
نعم، ان امام الناس، المنصب من الله عزوجل، يعلم ما كان و ما يكون، و لا يخفي عنه ربه تعالي شيئا مما يحدث في أرضه؛ و هو يعلم ذلك اذا أراده، باذن الله عزوعلا، لا بقدرته الشخصية. و اذا شككنا بقدرة الخالق سبحانه علي كل شيء، فذلك منتهي الجهل بقدرته!. و اذا سلمنا بكونه خالقا قادرا علي ايجاد الأنثي و الذكر، و الطويل و القصير، و الذكي و الأحمق، و العاقل و الجاهل - بل قادرا علي خلق مليارات الناس الذين لا تشبه بصمات أصابع أحدهم بصمات أصابع أحد من تلك المليارات، فلا جرم أن نؤمن بقدرته علي خلق واحد من البشر ذي نفس زكية صافية تنعكس عليها الأحداث و الوقائع، فينظر بنور الله، و تنكشف له خفايا الأمور فيخبر عما كان أو يكون بلا أدني جهد، ثم لا يكون ذلك علما بالغيب، بمقدار ما يكون كشفا لشيء من الغيب بمشيئة ربه تبارك و تعالي. و انه عز اسمه (و علم ءادم الأسماء كلها...) (1)
أي جميع أسماء جميع الأشياء المخلوقة، علمه اياها دفعة واحدة و دون أن يجعلها دروسا تأتيه درسا بعد درس، بل خلقها معه، و طبعها في حافظته، و أجري لسانه بها، فأنبأ الملائكة بتلك الأسماء في موقف واحد - بقدرة ربه تعالي - و لم يخطيء في تسمية مسمي واحد!. و هو قادر علي أن يجري أمور الامام هذا المجري مضافا الي ما بيده من علم المنايا و علم البلايا و غيرها. قال عمار الساباطي: «سألت أباعبدالله عليهالسلام عن الامام: أيعلم الغيب؟!. فقال: لا، و لكن اذا أراد أن يعلم الشيء، أعلمه الله ذلك». و قال علي بن يقطين: «قلت لأبيالحسن، موسي عليهالسلام: علم عالمكم سماع أم الهام؟. فقال: قد يكون سماعا، و يكون الهاما، و يكونان معا» . و قال الحارث بن المغيرة: قلت لأبي عبدالله عليهالسلام: ما علم عالمكم، أجملة يقذف في قلبه، أو ينكت في أذنه؟. فقال: وحي كوحي أمموسي» (2) .
و قال عبدالله بن أبان، الزيات: «قلت للرضا عليهالسلام: ادع لي، و لأهل بيتي. قال: أولست أفعل؟!. و الله ان أعمالكم لتعرض علي كل يوم و ليلة. فاستعظمت ذلك!. فقال: أما تقرأ كتاب الله: (و قل اعملوا فسيري الله عملكم و رسوله و المؤمنون؟!) (3).
فهذه أربع شهادات من أئمة صادقين مصدقين صلوات الله عليهم، لا يدفعها الا مفتر علي الله عز شأنه: الأولي: تفيد أن الامام اذا أراد أن يعلم الشيء، أعلمه الله ذلك. و الثانية: أن علم الامام يكون سماعا في وقت الحاجة اليه، أو الهاما اذا اقتضته الحال. و الثالثة: أن علمه قد يكون قذفا في القلب، أو نكتا في السمع، أو وحيا كوحي أم موسي. و الرابعة: تفيد ما هو أوسع و أشمل، و تدل علي أنه لا يخفي عليه شيء من أمور العباد باذن الله تعالي. و ما من حكم في قضية الا و يكفي فيه شهادة ذوي عدل من الناس، فكيف بأربع شهادات أداها أربعة أئمة أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا؟!. فلا ينبغي للانسان أن يرفض كل شيء يجهل حقيقته، لأن انكار الحقائق الدينية المنزلة من الله، يؤدي بصاحبه الي الكفر - و العياذ بالله -. و أكثر الأمور السماوية لا يطالها التعليل السهل، و لكن سنذكر طائفة أخري من التعليلات الصادرة علي أهلها لنجلو حقيقة هذا الموضوع قبل أن نطوي صفحته دون توضيح: قال عبدالعزيز الصايغ: «قال أبوعبدالله عليهالسلام: أتري أن الله استرعي راعيا علي عباده، و استخلف خليفة عليهم، يحجب عنه شيئا من أمورهم؟» (4) .
و جوابنا: لا. اذ منذ جعل الله تعالي أبانا آدم عليهالسلام خليفة في الأرض، أعطاه جميع مواهب خلافته فيها، و سائر ما يتعلق بآلة الخلافة و تجهيزاتها، بشكل لاتحيط به عقولنا بيسر لأنه من الأمور الخفية الربانية التي نقصر عن استيعابها كما نقصر عن استيعاب الكون الهائل بسمائه و أرضه و مجراته و نظامه الدقيق!. و قد قال الفضل بن يسار: «سمعت أباعبدالله عليهالسلام يقول: ان العلم الذي هبط مع آدم لم يرفع. و ان العلم يتوارث؛ و ما يموت منا عالم حتي يخلفه من أهله من يعلم علمه، أو ما شاء!» (5).
فأئمتنا عليهمالسلام خاتموا أوصياء رسل الله تبارك و تعالي، و لذا كانوا حاملي المواريث السماوية برمتها، و خازني علم الله، و عيبات المعرفة، و أمناء الوحي. قد أعطاهم الله تعالي نفوسا أصفي من المرآة، و أبصارا أنفذ من أشعة «ليزر» التي تخترق الكثافات، فلا تحول دونها المسافات!. ثم جعل لهم أسماعا لا تخفي عنها همسات النفوس، و لا وساوس الصدور، و لا خطرات القلوب و لا ما يدور في الضمائر!. و زودهم بامكانات فسيولوجية تقدرهم علي حمل أمره و لم يجعل منها نصيبا لغيرهم.. فكانوا بدعا في الخلق و الخلق، و معجزا بين البشر، و آية للأنام.. عرفهم - علي حقيقتهم - القليلون، و صدق بهم و بسرهم من كتب الله تعالي في قلبه الايمان و أيده بروح منه. و هذا العلم بما يحدث في كل عصر، خص الله سبحانه به امام ذلك العصر ليكون حجة علي أهله، لأنه سفيره في البلاد، و أميره علي العباد، و أمينه علي الدين، و لا يجوز أن يخفي علي السفير شيء مما يجري في دولته و ملك حكومته. قال عبدالله بن عطاء المكي: «اشتقت الي أبيجعفر - أي الامام الباقر عليهالسلام - و أنا بمكة. فقدمت المدينة، و ما قدمتها الا شوقا اليه؛ فأصابني تلك الليلة مطر و برد شديد!. فانتهيت الي بابه نصف الليل، فقلت: ما أطرقه هذه الساعة، و أنتظر حتي أصبح. و اني لأفكر في ذلك، اذ سمعته يقول: يا جارية افتحي الباب لابنعطا، فقد أصابه في هذه الليلة برد و أذي. فجاءت، ففتحت الباب، فدخلت عليه، عليهالسلام» (6) .
فقد علم الامام الباقر صلي الله عليه بمجيء صاحبه، و بالشوق الذي حمله اليه في تلك الليلة الظلماء، و بالمطر و البرد القارس اللذين أصاباه، و بموعد وصوله الي بابه في منتصف الليل، ثم أمر بسرعة استقباله ليستريح مما عاناه من وعثاء سفره!. و لا عجب في ذلك فقد قال المفضل لأبي عبدالله عليهالسلام: «جعلت فداك، يفرض الله طاعة عبد علي العباد، ثم يحجب عنه خبر السماء؟!.قال: لا، الله أكرم و أرأف بالعباد من أن يفرض عليهم طاعة عبد يحجب عنه خبر السماء صباحا و مساء» (7).
و كذلك قال أبوبصير رحمه الله: ان أباعبدالله عليهالسلام قال له: «يا أبابصير، انا أهل بيت أوتينا علم البلايا، و المنايا، و الوصايا، و فصل الخطاب؛ و عرفنا شيعتنا كعرفان الرجل أهل بيته!» (8).
و في هذا كفاية لمن يتفكرون.. و لندخل في الموضوع بعد هذه المقدمة التي تلقي ضوءا علي خفاياه و أسراره. فقد قال أبوهاشم الجعفري: «لما مضي - أي مات - أبوالحسن عليهالسلام، صاحب العسكر. اشتغل أبومحمد، ابنه، بغسله و شأنه، و أسرع بعض الخدم الي أشياء احتملوها من ثياب و دراهم و غيرها. فلما فرغ أبومحمد من شأنه، صار الي مجلسه فجلس، ثم دعا أولئك الخدم فقال: ان صدقتموني فيما أسألكم عنه فأنتم آمنون من عقوبتي؛ و ان أصررتم علي الجحود دللت علي كل ما أخذه كل واحد منكم، و عاقبتكم عند ذلك بما تستحقونه مني. ثم قال: يا فلان، أخذت كذا و كذا، و أنت يا فلان أخذت كذا و كذا. قالوا: نعم. قال: فردوه. فذكر لكل واحد منهم ما أخذه و صار اليه، حتي ردوا جميع ما أخذوه» (9).
و روي هذا الخبر عن محمد بن عبدالله، هكذا: «لما مضي أبوالحسن عليهالسلام، فأمر أبومحمد عليهالسلام باغلاق الباب الكبير، ثم دعا بالحريم و العيال و الغلمان، فجعل يقول لواحد واحد: رد كذا و كذا، و يخبره بما أخذه، حتي ما فقد من الخزانة شيء الا رد بعلامته و عينه، و الحمد لله رب العالمين» (10) .
و الروايتان - اثنتاهما - تدلان قطعا، علي أن الامام صلوات الله عليه، يري و يعلم كل ما يجري حوله باذن ربه عز اسمه، بل ما يجري في مختلف أطراف المعمور اذا شاء لاقامة حجة، أو لاظهار آية و دلالة. أما الخدم الذين اغتنموا فرصة انشغال الامام عليهالسلام بتجهيز أبيه صلي الله عليه، و انتهبوا خزانته وسطوا علي ما في بيته، فانهم مساكين يستحقون الشفقة لقصورهم عن فهم ما هو عليه الامام من القدرة الفائقة التي رأوا آثارها منه في كل يوم و كل مناسبة من غير أن يفكروا فيها!. و نحن أيضا مخيرون بين أن نكون مثل أولئك الخدم - العبيد، و بين أن نكون أسياد أنفسنا فنذعن للحق اذا ظهر لنا، بجرأة لا يقف في وجهها شيء.. و الا، فاننا نكون عاجزين عن قطع خيط القطن الذي يربط الشيطان به آنافنا، و يجرنا الي حيث يدري من الضلال، و لا ندري!. و قال محمد بن عبدالله أيضا: «فقد له غلام صغير، فلم يوجد. فأخبر - عليهالسلام - بذلك، فقال: اطلبوه من البركة: فطلب، فوجد في بركة الدار ميتا» (11) .
ثم ذكر الراوي نهب الخزانة الذي تحدثنا عنه -. و توجيههم الي طلب الغلام من البركة لم يكن حدسا، و لا تخمينا. بل هو جزم بأنه قد وقع فيها و مات. فلم يحتمل عليهالسلام خروج الغلام الي الحديقة، و لا الي الشارع العام، و لا أنه يلعب مع أترابه؛ و لكنه أمرهم بطلبه في البركة، أمر عالم بذلك كمن قد رأي و قد سمع.. و أنه - مذ أخبر بفقد الولد - بدت له صورته - أمان ناظريه - قد مات غريقا في تلك البركة. و ما ذلك علي الله بعزيز، و لا علي وليه و نجيبه بغريب. و حدث أبوقاسم الحبشي قائلا: كنت أزور العسكر في شعبان، في أوله، ثم أزور الحسين عليهالسلام في النصف. فلما كان في سنة من السنين، وردت العسكر قبل شعبان، و ظننت أني لا أزوره - أي الحسين عليهالسلام - في شعبان. فلما دخل شعبان قلت: لا أدع زيارة كنت أزورها، و خرجت الي العسكر. و كنت اذا وافيت العسكر أعلمهم برقعة أو رسالة. فلما كان هذه المرة قلت: أجعلها زيارة خالصة لا أخلطها بغيرها. و قلت لصاحب المنزل: أحب أن لا تعلمهم بقدومي. فلما أقمت ليلة جاءني صاحب المنزل بدينارين، و هو يبتسم و يقول: بعث الي بهذين الدينارين و قيل لي: ادفعهما الي الحبشي، و قل له: من كان في طاعة الله، كان الله في حاجته» (12) .
فلم يخف أمرك علي صاحب الأمر عليهالسلام يا حبشي.. و لا خفي عليه وقت وصولك الي سامراء، و لا محل نزولك.. و لا ضل الديناران طريقهما اليك!. ان ولي الله يعرف من كان في طاعة الله، و من كان في معصيته، و لا يغيب عنه شيء من أمر الرعية التي استرعاه ربه اياها. و تلك نعمة من الله سبحانه أنعم بها عليه، ليجعله آية للناس، و دليلا عليه عزوجل، و رمزا لقدرته التي لا يعجزها شيء في الأرض و لا في السماء. و الذي يأخذني العجب منه، هو أنه لماذا لا نكون منصفين مع أن الانصاف يعود علينا بالخير، و نختار الانكار أول ما نختار مع أن انكارنا لا يحول دون قدرة الامام علي معرفة ما يكون، و لا يمنع عنه شيئا من مواهب الله و عطاياه؟!. اننا اذا والينا الامام أو عارضناه، لا يؤثر ولاؤنا و لا معارضتنا علي مركزه الآلهي شيئا. فلم ننصب أنفسنا محامي دفاع عن الباطل، و نتحمس لرفض الحق كلما أعطانا الشيطان جرعة من وسوسته الخبيثة التي تضرنا مرتين: مرة حين نتحمل أوزار انحيازنا الي حزب الشيطان، و مرة أخري - أصعب و أشد وقعا - حين يوبخنا الشيطان اللعين يوم القيامة و يقول: (ان الله وعدكم وعد الحق و وعدتكم فأخلفتكم و ما كان لي عليكم من سلطان الا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم و مآ أنتم بمصرخي!!!) (13)(اني أخاف الله رب العلمين) (14)
فلا توجعوا رأسي بكلامكم التافه.. و تفرقوا عني فلست مستعدا لمصارختكم.. فأغلقوا باب الاعتراض و لا ترموني بما ارتكبتموه بسوء اختياركم. فخافوا الله علي أنفسكم في الدنيا أيها الاخوان.. قبل أن تروا خوف الشيطان منه في الآخرة، حين لا ينفعه و لا ينفعكم الخوف!. قال اسماعيل بن محمد بن علي بن اسماعيل بن علي بن عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب: «قعدت لأبيمحمد عليهالسلام علي ظهر الطريق. فلما مر بي - قمت في وجهه و شكوت اليه الحاجة و الضرورة، و حلفت له أنه ليس عندي درهم فما فوقه، و لا عشاء ولا غداء. فقال: تحلف بالله كاذبا، و قد دفنت مائتي دينار؟!. و ليس قولي هذا دفعا لك عن العطية!. أعطه يا غلام ما معك. فأعطاني غلامه مائة دينار. ثم أقبل علي فقال لي: انك تحرم الدنانير التي دفنتها أحوج ما تكون اليها. و صدق عليهالسلام، و كان كما قال. و ذلك أني أنفقت ما وصلني به، و كنت قد دفنت مائتي دينار و قلت: تكون ظهرا أو كهفا لنا. فاضطررت ضرورة الي شيء أنفقه، و انغلقت علي أبواب الرزق، فنبشت عن الدنانير التي كنت دفنتها، فلم أجدها. فنظرت فاذا ابن لي قد عرف موضعها فأخذها و هرب، فما قدرت منها علي شيء!. فكان كما قال» (15).
فهل آمنت يا عباسي بقول الهاشمي عليهالسلام الذي كذب يمينك بالله بأنك لا تملك درهما و لا عشاء و لا غداء؟!. فلم يكن الامام سلام الله عليه معك حين خبأت المائتي دينار، و مع ذلك ذكرك بها و فضح أمرها!. و لم يخجلك، بل تلطف بحاجتك و لم يعتبر تكذيبك دفعا لك عن عطائه. وثق أن غلامه لو كان يحمل ألف دينار لأمره بدفعها اليك، لأنك طلبت العطاء من سيد المعطين. و اعلم أنه صلوات الله عليه قد وعدك بالحرمان من دنانيرك المخبأة في أشد ظروف حاجتك اليها، ليلقي عليك الحجة بأنه حجة الله الذي لا يفوت علمه شيء باذن ربه.. و ستطالب بالاقرار بذلك بين يدي ربك ان لم تكن قد اتعظت و آمنت!. و قال أبوهاشم الجعفري رحمه الله: «شكوت الي أبيمحمد عليهالسلام ضيق الحبس و كلب القيد - أي مسماره الذي يشد به -. فكتب الي: أنت تصلي اليوم الظهر في منزلك. فأخرجت وقت الظهر فصليت في منزلي، كما قال عليهالسلام. و كنت مضيقا فأردت أن أطلب منه دنانير في الكتاب فاستحييت. فلما صرت الي منزلي وجه الي بمائة دينار و كتب الي: اذا كانت لك حاجة فلا تستح ولا تحتشم، و اطلبها فانك تري ما تحب ان شاء الله تعالي»(16) .
فلو كان أمر اخراج هذا السجين الجليل صادرا عن الامام عليهالسلام، لكان من الصعب أن يضمن تبليغه اياه قبل صلاة الظهر من ذلك اليوم، اذ ربما تأخر الحاجب، أو تباطأ الآمر باخلاء سبيله وقتا ما.. فكيف جزم سلام الله عليه بأنه سيصلي الظهر في بيته لولا رسل ربه الذين يعملون بين يديه و يبلغونه شؤون الناس ساعة فساعة؟!. يدلك علي ذلك أنه عرف حاجة صاحب المعونة فأمده بالمال، بل عرف بما هو أدق من ذلك و أبعد عن تناول الفكر.. اذ عرف احتشامه و حياءه من طلب المعونة و أمره بأن لا يحتشم من الطلب اذا مسته الحاجة الي المال!. فتأمل مليا قبل أن تبدي رأيك بما يتسم به هذا الامام العظيم صلوات الله عليه و تحياته و بركاته من القدرة التي تفوق قدرة البشر!. و عن علي بن محمد بن زياد، أنه خرج اليه توقيع أبيمحمد عليهالسلام: «فتنة تخصك، فكن حلسا من أحلاس بيتك. قال: فنابتني نائبة فزعت منها، فكتبت اليه: أهي هذه؟. فكتب: لا.. أشد من هذه!. فطلبت بسبب جعفر بن محمد، و نودي علي: من أصابني فله مائة ألف درهم!» (17).
ان جعفر بن محمد المذكور كان وزير «المعتز» و قد ذكر في حديث «المتوكل» مع الامام الهادي عليهالسلام حين سأله عن المواطن الكثيرة و ذكرنا ذلك في كتابنا السابق عن «الامام الهادي». و الحلس: هو ما يبسط تحت حر الثياب فتستره و معني: كن حلسا من أحلاس بيتك: أي الزمه و تستر به و لا تغادره لتكشف عن نفسك. ولو سألنا ابنزياد هذا: كيف علم الامام بفتنة تخصه بالذات - و قبل وقوعها بزمن - و أجابنا بما يقنع لسألناه، و لكنه لا يعرف من تعليل ذلك الا ما نعرفه من أن الامام يعرف ما كان و ما يكون بمشيئة الله، و أن هذا من بعض قدراته التي منحه الله تعالي اياها.. و اذن فالسؤال الذي يدور دائما حول شيء واحد، ليس له سوي جواب واحد مهما أعملنا الفكر!. ثم لا يفيد الروغان، و لا الفتل و الدوران. و روي علي بن محمد، عن بعض أصحابنا، قال: «كتب محمد بن حجر الي أبيمحمد عليهالسلام ليشكو عبدالعزيز بن دلف، و يزيد بن عبدالله. فكتب اليه: أما عبدالعزيز فقد كفيته. و أما يزيد فان لك و له مقاما بين يدي الله عزوجل!. فمات عبدالعزيز. و قتل يزيد محمد بن حجر» (18) .
و فيها يبدو اللغز العجيب حين قال الامام عليهالسلام لابنحجر: أما يزيد فان لك و له مقاما بين يدي الله عزوجل!. و كأني بمحمد بن حجر - المظلوم - قد تراءي له ما وراء ذلك اللغز، و تصور نفسه مقتولا بيد عدوه يزيد بن عبدالله، و استعرض موقفه معه و هو يشكوه الي الله تبارك و تعالي و أوداجه تشخب دما!. ان اماما عنده هذه القدرة، و بيده علم المنايا و البلايا الذي ورثه عن آبائه الطاهرين، عن جده الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم، لهو حجة لله علي العباد، يخبر عن علم أكيد و ثائقه بيده، محفوظة في صدره.. و أن نحور و ندور و تحوم أذهاننا حول تفسير ذلك و تأويله، فضرب من السفه و محاولة دخول البيوت من ظهورها، في حين أن أبوابها مشرعة للداخلين!. فلا يجوز أن ترتطم رؤوسنا دائما و أبدا بالجدار، و نعمي عن الأبواب المفتحة أمام الأنظار!!. قال علي بن زيد بن علي بن الحسين بن علي: «كان لي فرس، و كنت به معجبا أكثر ذكره في المحافل. فدخلت علي أبيمحمد عليهالسلام يوما فقال لي: ما فعل فرسك؟. فقلت: ها هوذا علي بابك، الآن نزلت عنه(19).
فقال: استبدل به قبل المساء ان قدرت علي مشتر، و لا تؤخر ذلك. و دخل علينا داخل فانقطع الكلام. فقمت متفكرا، و مضيت الي منزلي فأخبرت أخي فقال: ما أدري ما أقول لك في هذا؟!. فشححت و نفست - أي بخلت - علي الناس ببيعه. و أمسينا، فلما صلينا العتمة جاءني السائس فقال: يا مولاي نفق فرسك الساعة!. - أي مات -. فاغتممت، و علمت أنه - عليهالسلام - عني هذا بذلك القول. ثم دخلت علي أبيمحمد عليهالسلام بعد أيام و أنا أقول في نفسي: ليته أخلف علي دابة. فلما جلست قال قبل أن أحدث بشيء: نعم، نخلف عليك دابة. يا غلام: أعطه برذوني الكميت. هذا خير من فرسك، و أوطأ، و أطول عمرا» (20) .
و ألفت النظر الي أن امامنا عليهالسلام، قد أمر صاحب هذا الفرس باستبداله لمحض اظهار المعجزة، و لعلمه بأنه لا يفعل ذلك بهذه السرعة، و أنه لو حاول فلن يجد المشتري فورا. و أجزم - كذلك - أنه عرف بأن الفرس سينفق عند صلاة العتمة، و أن نفس صاحبه تشح ببيعه أو استبداله. فلم يشأ أن يفجأه بذلك الخبر المؤذي، و أشار له بما أشار للتنبيه الي انتظار أمر سيحدث. و أؤكد - أيضا- أنه عليه صلاة الله و سلامه، قد أعد برذونه الكميت الذي ضمن له طواعية ظهره، و طول عمره سلفا.. بل علم بأن هذه الآية ستتناقلها الألسنة و الأقلام علي مدي الدوران ليتضح الحق لذي عينين، و ليتجلي أريج الطيب السماوي يفوح من أبيات آل محمد صلي الله عليه و عليهم الي أبد الأبد.. و كذلك حدث علي بن زيد بن علي بن الحسين بن زيد بن علي، نفسه، قائلا: «صحبت أبامحمد عليهالسلام من دار العامة - أي مجلس السلطان - الي منزله. فلما أتي الدار و أردت الانصراف، قال: أمهل. و دخل ثم أذن لي. فدخلت فأعطاني مائة دينار و قال: اصرفها في ثمن جارية، فان جاريتك فلانة قد ماتت!. و كنت خرجت و عهدي بها أنشط ما كانت!. فمضيت فاذا الغلام يقول: ماتت فلانة جاريتك، الساعة!. فقلت: ما حالها؟!. قيل: شربت ماء، فشرقت فماتت!» (21) .
فلا تحزن يا ابنزيد، و لا تك في ضيق مما يحل بفنائك!. فبالأمس نفق فرسك، فعوض عليك الامام صلي الله عليه برذونا كميتا قويا، طويل العمر. و اليوم ماتت جاريتك، فوهبك مائة دينار لشراء بديلة عنها.. و علم ذلك دون أن يخبره أحد. و أنا - بعد حادثتيك - أغبطك علي العاطفة النبوية التي أحاطك بها أبومحمد عليهالسلام، و أبارك لك بالتشرف بخدمته، و الحصول علي عنايته، فانه امام كريم يجبر الحال، و يحفظ الانسان من ذل السؤال، و لا يضطر أحدا لطلب حاجة، بل يقضيها لمجرد أن تجول في خلده، ليدل علي عظمة الله المتجلية في عظمة مخلوقه الكريم!. و عن الراوي السابق نفسه، قال: «دخلت علي أبيمحمد عليهالسلام يوما. فاني جالس عنده اذ ذكرت منديلا كان معي فيه خمسون دينارا، فقلقت لها و ما تكلمت بشيء و لا أظهرت ما خطر ببالي. فقال أبومحمد عليهالسلام: لا بأس، هي مع أخيك، محفوظة ان شاء الله. فأتيت منزلي، فدفعها الي أخي» (22) .
فهل وضع امامنا عليهالسلام و التحيات تلك الدنانير أمانة مع ابنزيد، و أمره بأدائها لأخيه، حتي عرف مكانها و ضمن ردها؟!. لا.. فكيف عرف - اذن - مكانها. و ضمن ردها، و آمن صاحبها عليها؟!. و من أين له هذه الثقة بمن وجدها أن يرجعها بلا طلب؟!. قد تجد أسئلة بلا أجوبة قاطعة، الا مثل هذه الأسئلة فان أجوبتها عند كل من يعرفون ماهية الامامة و شأنها العظيم، و يدركون العظمة التي خلعها الله تبارك و تعالي علي أهل بيت النبي صلي الله عليه و آله و سلم من سربال عظمته. قال محمد بن عبدالله: «كتبت اليه أخبره باختلاف الموالي، و أسأله اظهار دليل. - أي أخبره باختلافهم في امامته عليهالسلام -. فكتب: انما خاطب الله عزوجل أولي الألباب، و ليس أحد يأتي بآية، أو يظهر دليلا، أكثر مما جاء به خاتم النبيين و سيد المرسلين، فقالوا: كاهن، و ساحر كذاب!. فهدي الله من اهتدي، غير أن الأدلة يسكن اليها كثير من الناس؛ و ذلك أن الله جل جلاله يأذن لنا فنتكلم و يمنع فنصمت. و لو أحب الله أن لا يظهر حقا لما بعث النبيين مبشرين و منذرين، يصدعون بالحق في حال الضعف و القوة في أوقات، و ينطقون في أوقات، ليقضي الله أمره و ينفذ حكمه. و الناس في طبقات شتي: فالمستبصر علي سبيل نجاة، متمسك بالحق، متعلق بفرع أصيل، غير شاك و لا مرتاب، لا يجد عنه ملجأ. و طبقة لم تأخذ الحق من أهله، فهم كراكب البحر، يموج عند موجه، و يسكن عند سكونه. و طبقة استحوذ عليها الشيطان، شأنهم الرد علي أهل الحق، و دفع الحق بالباطل (حسدا من عند أنفسهم) (23).
فدع من ذهب يمينا و شمالا، فان الراعي اذا أراد أن يجمع غنمه، جمعها في أهون سعي. ذكرت خلاف موالينا. فاذا كانت الوصية و الكتب فلا ريب. و من جلس مجلس الحكم فهو أولي بالحكم. أحسن رعاية من استرعيت، و اياك و الاذاعة و طلب الرئاسة، فانهما يدعوان الي الهلكة!. ذكرت شخوصك الي فارس فاشخص. خار الله لك. و تدخل مصر ان شاء الله آمنا. و اقرأ من تثق به من موالينا السلام، و مرهم بتقوي الله العظيم، و أداء الأمانة، و أعلمهم أن المذيع علينا حرب لنا!. قال: فلما قرأت: خار الله لك في دخولك مصر ان شاء الله آمنا، لم أعرف المعني فيه. فقدمت بغداد عازما علي الخروج الي فارس فلم يقيض لي، و خرجت الي مصر» (24) .
فقد سأل هذا الرجل اظهار دليل علي امامة أبيمحمد عليهالسلام ليقطع في الأمر و يتخلص من التردد، فحمله الامام مسؤولية نفسه بأن ينظر في أمرين: أولهما: أن أدلة الامامة لا تخفي علي من ابتغي الهداية، اما بسماع النص من أهل الثقة، و اما بالشياع حيث لا يسأل المرء أحدا عن امام الزمان الا أجيب: هو فلان، سواء أكان المسؤول مواليا أم معاديا؛ فان أشد الناس عداوة لأهل البيت عليهمالسلام، اذا سألته عن الامام في عصره لقال: لا امام في هذا الزمان الا عند الروافض الذين يعتقدون بامامة فلان. و ثانيهما: أنك اذا سألت - أو سأل الموالي المختلفون - عن الوصية و مواريث النبوة، فلا تكن في ريب أنها معنا لأننا نجلس مجلس الحكم، و ما من أحد أولي به منا. و بعد ذلك أفهمه أن الموالاة لا تكون الا بحسن الاختيار طلبا للنجاة و تمسكا بالحق، ثم عرض له طبقات الناس الثلاث الذين هم: المستبصرون الذين لا يفارقون الحق و لا يدعون ولاية آل محمد صلي الله عليه و عليهم.
و المتبعون لأئمة الضلال و قادة السوء، تتقاذفهم الأمواج مع أهواء أئمتهم و قادتهم. و حزب الشيطان الذين أخذهم بأرسنتهم و جرهم الي حرب الحق و نصر الباطل حسدا و حقدا.. و بعد ذلك أمره باتباع الطريق المستقيم، و أن لا ينحرف يمينا و لا شمالا بعد أن عرف حامل المواريث السماء؛ ثم وعظه و أرشده الي حسن سياسة من هم في منطقة وكالته. و وعده بدخول مصر التي ما كانت لتخطر له في بال كجواب عملي يدل علي أنه الامام العالم بما يكون و يحدث في عصره، العارف بما لا يعرفه أحد غيره من البشر. فأنت تري حين تستعرض هذه الأمور، أن معالم الامامة ترشد الي نفسها بنفسها، و تنادي علي قطب رحاها بملء فيها! فلا تبحث عن الامام بين الأنام، فانه كالشمس لا يحجبها الغمام، كما لا يضيعه بين الناس الزحام، و لا يكسف نوره الرباني ظلام و لا ظلام!. ذكر أبوالقاسم الكوفي في كتاب (التبديل) أن اسحاق الكندي كان فيلسوف العراق في زمانه، أخذ في تأليف تناقض القرآن، و شغل نفسه بذلك و تفرد به في منزله، و أن بعض تلامذته دخل يوما علي الامام الحسن العسكري عليهالسلام، فقال له أبومحمد عليهالسلام: أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عما أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟!. فقال التلميذ: نحن من تلامذته، كيف يجوز منا الاعتراض عليه في هذا، أو في غيره؟!. فقال أبومحمد عليهالسلام: أتؤدي اليه ما ألقيه اليك؟. قال: نعم. قال: فصر اليه، و تلطف في مؤانسته و معونته علي ما هو بسبيله. فاذا وقعت الأنسة في ذلك فقل: قد حضرني مسألة أسألك عنها. فانه يستدعي ذلك منك، فقل له: ان أتاك المتكلم بهذا القرآن - أي الله تعالي - هل يجوز أن يكون مراده بما تكلم به منه، غير المعاني التي قد ظننتها أنك ذهبت اليها؟. فسيقول: انه من الجائز. لأنه رجل يفهم. فاذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك لعله قد أراد غير الذي ذهبت اليه، فتكون واضعا لغير معانيه!. فصار الرجل الي الكندي، و تلطف به الي أن ألقي عليه هذه المسألة. فقال له: أعد علي. فأعاد عليه. فتفكر في نفسه، و رأي ذلك محتملا في اللغة، و سائغا في النظر، فقال: أقسمت عليك الا أخبرتني من أين لك هذا؟!. فقال: انه شيء عرض بقلبي، فأوردته عليك. فقال: كلا، ما مثلك من اهتدي الي هذا، و لا من بلغ هذه المنزلة!. فعرفني من أين لك هذا؟!. فقال: أمرني به أبومحمد عليهالسلام. فقال: الآن جئت به!. و ما كان ليخرج مثل هذا الا من ذلك البيت!. ثم انه دعا بالنار و أحرق جميع ماكان ألفه»(25).
نعم، لا يعرف الفضل الا أهل الفضل!. فان الاشكال الذي أورده الامام عليهالسلام علي الكندي في غاية الوجاهة لأن للقرآن الكريم سبعين وجها يجد الانسان في كل واحد منها المخرج، فما أدراك بما أراد الله تعالي من آية ما، و من آية متشابهة أخري؟. و قد أدرك الكندي هذه الحقيقة التي تستعصي علي أفهام الناس معني و مبني مهما بلغت أفهامهم من الدقة و الاستيعاب، فاتخذ موقفا قاطعا كان فيه علي حق مرتين: مرة حين قال لتلميذه: أعد علي كلامك فأعاده.. ففكر مليا و قال له: أقسمت عليك الا أخبرتني من أين لك مثل هذا الكلام؟. ما مثلك من اهتدي الي هذا، و لا من بلغ هذه المنزلة!. فأفاده عن القائل، فقال: ما كان ليخرج مثل هذا الا من ذلك البيت!. و مرة ثانية حين دعا الكندي بالنار و أحرق جميع ما كان ألفه من تناقض القرآن، و مما كان يخالف الواقع في كتاب (لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) (26) بل (و انه لكتاب عزيز) (27)
لا يهتدي الي خفاياه الا من هداه الي ذلك الله الذي خلقه و سواه.. فقد علم أن اعتراض تلميذه عليه قد خرج من عيبة علم و معدن معرفة، و أنه يفوح منه شذا النبوة و أريج الرسالة و روح السماء.. فأذعن لما لا جواب عليه لأن الراد علي أهل ذلك البيت صلوات الله عليهم راد علي الله عز و علا..
و الكندي فيلسوف يدرك هذه المعاني قبل غيره من أهل المعرفة. قال محمد بن حمزة السروي: «كتبت علي يد أبيهاشم، داود بن القاسم الجعفري، و كان لي مؤاخيا، الي أبيمحمد عليهالسلام أسأله أن يدعو لي بالغني، و كنت قد أملقت و قلت ذات يدي، و خفت الفضيحة. فأوصلها، و خرج الجواب علي يده: أبشر فقد أتاك الغني، غني الله تبارك و تعالي مات ابن عمك يحيي بن حمزة، و خلف مائة ألف درهم، و هي واردة عليك، فاشكر الله. و عليك بالاقتصاد، و اياك و الاسراف فانه من فعل الشيطنة!. فورد علي بعد ذلك قادم و معه سفاتج من حران، فاذا ابن عمي قد مات في اليوم الذي رجع الي أبوهاشم بجواب مولاي أبيمحمد. و استغنيت و زال الفقر عني كما قال سيدي. و أديت حق الله في مالي، و بررت اخواني، و تماسكت بعد ذلك - و كنت مبذرا - كما أمرني أبومحمد» (28) .
و روي هذا الحديث عنه بلفظ: «أملقت و عزمت علي الخروج الي يحيي بن محمد، ابن عمي، بحران. و كتبت الي أبيمحمد عليهالسلام أن يدعو لي. فجاء الجواب: لا تبرح، فان الله يكشف ما بك، و ابن عمك قد مات. و كان كما قال، و وصلت الي تركته» (29) .
و هذا لا ينافي ما سبق، فقد كان حكاية حال عنه. و مثل ذلك ما حدث به علي بن حميد الذراع الذي قال: «كتبت الي أبيمحمد عليهالسلام أسأله الفرج مما نحن فيه من الضيق. فرجع الجواب، الفرج سريع، يقدم عليك مال من ناحية فارس. فمات ابن عم لي بفارس ورثته، و جاءني مال بعد أيام يسيرة» (30) .
فقد قال عليهالسلام للسائل الأول: أبشر فقد أتاك الغني!. ثم قال للسائل الثاني: الفرج سريع!. في جوابين قالهما بملء فيه، و بكامل الثقة و الاطمئنان: و كأنه عليهالسلام ملأ سفاتج حران بيده دراهم و نقودا من ارث السروي لابن عمه!. أو كأنه حرر ارث ابنحميد الذراع بفارس الساعة!. و ليزيد في اطمئنان الأول الي الغني الموعود، أفهمه أنه علي علم باسرافه و تبذيره فأمره بالاقتصاد و عدم التبذير، مشيرا الي أنه عليهالسلام عارف بدقائق أمور معاصريه، مطلع علي أحوالهم، عالم بما هم عليه. و هذا كله، والله، لو كان من غير الامام، لكان مدعاة للتفكير و العجب؛ و لكنه من الامام ليس بمستغرب لأنه من أبسط دلائل امامته و ولايته لأمور الناس، و كونه يستقي معلوماته من السماء لا من شبكات استخبارات أرضية قد تصدق و قد تكذب!.
قال داود بن الأسود: «دعاني سيدي أبومحمد عليهالسلام، فدفع الي خشبة كأنها رجل باب، مدورة طويلة، ملء الكف، فقال: صر بهذه الخشبة الي العمري - أي الي نائبه الذي صار نائبا لابنه المهدي عجل الله تعالي فرجه -. فمضيت. فلما صرت في بعض الطريق، عرض لي سقاء معه بغل. فزاحمني البغل علي الطريق، فناداني السقاء: ضح علي البغل!. - أي مهلا عليه، و مل عن طريقه -. فرفعت الشخبة التي كانت معي، فضربت بها البغل فانشقت!. فنظرت الي كسرها فاذا فيها كتب - أي رسائل - فبادرت سريعا فرددت الخشبة الي كمي - لتحت ثيابه - فجعل السقاء يناديني و يشتمني، و يشتم صاحبي. فلما دنوت من الدار راجعا، استقبلني عيسي الخادم عند الباب الثاني فقال: يقول لك مولاي أعزه الله: لم ضربت البغل و كسرت رجل الباب؟!. فقلت له: يا سيدي، لم أعلم ما في رجل الباب. فقال: و لم احتجت أن تعمل عملا تحتاج أن تعتذر منه؟!. اياك بعدها أن تعود الي مثلها!. و اذا سمعت لنا شاتما فامض لسبيلك التي أمرت بها. و اياك أن تجاوب من يشتمنا، أو أن تعرفه من أنت!. فانا ببلد سوء، و مصر سوء، و امض في طريقك فان أخبارك و أحوالك ترد الينا!. فاعلم ذلك» (31) .
أجل، صدقت يا عيسي الخادم. انكم كنتم ببلد سوء، و مصر سوء.. و لولا ذلك ما دس الامام رسائله في خشبة كأنها رجل باب ليبعث بها الي وكيله مستورة عن أعين الرقباء!. لقد كنتم في دنيا غير دنيا معاصريكم.. فهم فيها مرتاحون منعمون، مستسلمون لما هم فيه من الملذات الزائلة.. و أنتم فيها متعبون، قلقون في دنيا هي سجن المؤمن و جنة الكافر. و أنتم حذرون - ليل نهار - تعملون لحياة دائمة و نعيم لا يزول.. فاعلم ذلك يا داود بن الأسود!. و اعلم - أيضا - بأن أخبارك و أحوالك - و أخبار الناس أجمعين، أكتعين، أبصعين و أحوالهم - ترد علي الامام عليهالسلام جملة و تفصيلا.. كل يوم!. ضع ذلك في معلومك.. و نحن نضعه في معلومنا أيضا!. فان نظام مملكة السماء تقصر عنه جميع أنظمة ممالك الأرض. و عن علي بن الحسن بن الفضل اليماني، قال: «نزل «بالجعفري» من آل جعفر، خلق كثير لا قبل له بهم!. فكتب الي أبيمحمد عليهالسلام يشكو ذلك. فكتب اليه: تكفونهم ان شاء الله تعالي. قال: فخرج اليهم في نفر يسير، و القوم يزيدون علي عشرين ألف نفس، و هو في أقل من ألف، فاستباحهم» (32) .
- أي انتصر عليهم و كسرهم شر كسرة -. و المراد بجعفر، جعفر بن أبيطالب، الطيار - عليهالسلام -. و الجعفري: رجل من أولاد جعفر «المتوكل» استبصر بالحق و قال بالولاية و نسب نفسه الي الامام جعفر الصادق عليهالسلام باعتبار المذهب الذي اعتنقه. و كان الخليفة قد أراد قتل كل من يحتمل أن يدعي الخلافة، فقتل جمعا من الأمراء، و بعث جيشا لقتل «الجعفري» المذكور. فلما أحس أنه حوصر و نزل الجيش بساحته كتب الي الامام عليهالسلام، و سأله الدعاء لدفع ذلك الاعتداء الخطير، فأجابه بأنه سيكفي أمرهم. و أنت تري أن جواب الامام الملخص بخمس كلمات يحمل آية للمتفكرين، فقد انتصر الجعفري بألف رجل علي عشرين ألفا في جيش شرس مهاجم، و هزمه و استباح ما معه!.
و ان عبارة: «تكفونهم ان شاء الله تعالي» كانت دعاء كافيا لقلب مفاهيم تلك المعركة غير المتكافئة!. فان الامام اذا رفع الي ربه أكف الابتهال و الدعاء، تفتح لدعائه أبواب السماء و معاقد العرش، و يكون كأنه قال للشيء: كن، فيكون باذن الله السميع المجيب!. و اذن، فليس انتصار الألف الواحد علي العشرين ألفا بعجيب.. قال أبوالقاسم، ابنابراهيم بن محمد، المعروف بابنالحربي: «خرج أبومحمد بن علي من المدينة. فأردت قصده و لم أعلم في أي طريق آخذ فقلت ليس الا الحسن بن علي عليهالسلام - أي أنه يرشد الي الطريق ببركته - فقصدته بسر من رأي. و قد دنوت من بابه و هو مغلق؛ فقعدت انتظارا لداخل أو خارج، فسمعت قرع الباب و كلام جارية من خلف الباب فقالت: يا ابنابراهيم بن محمد، مولاي يقرئك السلام، و معها صرة فيها عشرون دينارا، و يقول: هذه بلغتك الي أبيك. - أي أنها تكفيه حتي يصل الي أبيه -. فأخذت الصرة و قصدت الجبل، و ظفرت بأبي بطبرستان و كان قد بقي من الدنانير واحد، فدفعته اليه و قلت: هذا ما أنفذه اليك مولاك، و ذكرت القصة» (33) .
و اذ نقرأ هذه الحادثة البسيطة يوقفنا منها اجلال هؤلاء الأصفياء الذين كانوا يعرفون حق الأئمة عليهمالسلام حق المعرفة، و ينظرون اليهم قادرين - باذن الله تعالي - علي اجتراح العجائب، و علي انقاذهم في ساعة العسرة، و تخليصهم من مآزق الحياة. فابنالحربي - هذا - اشتاق الي سيده و مولاه، فخرج يقصده و يحمله الشوق الي التشرف بخدمته، جاهلا أي طريق يسلك اليه، فاعتمد عليه راجيا أن يرشده الله تعالي - ببركته؛ فكان له ما أراد. و اذ وصل الي بابه - في سر من رأي - وجده مغلقا.. فمن دل الامام عليهالسلام علي ساعة وصوله اليه؟. و من عرفه أنه هو بذاته - و باسمه و جسمه - قد قعد منتظرا علي الباب؟. و كيف علم أن هذا الرجل يكفيه عشرون دينارا لمصاريف طريقه الي أبيه؟. انها أسئلة يجوز أن ترد حول تصرفات أي واحد من البشر، سوي امام الزمان. ذلك بأنه مسخرة له الملائكة و سائر العوامل الطبيعية، فلا يستعصي عليه شيء، و لا تخفي عليه خافية باذن ربه.
و ايراد مثل تلك الأسئلة و التعجبات لا تصدر الا عن جاهل بحق الامام، و بكونه سفيرا ربانيا بين يديه ما لا يحصي من الآلات السماوية و الأجهزة الالهية التي تعمل بسرعة أشد من سرعة البرق، و تطلعه علي الأمور بدقائقها و تفاصيلها، و أنه - الي جانب ذلك - يتمتع بقدرة هائلة علي التلقي و الاعطاء، و أنه.. و أنه من البشر في ظاهر حاله، و فوق البشر بواقعه و بأصل جبلته و خلقه!.. فمن نظر الي امام زمانه نظرته الي عالم كبير من علماء قومه، أو الي عظيم خطير من عظماء بنيجنسه، أخطأ الهدف و ضل عن جادة الصواب، لأن الامام ليس كذلك.. بل هو فوق ذلك بما لا يحيط به وصف، و بما لا يقع تحت حس و لا وعي. و قال علي بن محمد بن زياد الصيمري: كنت جعلت علي نفسي أن أحمل كل سنة النصف من خالص انتفاع ضيعتين لي بالبصرة، لم يكن في ضياعي أجل منهما و لا أكثر دخلا، الي أبيمحمد عليهالسلام. فكانت تزكو غلاتهما و تريع أضعاف الريع قبل ذلك. فأعددت ألفي دينار لأحملها، فوجه الي ابن عمي: محمد بن اسماعيل بن صالح الصيمري بأموال حملتها اليه من أموالي في كتابي، و ما فصلت ماله عن مالي. فورد علي الجواب: وصل ما حملته، و من جملته ما حمله الينا علي يدك الاسماعيلي قرابتك، فعرفه ذلك» (34).
لك الله يا صيمري!. لقد ذقت زكاة غلات ضيعتيك اللتين تضاعف ريعهما حين جعلت علي نفسك أن تحمل النصف الي مولاك أبيمحمد عليهالسلام. فما بالك تخلط مالك المرسل اليه، مع مال ابن عمك، دون أن تذكر للامام ذلك؟!. هل فات علمك أنه عليهالسلام يعرف المال، و مصدره، و صاحبه، و حلاله، و حرامه، و كثيره، و قليله؟!. أم جربت أن تقتنص دلالة بينة علي أنه سلام الله عليه يعلم ذلك؟!. ربما كان ذلك منك من عمد أو عن غير قصد.. و لكن امامنا عليهالسلام كتب لك عن قصد و تصميم، لتعرف - و نعرف نحن من بعدك - أن الامام ذو عين لا تنام!. و هذه هي وظيفته التي رسمه الله تعالي لها. و قال ابنالفرات: . «كان لي علي ابن عم لي عشرة آلاف درهم، فطالبته بها مرارا، فمنعنيها. فكتبت الي أبيمحمد عليهالسلام أسأله الدعاء لذلك. فكتب الي: انه راد عليك مالك، و هو ميت بعد جمعة. فرد علي ابن عمي مالي، فقلت له: ما بالك في رده و قد منعتنيه؟!. قال: رأيت أبامحمد عليهالسلام في المنام فقال لي: ان أجلك قد دنا، فرد علي ابن عمك ماله»(35) .
و كذلك قال محمد بن موسي:. «شكوت الي أبيمحمد عليهالسلام مطل غريم لي. فكتب الي: عن قريب يموت. و لا يموت حتي يسلم اليك مالك عنده. فما شعرت الا وقد. دق علي الباب و معه مالي. و جعل يقول: اجعلني في حل مما مطلتك. فسألت عن موجبه، فقال: اني رأيت أبامحمد عليهالسلام في منامي و هو يقول: ادفع الي محمد بن موسي ماله عندك، فان أجلك قد حضر، و اسأله أن يجعلك في حل من مطله» . أحسنتما صنعا: يا ابن عم ابنالفرات، و يا غريم محمد بن موسي. فقد قنعتما بأمر جاءكما في المنام، و لم تقولا: أضغاث أحلام!. و لأنتما - و أيم الحق - عارفان بامام زمانكما، و غنيان بولايتكما، و مصدقان بأن كلام أوصياء النبي صلي الله عليه و آله و سلم في المنام، ككلامهم في اليقظة، فقد أعطاهم الخالق سبحانه ما لم يعط أحدا غيرهم من المخلوقين ليكونوا كفاء ما حملهم من أمر أهل أرضه. قال عمر بن أبيمسلم: «قدم علينا بسر من رأي رجل من أهل مصر يقال له: سيف بن الليث، لكي يتظلم الي «المهتدي» في ضيعة غصبها شفيع الخادم و أخرجه منها.
فأشرنا اليه أن يكتب الي أبيمحمد عليهالسلام يسأله تسهيل أمرها. - أي أن يدعو له -. فكتب اليه أبومحمد عليهالسلام: لا بأس عليك. ضيعتك ترد عليك، فلا تتقدم الي السلطان، والق الوكيل الذي في يده الضيعة و خوفه بالسلطان الأعظم الله رب العالمين. فلقيه فقال الوكيل الذي في يده الضيعة: قد كتب الي عند خروجك من مصر أن أطلبك و أرد عليك الضيعة. فردها عليه بحكم القاضي ابن أبيالشوارب (36)و شهادة الشهود: و لم يحتج أن يتقدم الي «المهتدي» فصارت الضيعة في يده و لم يكن لها خبر بعد ذلك» (37) . بقيت ليثا ابنليث يا مصري، و لم تبد ثعلبا.. فقد امتثلت أمر الامام و لم تذل نفسك في الوقوف علي باب السلطان.. و رد الله عليك ضيعتك. و نأسف أننا صرنا نطري من يذعن للحق، و نمدح سامع النصيحة.. لأن الله سبحانه و تعالي قال: (أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون، أم يقولون به جنة بل جآءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون) (38).
بلي والله، نحن نتعجب ممن رأوا الآيات و الدلائل فعاندوا أهل الحق، تعجبنا ممن يعرفون ذلك في عصرنا هذا، و ينحرفون.. و حدث عمر بن أبيمسلم - أيضا- عن سيف بن الليث المذكور، قائلا: «قال سيف بن الليث - المصري: خلفت ابنا لي عليلا في مصر عند خروجي منها، و ابنا لي آخر أسن منه كان وصيي و قيمي علي عيالي و في ضياعي. فكتبت الي أبيمحمد عليهالسلام أسأله الدعاء لا بني العليل. فكتب الي: قد عوفي ابنك المعتل، و مات الكبير، وصيك و قيمك. فاحمد الله و لا تجزع فيحبط أجرك. فورد علي الخبر أن ابني قد عوفي من علته و مات الكبير يوم ورد علي جواب أبيمحمد عليهالسلام» (39) .
و الأمر من معدنه ليس عجيبا.. و سبحان من أعطي أئمة أهل البيت عليهمالسلام ما لم يعط أحدا من العالمين، و جعلهم مستودع حكمته و باب رحمته، و أناط أمرهم بمشيئته و علمهم علم ما كان و علم ما بقي؛ ليكونوا الناطقين بأمره و الأدلاء علي عظمته و جليل قدرته. و قال عمر بن أبيمسلم ذاته: «كان سميع المسمعي يؤذيني كثيرا، و يبلغني عنه ما أكره؛ و كان ملاصقا لداري. فكتبت الي أبيمحمد عليهالسلام أسأله الدعاء بالفرج عنه. فرجع الجواب: أبشر بالفرج سريعا؛ و يقدم عليك مال من ناحية فارس. و كان لي بفارس ابن عم تاجر، لم يكن له وارث غيري. فجاءني ماله بعدما مات بأيام يسيرة. و وقع - عليهالسلام - في الكتاب: استغفر الله و تب اليه مما تكلمت به. و ذلك أني كنت يوما مع جماعة من النصاب فذكروا أباطالب، حتي ذكروا مولاي، فخضت معهم لتضعيفهم أمره. فذكرت الجلوس مع القوم؛ و علمت أنه أراد ذلك» (40).
و في رواية ثانية، ورد جواب الامام عليهالسلام بلفظ: «أبشر بالفرج سريعا؛ و أنت مالك داره». فمات بعد شهر، و اشتريت داره فوصلتها بداري، ببركته» (41). فلو كنت أنا مكان سميع المسمعي لآذيتك يا عمر بن أبيمسلم، اذ لا يليق بمن هو مثلك في الفضل أن يجالس الذاكرين لأبيطالب و أبيمحمد عليهمالسلام بما لا يحسن ذكره؛ خصوصا و أنت تعلم أن الامام يؤتي بالكلام علي جناح سرعة هائلة.. أي حين حدوثه بالضبط.. و من أي كان!. و علي كل حال، قد مات غريمك، و ملكك الله تعالي داره، الي جانب ارث ابن عمك، لأنه علم منك الايمان، و صدق التوبة. و بغالب ظني أنه قد فاتك أن تعرف أن الامام يعلم جميع ما يحدث في عصره، فحملتك التقية علي مجالسة المناصبين للحق و أهله، ففجأك كتابه عليهالسلام بمعرفته بما أنت عليه، ليردك الي الصراط القويم. و كذلك قال أبوعلي، عمر بن أبيمسلم: «كتبت الي أبيمحمد عليهالسلام و جاريتي حامل، أن يسمي ما في بطنها. فكتب: سم ما في بطنها اذا ظهرت!. ثم ماتت بعد شهر من ولادتها، فبعث الي بخمسين دينارا علي يد محمد بن سنان الصواف، و قال: اشتر بهذه جارية» (42) .
فأن يعلم انسان ما في الأرحام، و يعرف هل المولود طويل العمر أمقصيره، فليس ذلك أمرا بسيطا!. و علي الأخص حينما لا يكون ذلك ضربا بالرمل، و لا حساب جمل، و لا تخمينا. فذلك من علم الله جل و علا الذي (يهب لمن يشآء انثا و يهب لمن يشآء الذكور) (43) فهو سبحانه لا يشاركه في العطاء و الخلق أحد.. و لكنه - من فضله - يطلع أولياءه المقربين علي كثير مما برأ و ذرأ و قضي و قدر، ليسلحهم بما يقنع أنهم حججه علي الناس، و نجباؤه في الخلق، و ليهتدي بهم من يهتدي الي سماع أوامره و نواهيه فيعمل بها و يكون من الفائزين برضاه في دار ثوابه و نعيمه الدائم. فاعجب من كل شيء الا ما كان يخص محمدا و آل محمد صلي الله عليه و عليهم، فانهم بقية الأنبياء و الأوصياء و سادتهم من لدن آدم عليهالسلام الي أن تقوم الساعة، و عندهم ما كان عند الأنبياء و الأوصياء و زيادة كما مر سابقا؛ و السماء ترفدهم دائما و أبدأ بما يحتاجون اليه من واضح البرهان، و ساطع البيان. و التصديق بذلك مأمول من كل أحد، لأنه مفروض علي كل أحد.. و لكنه لا يكون بالاجبار، بل بالاختيار، ليكون للمختار أجره و ثوابه. فأهل البيت عليهالسلام - و هم - «هم الشعار - كما قال أميرالمؤمنين عليهالسلام - أي بطانة النبي صلي الله عليه و آله و سلم - و هم - الأصحاب، و الخزنة، و الأبواب، و لا تؤتي البيوت الا من أبوابها. فمن أتاها من غير أبوابها سمي سارقا!.. فهم كرائم القرآن، و هم كنوز الرحمان. ان نطقوا صدقوا، و ان صمتوا لم يسبقوا» (44) .
و أفلح من دخل بيوت النبوة و منازل الوحي من أبوابها، و فاز - والله - فوزا عظيما!. قال جعفر بن محمد القلانسي: «كتبت الي أبيمحمد، مع موسي بن عبدالجبار، و كان خادما، يسأله عن مسائل كثيرة. و سأله الدعاء لأخ خرج الي أرمينية يجلب غنما؟. فورد الجواب بما سأل. و لم يذكر أخاه فيه بشيء. فورد الخبر بعد ذلك أن أخاه مات يوم كتب أبومحمد جواب المسائل!. فعلمنا أنه لم يذكره لأنه علم بموته» (45) .
أفرأيت - يا قارئي الكريم - كيف عرف القلانسي لياقة امامه عليهالسلام؟!.لقد أجابه سلام الله عليه علي جميع مسائله، و لم يحب أن يذكر أخاه بشيء تاركا له نسمة من الأمل يتلقي بعدها الخبر المؤلم. و قد كان يمكنه أن يعزيه سلفا، و أن يعظه بالصبر لنيل الأجر، و لكن موت الأخ كسر جناح و لذا أعرض الامام عليهالسلام عن ذكر الأخ و ما أصابه. و حكي القلانسي نفسه قائلا: «كتب أخي محمد، الي أبيمحمد عليهالسلام، و امرأته حامل مقرب، أن يدعو الله أن يخلصها، و يرزقه ذكرا، و يسميه. فكتب يدعو الله بالصلاح و يقول: رزقك الله ذكرا سويا، و نعم الاسم: محمد، و عبدالرحمان. فولدت اثنين في بطن؛ أحدهما في رجله زوائد في أصابعه، و الآخر سوي. فسمي واحدا محمدا، و الآخر، صاحب الزوائد، عبدالرحمان» (46) .
و يلفت النظر في جواب أبيمحمد عليهالسلام أنه قال: رزقك الله ذكرا سويا، لا علي سبيل الدعاء، بل علي سبيل الاخبار، لأنه علم بالتوأمين، و بالعلامة المميزة في أحدهما، و بأن أحدهما غيرخ سوي.. ثم انه أشار في جوابه الي مولودين اثنين، و بين أن أحدهما - السوي - اختار له اسم محمد، و لم يوضح العلامة الفارقة في الولد الآخر، و أمر بتسميته عبدالرحمان. فسبحان الرحمان الذي (و يعلم ما في الأرحام) و يطلع خيرته من خلقه علي شيء من علمه ليجعله آية لأولي الأبصار!. و قال محمد بن همام: «كتب أبي الي أبيمحمد، الحسن بن علي العسكري عليهالسلام، يعرفه أنه ما صح له حمل بولد، و يعرفه أن له حملا، و يسأله أن يدعو الله في تصحيحه، و سلامته، و أن يجعله ذكرا نجيبا من مواليهم. فوقع علي رأس الرقعة بخط يده: قد فعل الله ذلك. فصح الحمل ذكرا» (47) .
و ليست هذه أولي الدلائل علي مواهب الله تعالي لأهل بيت رسوله الكريم صلي الله عليه و عليهم، فان كل ما صدر عن سليل ذلك البيت يدل علي أنه عبدالله المختار، الحامل لأسرار عظمته سبحانه في خلقه. فان قوله عليهالسلام: قد فعل الله ذلك، يشير الي كونه خازن علم الله تعالي، و مستودع حكمته في ملكوته الأرض؛ و الا فأية جرأة هي هذه التي يستعملها هذا العبد الصالح المجتبي، و يفوه بها بملء الثقة مخبرا بأن ربه عزوجل قد وهب سائله ولدا ذكرا بلا أدني ريب؟! القاسم المفسر، عن يوسف بن محمد بن زياد، و علي بن محمد بن سيار، و كانا من الشيعة الامامية، اماميين، و كانت الزيدية الغالبين بأسترآباد، و كنا في امارة الحسن بن زيد العلوي امام يكثر الاصغاء اليهم، تقتل الناس بسعاياتهم، فخشيناه علي أنفسنا، فقصدنا حضرة الامام أبيمحمد، الحسن بن علي بن محمد، أبيالقائم عليهالسلام. فقال: مرحبا بالأوابين الينا، الملتجئين الي كنفنا. قد تقبل الله سعيكما، و أمن روعتكما، و صرتما أمينين علي أنفسكما و أموالكما.. الي أن قال: لا تخافوا السعاة، و لا وعيد المسعي اليه، فان الله عزوجل يقصم السعاة و يلجئهم الي شفاعتكم فيهم (و الحديث طويل) و فيه أن ما أخبر به عليهالسلام وقع» (48) .
من أعطي هذا الامام الكريم شيئا من علمه المكنون، و عرفه بما كان و ما يكون، فأرجع صاحبيه مطمنين آمنين علي النفس و المال، بعد أن كانا خائفين مرعوبين في ظل حاكم يأخذ الناس بالظن و التهمة. في هذه الحادثة أنه - صلوات الله عليه - قد وعد الرجلين بأن يكونا مشفعين عند من هربا منه، و هما ليسا من شيعته و لا من طائفته. (ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء والله ذوالفضل العظيم). و نقل أن أباسليمان المحمودي قال: «كتبت الي أبيمحمد أسأله الدعاء بأن أرزق ولدا. فوقع: رزقك الله ولدا، و آجرك و أصبرك عليه!. فولد لي ابن، و مات» (49) .
و الخبر ليس بأغرب مما سبقه، و ان كان يحتوي ذلك التلطف بالتعزية بمولود لن يعيش كثيرا بعد أن يبصر النور. ذلك أن من جعل الله تعالي علمه من علمه، لا يصعب عليه أن يجيب بمثل ذلك بتمام البساطة و التأكيد. لقد ظلم الناس و التاريخ أئمة أهل البيت عليهمالسلام، و نفسوا عيهم حقهم المكرس من العلاء، المرسوم من رب السماء.. بجرأة علي الله الذي كرس و رسم، قبل أن تكون جرأة عليهم!. فهل نكون من الظالمين مع الظالمين لهم؟!. و روي عن الحجاج بن سفيان العبيدي أنه قال: «خلفت ابني بالبصرة عليلا، و كتبت الي أبيمحمد أسأله الدعاء له. فكتب الي: رحم الله ابنك، انه كان مؤمنا. فورد علي كتاب من البصرة أن ابني مات في ذلك اليوم الذي كتب الي أبومحمد بموته. و كان ابني شك في الامامة للاختلاف الذي جري بين الشيعة» (50) .
فلاحظ أنه علم بموت الولد ساعة موته!. و أن ذلك مما يقرأه في الزبور السماوي المنشور بين يديه. ثم علم - كذلك - أن الولد كان قد شك في الامامة حين اختلاف الشيعة فيها، و أنه اعتدل بعد ذلك و آمن و اهتدي، و ذلك مما علمه الله تبارك و تعالي، لأنه يعرفه - بقدرته - علي كل كبيرة و صغيرة تجري في حكومته الربانية كما تطلع الدولة مندوبها علي ما يجري فيها ليكون علي بينة من سائر أحداثها. و كذلك قال علي بن زيد - المعروف بابنرمش -: «اعتل ابنيأحمد، و كنت بالعسكر و هو ببغداد. فكتبت الي أبيمحمد أسأله الدعاء. فخرج توقيعه: أوما علم علي أن لكل أجل كتابا؟!. فمات الابن» (51) .
بلي يا سيدي و مولاي، يعلم علي بن زيد - و كل انسان أيضا - أن لكل أجل كتابا. و لكن لا يصدق أحد بذلك الأجل حتي يكبه ذلك الأجل علي منخريه!. اذ أين للناس علم كعلمكم، و ايمان بالله تعالي كايمانكم الذي لو وزن بايمان الثقلين لرجح عليه؟!. و لئن جهل حقكم بعض أهل الأرض، فما جهله أحد من أهل السماء!. و سيأتي اليوم المبارك الذي يظهر الله فيه فضلكم لكل انسان، و يدور ذكركم علي كل شفة و لسان حين يظهر أمركم ولو كره الحساد و أهل العناد. و قال محمد بن علي بن ابراهيم الهمداني: «كتبت الي أبيمحمد عليهالسلام أسأله التبرك بأن يدعو لي أن أرزق ولدا من بنت عم لي. فوقع: رزقك الله ذكرانا. فولد لي أربعة» (52) .
في هذا الجواب الكريم ايجاب.. و فيه بشارة بذكران دون اناث. فكيف يفسر هذا التأكيد القاطع: الذي ان اعتمد فيه علي الدعاء (بقوله: رزقك الله ذكرانا) فكيف ضمن اجابة دعائه و تكفل بالذكران؟!. و ان اعتمد علي علم بأنه سيرزق ذكرانا دون اناث، فكيف علم ذلك الذي لا يعلمه الا الخالق الوهاب؟!. فهل يهب الامام عليهالسلام لمن يشاء اناثا، و يهب لمن يشاء الذكور، فأعطي سائله أربعة صبيان دون أخوات؟!. لا، لا، و نستغفر الله تعالي الذي جل عن الشريك في خلقه و عطائه!. بل انه عز و علا يعرف أمينه في أرضه بمثل هذه الأمور اذا أراد أن يعرفها. فان الامام - بما معه من امكانيات الهية - هي من عطايا الله الجسام للأنام، من الله تعالي به علينا رحمة بنا، فآمن به قليلون و جحد امامته كثيرون!. و لكن، ويل لمن فارق و ناوأ ذلك العبد المكرم الذي أنعم ربه علينا به ليهدينا الي الحق و الي الصراط المستقيم!. و أنبه الي أنه يخطيء الصواب من يضع الامام فوق مرتبته التي رتبه الله تعالي فيها كما أنه يضل عنه من أنكر أنه مخلوق هكذا اماما منتخبا منتجبا..
قال محمد بن الحسن بن شمون: «كتبت الي أبيمحمد عليهالسلام أسأله أن يدعو لي من وجع عيني، و كانت احدي عيني ذاهبة، و الأخري علي شرف ذهاب. فكتب الي: حبس الله عليك عينيك. فأقامت الصحيحة. و وقع في آخر الكتاب: آجرك الله و أحسن ثوابك. فاغتممت بذلك و لم أعرف في أهلي أحدا مات، فلما كان بعد أيام جاءني خبر وفاة ابني طيب، فعلمت أن التعزية له» (53).
و مثله ما روي عن محمد بن درياب الرقاشي الذي قال: «كتبت الي أبيمحمد أسأله عن المشكاة، و أن يدعو لامرأتي، و كانت حاملا علي رأس ولدها، أن يرزقني الله ولدا ذكرا، و سألته أن يسميه. فرجع الجواب: المشكاة قلب محمد صلي الله عليه و آله و سلم. و لم يجبني عن امرأتي بشيء، و كتب في آخر الكتاب: عظم الله أجرك و أخلف عليك. فولدت ولدا ميتا، و حملت بعده فولدت غلاما» (54) . فسبحان الله الذي (و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو و يعلم ما في البر و البحر و ما تسقط من ورقة الا يعلمها و لا حبة في ظلمات الأرض و لا رطب و لا يابس الا في كتاب مبين!)(55) .
و تقديسا له و تنزيها عن الشريك في العلم و القدرة!. و لكنه - بقدرته المطلقة علم الانسان ما لم يعلم، و بارادته أقدر عباده المختارين علي شيء من علمه (و لا يحيطون بشيء من علمه الا بما شآء) (56) ليكونوا أدلاء عليه و مرشدين الي معالم دينه و ما شرع للناس من آيات أحكامه و فصول قضائه.. و لولا أنه سبحانه تولاهم بعين عنايته لكانوا بشرا لا فرق بينهم و بين غيرهم، و لكنه ميزهم بمواهب جزيلة جليلة، و فضلهم علي سائر براياه، ليكونوا أبواب معرفته، و الناطقين بحكمته الحاملين لأمره، المحتجين علي ذوي العناد من خلقه؛ ثم جعلهم الوسيلة اليه، الدالين عليه تبارك و تعالي. و قد جعل سبحانه امام الناس عيبة علم - كل علم - و لولا ذلك ما آمن ابنشمون - باذن الله - علي عينه الصحيحة، و لا عزاه بوفاة ابنه، و لا عزي ابندرياب و وعده بخلف، بتمام الثقة و التأكيد.
من آمن بالله عزوجل، آمن بكل ما جاء من عنده.. و الدين وحدة كاملة لا تتجزأ.. و حذار أن نكون كبني اسرائيل الذين وبخهم الله تعالي بقوله: (أفتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم الا خزي في الحياة الدنيا و يوم القيامة يردون الي أشد العذاب) (57).
و عن علي بن أحمد بن حماد، قال: خرج أبومحمد عليهالسلام في يوم مصيف و عليه تجفاف و ممطر، فتكلموا في ذلك. - أي خرج بلباس شتاء في يوم صيف حار، فانتقدوه و تعجبوا من تصرفه -. فلما انصرفوا من مقصدهم، أمطروا في طريقهم و ابتلوا، سواه!» (58).
أولي لكم أيها المكابرون فأولي أن تذعنوا للحق اذا ظهر لكم، و أن لا يجركم الشيطان بآذانكم للوقوف بوجه كل ما ينزل من السماء، لأنه لم ينزل عليكم و نزل علي عباد الله المصطفين!. و ما أولي هؤلاء المتكلمين المنتقدين لتصرف الامام عليهالسلام بأن يبتلوا بالماء و يتلطخوا بالوحل!. لا بل ما أحراهم بأن يجرفهم سيل عنادهم، فان ذلك أجدر بهم من أن يجرفهم تيار الجحود و الالحاد بامامة امام افترض الله تعالي طاعته عليهم، و ولاه أمورهم رأفة بهم!. و لم يجعله جبارا شقيا يخشاه بعضهم من أجل دنياه، و يؤازر حكمه الظالم بعضهم الآخر ابقاء علي شهوة بطنه و فرجه و خضما لما في الدنيا، و أكلا للتراث أكلا لما!!! و لا أعلم كيف خاض هؤلاء في نقد امام عاصروا آياته، و رأوا بيناته، و لم يدعو جهلهم المسيطر عليهم، و لا انتبهوا الي أن انكارهم لامامته، أو اعترافهم بها، لا يؤثر في الواقع الذي قضي به الله تعالي شيئا؛ بل غفلوا عن أن في جحودهم لها وبالا عليهم اذ يكتسبون توبيخ الضمير في الحياة، و سوء المصير بعد الممات!. ألا ان بخر الكروش الملأي بحلال الدنيا و حرامها، رطب مناطق تفكيرهم و كدر صفاءها، و أعمي قلوبهم و بصائرئهم من سائر أرجائها.. و في كتاب (الدلائل) أن أبابكر - لعله الفهفكي - قال: «عرض علي صديق أن أدخل معه في شراء ثمار من نواحي شتي. فكتبت الي أبيمحمد عليهالسلام أشاوره: فكتب: لا تدخل في شيء من ذلك. ما أغفلك عن الجراد و الحشف؟!. فوقع الجراد فأفسده، و ما بقي منه تحشف!. و أعاذني الله ببركته» (59) .
و الجراد يجرد الأرض من النبات فيأكل الأخضر و اليابس و لا يدع ورقا و لا ثمرا. و الحشف هو ما يضمر من الثمر و ييبس قبل نضجه و يفسد. و صلي الله علي النفس الزكية الصافية التي استشفت من وراء الغيب أسراب الجراد تغزو الأرض فتمسح أخضرها و يابسها، ثم تراءي لها ضمور الثمار و صيرورتها حشفا ضامرا يابسا لا فائدة فيه!. (ان في ذلك لآية لقوم يتفكرون) (60).
و حدث القنبري قائلا: «كان لأبيمحمد وكيل اتخذ معه في الدار حجرة - غرفة - يكون فيها معه خادم أبيض. فراود الوكيل الخادم الأبيض عن نفسه - أي حاول معه الفعل الشنيع - فأبي الا أن يأتيه بنبيذ - أي شراب هو ماء ينبذ فيه التمر حتي يتخلل فيصير شرابا لذيذا، و لا يكون مسكرا -. فاحتال له بنبيذ، ثم أدخله عليه، و بينه و بين أبيمحمد عليهالسلام ثلاثة أبواب مغلقة. قال: فحدثني الوكيل، قال: اني لمنتبه اذ أنا بالأبواب تفتح حتي جاء بنفسه فوقف علي باب الحجرة ثم قال: اتقوا الله يا هؤلاء!. خافوا الله!. فلما أصبحنا أمر ببيع الخادم، و اخراجي من الدار» (61) .
قبح الله وجه هذا الوكيل الرذيل!. أتراه ظن نفسه في أحد مواخير قصر سلطان الزمان فحاول هذا الأمر القبيح الذي يجري مثله من عمليات الزني و اللواط في مختلف الدهاليز؟!. أو لم يعلم أنه في حضرة قدس خصها الله تعالي بعنايته فلا يقع فيها سوء و لا ترتكب فيها فاحشة؟!. انه لو كان وكيلا علي الدواب في تلك الدارة الشريفة، لأعلمته الدواب أن لتلك الحضرة قدسا و شرفا لا يمسه دنس!. و لأخبرته الحيوانات الصم البكم بضرورة التزام الأدب في مقام مشرع الأدب و الخلق، و لعرفته البهائم بهيبة من أقامه وكيلا.. فوجده سفيها رذيلا!. و بالحقيقة ان من الناس من هم كالبهائهم بصورة الأوادم!. أفتظن أنهم يفكرون؟ (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ان هم الا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) (62).
و لولا ذلك لعلم هذا الوكيل الوقح و ذلك الخادم السفيل، أنهما في حضرة امام يري ما وراء الجدران،و يسمع همس الوجدان، لأنهما يريان منه في كل ساعة أوضح برهان. و ذكر البرسي في كتابه (مشارق الأنوار) عن الحسن بن حمدان، عن أبيالحسن الكرخي، قال: «كان أبيبزازا - بائع أقمشة - في الكرخ، فجهزني بقماش الي سر من رأي. فلما دخلت اليها جاءني خادم فناداني باسمي و اسم أبي، و قال: أجب مولاك!. قلت: و من مولاي حتي أجيبه؟!. فقال: ما علي الرسول الا البلاغ. فتبعته، فجاء بي الي دار عالية البناء لا أشك أنها الجنة، و اذا رجل جالس علي بساط أخضر، و نور جماله يغشي الأبصار، فقال لي: ان فيما حملت من القماش حبرتين: احداهما في مكان كذا، و الأخري في مكان كذا، في السفط الفلاني، و في كل واحدة منهما رقعة مكتوب فيها ثمنها و ربحها. و ثمن احداهما ثلاثة و عشرون دينارا، و الربح ديناران؛ و ثمن الأخري ثلاثة عشر دينارا، و الربح كالأول. فاذهب فأت بهما. فرجعت فجئت بهما اليه. فوضعتهما بين يديه، فقال لي: اجلس. فجلست لا أستطيع النظر اليه اجلالا لهيبته!. فمد يده الي طرف البساط و ليس هناك شيء، و قبض قبضة و قال: هذا ثمن حبرتيك، و ربحهما. فخرجت، و عددت المال في الباب، فكان المشتري و الربح كما كتب والدي، لا يزيد و لا ينقص!» (63) .
نفسي الفداء لهذا السيد العظيم الذي يعرف مواليه أينما انقلبوا، و كيفما تقلبوا!. لقد علم بوصول الكرخي الي سامراء حين وروده اليها، و عرف مكان نزوله من السوق، و أرسل خادمه ليستحضره، ثم لما مثل بين يديه دله علي مكان الحبرتين في السفط، و أخبره عن ثمن كل واحدة و عن ربحها المقرر من والده، و أمره باحضارهما. و لما جاءه بهما، قبض قبضة من تحت طرف بساط - لم ير الرجل تحته شيئا - كان فيها ثمن السلعتين مع ربحهما بلا زيادة و لا نقصان، و من دون عد سابق!. فكيف تنظر الي هذه الظواهر العجيبة؟. انه تبارك و تعالي سخر (و لسليمان الريح غدوها شهر و رواحها شهر و أسلنا له عين القطر و من الجن من يعمل بين يديه باذن ربه...) (64)
في ملك وهبه اياه لم يكن لأحد قبله. أما آل محمد صلي الله عليه و عليهم فقد رفع منزلتهم علي الأوصياء كما رفع منزلة جدهم علي الأنبياء، و جعل عددا لا يحصي من الملائكة يعملون بين أيديهم فيما بين السماء و الأرض و مختلف أصقاعها، حتي أنك لو كشف لك الغطاء لرأيت حول الامام ملكوتا واسعا شاسعا، و لفتحت عينيك علي ما لايخطر في بالك و لا في بال أحد مما هم فيه من السلطة و القدرة الربانية، و ما هو حولهم من الخدم و الموظفين العاملين بأمر ربهم!. و اذا قلت ذلك رماك الناس بالغلو و المبالغة.. و اذا عرفته و كتمته أسأت الي الناس بما أخفيت من الحق و لم تنشر عليهم علمك وكتمت شهادة لها خطرها عند الله.. (و من أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله؟!!) (65) .
و لن أكتم شهادة عندي، خدمة للحقيقة، و خدمة لاخواني، ليكونوا علي بينة من أمرهم. و قال أبوعلي المطهري: «انه كتب اليه من القادسية - بلدة قرب الكوفة - يعلمه انصراف الناس عن الحج، و أنه يخاف العطش ان مضي. فكتب عليهالسلام اليه: امضوا، و لا خوف عليكم ان شاء الله. فمضي من بقي سالمين، و لم يجدوا عطشا و الحمد لله رب العالمين» (66) .
(ان الله لا يخفي عليه شيء في الأرض و لا في السمآء) (67) . و ما لا يخفي علي الله سبحانه، لا يخفيه عمن انتدبه مستأمنا علي أمره في أرضه. فلا عجب أن يجزم الامام عليهالسلام بأن لا خوف علي صاحبه - و لا علي الحجاج - أثناء سفرهم، لأنه يصدر بأمره هذا عن علم، و يتكلم عن رؤية واضحة صادقة من بها عليه ربه عزوجل الذي هو يقدر الأمور و يجريها بحسب مشيئته و تقديره. و انني لأغبط أولئك الأصحاب الذين نعموا بمعاصرة الامام عليهالسلام، و تولوه و كانوا يعملون بأمره و لا يحيدون عن طريقته المثلي التي تجعلهم مرضيين عند ربهم، و لم يكونوا في المعاندين لما يرونه من الآيات و البينات.
قال سعيد بن جناح الكشي: «سمعت محمد بن ابراهيم الوراق السمرقندي يقول: خرجت الي الحج، فأردت أن أمر علي رجل كان من أصحابنا، معروف بالصدق و الصلاح و الورع و الخير، يقال له: يورق اليوشنجاني - نسبة الي قرية في الهراة - و أزوره و أحدث به عهدي. فأتيته، فجري ذكر الفضل بن شاذان، فقال يورق: الفضل بن شاذان شديد العلة، و له بطن - أي أنه مصاب بالاسهال - و هو يختلف في الليل مائة مرة، الي مائة و خمسين مرة!. و قال: خرجت حاجا فأتيت محمد بن عيسي العبيدي، فرأيته شيخا فاضلا، في أنفه اعوجاج هو القنا، و معه عدة رأيتهم مغتمين محزونين، فقلت لهم: ما لكم؟!. فقالوا: ان أبامحمد عليهالسلام قد حبس. فحججت، و رجعت. ثم أتيت محمد بن عيسي و وجدته قد انجلي ما كنت رأيته به. فقلت: ما الخبر؟. قال: قد خلي عنه. - أي أطلق سراح الامام عليهالسلام -. فخرجت الي سر من رأي و معي كتاب «يوم و ليلة».
فدخلت علي أبيمحمد عليهالسلام و أريته ذلك الكتاب فقلت له: جعلت فداك، اني رأيت أن تنظر فيه. فنظر فيه و تصفحه ورقة ورقة و قال: هذا صحيح، ينبغي أن يعمل به. فقلت له: الفضل بن شاذان شديد العلة، و يقولون: انه من دعوتك بموجدتك عليه لما ذكروا أنه قال: وصي ابراهيم خير من وصي محمد صلي الله عليه و آله و سلم. و لم يقل، جعلت فداك، هكذا، كذبوا عليه. فقال: نعم، كذبوا عليه رحم الله الفضل، رحم الله الفضل. فرجعت فوجدت الفضل قد مات في الأيام التي قال أبومحمد عليهالسلام: رحم الله الفضل» (68).
قد سبق أن قلنا: ان علم المنايا و البلايا يدور علي ألسنة أئمتنا عليهمالسلام دوران بسم الله الرحمن الرحيم علي ألسنة المصلين، و هو في جملة ما في أيديهم من منن اله عزوجل، و لا يرتاب في ذلك الا المرتاب في امامتهم و اختيارهم لمأمورية أرضية، بانتداب سماوي رباني لا مراء فيه الا عند أهل المراء و الافتراء.. فليس من العجيب - اذن - أن يعرف الامام بموت واحد من شيعته وقت موته. و روي أن رجلا من موالي أبيمحمد العسكري عليهالسلام، دخل عليه يوما، و كان حكاك فصوص، فقال: «يا ابنرسول الله، ان الخليفة دفع الي فيروزا أكبر ما يكون و أحسن ما يكون، و قال: انقش عليه كذا و كذا. فلما وضعت عليه الحديد صار نصفين، و فيه هلاكي، فادع الله لي. فقال: لا خوف عليك ان شاء الله. فخرجت الي بيتي. فلما كان من الغد، دعاني الخليفة و قال: ان حظيتين اختلفتا في ذلك الفص و لم ترضيا الا أن تجعل ذلك بنصفين بينهما. فاجعله. و انصرفت، و أخذته و قد صار قطعتين، فأخذتهما الي دار الخلافة فرضيتا بذلك، و أحسن الخليفة الي بسبب ذلك فحمدت الله»(69) .
و الحظية هي الجارية الأثيرة التي تكون ذات منزلة و مكانة و تقدير عند الرجل. و في رواية مثلها عن كافور - خادم الامام عليهالسلام، قال: «كان يونس النقاش يغشي سيدنا الامام و يخدمه. فجاءه يوما يرعد فقال: يا سيدي، أوصيك بأهلي خيرا. قال: و ما الخبر؟. قال: عزمت علي الرحيل. قال: و لم يا يونس؟. و هو يبتسم. قال: وجه الي ابنبغا بفص له قيمة!. - أي أنه غال لا يقدر بثمن - أقبلت أنقشه فكسرته باثنين، و موعده غدا، و هو ابنبغا!. ألف سوط أو القتل!. قال: امض الي منزلك الي غد. فرح فلا يكون الا خيرا. فلما كان من الغد و اتاه بكرة يرعد، فقال: قد جاء الرسول يلتمس الفص. فقال: امض اليه، فلن تري الا خيرا. قال: و ما أقول له يا سيدي؟!. فتبسم و قال: امض اليه و اسمع ما يخبرك به، فلا يكون الا خيرا. فمضي، و عاد يضحك و قال: قال لي يا سيدي: الجواري اختصمن، فيمكنك أن تجعله اثنين حتي نغنيك!. فقال الامام عليهالسلام: اللهم لك الحمد اذ جعلتنا ممن يحمدك حقا. فأيش قلت له؟!. قال: قلت له: حتي أتأمل أمره. فقال: أصبت»(70) .
و قال قال المجلسي رحمه الله في (بحاره) الزاخرة: أوردنا هذه القصة - أي الثانية - بعينها في معجزات أبيالحسن الهادي عليهالسلام، و هو الظاهر و الأصح، لأنه كان من أصحابه عليهالسلام. و نحن نؤكد صحة قوله، و قد ذكرناه في كتابنا «الامام الهادي» و لم نوردها هنا الا منعا لاعتراض من يراها في سيرة العسكري عليهالسلام ثم لا يجدها واردة عنده هنا. و هي - أو سابقتها - ان دلت فانما تدل علي معرفة الامام بما كان و ما يكون في الأرض، لأنه أمين الله فيها بالطول و العرض!. و قال أبوالقاسم، علي بن راشد رحمه الله: «خرج رجل من العلويين من سر من رأي في أيام أبيمحمد عليهالسلام الي الجبل يطلب الفضل. فلقيه رجل - من همدان - بحلوان، فقال له: من أين أقبلت؟. قال: من سر من رأي. فقال: هل تعرف درب كذا، وموضع كذا؟. فقال: نعم. قال: هل عندك من أخبار الحسن بن علي عليهالسلام شيء؟. قال: لا. قال: فما أقدمك الجبل؟. قال: أطلب الفضل. قال: لك عندي خمسون دينارا، فاقبضها و انصرف معي الي سر من رأي حتي توصلني الي الحسن بن علي عليهالسلام. قال: نعم. فأعطاه خمسين دينارا، و عاد العلوي معه. فوصلا الي سر من رأي، و استأذنا علي الحسن بن علي عليهالسلام. فأذن لهما، و دخلا و الحسن عليهالسلام قاعد في صحن الدار. فلما نظر الي الجبلي - أي الهمداني - قال له: أنت فلان بن فلان. قال: نعم. قال: أوصي اليك أبوك، و أوصي الينا بوصية فجئت تؤديها. و هي معك أربعة آلاف دينار، هاتها. فقال الرجل: نعم. فدفعها اليه. ثم نظر عليهالسلام الي العلوي فقال: خرجت الي الجبل تطلب الفضل، فأعطاك الرجل خمسين دينارا فرجعت معه. و نحن نعطيك خمسين دينارا. فأعطاه» (71).
فهل كان الامام العسكري عليهالسلام مع الرجل العلوي حين خرج الي أرض فارس يطلب الفضل، و رأي ما جري، و سمع ما حدث بين العلوي و الهمداني؟!. أم كان بينه و بين الهمداني حين أعطاه خمسين دينارا ليعود معه الي سر من رأي ليؤدي الأمانة التي يحملها اليه صلوات الله عليه؟!. و كيف عرف بوصية والد الهمداني جملة و تفصيلا. و من عرفه به و باسم أبيه، و بأنه يحمل اليه أربعة آلاف دينار؟!. ان هل، و أم، و كيف، و من، و جميع مثيلاتها من أدوات التعجب و الاستفهام تنفد، و علم الامام عليهالسلام لا ينفد لأنه من علم خالقه الذي ينفد البحر و لا تنفد كلماته!. (فمن شآء فليؤمن و من شآء فليكفر..)(72)
و انما أنا مذكر.. و حدث أبوجعفر، محمد بن عيسي بن أحمد الزرجي، قال: «رأيت بسر من رأي رجلا شابا في المسجد المعروف بمسجد زبيد، في شارع السوق، و ذكر أنه هاشمي من ولد موسي بن عيسي - لم يذكر أبوجعفر اسمه -. و كنت أصلي، فلما سلمت قال لي: أنت قمي أو رازي. قلت: أنا قمي، مجاور بالكوفة في مسجد أميرالمؤمنين عليهالسلام. فقال لي: تعرف دار موسي بن عيسي التي في الكوفة؟. قلت: نعم. فقال: أنا من ولده. كان لي أب و له أخوان، و كان أكبر الأخوين ذا مال، و لم يكن للصغير مال. فدخل علي أخيه الكبير فسرق منه ستمائة دينار. فقال الأخ الكبير: أدخل علي الحسن بن علي بن محمد الرضا عليهالسلام و أسأله أن يلطف للصغير، لعله أن يرد مالي، فانه حلو الكلام. فلما كانت وقت السحر بدا لي عن الدخول الي الحسن بن علي عليهالسلام، و قلت: أدخل علي أسباس التركي، صاحب السلطان، و أشكو له.
فدخلت علي أسباس التركي و بين يديه نرد - أي طاولة زهر - يلعب به، فجلست أنتظر فراغه. فجاءني رسول الحسن بن علي عليهالسلام فقال: أجب. قال الزرجي: فقام معه. فلما دخل علي الحسن قال له: كان لك الينا أول الليل حاجة، ثم بدا لك عنها وقت السحر. اذهب فان الكيس الذي أخذ من مالك رد؛ و لا تشك أخاك، و أحسن اليه، و أعطه؛ فان لم تفعل فابعثه الينا لنعطيه. فلما خرج تلقاه غلامه بوجود الكيس. فلما كان من الغد حملني الهاشمي الي منزله و أضافني. ثم صرخ بجارية و قال: يا غزال - أو يا زلال -! فاذا أنا بجارية حسنة، فقال لها: يا جارية، حدثي مولاك بحديث الميل و المولود.
فقالت: كان لنا طفل وجع، فقالت لي مولاتي: ادخلي الي دار الحسن بن علي عليهالسلام، فقولي لحكيمة تعطينا شيئا يستشفي به مولودنا. فدخلت عليها فسألتها ذلك. فقالت حكيمة: ائتوني بالميل الذي كحل به المولود الذي ولد البارحة، يعني - الحجة - ابنالحسن بن علي عليهالسلام. فأتيت بالميل، فدفعته الي. و حملته الي مولاتي، و كحلت به المولود فعوفي، و بقي عندنا، و كنا نستشفي به، ثم فقدناه. قال أبوجعفر الزرجي: فلقيت في مسجد الكوفة أباالحسن بن برهون البرسي، فحدثته بهذا الحديث عن الهاشمي، فقال: قد حدثني هذا الهاشمي بهذه الحكاية حذو النعل بالنعل سواء، من غير زيادة و لا نقصان» (73) .
و ما هذه القصة بفرعيها - الا كمثيلاتها مما سبق و يأتي. و هي دلالة واضحة علي عظمة الله عزوجل الذي جعل أهل بيت الوحي عليهمالسلام في مرتبة تفوق مراتب البشر علما و حكمة، و عظمة و جلالا، اذ جبلهم علي أن يكونوا خزان علمه و أبواب حكمته ليدلوا عليه و يرشدوا اليه و يكونوا الوسيلة بينه و بين خلقه. قال القطب الراوندي في كتابه: روي أحمد بن محمد، عن جعفر بن الشريف الجرجاني، فقال: «حججت سنة، فدخلت علي أبيمحمد عليهالسلام بسر من رأي. و قد كان أصحابي حملوا معي شيئا من المال، فأردت أن أسأله الي من أدفعه؟ فقال قبل أن أقول ذلك: ادفع ما معك الي المبارك خادمي. ففعلت.
و خرجت و قلت: ان شيعتك بجرجان يقرأون عليك السلام. قال: أولست منصرفا بعد فراغك من الحج؟ قلت: بلي. قال: فانك تصير الي جرجان من يومك الي مائة و سبعين يوما - و قيل و تسعين يوما - و تدخلها يوم الجمعة لثلاث ليال يمضين من شهر ربيع الآخر في أول النهار. فأعلمهم أني أوافيهم في ذلك اليوم في آخر النهار، فامض راشدا فان الله سيسلمك و يسلم ما معك، فتقدم علي أهلك و ولدك، و يولد لولدك الشريف ولد فسمه الصلت؛ و سيبلغ الله به و يكون من أوليائنا. فقلت: يابن رسول الله ان ابراهيم بن اسماعيل الجلحتي - الجرجاني - هو من شيعتك، كثير المعروف الي أوليائك، يخرج اليهم في السنة من ماله أكثر من مائة ألف درهم!.
و هو أحد المتقلبين في نعم الله بجرجان. فقال: شكر الله لأبياسحاق، ابراهيم بن اسماعيل، صنيعه الي شيعتنا و غفر له ذنوبه، و رزقه ذكرا سويا قائلا بالحق. فقل له: يقول لك الحسن بن علي: سم ابنك أحمد. فانصرفت من عنده، و حججت، فسلمني الله حتي وافيت جراجان يوم الجمعة في أول النهار لثلاث ليال مضين من شهر ربيع الآخر علي ما ذكره عليهالسلام. و جاءني أصحابي يهنئوني، فوعدتهم أن الامام عليهالسلام و عدني أن يوافيكم في آخر هذا اليوم، فتأهبوا لما تحتاجون اليه، واغدوا في مسائلكم و حوائجكم كلها.
فلما صلوا الظهر و العصر اجتمعوا كلهم في داري. فوالله ما شعرنا الا وقد وافانا أبومحمد عليهالسلام، فدخل و نحن مجتمعون، فسلم هو أولا علينا، فاستقبلناه و قبلنا يده، ثم قال: اني كنت وعدت جعفر بن الشريف أن أوافيكم في آخر هذا اليوم، فصليت الظهر و العصر بسر من رأي و صرت اليكم لأجدد بكم عهدا. و ها أنا قد جئتكم الآن، فاجمعوا مسائلكم و حوائجكم كلها. فأول من ابتدأ المساءلة النضر بن جابر، قال: يابن رسول الله، ان ابني جابرا أصيب ببصره منذ شهر، فادع الله أن يرد اليه عينيه. قال: فهاته. فجاء به، فمسح يده علي عينيه، فعاد بصره. ثم تقدم رجل فرجل يسألونه حوائجهم. و أجابهم الي كل ما سألوه، حتي قضي حوائج الجميع، و دعا له بخير. فانصرف من يومه ذلك»(74) .
في هذه الرواية عدة نقاط تسترعي انتباه القاريء، و لا بد من الاشارة اليها:
أولاها: أن الامام صلوات الله عليه قال لزائره الجرجاني: ادفع ما معك من المال الی المبارك خادمي، قبل أن يذكر الجرجاني أنه يحمل له مالا، و قبل أن يسأل الي من يدفعه!. فكيف عرف ما حمله اليه، و كيف علم ما أراد الزائر أن يسأله؟!.
و الثانية: انه سلام الله عليه أخبر الجرجاني بأنه يعود الي بلده بعد انقضاء مائة و سبعين - أو مائة و تسعين يوما - و أنه يدخلها أول النهار من يوم معين، و شهر معين بالتأكيد!. فكيف ضمن حياة هذا الذاهب الي الحج من ايران فالي العراق فالحجاز ذهابا و اقامة و ايابا لمدة نصف سنة تقريبا، ثم أكد له عودته في وقت معين لا يسبقه و لا يتأخر عنه؟!.
و الثالثة: أنه صلي الله عليه بشره بسلامته و سلامة ما معه طيلة هذه المدة، و بأنه سيعود الي أهله و ولده و يكونون بتمام الصحة و العافية. فمن أين له هذه الكفالة و هذا الضمان علي الله تعالي؟!.
و الرابعة: قد بشره بولد جديد ذكر - بلا شك في ذلك - و أمره بتسميته. فهل وضعه بيده و علم متي يولد؟!.
و الخامسة: أخبره بأن ابراهيم بن اسماعيل يرزق ولدا ذكرا سماه له سلفا!. فكيف عرف حمل امرأة في أقاصي فارس، و كيف علم بما في بطنها؟!.
و السادسة: أنه عليهالسلام وعده بزيارة جرجان عصر يوم وصوله اليها، و أمره بأن يخبر أولياءه من أهلها ليستعدوا للقائه و مساءلته. فكيف ضمن انجاز هذا الموعد بكافة ما يواكبه من أحداث و مفارقات تقع فيما بينه و بين مائة و سبعين - أو مائة و تسعين يوما -؟!. و السابعة: أنه عليهالسلام وافي أهل جرجان في الموعد المضروب بدقة متناهية!. فعلام استند في ضمان نفسه قرابة نصف سنة، و أنجز الوعد دون أن يخالف بيوم، و لا بساعة، و لا دقيقة؟!.
و الثامنة و الأهم: أنه صلوات الله عليه و تحياته و بركاته صلی الظهر و العصر بسر من رأي، ثم وافي جرجان و أهلها بعد أن انتهوا من صلاة العصر في ذلك اليوم بالذات!. فكيف قطع مئات ومئات الكيلومترات، و اجتاز تلك المشقات في ومضة عين و طرفتها؟!!. هذا الي جانب أنه شفي من العمي باذن ربه، و قضي الحوائج، و أجاب علي المسائل.. و عاد الي بلده قبل غياب شمس ذلك النهار!. ان كل واحدة من هذه النقاط تستدعي التفكر و التبصر و تقتضي كثيرا من الكلام و التعليل و التحليل لكي يستوعبها العقل.. و لكنها بصدورها عن الامام المكرسة امامته من ربه عزوجل، لا تحتاج الي أكثر من تسبيح الله تعالي و تنزيهه و تعظيم قدرته، اذ خلق من البشر عبدا صالحا من بيت النبوة، استأمنه علي علمه و النطق بأمره، ليبلغ الناس مشيئته و قضاءه في أرضه، و ينبههم الي أن بين السماء و الأرض بابا مفتوحا، و طريقا معبدا، و حبلا ممدودا من تمسك به نجا، و من لم يأخذ به ضل و هوي.. ثم نحتاج - أيضا الي حمده سبحانه أن أنعم علينا بذلك، و ألهمنا التصديق به، و بما يجري علي لسانه و يده.
المصادر :
1- سورة البقرة: 31.
2- بحارالأنوار ج 7 ص 288 و ص 289 و الاختصاص ص 286 .
3- بصائرالدرجات ج 9 ص 429 و مصادر أخري. و الآية الكريمة في التوبة: 105.
4- بصائرالدرجات ج 3 ص 122 و بعض مصادر هذا الكتاب.
5- المصدر السابق ج 3 ص 114 ومصادر أخري كثيرة.
6- بصائرالدرجات ج 5 ص 253 - 252.
7- المصدر السابق ج 3 ص 123.
8- المصدر السابق ج 6 ص 267.
9- بحارالأنوار ج 50 ص 259 و ص 295 بلفظ آخر، و هو كذلك في كشفالغمة ج 3 ص 292 و المحجة البيضاء ج 4 ص 328 و اثبات الهداة ج 6 ص 331.
10- اثبات الوصية ص 210 - 209 و كشفالغمة ج 3 ص 206 باختلاف يسير.
11- كشف الغمة ج 3 ص 206 و ص 292 مكررا، و بحارالأنوار ج 50 ص 295 و اثبات الهداة ج 6 ص 331 و في مدينة المعاجز ص 567 .
12- مختار الخرائج و الجرائح ص 315 و مدينة المعاجز ص 576 - 575 و اثبات الهداة ج 6 ص 320.
13- سورة ابراهيم: 22.
14- سورة الحشر: 16.
15- الارشاد ص 323 و الفصول المهمة ص 286 و الكافي ج 1 ص 510 - 509 و مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 432 و اثبات الوصية ص 214 و كشفالغمة ج 3 ص 203 و اعلامالوري ص 352 وحليةالأبرار ج 2 ص 492 - 491 و بحارالأنوار ج 50 ص 281 - 280 و وفاة العسكري ص 29 - 28 و الأنوار البهية ص 260 - 256 و المحجة البيضاء ج 4 ص 327 - 326 و مدينة المعاجز ص 571 و اثبات الهداة ج 6 ص 289 - 288.
16- مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 432 و كشفالغمة ج 3 ص 200 و الارشاد ص 322 و الكافي ج 1 ص 508 و وفاة العسكري ص 26 - 25 و الأنوارالبهية ص 252 و حليةالأبرار ج 4 ص 492 و بحارالأنوار ج 5 ص 267 و هو أيضا في اعلام الوري ص 154 و اثباتالهداة ج 6 ص 211 و المحجة البيضاء ج 4 ص 326 و مدينة المعاجز ص 563 و اثبات الهداة ج 6 ص 256.
17- كشفالغمة ج 3 ص 207 و بحارالأنوار ج 50 ص 297 و اثبات الهداة ج 6 ص 332.
18- مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 432 و الكافي ج 1 ص 513 و بحارالأنوار ج 50 ص 286.
19- هو علي الأحول، و أبوه زيد النسابة الملقب بالشبيه. كان فاضلا صنف كتاب «المقاتل» المبسوط في علم النسب، و اليه تنتهي سلسلة عظيمة. و هو من ولد الحسين الملقب بذي الدمعة ابنزيد الشهيد، ابنزينالعابدين عليهالسلام.
20- كشفالغمة ج 3 ص 204 - 203 و مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 431 - 430 و حليةالأبرار ج 2 ص 483 اعلام الوري ص 352 و المحجة البيضاء ج 4 ص 327 و مدينة المعاجز ص 564 - 563 و اثبات الهداة ج 6 ص 289 و الكافي ج 1 ص 510 و الارشاد ص 324 - 323 و اثبات الوصية ص 415 و وفاة العسكري ص 30 - 29.
21- كشفالغمة ج 3 ص 218 و حليةالأبرار ج 2 ص 423 و مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 431 مختار الخرائج و الجرائح ص 214 و هو في المحجة البيضاء ج 4 ص 332 - 331 و اثبات الهداة ج 6 ص 318 و مدينة المعاجز ص 575.
22- مختار الخرائج و الجرائح ص 215 و هو في مدينة المعاجز ص 576 و اثبات الهداة ص 321.
23- اشارة الي الآية 109 من سورة البقرة .
24- اثبات الوصية ص 207 و كشفالغمة ج 3 ص 207 - 206 باختلاف يسير، مختار الخرائج و الجرائح ص 291، و هو في تحفالعقول ص 361 باختصار، و هو في مدينة المعاجز ص 576.
25- الأنوار البهية ص 263 - 262 و مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 424 و بحارالأنوار ج 50 ص 311 .
26- سورة فصلت: 42.
27- سورة فصلت: 41.
28- بحارالأنوار ج 50 ص 292 و كشفالغمة ج 3 ص 214 و الفصول المهمة ص 286 - 285.
29- مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 429 و مدينة المعاجز ص 579 و اثبات الهداة ج 6 ص 335.
30- اثبات الوصية ص 213.
31- مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 428 - 427 و بحارالأنوار ج 50 ص 283 و مدينة المعاجز ص 578.
32- الارشاد ص 322 و الكافي ج 1 ص 508 و بحارالأنوار ج 50 ص 280 و كشفالغمة ج 3 ص 302 و مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 431 و المحجة البيضاء ج 4 ص 325 و اثبات الهداة ص 285 - 284 و مدينة المعاجز ص 562.
33- مدينة المعاجز ص 578.
34- اثباتالوصية ص 217.
35- كشفالغمة ج 3 ص 219 و مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 429 و بحارالأنوار ج 50 ص 284 و المحجة البيضاء ج 4 ص 333 - 332 و مدينة المعاجز ص 578 و ص 579 و اثبات الهداة ج 6 ص 339.
36- ابن أبيالشوارب هو أحمد بن محمد بن عبدالله الأيوبي؛ كان قاضي بغداد من عهد «المتوكل» الي زمن «المقتدر» و توفي سنة 317 هـ.
37- الكافي ج 1 ص 511 و مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 433 - 432 و بحارالأنوار ج 50 ص 286 - 285 و مدينة المعاجز ص 564 و اثبات الهداة ج 6 ص 291 - 290.
38- سورة المؤمنون: 70 - 69.
39- الكافي ج 1 ص 511 و بحارالأنوار ج 50 ص 292 و كشفالغمة ج 3 ص 214 و مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 433 و مدينة المعاجز ص 564 و اثبات الهداة ج 6 ص 291.
40- بحارالأنوار ج 50 ص 274 نقلا عن مختار الخرائج و الجرائح.
41- كشفالغمة ج 3 ص 212 و بحارالأنوار ج 50 ص 289 و المحجة البيضاء ج 4 ص 329 و اثباتالهداة ج 6 ص 323 و ص 334 و مدينة المعاجز ص 576.
42- بحارالأنوار ج 50 ص 284.
43- سورة الشوري: 49.
44- نهجالبلاغة - الخطبة رقم 154.
45- اثبات الوصية ص 211 و كشفالغمة ج 3 ص 208 و بحارالأنوار ج 50 ص 298 و في اثبات الهداة ج 6 ص 333 .
46- مدينة المعاجز ص 571 و اثبات الهداة ج 6 ص 333 - 330.
47- رجال النجاشي ص 295 ، مدينة المعاجز ص 572.
48- اثبات الهداة ج 6 ص 340.
49- كشفالغمة ج 3 ص 218 و بحارالأنوار ج 50 ص 269.
50- مختار الخرائج و الجرائح ص 215 و هو في كشفالغمة ج 3 ص 212 و اثبات الوصية ص 213 و مدينة المعاجز ص 576 و اثبات الهداة ج 6 ص 323.
51- كشفالغمة ج 3 ص 218 و بحارالأنوار ج 50 ص 269 و المحجة البيضاء ج 4 ص 332 و اثبات الهداة ج 6 ص 338.
52- كشف الغمة ج 3 ص 218 و بحارالأنوار ج 50 ص 269 و المحجة البيضاء ج 4 ص 332 و اثبات الهداة ج 6 ص 338.
53- الكافي ج 1 ص 560 و في مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 432 روي عن أشجع بن الأقرع، و كذلك في بحارالأنوار ج 50 ص 285 و مدينة المعاجز ص 564 و اثبات الهداة ج 6 ص.
54- بحارالأنوار ج 50 ص 289 و كشفالغمة ج 3 ص 214 و اثباتالوصية ص 213 .
55- سورة الأنعام: 59.
56- سورة البقرة: 255.
57- سورة البقرة: 85.
58- مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 439 و بحارالأنوار ج 50 ص 288 و مدينة المعاجز ص 580.
59- كشفالغمة ج 3 ص 213 و بحارالأنوار ج 50 ص 290 و اثبات الهداة ج 6 ص 334 و مدينة المعاجز ص 564.
60- سورة النحل: 11 و 69.
61- بحارالأنوار ج 50 ص 285 - 284 و مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 433 و الكافي ج 1 ص 511 اثبات الهداة ج 6 ص 292.
62- سورة الفرقان: 44.
63- مشارق الأنوار، للبرسي، و هو كذلك في اثبات الهداة ج 6 ص 331 - 330 و مدينة المعاجز ص 583.
64- سورة سبأ: 12.
65- سورة البقرة: 140.
66- الكافي ج 1 ص 508 - 507 و الارشاد ص 322 و بحارالأنوار ج 50 ص 279 و كشف الغمة ج 3 ص 202 و مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 431 و المحجة البيضاء ج 1 ص 325 و اثبات الهداة ج 6 ص 284 .
67- سورة آل عمران: 5.
68- رجال الكشي ص 452 - 451 و الوسائل م 18 ص 71.
69- بحارالأنوار ج 50 ص 276 و اثبات الهداة ج 6 ص 329 - 328.
70- مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 427 و بحارالأنوار ج 50 ص 282.
71- حلية الأبرار ج 2 ص 494 و بحارالأنوار ج 50 ص 295 و كشفالغمة ج 3 ص 216 رواية عن أبيالقاسم، كاتب راشد، و هو كذلك في وفاة العسكري ص 20 - 19 و في المحجة البيضاء ج 4 ص 330 و اثبات الهداة ج 6 ص 337.
72- سورة الكهف: 29.
73- كمالالدين ج 2 ص 195 - 194 و هو في اثبات الهداة ج 6 ص 304.
74- كشفالغمة ج 3 ص 318 - 317 و الخرائج و الجرائح ص 413 و المحجة البيضاء ج 4 ص 331 - 330 و اثبات الهداة ج 6 ص 318 - 317 ووفاة العسكري ص 22 - 21.
/ج