الإمامة وشؤون الأمة

إن من المعلوم والمفهوم : أن الإمامة أصل أصيل عند الشيعة الإمامية ، فهي وفقاً للأدلة القاطعة ، والبراهين الساطعة ـ إمتداد للنبوة ـ لا يمكن تحقيق الأهداف الإلهية بإسعاد البشر ، وإيصالهم إلى كمالهم ، ونيلهم درجات القرب والرضا الإلهي بدونها.
Thursday, March 10, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
موارد بیشتر برای شما
الإمامة وشؤون الأمة
 الإمامة وشؤون الأمة

 






 

إن من المعلوم والمفهوم : أن الإمامة أصل أصيل عند الشيعة الإمامية ، فهي وفقاً للأدلة القاطعة ، والبراهين الساطعة ـ إمتداد للنبوة ـ لا يمكن تحقيق الأهداف الإلهية بإسعاد البشر ، وإيصالهم إلى كمالهم ، ونيلهم درجات القرب والرضا الإلهي بدونها.
وهي كذلك ، منصب إلهي ، لابد من الرجوع فيه إلى الله العالم الحكيم والمدبر الرحيم سبحانه وتعالى.
فهو وحده الذي يعين الإمام ، ويدلّ عليه بواسطة النص ، حيث يكون هذا الإمام قد تربى تربية إلهية خالصة في مهبط الوحي ، ومعدن الرسالة ثم بعد ذلك في حجر الإمامة ، حيث إن ذلك من شأنه أن يمنحه الفرصة لاكتساب علومه ومعارفه الشاملة من مقام النبوة ، ومصدر المعرفة الأول. أو من وارث علمه ، والإمام الحاضر والقائم بالأمر من بعده في كل عصر وزمان.

ونستخلص من ذلك :

أن الإمامة تقوم على ركنين أساسين :
أحدهما : النص القاطع لكل عذر.
الثاني : العلم الخاص ، الذي يتلقاه الإمام عليه السلام من مقام النبوة مباشرة ، أو بالواسطة هذا بالإضافة إلى الملكات والخصائص القيادية ، وكل ما من شأنه أن يحفظ المسيرة ، ويضمن سلامة الاتجاه ، مثل صفة العصمة ، والتدبير ، والحنكة ، والشجاعة ، والكرم ، وغير ذلك مما يساعده على النهوض بأعباء المسؤولية على النحو الأكمل والأفضل والأمثل.

التأكيد على الركن الأول :

ونلاحظ هنا : أن الأئمة : قد اهتموا بالتأكيد على هذين الركنين الذين أشرنا إليهما. حتى إن علياً عليه السلام قد استشهد لحديث الغدير بالصحابة والبدريين منهم خاصة في أكثر من مورد ، وأكثر من مناسبة ، في رحبة الكوفة ، وفي صفين وفي الجمل ، وفي يوم الشورى ، فشهد جم غفير منهم بسماعهم ذلك مباشرة منه صلی الله عليه وآله وسلم.
كما أن الإمام الحسين عليه السلام قد جمع الصحابة في موسم الحج ، وذكرهم بفضائل أبيه ، وبحديث الغدير ، وبأفاعيل معاوية (1).
تتبع كتب الحديث والأثر ، والتاريخ والسير يوضح هذا الإصرار منهم : ، لكثرة ما روي عنهم : في هذا المجال.

التأكيد على الركن الثاني :

أما بالنسبة للعلم الخاص فإن تأكيداتهم عليه تفوق حد الحصر ، ونحن نكتفي بذكر نماذج ثلاثة ظهر فيها هذا الأمر بصورة جلية وواضحة ، وهي التالية :
النموذج الأول : علي عليه السلام وإخباراته الغيبية :
وقد بلغت الاخبارات عما سيحدث ، الصادرة من قبل أمير المؤمنين عليه السلام حداً جعل البعض ـ حسداً ، أو حقداً ، أو جهلاً أو سياسة يتهمونه ـ والعياذ بالله ـ بالكذب ، وحديث الخرافة وما ذلك إلا من أجل أن يُفهِم الناس أنه يأخذ علمه من الرسول الأكرم صلی الله عليه وآله وسلم الذي اختصه بما لم يخص أحداً سواه. وذلك لأن الله سبحانه هو ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ ) (2) من يرتضيه من أفراد الأمة ، ومَنْ غير الأئمة يفوز بهذا الحظ العظيم والشرف الباذخ.

علي عليه السلام في العراق :

والأمر الذي لابد من الإلماح إليه ولو بإيجاز هو : أنه لم يكن أهل العراق يعرفون أمير المؤمنين عليه السلام حق معرفته ، ولا كانوا قد تربّوا على نهجه ، ولا اطلعوا على أطروحته ، وإنما عرفوا الإسلام من قبل آخرين ، ممن هم في الخط الأخر المناوئ له عليه السلام.
وحتى معرفتهم هذه للإسلام ، فإنها كانت ظاهرية وقشرية ، وإنما تعمقت وتأصلت بفضل جهوده هو عليه السلام، حتى ليقول مخاطباً لهم :
« وركزت فيكم راية الإيمان ، وعرفتكم حدود الحلال والحرام » (3).
ولأجل ذلك ، فقد كان من الطبيعي أن يشدّد عليه الصلاة والسلام كثيراً على أمر النص ، ويركّز على أن النبي الأكرم صلی الله عليه وآله وسلم قد اختصه بعلوم لم تكن لدى أحد من الناس غيره عليه السلام وهي علوم الإمامة.
ولكن الملفت للنظر هو أننا نجده عليه السلام يهتم بإظهار علومه الخاصة بصورة إخبارات غيبية ـ عما سيحدث في المستقبل ـ بصورة أكبر ، وأشد إبان حروبه مع الخوارج ، حسبما ألمحنا إليه في كتابنا : « علي عليه السلام والخوارج » ، أما في حربي الجمل وصفين ، فقد كان اهتمامه بذلك أقل كما يظهر للمتتبع.

التفسير المعقول :

ولعل التفسير المعقول والمقبول لهذه الظاهرة هو : أن حروبه عليه السلام مع الخوارج كانت هي الأصعب ، والأقسى ، والأشد مرارة ، ولكن لا من حيث : أنه قد كانت لدى الخوارج قدرات قتالية فائقة !! إذ إنهم من هذه الناحية ليس كما يشاع عنهم ، بل إن أمرهم كان أهون من غيرهم فقد قتل منهم في معركة واحدة من معارك النهروان ، أربعة آلاف رجل ـ على ما قيل ـ ولم ينج منهم عشرة ، ولم يقتل من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام عشرة بسبب الخطة القتالية الناجحة التي رسمها علي عليه السلام ولأسباب أخرى لا مجال لبحثها الآن.
ولكن السر في صعوبة ومرارة هذه الحرب يعود إلى الأمور التالية :
1 ـ إن الخوارج كانوا في ظاهر الأمر من القرَّاء المسلمين ، الذين يتظاهرون بالتقوى ، والصلاح ، والنسك ، وقد عرف ذلك عنهم وشاع.
إذن ... فقتل هؤلاء بأيدي إخوانهم المسلمين لم يكن بالأمر المستساغ ولا المقبول لدى عامة الناس ، الذين لم يعرفوا بواطن الأمور ، ولا اطلعوا على خلفياتها.
2 ـ إن الخوارج كانوا ـ من جهة ثانية ـ جزءاً من هذا الجيش الذي حارب إلى جانبه عليه السلام أعداءه في الجمل وصفين فكانوا ـ إذن ـ رفقاء السلاح والجهاد لهذا الجيش الذي يحاربونه اليوم ، ويقتلهم ، ويقتلونه ، وكانت لهم به علاقات شخصية ، وروابط ، وذكريات ، حلوة ومرة.
3 ـ لقد كانت هناك وشائج قربى ونسب ، تربط بين هاتين الفئتين المتناحرتين ، حيث إن القوم كانوا أبناء القوم ، وآبائهم ، وإخوانهم ، وأبناء عمهم.
ومن الطبيعي أن تترك الحرب فيما بين هؤلاء آثاراً سلبية بليغة على البنية الاجتماعية ، وعلى العلاقات العشائرية والقبلية في داخل جسم الأمة.
هذا بالإضافة إلى الصعوبات العاطفية ، والصدمات الروحية ، والعقد النفسية التي تنشأ ـ عادة ـ عن قتل وقتال المرء لأخيه ، وصديقه ، وابن عمه. ولا ندري حقيقة المشاعر التي كانت تنتاب عدي بن حاتم حينما دفن ولده بعد انتهاء المعركة. وكذا غيره ، حينما دفن رجال من الناس قتلاهم بإذنه عليه السلام (4).
4 ـ إن الشعارات التي رفعها الخوارج كانت خداعة وبراقة إلى حد كبير ، وكانت تستهوي أولئك الذين ينساقون وراء مشاعرهم ، وعواطفهم ، دونما تأمل أو تعقل ، أو تمحيص لحقيقة ما يجري وما يحدث ، ودونما دراسة واعية لدوافعه وخلفياته. ولم تكن لديهم معرفة كافية تخولهم تمييز الحق من الباطل والهدى من الضلال.
وهذا الواقع الذي كان يعاني منه مجتمع أمير المؤمنين عليه السلام يجعل من الشعارات البراقة والخداعة وسيلة فعالة في تخفيف هيمنة العقل والتقليل من زنته ورجاحته وجعل الأهواء ، والمشاعر هي الطاغية والمسيطرة ، وهذا هو السبب في أن فرعون قد استخف قومه ـ أي عقولهم ـ فأطاعوه حتى عبدوه.
وهو السبب في أن يتمكن الشيطان من أن يزين القبيح للإنسان ويظهره بصورة أحسن ، حتى يقع فيه. ولو كان ثمة أثارة من علم لعرف الصحيح من الزائف والحسن من القبيح ، والحق من الباطل.
5 ـ إننا إذا درسنا واقع المجتمع الذي كان أمير المؤمنين عليه السلام يتعامل معه ، ولاسيما بعد حربي الجمل وصفين ، فلسوف نخرج بنتيجة مثيرة ، وقد يرى البعض أنها تستند إلى نظرة مفرطة في التشاؤم.
فأما بالنسبة لفريق الخوارج ، فإن أمرهم واضح ، إذ يعلم كل أحد : أنهم كانوا أعراباً جفاةً ، أخفاء الهام ، سفهاء الأحلام.
وحتى بعد مرور قرنين من الزمن وفشوا العلم بين الناس ، وظهور الفرق والنحل ، حتى نحلة الاعتزال المفرطة في الاعتماد على العقل ، وكذلك بعد ترجمة الكتب اليونانية ، وبعد أن صار كل فريق يحاول تقديم آرائه ، بقوالب علمية ، وبصيغ حضارية ـ نعم ، حتى بعد هذا وذاك وذلك ، فإن حالة الخوارج الثقافية قد بقيت في منتهى السوء ، حتى لقد قال فيهم بشر بن المعتمر :
ما كان من أسلافهم أبو الحسن *** ولا ابن عباس ولا أهل السنن
غر مصابيح الدجى مناجب *** أولئك الأعلام لا الأعارب
كمثل حرقوص ، ومن حرقوص *** فقعة قاع حولها قصيص
ليس من الحنظل يشتار العسل *** ولا من البحور يصطاد الورل
هيهات ما سافلة كعالية *** ما معدن الحكمة أهل البادية (5)
وأما بالنسبة لمن عدا الخوارج من أصحابه وأعوانه ( عليه الصلاة والسلام ) ، فإن حربي الجمل وصفين ، والاغتيالات التي قام بها أعداؤه ، قد أفقدته الكثير من خلّص أصحابه ، ولم يبق معه إلا القليل. وقد قال الأشتر لهؤلاء الناس بعد انتهاء حرب صفين : « قتل أماثلكم ، وبقي أراذلكم » (6).
وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام يتلهف على أصحابه المخلصين ، الذين فقدهم (7).
وقد قال عليه السلام حين تكلّموا حول مدى طاعة الأشتر لأوامره عليه السلام : « ليت فيكم مثله إثنان ، وليت فيكم مثله واحد » (8).
ويقول عليه السلام : « ذهب والله أولوا النهى ، والفضل والتقى ، الذين كانوا يقولون فيصدقون ، ويدعون فيجيبون ، ويلقون عدوهم فيصبرون وبقيت لي حثالة قوم لا يتعظون بموعظة ولا يفكرون في عاقبة لقد هممت أن أشخص عنكم فلا أطلب نصركم ما اختلف الجديدان » (9).
وكل ذلك يوضح : أنه عليه السلام لم يعد بإمكانه تحريك الساحة بنفس الفاعلية وبنفس الحماس ، إذ إن مراكز الثقل قد تلاشت ، والكوادر الفاعلة التي كان لها تأثير كبير في توجيه الفكر ، وبلورة الرؤية السياسية لدى الجماهير قد فقدت ، فليس لعلي عليه السلام بعد اليوم ، لا عمار ، ولا أبو الهيثم بن التيهان ، ولا الأشتر ، ولا ، ولا ...
أما من تبقى معه من المخلصين ، فقد كان عليهم أن يمسكوا بالمفاصل الحساسة للدولة التي تتناوشها ذؤبان معاوية ، ويعبث فيها الأخطبوط الأموي ، وغيره من فلول الحاقدين فساداً وإفساداً.

التوضيح والربط :

على ضوء ما تقدم وبعد أن عرفنا الحالة التي كان يعاني منها المجتمع فإن من الطبيعي أن تهيمن حالة من التردد والشك والريب على مواقف الناس ، وعلى مواجهتهم لظاهرة الخوارج ، وشعاراتهم ، فكان لابد من اللجوء إلى أسلوب الصدمة ، لإحداث اليقظة الضميرية والوجدانية لدى عامة الناس ، اعتماداً على المنطلقات العامة فيما يرتبط بالإيمان بالغيب.
وقد ظهرت هذه الصدمة والهزة الضميرية عل شكل إخبارات غيبية ، يشاهد الناس تحقق مضمونها بأم أعينهم. من أجل إعطاء الشحنة المحركة ، وتسجيل الموقف الحاسم ، لكي يمكن بعد ذلك ملاحقة ومتابعة العلم التربوي ، والتثقيف والتوعية ، ليكون ذلك ضمانة لبقاء القناعات ، وتجذيرها في عقل وفكر ، ووجدان الإنسان بصورة كافية ...
وتمثل هذه الهزة أو فقل الصدمة الضميرية الأسلوب الأمثل لإظهار علم الإمامة ، الذي استقاه عليه السلام من مهبط الوحي ، ومعدن الرسالة محمد صلی الله عليه وآله وسلم ولم يشاركه فيه أحد.
ثم يأتي دور التركيز على عنصر النص ، وتأكيده بصورة قاطعة ، حتى لا يبقى عذر لمعتذر ، ولا حيلة لمتطلب حيلة.
ويكون تعاضد هذين العنصرين ، وهما : علم الإمامة ، والنص على الإمام ، هو الطريقة المثلى لنقل عنصر المبادأة والمبادرة إلى يد الإمام عليه السلام.
وهكذا ... يتضح : أن هذه الصدمة من شأنها أن تفتح كوة في الجدار المضروب حول عقل وفكر مجتمع يعاني من حالة مزرية من الجهل بالدين وأحكامه ، وبالإمامة والإمام ، وقد زين جدار الجهل هذا بأصباغ براقة من الشعارات الخادعة ، التي تتلبس له باسم الإسلام ، ويجد فيها وسيلة تساعده على تحقيق مآربه في الغنائم والأموال. وفي الجاه ، والهيمنة على الآخرين ، وغير ذلك. من دون أن يكون للإسلام وتعاليمه تأثير يذكر على مواقفه وممارساته العملية ...
نعم .. لقد كانت هذه الهزة الوجدانية ضرورية لأناس يتعاملون ـ في الأكثر ـ مع إمامهم المنصوص عليه من قبل رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم كخليفة له في أعناقهم بيعة ، يلزمهم الوفاء بها ، لا من منطلق الاعتقاد بإمامته ، وتنصيبه من قبل الله على يد رسوله.
ولم يكونوا وقد عرفوا الشيء الكثير عن هذا الإمام الخليفة ، ولا عن سوابقه ، وأثره في الإسلام وفي الدين.
ولم يكن بوسعه عليه السلام أن ينتظر إلى أن تؤدي وسائل الإقناع دورها في بث روح الإيمان وتعميقه ، ولا إلى أن تؤدي التربوية التي تحتاج إلى كثير من الوقت والجهد ثمارها في مجال التزكية والتهذيب للنفوس.
والخلاصة : إنه إذا كان حربه عليه السلام مع الخوارج على درجة كبيرة من الحساسية ، لما كان يمكن أن يؤدي إليه من سلبيات خطيرة في البنية الداخلية للمجتمع ، فيما يرتبط بروحيات الناس ، ومشاعرهم وقناعاتهم ، وعلاقاتهم الاجتماعية ، ومجمل أوضاعهم ، فإن التركيز على عنصر الغيب ، وإظهار علم الإمامة يصبح ضرورة ملحة ، من أجل تلافي كثير من تلك السلبيات ، بالإضافة إلى ما سوف يتركه هذا الأمر من آثار إيجابية في مجال الفكر والعقيدة للمجتمع الإسلامي في الأدوار اللاحقة.
النموذج الثاني : الإمام الرضا عليه السلام والجفر والجامعة :
لقد طال بنا الحديث حول النموذج الأول إلى الحد الذي ربما يجعل القارئ يجد بعض الصعوبة في الربط بين حلقات الموضوع ، والتنسيق بين فقراته ، ولأجل ذلك فقد رأينا أن نختصر الكلام حول النموذج الثاني والثالث ، ونكتفي بالقول :
إن من الواضح : أن المأمون قد أجبر الإمام الرضا عليه السلام على قبول ولاية الأمر بعده. وقد أوضحنا في كتابنا : الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام جوانب وحيثيات هذا الموضوع ، وذكرنا أيضاً نبذة عن دوافع المأمون في إقدامه على هذا الأمر الخطير.
وقد بيّنا أيضاً بعض ما يرتبط بخطة الإمام عليه السلام لتضييع الفرصة على المأمون ، ومنها إخباراته الغيبية عليه السلام عن عدم تمامية هذا الأمر ، ونلفت النظر إلى خصوص ما كتبه عليه السلام على الوثيقة الرسمية لولاية العهد ولاسيما قوله : « والجامعة والجفر يدلان على ضد ذلك » (10).
حيث أشار عليه السلام في قوله هذا إلى أحد الركنين الذين تقوم عليهما الإمامة ، ألا وهو العلم الخاص الذي تلقاه عليه السلام عن آبائه الطاهرين : عن رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم ، وقد أسند ذلك إلى الجفر والجامعة الذين لا يملكهما أحد سواه حتى الخليفة المأمون.
النموذج الثالث : المهدية وعلامات الظهور :
لقد روى المسلمون على اختلاف طوائفهم أحاديث كثيرة جداً عن رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم تبلغ المئات وربما الألوف حول المهدي من أهل البيت عجل الله تعالى فرجه ، وأحواله ، وعلامات ظهوره ، وما يجري في أيامه.
وقد روي عن الأئمة الأطهار من أهل البيت : الشيء الكثير والكثير جداً من ذلك أيضاً.
ويكفي أن نذكر : أنه قد ادّعى الكثيرون المهدية لأنفسهم في حياة الصحابة والتابعين ، ثم من بعدهم ، ولم ينكر عليهم أحد ، ولا ناقشهم أي من الناس في أصل الاعتقاد بالمهدية.
وإنما انصب النقاش حول تطبيق هذا اللقب على هذا الشخص أو ذاك ، بل إن بعض من ادّعى هذا الأمر قد بايعته الأمة بمختلف فئاتها في معظم الأقطار والأمصار ، ولم يمتنع عن بيعته سوى الإمام الصادق عليه السلام وشيعته.
بل إن المعتزلة الذين أفرطوا في الاعتماد على العقل وقياس أحكام الشريعة وتعاليمها عليه ، لم يصدر منهم آية بادرة في نطاق الاعتراض أو التشكيك في هذا الأمر الخطير والهام. كما أن الحكام الذين يرون : أن هذا الاعتقاد إنما يعني إدانة لهم ، واعتبارهم غاصبين لمواقع ليست لهم ، لم يستطيعوا أن يثيروا أية شبهة حول هذا الأمر ، فاضطروا إلى التسليم به ، والتعامل معه على أنه أمر قطعي وثابت ، كما كان الحال بالنسبة للمنصور الذي حاول الالتفاف على الموضوع بتسمية ولده بالمهدي.
لكنّه لم يفلح كما هو معروف ومشهور (11).

الاخبارات المستقبلية في دائرتين :

ومن المفيد الإلماح هنا إلى أنّ ما ورد عن الرسول الأكرم صلی الله عليه وآله وسلم ، وعن الأئمة الطاهرين : ، من اخبارات عن أحداث مستقبلية ، وظواهر اجتماعية ، قد عُرِفَت باسم : أخبار الملاحم ، أو أخبار المنايا والبلايا ، يمكن أن يجعل ضمن دائرتين :
إحداهما : دائرة التوقيف : وما سبيله النقل عن مصدر الغيب فالنبي صلی الله عليه وآله وسلم ينقل لنا عن جبرائيل ، عن الله ( تعالى ) ، والأئمة : ينقلون لنا عن آبائهم عن النبي صلی الله عليه وآله وسلم عن جبرائيل عن الله ( تعالى ).
وقد يعرض البداء لبعض المفردات من هذه الاخبارات ، كما سيأتي تفصيله في الفصل التالي أن شاء الله ( تعالى ).
الثانية : دائرة الخبرة : وما سبيله المعرفة الدقيقة بالظروف والأحوال ، ثم بالآثار والنتائج. من دون أن يكون ثمة حاجة إلى التوقيف.
فإذا كان النبي صلی الله عليه وآله وسلم أو الإمام عليه السلام هو الأعرف والأدرى بحقيقة الظروف والأحوال التي تمرُّ بها الأمة ، وقد عَرَّفَ الناس ، بظروفهم وحالاتهم ، ووقف على حقيقة خصائصهم ومستوياتهم ، وطريقة تفكيرهم ، ونوع طموحاتهم ، وطبيعة تحركاتهم ، فإنه سوف يكون بمقدروه رسم آثارها ، ونتائجها بحسب ما لها من تدرُّج طبيعي ، وفق المعايير الواقعية ، التي يعرفها عليه السلام ويدركها أكثر من أي إنسان آخر ، ويكون إخباره عليه السلام بذلك على حدّ إخبار الطبيب الخبير بما ستكون عليه حالة رجلٍ قد جلس في حرّ الهاجرة ثلاث ساعات مكشوف الرأس ، تصهره أشعة الشمس.
فإذا أخبر بصورة قاطعة بالحالات والعوارض التي ستنتاب هذا الشخص ، فسوف يتحقق ما يخبر به جزماً وحتماً.
ولتكون إخبارات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الذي كان من أعرف الناس بزمانه وأهله عمّا ستكون عليه الحال لو حكم الأمة بنو أمية ـ لتكن ـ من هذا القبيل ، فقد قال عليه السلام :
« .. وأيم الله ، لتجدُنّ بني أميّة لكم أرباب سوء بعدي ، كالنّاب الضروس ، تعذم بفيها ، وتخبط بيدها ، وتزبن برجلها ، وتمنع ردّها. لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلا نافعاً لهم ، أو غير ضائر بهم. ولا يزال بلاؤهم ، حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلا كانتصار العبد من ربّه ، والصاحب من مستصحبه ، ترد فتنتهم شوهاء مخشية ، وقِطَعاً جاهلية. ليس فيها منار هدى ولا علم يرى » (12).
وقال لما رفع أهل الشام المصاحف :
« أيها الناس ، إني أحق من أجاب إلى كتاب الله ، ولكن معاوية ، وابن أبي معيط ، وابن أبي سرح ، وابن مسلمة ، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، إني أعرف بهم منكم ، صحبتهم صغاراً ورجالاً ، فكانوا شر صغارٍ وشر رجالٍ .. الخ .. » (13).
إلى غير ذلك من كلماته عليه السلام الكثيرة جداً فليراجع نهج البلاغة ، فقد جاء فيه من ذلك الشيء الكثير والشافي. مما يخبر فيه عليه السلام عن طبيعة هؤلاء الناس الذين عاش معهم ، وعرف أحوالهم وطموحاتهم ، ومفاهيمهم ، وطريقتهم في التفكير ، ونظرتهم للأمور ، وعرف أنهم لا يملكون من المبادئ والقيم ما يردعهم عن ارتكاب العظائم والجرائم ..

الإخبارات صادقة رغم الموانع :

ولكن ذلك لا يمنع من أن تحدث بعض التحولات والوقائع التي تمنع هؤلاء الناس من تحقيق مآربهم ، وتحد من قدرتهم على إجراء سياستهم ، فيتغير سير الأحداث ، وتعطف اتجاهها ، رغماً وقهراً وجبراً ، من دون أن تتغير الحقيقة الراهنة التي أخبر عليه السلام عنها .. بل هي تبقى كامنة بانتظار الفرصة السانحة ـ فأمثال هذه العوارض والموانع ليست من قبيل البداء ، لأن المقصود هو الإخبار عن طبيعة هؤلاء الناس ، وهذه الطبيعة لم تتغير ، بل حدث مانع من تأثيرها على صعيد الواقع فليست هي من قبيل ما لو حدث زلزال أو جفاف وقحط ، مثلاً يزعزع الحالة القائمة ، ويدفع بالناس إلى مواجهة أزمات عاطفية ، أو إنسانية ، أو اقتصادية ، وحتى إجتماعية وسياسية تترك آثارها على مجمل حياة الناس ، وعلى واقعهم في المجالات المختلفة ، ويحدث من ثَمَّ خلل في حالات التوازن القائمة وتحدث تغييرات رئيسية في كثير من الطموحات ، والتوجهات ، والمواقف ، والخطط على الصعيدين الخاص والعام على حد سواء.
فاتضح مما تقدم : أن حدوث هذه المفاجآت لا يقلّل من قيمة تلك الإخبارات ، التي جاءت نتيجة طبيعية لعملية رصدٍ دقيقة وعميقة لكل الواقع الذي يعيشه الناس ، ويتعاملون معه ويتحركون فيه ..
حيث لابدّ من أخذها بعين الاعتبار في كل تخطيط مستقبلي هادف إلى إحداث تغيير جذري لصالح الاتجاهات السليمة والخيّرة على صعيد الأمة بأسرها.
بل ليس من قبيل المجازفة القول : إنّ تلك المفاجآت التي ألمحنا إليها ، تؤكد قيمة تلك الاخبارات المستقبلية وتعززها إذا كان من شأنها أن تعالج بعض الآثار السلبية التي تتمثل في حدوث ارتكاز عفوي نشأ عن محض العادة والألفة بالمحكومية والخضوع للتيار العام ، من دون أن يملك هذا الارتكاز المبررات الكافية له في متن الواقع. وتكون نتجية ذلك هي أن يسير الإنسان في صراط الاستسلام إلى تيار يشعر أنه لا يملك معه أي خيار. في حين أنه يملك كل الخيارات في صنعه وفي تحويل اتجاهه. وليس ما يحس به إلا شعور كاذب ، ومحض سراب.
وعلى هذا فإن تلك المفاجآت تأتي لتؤكد للإنسان أن كل شيء قابل للتغيير ، وأن عليه أن لا يستسلم ولا يستكين ، وليكتشف ـ من ثم ـ أنه إنما كان أسير خيال زائف وأوهام بالية وأنه يملك من القدرات والخيارات ما يجعله قادراً على التأثير في كل ما يحيط به ، وعلى توجيه الأمور أنى شاء وحيثما يريد.

الإمام ، وإدارة شؤون الأمة :

وبعد ما تقدم نقول : إذا نظرنا إلى أمر الإمامة والإمام من زاوية أخرى.
فإننا نجد من جهة : أن من مهمات الإمام : تعليم وتربية الأمة ، وله وحده حق الحاكمية عليها وإدارة شؤونها ، والهيمنة على مسيرتها. والإمام هو ذلك الإنسان الحاضر ، والناظر ، والراصد لحركة الإسلام في الناس ، والشاهد على الناس في مدى استجابتهم للإسلام ، وتفاعلهم معه ، ووفائهم أو عدم وفائهم ، للحق وللدين ، والمثل العليا.
وكلّ ذلك يؤكّد على أنّ وجود الإمام في كلّ عصر وزمان يصبح ضرورة لابُدّ منها ، ولا غنى عنها ، لتحقيق الأهداف الإلهيّة ، بحصول الإنسان على السّعادة ، ووصوله إلى درجات القرب والرضى منه سبحانه وتعالى.
ومن جهة ثانية : فإنّ الأئمة حين يمارسون دورهم ، ويقومون بأعباء الإمامة ومهمّاتها ، فإنّما يفعلون ذلك في دائرة السنن الإلهية الجارية ، وبالطّرق الطبيعيّة ، ولم يكونوا ليفرضوا سلطتهم ، وهيمنتهم ، وحاكميّتهم على الناس بأسلوب إعجازي قاهر. لأن هذا من شأنه أن يضيّع الكثير من الأهداف الإلهية المتوخاة في نطاق مسيرة الإنسان نحو الكمال بصورة طوعيّة ، واختياريّة ، متجاوزاً كلّ ما يعترض طريقه من أشواك وعوائق.
وإذا كان كذلك فإن من الطبيعي أن تعرض لهم : المحن والرزايا ، والهموم ، والبلايا ، وأن تعترضهم المشكلات والمصائب ، وتعتورهم النوائب والمتاعب ، ثم أن يواجهوا ذلك بما توفّر لديهم من وسائل يمكن أن تساعدهم على تجاوز المحنة ، وتذليل الصعاب ، فينجحون في ذلك ، وقد تحجب الظروف ذلك النجاح.
ومن جهة ثالثة : فإن مجرّد وجود الأئمة : ، وحاكميّتهم المنصوصة ، وطبيعة دعوتهم ورسالتهم كل ذلك يتناقض بصورة أساسية مع حاكمية الطّواغيت والجبابرة ، وأصحاب الأهواء والمطامع ، ولذا ... فقد كان من المألوف والطبيعي أن نجد هؤلاء القادة والطغاة والمنحرفين يبغون للأئمة والأنبياء الغوائل ، ويحاولون إطفاء نور الله ، بشتى الوسائل ومختلف الأساليب.
ولقد قتلوا بعضهم بالسيف ، كما كان الحال بالنسبة لأمير المؤمنين علي ، وولده الحسين ( صلوات الله وسلامه عليهما ) ، ومن قبلهما يحيى بن ذكريّا ، وغيره من الأنبياء ، وأوصيائهم.
وقتلوا فريقاً آخر بالسم ، كما كان الحال بالنسبة للإمام الحسن المجتبى عليه السلام وغيره من الأئمة المعصومين ، ( صلوات الله عليهم أجمعين ). حتى إذا عجزوا عن ذلك لجأوا إلى زجهم بالسجون ، وإلحاق أنواع الأذى بهم والتضييق عليهم وعلى شيعتهم ومحبّيهم ، بكلّ قسوة وجفاء.
لماذا إثنا عشر إماماً فقط ؟!
وإذ عرفنا ضرورة الإمامة ، وضرورة وجود الإمام في كلّ عصر وزمان. وعرفنا أيضاً السنّة الإلهيّة في طبيعة عمل الإمام في الأمّة ، فإننا نذكّر هنا بالشيء الذي تدخلت فيه الإرادة الإلهيّة واقتضته المشيئة الربانيّة وهو أن لا يزيد عدد الأئمّة الأطهار على الاثني عشر إماماً ، ولا ينقص عن عدد نقباء بني إسرائيل.
ولم تُترك هذه القضيّة للزمن ، بحيث كلّما مات إمام أو قتل ، خَلَفَهُ إمامٌ آخر ، لأن تركها إلى الزمن لسوف يزيد الأمر تعقيداً ، ويجعل الأطروحة الإلهيّة الإسلامية في معرض الخطر الأكيد ، وذلك حينما يكون ذلك سبباً في بلبلة أذهان الناس ، وتحيّرهم ، وفي ضياعهم وتمزّقهم ، ثم في ظهور الكثير من الجهالات والأباطيل باسم الدين والإسلام ، وعلى حساب الصواب والحق ..
وحيث تصبح الفرصة في متناول أيدي أصحاب الأطماع ، وطلاب اللبانات ، لادّعاء الإمامة ، وتضليل الناس ، والتّلاعب بالدّين وأحكامه ، وظهور البدع ، وضياع الحق ، حتى ليصير الوصول إليه أمراً مستحيلاً أو يكاد.
ولا ننسى : أنّه إذا شعر الحكّام أنّه ليس ثمة ما يجبرهم على اتّخاذ جانب المرونة والحذر ، وأنّهم يمتلكون القوة الكافية للقضاء على مصدر الخطر عليهم ، واستئصاله بصورة نهائية وقاطعة ، فإنّهم سوف يبادرون إلى ذلك ـ حسبما ألمحنا إليه ـ ولسوف تعصف رياح حقدهم لتقتلع كل المنجزات التي هي حصيلة جهد وجهاد الأنبياء والأوصياء ، وكل الناس الذين أخلصوا لله سبحانه من جذورها حتى وكأن شيئاً لم يكن ..
ولأجل هذا وذاك ، ووفقاً لمقتضيات الحاجة ، وانسجاماً مع الضّرورات التي يفرضها هذا الواقع وغير ذلك من حيثيات تربويّة وغيرها ، فقد حدّد النص الوارد عن النبي الأكرم صلی الله عليه وآله وسلم عدد الأئمة من بعده وبيّن أسماءهم. وخرجت السنّة الإلهيّة عما هو المألوف.
فاقتضت الحكمة أن يطول عمر الإمام الثاني عشر بانتظار أن تسنح الفرصة للقيام بالحركة الإصلاحيّة الشاملة ، وعلى مستوى العالم بأسره.
وحتى مع هذا التّحديد ، وذلك النص الصريح فإنّ الساحة الإسلامية لم تسلم من ادّعاءات كاذبة لمقام الإمامة ، فقد ادّعيَ هذا المقام لزيد بن علي بن الحسين عليه السلام ، ولمحمّد بن الحنفية ، ولإسماعيل بن الإمام الصادق عليه السلام ، وادّعاه أيضاً جعفر الموسوم « بالكذّاب » ، بالإضافة إلى آخرين ..
ولكن ذلك لم يكن من الخطورة بحيث يخشى منه على المسار العام.
وهو أمر قابل للتحمل في مقابل المفاسد الأكبر والأخطر ، التي سوف تنشأ عن ترك الأمر مستمرّاً عبر المقاطع التاريخية المختلفة ، من دون تحديده بعددٍ معيّن ، وبأشخاص بأعيانهم وأسمائهم.
وباستطاعتنا أن ندرك : أنّ الحصر باثني عشر إماماً كان ضروريّاً من خلال تطابقه مع الحاجة التي كانت قائمة على صعيد الواقع ، فإننا إذا درسنا بعمق طبيعة الفترة التي عاشها الأئمة في القرون الثلاثة التي تلت وفاة الرسول الأكرم صلی الله عليه وآله وسلم ، فإننا سوف ندرك : أن الأمة قد استطاعت في هذه الفترة أن تستوعب عملياً جميع مناحي التشريع ، ومختلف مراميه وأهدافه على مستوى الاتجاه العام ، وأن تعيش التجربة في شتى المجالات ، ومختلف الأبعاد ، حيث مرورها بالأدوار المختلفة ، وتشعّب مناحي الحياة التي تعيشها ، ثم تشبُثها بأسباب المدنية ، والحضارة ، واتصالها بغيرها من الأمم المختلفة ونموّها وتكاملها في المجالات الفكريّة ، والسياسية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية وغيرها ـ إن ذلك كلّه ، كان عاملاً مساعداً إلى درجة كبيرة على فهم أعمق للإسلام ولمفاهيمه السياسية ، والتربويّة والتشريعيّة ، وغيرها.

المهدية في موقعها الطليعي والطبيعي :

وبملاحظة جميع ما تقدم : وبعد وصول الأمة إلى درجة النضج ، وبلوغها مرحلة سن الرشد ، فكريّاً واجتماعياً و .. و .. ولو بواسطة تربية شريحة من أبنائها ، تكفي في تحقق إمكانية معرفة الناس للحق ، والحقيقة ، وعن طريق التفاعل مع هذه الشريحة ، والمراودة الفكرية لها.
وكذلك بعد أن يستشعر الطغيان الخطر الذي يتهدده من قِبَل ذلك الذي يعرف أنه سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، فإن غيبة هذا الإمام ، واتخاذه موقعاً آخر يمكنه فيه مواصلة الاتصال بالأمة ، والتعامل معها ، ولو من خلال سفرائه ووكلائه الخاصّين والعامّين ، وغير ذلك من وسائل تقع تحت اختياره ـ إن هذه الغيبة ـ تصبح هي الأمر الواقع الذي لابد من قبوله ، والتعامل معه بطريقة ليس فقط تجعل هذه الغيبة لا تؤثر سلباً على مسيرة الصلاح والإصلاح ، وإنما تكون عاملاً لاستمرار هذه المسيرة بقوة أشد ، وفاعلية وحيوية أكثر.
ولولا هذه الغيبة فإن فرص العمل ، والحفاظ على المنجزات التي هي ثمرة جهاد وجهود الأنبياء والمخلصين عبر التاريخ البشري ، لسوف تتقلص وتصل إلى درجة الصفر ، ليس فقط من حيث وضع العراقيل والعوائق في وجه العمل والعاملين. من حيث أن الحكام والمستبدين سيواجهونهم بكل الوسائل المتاحة لهم لتدمير كل شيء ومحاولة القضاء على الأطروحة بأسرها من خلال القضاء على محورها ومصدرها الأول ، وقلبها النابض ، المتجسد في الإمام والرمز.

علامات الظهور في خدمة الهدف :

وأخيراً .. فإن مما يساعد على حفظ الهدف الكبير ، وتحقيق النتائج المتوخاة وله دوره في الحفاظ على الروح والحيوية الفاعلة والمؤثرة ، هو إبلاغ الناس بعلامات الظهور ، حيث لابد أن ترهق المشكلات والمتاعب والمصاعب روح كثير من العاملين ، وتُمْنى بالإحباط عزائمهم وبالخور هِممهم ، وتصاب بالأذى مشاعرهم ، وتذبل شيئاً فشيئاً زهرة أملهم.
فرؤية بعض تلك العلامات يتحقق على صفحة الواقع ستشحذ العزائم ، وتستنهض الهمم ، وتثير المشاعر ، وتكون بمثابة ماء الحياة ، الذي يعيد لتلك الزهرة الذابلة نموها ، ويسبغ عليها رواءها ، ورونقها ، ويزيد في بهجتها.
وهذا ما حصل بالفعل عبر التاريخ .. ودراسة حياة الأمة الإسلامية عبر عصورها المختلفة خير شاهد على ما نقول ..
المصادر :
1- كتاب الغدير ج 1 ص 159 و 213 .
2- الآيتين 26 و 27 من سورة الجن.
3- نهج البلاغة ، بشرح محمد عبده ج 1 ص 153. / الإمامة والسياسة ج 1 ص 152 / 153.
4- تاريخ الأمم والملوك ج 4 ص 66 والكامل في التاريخ ج 3 ص 348 وتذكرة الخواص ص 105 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج 2 قسم 2 ص 181.
5- الحيوان ج 6 ص 455. والفقعة : الرخ من الكمأة. والقصيص : شجرة تنبت في أصلها الكمأة. والورل : دابة على خلقة الضب إلا أنه أعظم منه. وقال القزويني : إنه العظيم من الوزغ ، وسام أبرص ، طويل الذنب ، سريع السير ، خفيف الحركة.
6- صفين للمنقري ص 491 والمعيار والموازنة ص 164 وشرح النهج للمعتزلي ج 2 ص 219.
7- نهج البلاغة ج 2 ص 130 / 131 بشرح عبدة ، ونقله عن مصادر نهج البلاغة ج 2 ص 450 / 451 عن الزمخشري في ربيع الأبرار ، الفتوح لابن أعثم ج 4 ص 102.
8- المعيار والموازنة ص 183 / 184.
9- الفتوح لابن أعثم ج 4 ص 66 / 67.
10- البحار ج 49 ص 153 والمناقب لابن شهر آشوب ج 4 ص 365 وكشف الغمة ج 3 ص 127 ونور الأبصار ص 157 ومآثر الأنافة ج 2 ص 189 و الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 245 ومعادن الحكمة ج 2 ص 189 ومسند الإمام الرضا ج 1 ص 106 والمجالس السنية ج 5 ص 585.
11- دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ج 1 ص 47 / 56.
12- نهج البلاغة ج 1 ص 183 و 184 والبحار ط قديم ج 8 ص 558 والغارات ج 1 ص 10 فما بعدها.
13- البحار ج 32 ص 532 ، شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 2 ص 216 وصفين للمنقري ص 489 ، وينابيع المودة ج 2 ص 13 ، وراجع نظائر ذلك في شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 1 ص 332 والثقات ج 2 ص 351 والبحار ج 32 ص 546.

 



نظرات کاربران
ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.