لاشك ان الشريعة الاسلامية اولت الاسرة عناية فائقة لادراكها اهمية الدور الذي ينبغي ان تلعبه هذه المؤسسة على الساحة الاجتماعية ، بخصوص ضبط السلوك الجنسي ، وتعويض الخسارة البشرية للمجتمع الناتجة بسبب الموت ، وحماية الافراد وتربيتهم واشباع حاجاتهم العاطفية ، وتنميتهم للاختلا ط الاجتماعي لاحقاً .
وينطوي البناء التحتي للنظرية الاسلامية على تحديد دور الرجل والمرأة في المؤسسة العائلية : او بتعبير ادق : تفصيل التكليف الشرعي فيما يخص واجبات الزوج وحقوق الزوجة اولا ، وحقوق بقية الافراد في المؤسسة العائلية ثانياً . فالنظرية الاسلامية تؤمن بان الانسان ليس حيواناً اجتماعياً كما تزعم النظرية التوفيقية ، بل تعتبره كائناً كريماً ، رفعه الخالق سبحانه وتعالى بالعلم والعقل والادراك والتفكير ، ومنحه قابلية الاستخلاف في الارض .
بمعنى ان الانسان المفكر طالما ارتقى عن الحيوان بدرجة التفكير والادراك ، فقد اختلفت عندئذ العلاقات والوظائف الاجتماعية بينه وبين الافراد ، كماً ونوعاً ، عن العلاقات الجمعية التي تجمع القطيع الواحد من الحيوانات ضمن مزرعة واحدة .
فالحيوانات ضمن ذلك القطيع لا تعرف ضابطاً يضبط سلوكها الجنسي ، ولا نظاما يحدد شهوتها الهائجة ، على عكس النظام الاجتماعي الانساني الذي ينظم العلاقة الجنسية بين الذكر والانثى عن طريق . المؤسسة العائلية ، التي تعتبر من اهم المؤسسات الاجتماعية خدمة للانسان .
وبطبيعة الحال ، فان الاسلام لا ينظر للمؤسسة العائلية باعتبارها مؤسسة اجتماعية لتعويض الخسائر البشرية الحاصلة نتيجة موت الافراد فحسب ، بل ينظر لها باعتبارها محطة استقرار لعالمٍ متحرك ، تنتقل من خلالها ممتلكات الجيل السابق الى الجيل اللاحق عن طريق الارث والوصية الشرعية : ومحطة فحص وتثبيت انساب الافراد عن طريق اعلان المحرمات النسبية والسببية الناتجة عن الزواج ، والحاق الاولاد بآبائهم ، وجواز الاقرار بالنسب : ومركز حماية الافراد بتقديم شتى الخدمات الانسانية لهم بخصوص الملجأ والمطعم والدفء والحنان .
ويعكس ذلك حث الاسلام على وجوب الانفاق على الاصول والفروع ، وهم الوالدان والاولاد ، ووجوب الانفاق على الزوجة : فالاسلام صمم لها حقاً مالياً اولياً تتملكه بالعقد والدخول ، وهو الصداق ، وحقاً مالياً آخر وهوالنفقة مع ثبوت الطاعة والتمكين . ووجوب حق الرضاعة ، ويتحمل نفقتها الزوج ، وحق الحضانة ويتحملها الابوان ، والولاية للاب في زواج الصبي قبل بلوغه .
والمدار ، ان الرجل البالغ القادر على التكسب والانتاج يجب عليه شرعاً اعالة زوجته واولاده وان نزلوا وابويه وان علوا ، لان الابوين عاجزان عن التكسب لسنهما ، والاولاد لقصورهما ، والزوجة لمعاوضتها .
واذا كانت العائلة محطة لشحن الطاقات العملية ، وقاعدة لتنشيط الانتاج الاجتماعي ، فانها في نفس الوقت مركز لاشباع الحاجات العاطفية كالحب والحنان والعطف والرحمة ، ومكان لتهذيب السلوك الجنسي ، ومسرح لتعلم المعارف الاساسية قبل الخروج للساحة الاجتماعية ، كاللغة والاعراف والعادات والتقاليد والقيم الاخلاقية . فالعائلة اذن تساهم في خلق الفرد الاجتماعي الصالح للعمل والانتاج والمساهمة في بناء النظام الاقتصادي والسياسي للمجتمع .
ولايقتصر اهتمام الاسلام على المستوى العائلي بالرجل ، بل اعطى المرأة اهمية خاصة منذ بداية انشاء المؤسسة العائلية . فتستطيع المرأة ان تشترط شروطاً شرعية جائزة في صيغة العقد ، الاان تحرم حلالاً وتحلل حراماً ، وعلى الزوج وجوب الوفاء بتلك الشروط لعموم « المؤمنون عند شروطهم » .
وحفظاً لحقوقها ، فقد اشترط في صحة عقد الزواج ان يكون لكليهما العقل ، والبلوغ ، والرشد ، والخلو من المحرمات السببية والنسبية . واوجب التعيين في عقد الزواج ، وابطل التعليق . وابطل شرط الخيار فلا تجري في صيغة العقد الاقالة بخلاف غيره من عقود المعاوضات .
واوجب في صيغة عقد الزواج الايجاب منها والقبول منه . واحل لها الاسلام الخيار بين فسخ العقد او امضائه في العيوب الموجبة كالعيوب الجنسية مثل الخصاء والجب والعنن ، والعيوب العقلية كالاضطراب العقلي او الجنون . واحل لها ايضاً خيار الفسخ للتدليس ، وخيار الفسخ لتخلف الشروط ، اذا كان عدم النقص شرطاً من شروط العقد ، او وصفاً ، او بني العقد على اساسه .
وفرض لها حق الصداق وهو حق من حقوقها المالية ، تملكه بالعقد كاملاً مع الدخول ، وشقاً مع عدم الدخول ، الا انه ليس شرطاً في صحة العقد . وبطبيعة الحال ، ومن اجل حفظ حقوق الزوجة ، فقد قسمت الشريعة الاسلامية المهر المخصص لها الى ثلاثة اقسام وهو : المهر المسمى ، ومهر المثل ، والتفويض .
وهذه الاقسام تشمل مساحة واسعة من الضمانات المالية للزوجة ، كالصداق الذي تراضى عليه الزوجان وهو المهر المسمى ، او تعارف الناس عليه وهو مهر المثل ، او ترك التعيين لاحدهما وهو مهر التفويض . ولاشك ان المهر المالي المفروض يعتبر اول بوادر الاستقلال الاقتصادي والاستثماري للزوجة خلال حياتها .
واوجب لها ايضاً النفقة مع ثبوت الطاعة والتمكين ؛ واوجب النفقة ايضاً للمعتدة من الطلاق الرجعي حاملاً كانت او حائلاً ، والمعتدة من الطلاق البائن اذا كانت حاملاً فقط . وقال بعض الفقهاء باستقرار نفقة الزوجة في ذمة الزوج ، حيث لو اخل بالنفقة كان عليه قضاؤها ، على عكس نفقة الوالدين والآباء . وترك الاسلام تحديد مقدار النفقة للمقاييس الارتكازية العقلائية التي تعارف عليها الناس .
وفي الأرث ، فان الزوجة ترث مع جميع المراتب . وفي كل مرتبة من مراتب الأرث ، فان للمرأة حضوراً متساوياً مع حضور الرجل ، ففي المرتبة الاولى ، حيث يرث الابوان والاولاد تدخل الام والبنات . وفي المرتبة الثانية ، حيث يرث الاجداد والاخوة تدخل الجدة والاخوات . وفي المرتبة الثالثة ، حيث يرث الاعمام والاخوال تدخل العمات والخالات .
وتتغير السهام المفروضة بالنسبة للذكور والاناث حفظاً لمصالحهم الجتماعية والاقتصادية . وفي احكام الوصية ، فان للموصي الحق في تعيين من اراد من النساء او الرجال وصية عهدية او تمليكية من ثلث تركته . ولم تتوقف الاحكام الشرعية عند هذا الحد بل نظرت الى مصلحة المرأة بالنسبة للانساب .
فصيانة لكرامة المرأة ، فقد الحق الاسلام المولود بالزوج بسبب الفراش اولاً ، حيث جعل المدار ، الادخال ، او الاراقة ، ومضي ستة اشهر من حين الانزال وهو اقل الحمل . وثانياً وطء الشبهة ، وهو الوطء مع جهل التحريم ؛ واساسه قاعدة « امكان الالحاق » التي تسالم عليها الفقهاء .
وحرم بالنسب زواج الام ، والبنت ، والاخت ، والعمة ، والخالة ، وبنت الاخ ، وبنت الاخت ، وحرم بالسبب زواج زوجة الاب على الابن ، وزوجة الابن على الاب ، وام الزوجة على زوج ابنتها ، وبنت الزوجة ، والمطلقة ثلاثاً ، والمطلقة طلاق العدة ، ونكاح الشغار ، والزواج مع الارتداد والكفر ، والجمع بين الاختين ، والزوجة اذا قذفها زوجها بالزنا دون اثبات البينة ، والمعتدة من وفاة او طلاق بائن او رجعي او شبهة ، وافسد عقد زواج الرجل مع المرأة المتزوجة من رجل آخر .
وفي كل هذه الاحكام الشرعية ، يكون الاصل حفظ حقوق المرأة وكرامتها ككيان مستقل جدير بالاحترام ؛ لأن عملية الزواج ليست عملية غريزية فحسب ، بل هي مسلك يؤدي بالمرأة الى طريق الامومة المتميز عرفاً وشرعاً . ومن الطبيعي ان لاسلطان للولي على المرأة البالغة ، حسب النظرية الاسلامية ، حيث ان لها الخيار في اختيار الزوج المناسب . وفي الطلاق ، فقد حفظت الشريعة كل حقوقها المالية والمدنية .
وعلى ضوء ذلك ، فان اتهام نظرية الصراع الاجتماعي المؤسسة العائلية بانها اول مؤسسة اضطهادية يختبرها الفرد في حياته الاجتماعية مجرد تشخيص لمشكلة اجتماعية اقليمية كانت تعيشها اوروبا الغربية في القرون الماضية وتعاني من آثارها السلبية ، ولايمكن تطبيقها على جميع المجتمعات الانسانية . فهل يستطيع ( فريدريك انجلز ) ان يحلل معنى الاضطهاد الاسري اذا كان للمرأة حق خيار الفسخ في العيوب الموجبة ، وحق الطلاق الخلعي ، وحق الاشتراط في صيغة العقد ضمن الحدود الشرعية ؟ بل كيف يؤدي الاضطهاد الاسري الى الاضطهاد الاجتماعي ، كما يزعم ( انجلز ) وكلنا يعلم ان الاسر الرأسمالية الغنية اكثر نعومة في تعاملها مع النساء من الاسر الفقيرة ؟
ويعكس قول فقهاء الامامية بعدم اعتبار الحاجز الطبقي او العنصري في تحقيق عملية الزواج ، عدالة الاسلام الاجتماعية . حيث « يجوز عندنا انكاح الحرة بالعبد ، والعربية بالعجمي ، والهاشمية بغير الهاشمي وبالعكس ، وكذا ارباب الصنائع الدنية كالكناس والحجام وغيرها [ ان يتزوجوا ] بذوات الدين من العلم والاصلاح والبيوتات وغيرهم » (1) . وقال اكثر الفقهاء بان شرط قدرة الزوج على النفقة ليس من شروط الكفاية لقوله تعالى : ( ان يكونوا فقراء يغنيهم الله من فضله ) (2) .
وهل ان الزواج قضية شخصية يجب ان تبنى على اساس الشعور والاعجاب المتبادل ؟ ونجيب بـ « نعم و لا » . نعم ، ضمن الحدود الشرعية ؛ لان الزواج قضية شخصية ، ولا سلطان للولي على الرجل البالغ او المرأة البالغة حيث ان لها الخيار في انتقاء الزوج او الزوجة المناسبة ضمن الحدود العرفية التي يقرها المجتمع مثل الشرف والثقافة والرفعة المعنوية والنسب ونحوها . ولا ، لان الحب الخيالي الرومانتيكي الذي يؤدي الى كسر الحدود الشرعية لايمكن ان يكون قاعدة للزواج الناجح ، ولا طريقاً للوصول الى العفة والنقاء الاجتماعي .
فالحب المبني على الخروج عن الواقع ، والعيش في خيال الاحلام والاوهام لفترة طويلة يعيق العملية الابداعية والانتاجية للمجتمع ، ويولد في نفسي المتحابين شعوراً عظيماً بمستقبل بعيد عن واقع الحياة الاجتماعية . واذا ما تم الزواج وتبين ـ بعد فترة ـ ان الواقع غير الخيال ، تعرض ذلك الميثاق لهزات داخلية خطيرة . ويعضد رأينا الذي يرجح فشل الزواج المبني على الحب الرومانتيكي ، جنوح نصف حالات الزواج في المجتمع الامريكي اليوم الى الطلاق بعد اقل من سبع سنوات من بداية الزواج ، وما يترتب على ذلك من انحدار في المستوى الاخلاقي للعائلة الرأسمالية .
ولاشك ان نظرة الاسلام الرحيمة تجاه العلاقة الشهوية بين الذكر والانثى وربطها باصلاح المشاكل الاجتماعية ، تضع الاسلام على قمة المؤسسات العلاجية الهادفة لمعالجة الامراض التي تنشئها الدوافع الغريزية البشرية . فلكي يكون النظام الاجتماعي قادراً على علاج امراضه الاجتماعية ، لابد وان يطرح اشكالاً مختلفة من الزواج بحيث تلائم مشاكل الافراد المتنوعة .
وعلى ضوء ذلك ، فقد اجاز الاسلام النكاح الدائم ، والمؤقت ، وتعدد الزوجات وملك اليمين . واعتبر ماوراء ذلك تعدياً على الحدود الشرعية وظلماً اوجب على الافراد دفعه ، على الصعيد الكفائي . ولاريب ان اباحة هذا السلوك المتعدد كان الهدف منه معالجة المشاكل الاجتماعية التي تتركها الوحدة ، والحرمان ، والانقطاع ، وانفتاح الشهوات ، والضياع في الغربة والتيه في التيارات الضالة . وحدد لكل ذلك نظاماً في غاية الدقة والتنظيم ، لم يصل الى مستواه اي نظام قانوني غربي او شرقي ، قديم او معاصر ، حضاري او بدائي .
واذا كانت النظرية الاجتماعية الرأسمالية تدعو بكل قوة الى الايمان بـ « المذهب الفردي » باعتباره طريقاً للعدالة الاجتماعية ، فلا يحق للفرد ان يتزوج باكثر من زوجة واحدة ؛ فاذا كان الامر كذلك ، فنحن نرد على النظرية الرأسمالية بالسؤال النظري التالي : ايهما افضل للنظام الاجتماعي : الزواج المتعدد او تعدد الزوجات ؟ فاذا كان الزواج المتعدد افضل ، فلماذا كل هذه العقد النفسية التي تحملها المرأة المطلقة اكثر من مرة ؟ ومن الذي يصبح مسؤولاً عن رعاية الاطفال المتكونين من اكثر من اب ، ومن يحفظ حقوقهم الاجتماعية ؟ بل اين الاستقرار النفسي الذي تعيشه العائلة اذا انكسرت الآصرة الجغرافية فابتعد الابناء عن آبائهم ، والبنات عن امهاتهم ، والاخوة عن اخوتهم ، والاخوات عن اخواتهن ؟ أليس هذا تمزيقاً لاواصر الاسرة الواحدة ؟
وفكرة تعدد الزوجات التي اقرها الاسلام فكرة استثنائية ، وليست اصلاً في التزويج الانساني ، فاغلب الافراد يكتفون بزوجة واحدة تشارك بالشؤون العاطفية وشؤون البيت ومهامه ، فتنهض الاسرة على اكتافها . اما في الازمات الانسانية ، وتغلب عدد النساء على الرجال ، فان تعدد الزوجات يصبح نظاماً يصب لمصلحة المرأة المحرومة اكثر منه لمصلحة الرجل ، خصوصاً اذا ما علمنا ان تعدد الزوجات يستوجب العدالة الحقوقية والاجتماعية بينهن من قبل الزوج .
وتعتبر النظرية الاسلامية ولاء الافراد تجاه بعضهم البعض في العائلة الواحدة اهم عامل من عوامل تماسك المؤسسة الاسرية . ولا شك ان احد مناشئ الولاء الشرعي ، هو التكافل المالي الذي امر به الاسلام . فقد اوجبت الشريعة النفقة على الاصول والفروع وهم الوالدان والاولاد ، واوجبت نفقة الزوجة مع ثبوت الطاعة والتمكين . حتى ان للمطلقة الحامل ـ طلاقاً رجعياً او بائنا ـ النفقة حتى تضع حملها . وقد لاحظنا سابقاً ان للمرأة حقها المالي في الصداق ايضاً .
والاصل في ذلك ، ان يكون للاسرة وليّ يدير شوؤنها المالية العاطفية ، او وصيّ يدير شؤونها المالية ويرعى مصلحة افرادها . فقد تسالم الفقهاء على قاعدة « امكان الالحاق » التي تشير الى ان المولود لابد ان يلحق بالزوج ، حتى تنشأ فكرة « الولاء » الاسري من اليوم الاول الذي يرى فيه الطفل نور الحياة الانسانية .
وما الرضاع والحضانة التي حدد الاسلام نظامها ، الاّ شكل من اشكال القاعدة الاساسية للولاء الاجتماعي لاحقاً . وبالاجمال فان الاسلام ربى الافراد في الاسرة الواحدة ـ ومن خلال التشريع ـ على حب بعضهم البعض ، والتفاني في مساعدة احدهم الآخر مساعدة تجعلهم كتلة واحدة امام الهزات الاجتماعية والاقتصادية .
ولعل افضل تعبير يتفق عليه الفقهاء ، ويعكس حقيقة الولاء والحب والاخلاص في الاسرة الاسلامية ، هو ان الوصي المأذون على رعاية الاحداث اذا خان ، انعزل تلقائياً وبطلت جميع تصرفاته حتى دون اذن الحاكم الشرعي . فلا عجب اذن ، ان نرى تماسك الاسرة الاسلامية حول محور المسؤولية الشرعية والالزام الاخلاقي والعدالة الاجتماعية ، على عكس الفكرة الرأسمالية التي تدعو « للمذهب الفردي » باعتباره اساس النجاح الاقتصادي والاجتماعي ، وهو زعم كاذب لان تحقيق الطموحات الفردية دون الطموحات الاجتماعية يساهم في انعدام العدالة الاجتماعية ، ونشوء الطبقات الاقتصادية المتفاوتة ، وانحدار المستوى الاخلاقي ، ونشوء جيل من المشردين والمنحرفين الذين لا يكترثون لمعنى الاجتماع الانساني ومعنى الحياة البشرية .
ومع ان الاسلام كرّه الطلاق وجعله ابغض الحلال الى الله ، الاّ انه اجاز وقوعه ، واشترط ذلك صيغة معينة . واوجب الاشهاد بشاهدين عدلين من الذكور . واشترط في المطلِّق البلوغ ، والعقل ، والاختيار ، والقصد . واشترط في المطلقة ان تكون زوجته الدائمة ، وان يعيّنها بالذات ، وان تكون في طهر لم يواقعها فيه . وحفظاً لحقوق الزوجة ـ مرة اُخرى ـ فقد قّسمت الشريعة الطلاق الى رجعي وبائن . فالرجعي حيث يكون المطلِّق كارهاً لزوجته ، هو الطلاق الذي يحق فيه للزوج الرجوع الى مطلقته المدخول بها مادامت في العدة . والبائن ، حيث تنقطع فيه الرجعة الى المطلقة ، هو الطلاق الذي يشمل المطلقة ثلاثاً ، والمطلقة غير المدخول بها ، والآيسة ، والمطلقة خلعياً ، والتي لم تبلغ التسع وان دخل بها .
والبائن خلعي ومبارأة . فالخلعي ناتج عن ابانة الزوجة على مال تفتدي به نفسها لكرهها له . والمبارأة طلاق بائن ببسب كون الكراهية متبادلة من قبلهما حيث تفتدي المرأة فيه جزءاً من مهرها . كلّ الحالات ، وبسبب الاختلافات البيولوجية بين الرجل والمرأة ، فان على المرأة العدّة . فعدّة الطالق غير الحامل المدخول بها ثلاثة اطهار ، وعدّة الحامل وضع الحمل ، وعدّة المسترابة مع الدخول وعدم الحمل ثلاثة اشهر .
وعدّة المتمتع بها اذا كانت حاملاً وضع الحمل ايضاً ، ومع الدخول وعدم الحمل حيضتان . واذا كانت غير قادرة على الحيض فعدتها خمس واربعون يوماً . ولا عدة على المطلقة الآيسة . وعدة المتوفى زوجها في كلّ الاحوال اربعة اشهر وعشرة ايام ، باستثناء الحامل فعدتها ابعد الاجلين .
وبطبيعة الحال فان نظام الطلاق الاسلامي هذا متميز عن الانظمة القانونية الاخرى في العالم بشموليته الاجتماعية ودقته التشريعة وعدالته واهتمامه بحفظ حقوق المرأة وصيانة كرامتها ، وفسح المجال لها بالزواج من فرد آخر شرط ان يتم التأكد بالعدة من عدم اختلاط الانساب ، وحفظ حقوق الاطفال من خلال مراعاة حملها ، ووجوب النفقة عليها في تلك الفترة ، ودفع مصاريف ارضاعها للرضيع ، وما يترتب على ذلك من معاينة طبية ونحوها خلال فترة الحضانة وما بعدها .
استناداً على قاعدة احترام النفس الانسانية ، فقد حرّم الاسلام الاسقاط المتعمد باعتباره اجهاضاً لنفس بشرية كاملة او لكتلة من الخلايا تستطيع بالقوة ان تصبح انساناً كامل التصميم والتركيب . وحكم السقط كحكم الكبير في الغسل والتكفين والتحنيط والدفن اذا تم له اربعة اشهر في بطن امه وهي لحظة ولوج الروح فيه ، واذا كان اقل عمراً من ذلك يلف بخرقة ويدفن . فقد « قال الشيخان : ولا يغسل السقط الاّ اذا استكمل شهوراً اربعة ، ولو كان لدونها لف في خرقة ودفن ...
وصرح به [ صاحب الشرائع ] في المعتبر انه مذهب علمائنا ، وتدل عليه رواية احمد بن محمد عمن ذكره ، وكذا رواية زرارة عن سماعة عن الصادق (عليه السلام) ، قال : سألته عن السقط اذا استوى خلقه أيجب عليه الغسل واللحد والكفن ؟ فقال : كل ذلك يجب عليه » (3) .
وقال اكثر الفقهاء ان صلاة الميت لاتجب على السقط ايضاً . وبالاجمال ، فان النظرية الاجتماعية الاسلامية آمنت بقوة باهمية الفرد في المؤسسة العائلية باعتباره انساناً شرّفه الخالق عز وجل فرفعه من المستوى الدنيوي الى المستوى الذي يليق به ، ومن مستوى الحيوان الغريزي الى مستوى الانسان المفكر العاقل ، ومنحه الحقوق وفرض عليه الواجبات ، واوصاه بالتآلف والتآخي والتعاشر ضمن الدائرة الانسانية المتمثلة بالاسرة ، والدائرة الجغرافية المتمثلة بالبيت . ولو لا الاحكام الشرعية المتعلقة بحقوق الافراد في الاسرة الواحدة لانفرط عقد النظام الاجتماعي ، وانحلت الآصرة الانسانية التي ربطت الافراد ببعضهم البعض على مر العصور .
المصادر :
1- الجواهر : ج 30 ص 106 .
2- النور : 32 .
3- التنقيح الرائع : ج 1 ص 126 .