ليلى ، قال : كان علي ابن أبي طالب إذا سمع المؤذّن يؤذّن ، قال كما يقول ، فإذا قال : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأشهد أن محمدا رسول اللّه.
قال علي : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأشهد أنّ محمدا رسول اللّه ، وأنّ الذين جحدوا محمّدا هم الكاذبون (29).
وفي هذا الكلام من الإمام علي معنى لطيف وتنو يه ظريف إلى الجاحدين بنبوّة محمد من القرشيّين وغيرهم من الكاذبين.
لكن لا يتسنى لأولئك الذين أسلموا والسيفُ على رقابهم في فتح مكة أن يجحدوا النبوة بصراحة أو أن يجحدوا ارتباط القربى بالرسول والرسالة ، لذلك عمدوا إلى أن لا يذكر النبيّ في الأذان ، ومع كلّ هذا الصلف والحقد كيف يرضون بذكر وصيه وخليفته من بعده علي بن أبي طالب ، فيما لو تصوّرنا ثبوت التشريع بذكره في الأذان؟! وقس على ذلك بترهم الآل من الصلاة على محمد وآل محمد ، وغير ذلك.
وجاء في ( الفقيه ) عن الصادق أنّه قال : من سمع المؤذّن يقول : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأشهد أن محمدا رسول اللّه ، فقال مصدقا محتسبا : « وأنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأشهد أن محمّدا رسول اللّه ، أكتفي بهما عن كل من أبى وجحد ، وأعين بهما من أقرَّ وشهد » ، كان له من الأجر عدد من أنكر وجحد ، وعدد من أقرَّ وشهد (30).
نعم ، إنّ مسألة اصطفاء النبي محمد من بين ولد آدم ، واصطفاء أهل بيت الرسول من بين قريش ، دعت الناس أن يحسدوهم ( عَلَى مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ) ، فسعوا ليطفئوا نور اللّه بأفواهم ، محرّفين ومزوّرين كلامه جلّ جلاله.
فهم أوّلاً أرادوا أن يكون التحريف على لسان رسوله الأمين ـ كما مرّ عليك في قضيّة أهل أنطاكية ـ ولمّا علموا عدم إمكان ذلك سعوا إلى التحريف المعنويّ وسلكوا شتى من الطرق الملتوية التي كانوا يرونها مناسبة ، لكن الحقيقة بقت واضحة لا غبار عليها رغم كلّ محاولات التضليل والإيهام من القرشيّين ، وعلى سبيل المثال ـ لا الحصر ـ فإنّ عبداللّه بن الزبير مكث أيّام خلافته أربعين جمعة لا يصلّي على النبيّ صلی الله عليه وآله وسلم في صلاة الجمعة ، فقيل له في ذلك ، فقال : لا يمنعني من ذكره إلاّ أن تشمخ رجال بآنافها ؛ إنّ له أُهيل بيت سوء ينغضون رؤوسهم عند ذكره!
الاسراء والمعراج ، الهاشميون والقرشيون
فلنأخذ مثالاً على ذلك ، وهو موضوع الإسراء والمعراج ؛ لأ نّه يرتبط بموضوع الأذان ، والمطالع فيما قلناه سابقا يقف على الأقوال التي قيلت في مكان الإسراء ، فهو : إمّا من شعب أبي طالب ، أو من بيت خديجة ، أو من بيت أُمّ هاني بنت أبي طالب ـ أُخت الإمام عليّ ـ هذه هي الأقوال المشهورة ، وكلّها ترتبط بنحوٍ ما بآل أبي طالب.(31)
لكنّهم حرَّفوا الأمر وجعلوه من بيت عائشة ، في حين يعلم المحقّق الخبير وبتأمّل بسيط بأنّ هذا تحريف للحقائق ؛ لأنّ المعروف عن عائشة أنّها كانت صغيرة لم تشاهد ، ولا حدثت عن النبي ، وكذا معاو ية فإنّه كان كافرا في ذلك الوقت غير مشاهد للحال ولم يحدث عن النبي ، هذان الشخصان هما مَن روى بأنّ إسراء رسول اللّه كان في المنام ، لا في اليقظة ، في حين أنّ الباري جلّ شأنه يقول في محكم كتابه : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ) والعرب لا تقول للنائم : ( أَسْرَى ) وخصوصا لو جاء مع قوله : ( بعبده ) والذي هو عبارة عن مجموع الروح والجسد.
نعم ، قد يمكن أن يقال للذي يرى الأُمور في المنام أنّها ( رؤيا ) لا إسراء ، وهذا ما كانت بنو أُميّة تريد التأكيد عليه في موضوع الإسراء ، والأذان المشرّع فيه ، إذ القول بأنّ الإسراء كان مناما ينسف إعجازه ، ومن ثمّ يتسنى لهم الطعن والتلاعب بالأذان المشرّع فيه ، لذلك كان أئمّة مدرسة أهل البيت يصرّون على أنّ الإسراء كان جسمانيا ، وأنّه معجز ربّانيّ فوق الفهم الإنساني ، وليس كما تقوله بنو أُميّة.
وقد اعترف بعض العامة بذلك ؛ فقال ابن كثير : ... فلو كان مناما لم يكن فيه كبير شيء ولم يكن مستعظَما ، ولَمَا بادرت قريش إلى تكذيبه ، ولما ارتدّت جماعة ممّن كان قد أسلم .
وأجاب ابن عطية عن دعوى عائشة ومعاو ية ، بقوله : .. واعتُرِضَ قولُ عائشة بأنّها كانت صغيرة لم تشاهد ، ولا حدّثت عن النبي ، وأمّا معاو ية فكان كافرا في ذلك الوقت ، غير مشاهد للحال ، صغيرا ، ولم يحدّث عن النبي صلی الله عليه وآله وسلم .
بلى ، إنّهم بتشكيكهم هذا أرادوا أن يقولوا بأنّ الأذانَ لم يُشرّع في السماء بل شُرّع في المنام ، وأنَّ بعض الصحابة قد شُرّف بهذا المنام الوحياني الذي لم يُحْظَ به رسول اللّه ، إذ سمع النداءَ السماويَّ : عبدُاللّه بن زيد ، أو عمرُ ، أو معاذُ ، ولم يسمعه رسول اللّه ، فأمر صلی الله عليه وآله وسلم بلالاً أن يأخذ الأذان من عبداللّه بن زيد!!
وجاءت روايات أُخرى تقول : إنّ رسول اللّه استشار بعض الصحابة في هذا الحكم الإلهيّ ، فأشاروا عليه بأشياء استقبح الرسول بعضها ، ورضي بالآخر منها.
وفي آخر : إنّ عمر أضاف الشهادة بالنبوّة في الأذان ، إلى غيرها من التمحّلات الكثيرة التي أُسْقِطَتْ على الأذان وحرّفته عن وجهته الحقيقية.
في حين قد وقفت سابقا على كلام الإمامين الحسن والحسين وكلام محمد بن الحنفية وغيرهم في بدء الأذان وعدم قبولهم لما طُرح من قبل الامو يّين في هذا الأمر ، مؤكِّدين بأنّ اللّه سبحانه رفع ذكر الرسول في الصلاة والتشهد والأذان ، فلا حاجة بعد ذلك لمدح المادحين ولا خوف من جحود الضالّين المعاندين.
وممّا يجب التنبيه عليه كذلك هو أنّ قريشا كانت تقول لمن مات الذكور من أولاده : أبتر ، فلمّا مات أبناء الرسول صلی الله عليه وآله وسلم : ـ القاسم وعبداللّه بمكة ، وإبراهيم بالمدينة ـ قالوا : بُتِرَ ، فليس له من يقوم مقامه.
فنزلت سورة الكوثر ردّا على من عابه بعدم الأولاد ، فالمعنى أنّه جل شأنه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان.
قال الفخر الرازي : فانظُرْ كم قُتِلَ من أهل البيت ثم العالم ممتلئ منهم ، ولم يبق من بني أُميّة في الدنيا أحد يُعبأ به.
ثم انظُر كم فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر ، والصادق ، والكاظم ، والرضا ، والنفس الزكية وأمثالهم.
المصادر :
1- المعجم الكبير 1 : 352 / ح 1071 ، السنن الكبرى للبيهقي 1 : 425 / ح 1845 ، مجمع الزوائد 1 : 330 ، كنز العمال 8 : 161 / ح 23174 ، وسائل الشيعة 5 : 418 / ح 6972.
2- الأذان بحي على خير العمل :29 و79.
3- دعائم الإسلام 1 : 142 ، بحار الأنوار 81 : 156.
4- علل الشرائع 2 : 368 / 89 من نوادر علل الصلاة / ح 4
5- شرح المقاصد في علم الكلام 2 : 294 ، شرح التجريد : 374 ، كنز العرفان 2 : 158. وانظر الغدير 6 : 213 ، والصراط المستقيم 3 : 277 ، والمسترشد : 516.
6- روضة المتقين 2 : 227 ـ 228.
7- مسند أحمد 4 : 370 / 19319 ، وشرح معاني الأثار 1 : 494 عن زيد بن أرقم.
8- سنن الدارقطني 1 : 96 / ح 5 ، سنن البيهقي الكبرى 1 : 72 / ح 345 عن ابن عباس.
9- مسند أحمد 3 : 325 / ح 14519 ، وانظر 1 : 52 / ح 369 ، معرفة السنن والآثار 5 : 345 / ح 4237 ، سنن سعيد بن منصور 1 : 252 / ح 853 ، مسند أبي عوانة 2 : 338 / ح 3349.
10- صحيح البخاري 2 : 567 / ح 1488 ، مسند أحمد 1 : 57 / ح 402 ، سنن النسائي ( المجتبى ) 5 : 152 / ح 2733 ، المستدرك على الصحيحين 1 : 644 / ح 1735 . صحيح البخاري 2 : 568 / ح 1492 ، مسند أحمد 1 : 52 / ح 369 ، و 1 : 236 / ح 2115 و 1 : 337 / ح 3121 ، صحيح مسلم 2 : 885 / ح 1217.
11- البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار 2 : 192 ، وشرح الأزهار 1 : 223.
12- ووسائل الشيعة 5:418 / ح 6974 عن الفقيه ، وانظر حاشية الجمل على شرح المنهاج 1:387.
13- صحيح مسلم 4 : 1873 / ح 2408 ، سنن الدارمي 2 : 524 / ح 3316 ، مسند أحمد 4 : 366 / 19285.
14- الكافي 7 : 408 / ح 5 ، الخصال : 551 انظر المستدرك على الصحيحين 3 : 145 / ح 4656 ،
15- المستدرك على الصحيحين 3: 148 / ح 4668 ، المعجم الصغير 2 : 192 / ح 1012 ، حلية الأولياء 1 : 63 ،
16- عمدة القارئ 2 : 171.
17- الانوار الكاشفة للمعلمي : 54.
18- سورة آل عمران : 154.
19- سورة الكهف : 77.
20- التفسير الكبير 21 : 134 وفيه : قيل ان اسم تلك القرية الأيلة.
21- سورة الحاقة : 44 ـ 47.
22- سورة يونس : 15.
23- تذكرة الفقهاء 2 : 469 ، المسترشد : 553 / ح 234 ، شرح أصول الكافي 12 : 412 .
24- صحيح البخاري 1 : 54 / ح 114 ، و 4 : 1612 / ح 4169 ، و 6 : 2680 / ح 6932 ، مسند أحمد 1 : 324 / ح 2992
25- صحيح مسلم 4 : 1873 / ح 2408 ، مسند أحمد 4 : 366 / ح 19285 ، سنن الدارمي 2 : 524 / ح 3316.
26- سنن الترمذي 4 : 157 / ح 1609 ، صحيح البخاري 4 : 1549 / ح 3998 ، وانظر 6 : 2474 / ح 6346 ، صحيح مسلم 3 : 1380 / ح 1759.
27- الفضائل لأحمد بن حنبل 2 : 761 / ح 1340 ، ذخائر العقبى 1 : 24 ، سير أعلام النبلاء 2 : 134 ، المستدرك على الصحيحين 3 : 172 / ح 4748 ، سنن الترمذي 5 : 352 / ح 3206 ، المصنف لابن أبي شيبة 6 : 388 / ح 32272 ، المعجم الكبير 3 : 56 / ح 2672 ، الدرّ المنثور 6 : 605.
28- سورة الاحزاب : 33.
29- مسند أحمد 1 : 119 / ح 965 ، مجمع الزوائد 1 : 332.
30- من لا يحضره الفقيه 1 : 288 / ح 891 ، مكارم الاخلاق : 298.
31- فتح الباري 7 : 204 ، الدر المنثور 5 : 227و204. التفسير الكبير للرازي 4 : 16 ، المجموع للنووي 9 : 235 .