هذا البحث يتطرق بشکل منطقي الی الجنبة العلميّة المعاصرة للروح. وإذ نتحدّث عن الجنبة العلميّة فهذا لا يعني أننا نكتفي بمجرّد نقل ما قَبِله علماء العلم الحديث، بل نقوم بممارسة الاستدلال وفق الصيغ والقوانين التي سلّم بها هؤلاء العلماء مع ملاحظة أنّنا نجد العلم الحديث. قد انحسرت قدرته وضعفت عن البيان عندما تجاوز الأمر حدود الحسّ. لهذا لا يمكننا أن نسلّم بكلّ ما أتى به العلماء المعاصرون بشكل تامّ وأعمى، بحيث إذا أنكروا الروح أنكرناها وإذا آمنوا بها آمنا، بل نستفيد من طروحاتهم لنصل بالعلم إلى أرقى مقاماته.
برهان التغيّرات في الكون
يقوم هذا البرهان على أساس أنه لا يمكن علميّاً- وبالإعتماد على عنصري المادّة والطاقة فقط كما يفعله الماديون- تفسيرُ وجود بعض الظواهرالكونيّة، لا سيّما التحوّلات والتغيّرات في الكائنات الحيّة، خاصّة الإنسان، كما لا يمكن تقديم تعليل للإختلافات والتنوّعات التي تحصل في مواد هذا الكون وفقاً للعنصرين المذكورين، بل لا بدّ من وجود عنصر ثالث يعلّل ذلك التحوّل والتغيّر وتلك الإختلافات والتنوّعات، التي نراها ونشاهدها عياناً وبالحواسّ الماديّة.تفصيل ذلك أنّ صور وحالات الموادّ الأوليّة للكائنات غير ثابتة، فهناك تغيّرات وتحوّلات تحصل فيها دائماً، كما أنّ بين هذه الموادّ اختلافات، كلّ ذلك ناشئ عن الصفات والخواصّ الموجودة في طبيعة الأشياء والعناصر وكيفيّاتها، بحيث أدّت إلى عدم ثبات موادّ العالم وحالاتها. ولا بدّ أن يكون وراء هذا التغير والتحول والإختلاف قصد وإرادة وحركة معينة. وهذا القصد والإرادة غير موجودين في المادة والطاقة، فلا يبقى إلا أنّ ثمّة عنصرآً ثالثاً في هذا الكون يكون المسؤول عن هذه الأمور.
يعترض الشهيد مطهّري على اصطلاح العنصر هنا، ويقول إنَّه من الأفضل أن نتحدّث عن أبعاد للإنسان وليس فقط عن عناصر له ـ كما ورد في أصل الكتاب "الذرة اللامتناهية" ؛ حيث إنّه ليس المقصود أنّ عناصر الإنسان الثلاثة تتآلف بينها لتشكل مركّباً واحداً، بل المقصود أنّ لهذا الإنسان في شخصيّته أبعاداً ثلاثة تشكّل جهات مختلفة من شخصية هذا الإنسان، فالأفضل أن يكون التعبير بالبعد وليس بالعنصر. لكننا مضطرون أحياناً لعرض الدليل كما هوالأمر في التنويم المغناطيسيّ إذ يخضع الإنسان لتأثيره بحيث يهيمن على جميع قواه. وهذه النقطة تمثّل ذروة تسلّط الروح على البدن، وهي تعكس ذروة تسلّط الإرادة الموجودة في البعد الثالث، وتُبرز هيمنتَها على المادّة والطاقة.
وبناءً عليه يتبيّن أنّه بالمقدّمات التي ذكرناها تثبت الروح المجرّدة، فإننا عندما نتحدّث عن بُعدٍ ثالث ليس له أصول ماديّة، وأنّه غير متغيّر ولا متحوّل في ذاته، وأنّه مجرّد عن المكان، نكون قد أثبتنا الروح المجرّدة، فإنّ معنى التجرّد ليس سوى التجرّد عن هذه النواقص المذكورة.
هذا الاستنتاج هو من نفس الشهيد مطهري، ويتبيّن كيف أنّه بناءً على ما تقدّم تثبت الروح المجرّدة، شاء مؤلف كتاب "الذرّة اللامتناهية" ذلك أم لا!
أما عن مكان هذا العنصر أو مركزه فليس له محلٌّ أصلاً، كما أنّ هذا العنصر ليس من سنخ الموجودات المحسوسة لنا، ولا من عناصر هذا العالم المادي، فهو أمر غير عنصرَي المادّة والطاقة، وإذا لم يكن مادّة فليس له حجم أو حدّ يحدّه، بل إنّ لهذا العنصر قوة تمكنّه من أن يكون حاكماً على المادّة مهيمناً عليها، كما نرى أثره في الإنسان من خلال العبادات كالصوم مثلاً، حيث يحصل الصائم على استقلالية بنحوٍ يخرج من إسار الطبيعة ويتحرّر منها، وكذلك من ناحية أخرى لا بدّ أن يكون هذا العنصر، الذي يهيمن على المادّة ويقبل التلقين، واعياً، بحيث يرتبط به شعورنا الإراديّ الواعي، الذي لا يمكن أن يرتبط بالعنصر المادّي ولا بالطاقة.
برهان التكامل
يعدّ تكامل الموجودات الحيّة وتطوّرها من مظاهر الحياة التي لا تقبل الإنكار، فيما ليس بمقدور العلم المعاصر، بقوانينه الحاكمة وبجهاز عناصره- القائم على افتراض عنصرين فقط في إطار الزمان والمكان (المادّة والطاقة)- تفسير هذا التكامل، بل لابدّ من إثبات عنصرٍ ثالثٍ وبُعدٍ آخر غير المادة والطاقة يفسر لنا ظاهرة التطور في الحياة.وتوضيح ذلك:
إنّ جنبة الإنسان الماديّة التي تخضع لقوانين العلم الحديث- التي تشمل كلاًّ من المادّة والطاقة- تسير نحو التداعي والتلاشي، حيث تخضع لقانونين:القانون الأوّل: قانون التداعي والكهولة (الآنتروبي) القائل بأنّ كلّ مادّة في هذا العالم تتجه منذ اللحظة الأولى نحو الهرم والضعف، حتى تضمحل وتتلاشى، كما هو الحال في الآلات الصناعيّة، فإنّها تكون في أول يوم من إنتاجها أقوى وأشدّ وأكثر سلامة من أيّ وقت آخر، ثمّ تراها تضعف وتتداعى وتبلى كلّما مرَّ عليها الزمن.
القانون الثاني: وهو القانون المضادّ لل (الآنتروبي)، وهو حالة يطلق عليها اسم (الطاقة المفيدة أو المؤثرة)، وهي تظهر بأشكال مختلفة، كما أنّها قابلة للإستفادة.
والعلاقة بين القانونين هي النسبية المعاكسة، أي كلما يزداد الآنتروبي تقلّ الطاقة المؤثّرة، ففي كل كائن حيّ رصيد من الطاقة المؤثرة يستفيد منها في نموّه، وتكون هذه الطاقة في أوج عطائها في اللحظات الأولى لنشأته، وعندما يستفيد منها في نموّ هيكله وجسمه تبدأ بالتضاؤل يوماً بعد يوم، لتزداد على حسابها الطاقة المضادّة لها (الآنتروبي) أي انحدار الإنسان نحو التداعي والشيخوخة، ويستمرّ ازدياد الآنتروبي على حساب تضاؤل الطاقة المؤثرة إلى الحدّ الذي تظهر فيه حالة الركود والتعادل وعدم الحركة في الإنسان وهي الموت نفسه، سواء أكان الموجود حيّاً أم غير حيّ.
ولذلك نلاحظ أنّ نموّ الإنسان في مرحلة تكوّنه جنيناً تعادل مرات نموّه بعد أن يولد، إذ في مرحلة الجنينيّة تتكوّن أعضاء كاملة للإنسان، وهذا لا يحصل طيلة فترة حياته، كما أنّ الإنسان في مرحلة الطفولة ينمو بشكل أكبر وأسرع من المراحل التالية، وهكذا إلى أن يصير الإنسان في نموّه في حالة ركود ويسير باتجاه معاكس نحو الشيخوخة والتداعي بعد أن يكون قد استنفد قدرة الطاقة المؤثرة المفيدة.
وخلاصة القول: إنّ لكل إنسان رصيداً تاماً من الطاقة المؤثّرة في أول مرحلة من نشوئه، تبدأ هذه الطاقة بالضعف والإضمحلال فتقلّ حركته شيئاً فشيئاً، ويسير بذلك نحو الموت، وهذا ما يعبّر عنه الإمام عليّ عليه السلام بأنّ الإنسان يتحرّك نحو الموت منذ اليوم الأول لولادته. قال أمير المؤمنين عليه السلام - (أنفاس المرء خُطاه إلى أجله). (1)
هذا في الجنبة الماديّة والنموّ الظاهريّ للإنسان. إلا أننا نرى في الإنسان جنبة أخرى، وتلك هي النموّ الجوهري له، فإنّنا نرى الإنسان في مسيرة حياته يسير من ناحية أخرى نحو التكامل والتطوّر، تشتدّ ذاته ويقوى جوهره، ويتّجه تدريجيّاً نحو الشدّة والكمال، وليس نحو التداعي والضعف !.
فنحن نرى الإنسان كلمّا مرّ به الزمن، قطع شوطاً من العلم وحاز مجموعة من الملكات العلميّة والأخلاقيّة، فهو- في هذه الجنبة منه- دائماً في حالة تصاعديّة إشتداديّة، وهذا يتنافى تماماً مع التفسير العلمي، بل يعد محالاً علميّاً وفقاً للتفاسير القائمة على المادة والطاقة فقط.
والواقع أنّ للإنسان، إلى جانب المادة والطاقة التي تحكمها قوانين تسير بها نحو التداعي والإضمحلال، جنبة روحيّة وحياتيّة، تشهد منذ اللحظة الأولى لوجوده تكاملاً واشتداداً.
هكذا نرى أنّ القوانين الطبيعية لا تسري إلى تكامل الإنسان، كما أنّ الجهاز المؤلّف من عنصرين فقط- المادّة والطاقة- يقف عاجزاً عن تفسير هذا التكامل الحاصل.
ملاحظة مهمة:
إنّ هذا الاستدلال يتمّ بمجرّد أن يكون هناك تكامل ولو على مستوى الفرد،سواء أكان هناك تكامل آخر على مستوى النوع أم لا، حيث إنّ التكامل في أيّ شكل من أشكاله يحتاج إلى ذلك البعد الثالث، حيث لا يمكن لجهاز الطاقة والمادة ولا لقانون الآنتروبي تفسير هذا التكامل.
ولم نتعرض للتكامل في النوع لأنه في النتيجة يعود إلى التكامل على مستوى الأفراد. وهذا لا يعني أنّنا ننكر التكامل في النوع، بل العكس فإن تكامل النوع أمر يؤمن به الجميع الآن، وليس بالضرورة أن يكون على اساس نظرية داروين. كما أنّ هذا التكامل في النوع يعدّ موافقاً للنظريّة التوحيديّة مئة في المئة، بل جعل استدلال الموحدين والإلهيين أكثر قوة واستحكاماً، حيث فرض وجود قوة غيبيّة بشكل دائم وراء هذا التكامل الحاصل في النوع، على خلاف اليهود الذين قالوا بأنّ الله بعد أن أوجد العالم صارت يده مغلولة، ولم يعد العالم محتاجاً إليه. نعم قد تتعارض هذه النظرية مع ظواهر بعض الكتب السماويّة، لكن في القرآن نفسه ما يؤيّد حصول التكامل في نوع الإنسان، بل يذهب أبعد من الذين تبنوا التكامل النوعي علمياً، ففيما يقول هؤلاء إن الإنسان منحدر من القرد أو من موجود أحادي الخليّة ـ أي من خلية واحدة ـ يذهب القرآن إلى أن الإنسان مخلوق من طين: ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ﴾(2)، بل أكثر من ذلك: ﴿خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾ (3). ففي النتيجة إنّ هذه النظرية لا تمسّ بجوهر التوحيد أصلاً، بل على العكس تدعمولذا فمن الخطأ تصور البعض بأنّها نظرية ماديّة محضة.
وفي النتيجة فإن قوانين العلم الحديث، بعنصريه- المادّة والطاقة- اللذين تمّ إكتشافهما، إنما تتحكّم بمسألة الهرم فالموت فقط، فيما يتحكم بمسألة الحياة وتجددها وتكاملها بعد ثالث غير المادّة والطاقة لا بدّ من وجوده في الإنسان.
فالتكامل- وطبقاً لما يراه القدماء- يحكي جنبة ما ورائية، أي ما وراء الجسم والمادّة (ما وراء الطبيعة(.
برهان ظهور الإنسان
قد تفسّر نظريّة العنصرين- المادّة والطاقة- بالقوانين الحاكمة عليهما وضعَ المادّة والطاقة بعد وجودهما، لكنها تقف عاجزة عن تفسير أصل ظهور الإنسان والحياة على صفحة الوجود، بل أصل وجود هذا الكون.وتوضيحه: إنّ تفسير ظهور الحياة والإنسان يتوقّف على الحديث عن طفرة، أي عن حلقة فارغة ومبهمة، هي التي تولّت هذا الوجود. وهذه الطفرة إمّا أن تكون معلولة للصدفة أو معلولة لأمر موجود آخر.
أمّا أن تكون معلولة للصدفة فذلك غير ممكن، إذ الصدفة قائمة على مبدأ ظهور الأشياء من خلال التغييرات التدريجيّة، بناءً على أنّ تكرار الحوادث ملايين المرات يُظهر بالصدفة شيئاً نافعاً يبقى ويتحوّل إلى إرث للجيل الذي يليه كما يؤمن بذلك داروين ، وهذا- التغيير التدريجيّ- لا يمكن أن يصحّ في الكائنات الحيّة التي تتمتّع بخصوصيّات عجيبة، ولدقتها وتعقيدها وتزامن حاجة كلّ جزء منها إلى أجزائه الأخرى في آن واحد لا بدّ أنّها وُجِدت دفعة واحدة، كالجهاز البصريّ، لا يمكن أن يكون وجودها تدريجياً بحيث يبقى النافع من الأجزاء تدريجيّاً، ولا بدّ أن توجد دفعة واحدة.
إذاً، إنّ مثل هذه الأجهزة وهذه الخصوصيّات لا تتسق مع حسابات التصادف الماديّ، وبالتالي فالطفرة في ظهور الإنسان بتجهيزاته لا يمكن أن تكون معلولة للصدفة بل ذلك يحكي عن وجود قوة أو عنصر ثالث هو الذي أحدث هذه الطفرة.
برهان التكيّف مع البيئة
وهذه الخاصيّة أتى بها داروين إلا أنّها ـ على خلاف باقي نظريّاته ـ لم ينكرها أو يعترض عليها أحد، وهي مسلّمة حتى الآن.يتميّز وجود الكائنات الحيّة بخاصيّة مذهلة، وهي تكيّف الكائن الحيّ مع شروط البيئة، بحيث تتطابق شروطه الحياتيّة والوجوديّة مع الشروط الخارجية، وذلك إمّا بأن يكيّف ذاته معها، وإمّا بأن يكيّف البيئة والمحيط مع ما يناسبه.
ويشترك الإنسان والحيوان في تكييف ذاته مع البيئة، ويختص الإنسان بتكييف البيئة معه.
هكذا تبرز في أجهزة الكائنات الحيّة الداخليّة تغييرات تتناسب مع المحيط الجديد، كلما تغيّرت الأوضاع عليها، فتلبّي بذلك الإحتياجات المستجدّة للحياة في البيئة الجديدة.
فالإنسان- مثلاً- عندما يعيش في بيئة تحتاج إلى نسبة أكبر من الكريات البيضاء، فسرعان ما ترى طبيعته تتبدّل لتوجد تعادلاً وتوازناً، ليعيش مع متطلبات البيئة الجديدة وضروراتها، وهذه الأمور قد عدّت الآن من الثوابت تقريباً. والسؤال الذي يطرح نفسه هو:
ما هو العامل المؤثّر في هذه التغييرات؟
قد ثبت أن هذا التغيير في أجهزة الكائن الحيّ ليس بتأثير العوامل الخارجيّة، ولذلك لا نرى له أثراً في الجمادات، وإنّما المسبّب له قوّة الحياة الموجودة في الكائنات الحيّة، وهي قوة هادفة وموجّهة لهذا الجسد تبادر إلى تغيير وضع البدن كلما دعت الحاجة إلى ذلك، طبعاً ضمن حدود قدرتها.برهان قابلية الإنسان العلمية
هناك نظريّتان في كيفيّة تلقّي الإنسان للمعلومات:الدماغ ظرف للمعلومات:
وهي التي كانت سائدة سابقاً، تبتنى على أنّ خلايا الدماغ هي ظرف للمعلومات التي يحصّلها الإنسان، فمع كلّ معلومة يكتسبها ويحفظها- سواء أكانت شِعراً أم قانوناً علميّاً أم غير ذلك- تنتقش صورة مصغّرة لها في نقطة معيّنة من دماغنا، كذا في المعلومة الثانية، وهكذا...فكل معلومة تأخذ مكاناً معيّناً في نقطة من دماغنا، ومعنى ذلك أنّه إذا استوفى الإنسان نقاط الدماغ جميعاً فلن يكون هناك مكان لمعلومات جديدة، ولا يملك الإنسان بعدها أيّ استعداد للتعلّم، حيث يصير الدماغ تماماً كالصحيفة البيضاء التي امتلأت كتابة في جميع جوانبها وحواشيها.
وفي النتيجة تكون قابلية الإنسان بناءً على هذه النظرية محدودة بمحدوديّة حجم دماغه.
الدماغ آلة ارتباط:
بعد رفض العلم الحديث للنظرية السابقة، قامت النظرية الثانية على اعتبار الدماغ آلة ارتباط بالظرف الواقعيّ للمعلومات. والظرف الواقعيّ هو تلك الحالة التي نحسّ أنّها في داخلنا حضوريّاً، وهي حالة روحيّة مجرّدة غير ماديّة، فلا حدود لها، وبالتالي فإنّها تقبل المعلومات إلى ما لا نهاية، ولا معنى لامتلاء الدماغ بالمعلومات.نعم، قد يتعب الدماغ على أثر الكبر والضعف، فتضعف قابلية الإنسان على تلقِّي المعلومات، وذلك لتباطؤ أداة الإرتباط وليس لامتلاء الظرف الواقعيّ، ولذا فلو أمكننا أن نأخذ المعلومات عن طريق الإلهام والإشراق، من دون أن نستخدم دماغنا وأعصابنا، لحصلنا على العلم لا إلى نهاية.
- وهكذا يعتقد برغسون في مسألة النسيان، فهو عبارة عن العجز عن قدرة الإرجاع من الذاكرة إلى الشعور، ومن الخطأ أن يتصوّر الإنسان بأنّه ينسى شيئاً بحيث تمحى الأشياء أصلاً.
هذه الطريقة تلقى الأمير عليه السلام بواسطتها العلوم من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في آخر لحظات حياته صلى الله عليه وآله وسلم ،حيث يذكر عليه السلام أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم علّمه آخر لحظات حياته ألف باب من العلم يُفتح له من كلّ باب ألف باب.
وممّا يساعد على هذه النظريّة- في تلقّي المعلومات- كلام للإمام عليه السلام في نهج البلاغة: (كلّ وعاء يضيق بما جعل فيه حيث يتدنّى استيعابه بمقدار ما وُضع فيه، إلا وعاء العلم فإنّه يتسع به).(4)
في النتيجة، إنّ عدم محدوديّة تلقّي الإنسان للمعلومات تثبت أنّ فيه وعاءً وظرفاً غير محدود في قابليّته، ولا يكون فيه سعة مكانية معيّنة ومحدودة معدّة لنقش العلم، بل هو ظرف مجرّد غير ماديّ يزداد اتساعاً بقدر ما يصبّ فيه من معلومات، وليس ذلك سوى روحه التي بين جنبيه.
برهان لا محدودية أماني الإنسان
من المسائل غير المتناهية في الإنسان مسألة أمانيه وآماله، فلكل إنسان أمنيات تحدّثه بها نفسه، وكلّما أُعطيها ترى قلبه يتمنى أموراً جديدة، فوعاء أماني الإنسان وقابليّته على التمنّي غير محدودة.والأمنية غير الغريزة، فالغريزة قوة ماديّة حيوانيّة تجرّ الإنسان لإشباعها، من قبيل الأكل والنوم والشهوة الجنسيّة، أمّا الأمنيّة فهي حالة مثاليّة ينشدها البشر، فهي غير متطلباته الطبيعيّة.
وإذا ما رأينا إنساناً محدود الأماني فذلك يعود إلى الأوضاع المحيطة به التي تُملي عليه هذه المحدودية، حيث يتمنّى ما يرى أنّ له نيله ويمكن تحقيقه، فإذا ما حصل عليه تبرز لديه أمانيُّ وآمال جديدة.
حقيقة الأماني اللامتناهية:
وواقع الأمر أنّ الإنسان في أمنياته اللامحدودة إنما ينشد الكمال المطلق، فهو ينفر من المحدوديّة والنقص والعدم، يتمنّى شيئاً ويسعى وراءه ظنّاً منه أنّه مبتغاه وضالّته الواقعيّة، وإذا ما حصل عليه وجده أقلّ من المطلوب فيسعى إلى شيء آخر أكمل من الأول.إذاً، ليست أماني الإنسان اللامحدودة أمانيَّ مشتّتة بلا هدف، كما أنّها ليست تمني ما يفقده فقط، كما في بعض الكتابات المعاصرة، والصحيح أنّ الإنسان إنّما يسعى في كل أمانيه إلى الكمال المطلق، ولذا لو بلغ كماله هذا لهدأ واستراح، ولشعر براحة القلب والإطمئنان ولم ينشد التحوّل عنه أبداً، فالإنسان في أعماق شعوره الباطني لا يبغي شيئاً غير الله الذي هو الكمال المطلق.
وبشأن هذه الفكرة يقول القرآن: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلابِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾(5)، وفي آية أخرى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً﴾(6)، وكذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيه﴾(7).
نتيجة البرهان:
وفي الخلاصة، إنّ في الإنسان قوّة تدفعه للسعي وراء حقيقة لا أثر فيها للنقص والمحدودية بل هي الكمال المطلق. وهذه القوة الدافعة إلى اللامحدود لا يمكن أن تكون محدودة في ذاتها، ولذا ليست هي المادّة، بل أمر آخر ليس سوى الروح المجرّدة عن المادّة المحدودة.ويبقى أنّ هناك أموراً أخرى تُعتبر من خصائص الإنسان ولا يمكن تفسيرها من وجهة النظر الماديّة، كالأحلام والتنبّؤات، والتخاطر والكرامات والمعاجز، وأمور إستثنائيّة أخرى في الإنسان لا يمكن إنكارها، ويستدعي القول بها وجود بعد ثالث في الإنسان غير المادّة والطاقة، ويستدعي أيضاً أن تكون القوى التي في الإنسان تغاير تلك التي في الكائنات الحية الأخرى.
المصادر :
1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 75 ص24، دار إحياء التراث العربي.
2- السجدة: 7
3- الرحمن:14
4- نهج البلاغة، ج4 ص47، دار الذخائر- قم.
5- الرعد:28.
6- طه:124.
7- الانشقاق:6.