أنّ الإختلاف بين المدرستين في مسألة الحكم والقيادة يرجع إلى تبنّي مدرسة أهل البيت عليهم السلام نظرية النصّ، فيما تتبنّى المدرسة الأخرى نظريّة الإنتخاب. وبعد أن ذكرنا حقيقة الإمامة عند مدرسة أهل البيت عليهم السلام، يظهر لنا أنّه لا معنى للإنتخاب عند هذه المدرسة ولا للشورى، لأن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم متى أوصى بالخلافة من بعده إلى من هو معصوم كالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يصبح للإنتخاب أي معنى. وقد صرّح النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بثبوت منصب الحكم لعلي عليه السلام، وفي مناسبات متعددة. ونحن نعقد هذا البحث لذكر أهم المناسبات والأحاديث الواردة من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحقّ علي عليه السلام.
الأول: واقعة يوم الإنذار:
هذه الرواية نقلها ابن هشام في كتابه سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والذي نقله عن ابن إسحاق الذي عاش أوائل القرن الهجري الثاني، وهو كتاب معتمد عند أتباع مدرسة الخلفاء، (وهذه الواقعة حصلت أوائل بعثة النبيّ الأكرم حيث نزلالوحي على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾(1)، ولم يكن النبي ّ صلى الله عليه وآله وسلم قد ابتدأ بالدعوة العامة، فطلب من الإمام علي عليه السلام والذي كان يعيش في كنفه أن يعدّ طعاماً، ثمّ دعا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إليه بني هاشم وبني عبد المطلب، وبعد أن اجتمعوا وأكلوا، أراد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الحديث فقال أبو لهب: لشدّ ما سحركم صاحبكم، فتفرقوا ولم يحدثهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بما أراد.وهكذا أعاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة في اليوم التالي والمدعوون أربعون رجلاً، فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله- تعالى- أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ أحجم القوم جميعاً غير علي، فأعاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله، فأحجموا ثانيةً إلا علي، فأخذ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بيد علي وقال: إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم(2).
الثاني: كلام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع القبائل:
وهذه الواقعة ينقلها ابن هشام في كتابه السيرة النبوية، ومفاد هذه الواقعة هو أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان ينتهز الفرصة فيعرض نفسه على القبائل في موسم الحج، وقد تكلّم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع زعيم إحدى القبائل وكان يتّسم بالفراسة، فقال: والله، لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم التفت الرجل إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: (أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك)؟
فقال رسول الله: (الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء).
ويدلّ هذا الحديث على أنّ تعيين خليفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو أمرٌ منوطٌ بالله وليس بيد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّ الإمامة ليست مجرّد تدبير إداري بيد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: حديث المنزلة:
لقد استدلّ الخواجة نصير الدين بهذا الحديث، واعتبره من المسلّمات، فيما اعتبره القوشجي لا يزيد عن كونه خبراً واحداً، ولكن تكفّل كتاب عبقات الأنوار وكتاب الغدير بإثبات هذا الحديث.ومفاد الحديث: أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عندما أراد أن يذهب في غزوة تبوك، وهي لإظهار القوة أمام الروم ولم يقع فيها أي قتال، ترك الإمامَ علياً عليه السلام في المدينة خليفةً له في غيبته. وقد ضاق صدر الإمام بذلك بعد أن بدأ المنافقون الحديث بأن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إنما تركه استثقالاً منه، ولكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ردّ على حديثهم بأن خاطب علياً عليه السلام بقوله: (أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعدي)(3).
والحديث يدلّ بوضوح على أن كلّ ما كان لهارون عليه السلام بالنسبة لموسى عليه السلام هو لعلي عليه السلام من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم سوى النبوّة، وإذا أردنا أن نعرف منزلة هارون عليه السلام من موسى عليه السلام وجدنا قوله تعالى: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي﴾(4)، والوزير هو من يعين في حمل الثقل عن الآخرين، ولذا كان هارون عليه السلام هو خليفة موسى عليه السلام في قومه عند غيبته. فالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أراد كل شيء له أن يجعله لعلي عليه السلام باستثناء النبوّة- إلا أنّه لا نبيّ بعدي.
الرابع: حديث الغدير:
واقعة الغدير واقعةٌ شهيرةٌ، وفيها ورد قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه). فقد ذكر الخواجة نصير الدين الطوسي أنّ من أدلّة مدرسة أهل البيت عليهم السلام على الإمامة هو حديث الغدير المتواتر.( إشارة إلى اصطلاحات علم الحديث، حيث هناك اصطلاح "الخبر ا لواحد" واصطلاح " الخبر المتواتر". و الخبر الواحد: هو الخبر الذي لا يفيد اليقين والعلم، سواء أكان الناقل له شخصاً واحداً أم عشرة أشخاص أم أكثر.وأما الخبر المتواتر: فهو الخبر الذي ينقله مجموعة من الأشخاص بنحو يمتنع اتفاقهم على الكذب، فمثلاً لو نقل لنا شخصٌ أنه سمع خبراً من المذياع، فسوف يحصل لنا الظن بصدق هذا الخبر، فإذا جاء شخصٌ آخر وأخبر بنفس الخبر، فسوف يزداد الظن بوقوع الخبر وصدقه، وهكذا كلما جاء بنفس الخبر شخص جديد، إلى أن يصبح هذا الخبر منقولاً من قبل الكثيرين بنحو لا نحتمل اتفاقهم على الكذب، الأمر الذي يوجب اليقين بصحة الخبر.)
مفاد الحديث: بعد حجة الوداع، وعند غدير خم، حيث احتشد أكبر جمع ممكنٍ مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، نزل الوحي على النبيّ بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾(5)، فجمع صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين وقام فيهم خطيباً: (ألستُ أولى بكم من أنفسكم)؟ قالوا: بلى. قال:(من كنتُ مولاه فهذا علي مولاه).إنّ الولاية التي أراد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نقلها لعلي عليه السلام هي الولاية الواردة في الآية الكريمة: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾(6).
آية الإكمال وحديث الغدير
قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً﴾(7).إنّنا نلاحظ أنّ الآية تتضمّن قسمين، وكلّ قسمٍ منهما يبدأ بكلمة (الْيَوْمَ)، لذا تكرّرت كلمة (اليوم) مرتين في آية واحدة، وهذا يعني أنّ كلّ واحدٍ من القسمين يرتبط بفكرة مستقلّة. إنّ كلمة (يوم) قد دخلت عليها (ال) وهي تعني تارةً ذلك اليوم (إشارة إلى يوم آخر)، وأخرى هذا اليوم، وتعرف ب- (ال) العهدية. ولكي يكون المراد منها ذلك اليوم لا بد وأن تكون مسبوقة بذكر يومٍ معين، والآية هنا لم تسبق بذكر يوم معين فلا يكون المعنى الأول مقصوداً.
ثم تقول الآية ﴿يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ﴾، والمراد من اليأس هنا هو أنّهم يئسوا من التفوّق عليكم ومحق دينكم، ولذا كفّوا عن مواجهتكم، فلا ينبغي عليكم أن تخشوهم بعد الآن.
ثم ورد في الآية قوله ﴿أَكْمَلْتُ﴾ وقوله ﴿َأَتْمَمْتُ﴾، وبين الإكمال والإتمام يوجد فرق، لأنّ الإتمام هو بمعنى انضمام أجزاء الشيء إلى بعضها البعض، بحيث لا يبقى فيها نقصٌ، ولذا يقال تمّ بناء البيت إذا وضعت أسسه واستوفى جميع الشروط اللازمة له.
وأما الكمال فليس فيه ذلك، لأن الشيء قد يكون تاماً لا نقص فيه، ولكنه لا يكون كاملاً، ومثاله الجنين في بطن أمّه، فإنه كامل الأجزاء، ولكنّه لا يكون إنساناً كاملاً، أي لا يتحلّى بالنضج الذي ينبغي أن يتحلّى به الإنسان.
إنّ الإختلاف الأساس بين الكمال والتمام هو: الإختلاف بين الكيفي والنوعي، فالكمال يقال لكيفية الشيء وأما التمام فيقال لنوع الشيء. والله عزّ وجل يريد أن يقول في الآية: إنّ الإسلام قد تمّ وكمل، أيّ إنه قد انتهى نوعاً وكيفاً. لكن ما هو ذلك اليوم الذي تمّ فيه الدين وكمل؟
يوم إكمال الدين وإتمام النعمة
ممّا لا شكّ فيه أنّ هذا اليوم له أهميّة زائدة وخصوصية إضافيّة، فلا بدّ من أن يكون قد احتضن واقعة إستثنائية عظيمة ترتبط بكلّ من يدين بالإسلام ديناً. فما هو هذا اليوم؟لقد اختلفت النظريّات في تحديد هذا اليوم، وسنذكر ثلاثة آراء، ولكن لا بدّ من الالتفات إلى أمرٍ وهو أنّ هذه الآيات تقع في أوائل سورة المائدة، وهذه السورة مدنية وهي آخر سورةٍ نزلت على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم باتفاق المفسّرين.
الرأي الأول: يوم البعثة:
قلنا إنّ (ال) قد يراد منها الإشارة إلى يوم بعيدٍ، أي يراد منها: ذلك اليوم. وأصحاب هذا الرأي يقولون إنّ كلمة يوم هنا استعملت كذلك، لأنّ المراد منها يوم البعثة، لأن ما يتصف بأنّه اليوم الذي رضي فيه الإسلام ديناً هو يوم البعثة، فالقرينة إذاً من نفس الآية وهي قوله ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً﴾.إنّ أهم ما يرد على هذا الرأي هو: إنّ الآية قد اقترنت بقوله: ﴿أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾، وهذا الأمر لا يمكن أن يكون قد حصل أول البعثة، لأن بداية النعمة كانت أوّل أيام البعثة، ولذا يكون قوله تعالى: ﴿رَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً﴾ لبيان أنّ الإسلام الذي كمل الآن هو ذلك الإسلام المرضي، ولذا لا يمكن أن يكون المراد من الآية يوم البعثة.
الرأي الثاني: يوم فتح مكة:
إنّ من أعظم الأيام في تاريخ الإسلام هو يوم فتح مكة، ولذا قال تعالى في شأن يوم الفتح: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيما﴾(8)، وأهميّة هذا اليوم تأتي من خلال ملاحظة أمرين:الأول: لقد كان لمكة المكرمة دورها التاريخي ومكانتها المهمّة لدى العرب في الجاهلية. وهذه المكانة ارتبطت بالكعبة الشريفة لا سيما بعد حادثة أصحاب الفيل، ولذا وُلد الشعور عند الناس بأن أحداً لن يتمكّن من السيطرة على مكة. وقد استحكم الغرور بقريش حتى احتلت بذلك مكانتها لدى القبائل العربية، ثم كان أن تمكّن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من فتح مكّة دون إراقة دم. وهذا أمر مهمّ جداً قد اقترن بفتح مكة، لئلا تقول قريش- فيما لو أصيب أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بسوء- لقد أصابهم ما أصاب أصحاب الفيل.
الثاني: إنّ يوم الفتح كان له أثره النفسي على القبائل العربية فدخلت في الإسلام، وقد قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ الله الْحُسْنَى وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾(9).
والردّ على هذا الرأي: إنّ أصحاب هذا القول- مع تسليمنا بأهميّة يوم الفتح- لا يملكون شاهداً قرآنيّاً أو تاريخيّاً يؤيد ما ذهبوا إليه، بل على العكس، فنحن لدينا شواهد تمنع من الأخذ به، فقوله تعالى ﴿أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ لا ينسجم مع كون نزول الآية يوم الفتح، لأنّ يوم الفتح لم يكن يوم إكمال الدين، بل إنّ سورة المائدة بتمامها نزلت بعد الفتح.
مضافاً إلى قوله ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ﴾ فإنّ الحال لم يكن كذلك يوم الفتح، لأن المشركين لم يصل بهم الأمر إلى اليأس من الدين في ذلك اليوم.
الرأي الثالث: يوم آية البراءة:
إنّ من أيام الإسلام المهمّة هو يوم قراءة سورة براءة من قبل الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام، وذلك في السنة التاسعة للهجرة.فإنّ فتح مكّة لم ينهِ حالة التعايش مع المشركين، بل من بقي على الشرك كان له أن يحج ويطوف بالبيت وغير ذلك إلى السنة التاسعة للهجرة، حيث أرسل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام بالآيات الأولى من سورة براءة ليبلّغها للناس في الحج، بعد أن جاء الأمر الإلهي بأنّ هذه الآيات لا يؤديها إلا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو رجلٌ منه(وكان النبيّ قد بعث أبا بكر أولاً، ثم أرسل وراءه علياً عليه السلام ليأخذ المهمّة منه، وقفل الأوّل راجعاً إلى المدينة.).
وهكذا تمّ الإعلان عن أنّ الحرم مختص بالمسلمين، ولا يحقّ للمشركين المشاركة في مراسم الحج، ولذا كان لهذا اليوم أهمّيته الخاصة عند المسلمين، وعليه فالآية الكريمة تشير إلى يوم البراءة.
والردّ على هذا الرأي: هو ما تقدم من الجواب على ما سبقه، من أنّ هذه الآيات نزلت ولم يكن الدين قد كمل بعد، لأن الكثير من الأحكام إنما جاءت بعد يوم آية البراءة.
النتيجة: إنّ ما نصل إليه هو: أنّ هذه الآراء جمعاء لا تنسجم مع كون الآية من الآيات التي نزلت أواخر حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بنحو لم ينزل بعدها حكمٌ جديدٌ.
الرأي الرابع: يوم الغدير:
يتبنى الشيعة القول بأنّ هذه الآية الكريمة نزلت يوم غدير خم، وهو يوم تنصيب الإمام علي عليه السلام خليفة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. والذي تذكره مدرسة أهل البيت عليهم السلام لإثبات ذلك يمكن تقسيمه إلى قسمين، فأصحاب هذا الرأي تارة يعتمدون الشاهد التاريخي، وأخرى القرائن التي في نفس الآية.أمّا الشاهد التاريخي:
لقد ذكرت الكتب التاريخية والروائية قصّة مفصّلة تتحدث عن هذا اليوم، وأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع، حين عودته إلى المدينة، وصل إلى موقع قرب الجحفة يسمى غدير خم، فطلب من قوافل الحجاج الوقوف، وخطب فيهم قائلاً: (ألستُ أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى. قال: من كنتُ مولاه فهذا علي مولاه). ولما أتمّ الرسول خطابه نزلت الآيات الكريمة.لقد تناولت المصادر هذه الحادثة من المدرستين، والحديث هو من الأحاديث المتواترة كما تقدّم، وذلك يظهر بمراجعة كتابي الغدير وعبقات الأنوار.
الشاهد من نفس الآية:
إنّنا قبل الدخول في بيان الشاهد الداخلي من نفس الآية الكريمة، لا بدّ من الإشارة إلى وجود آيات محكمات وآيات متشابهات، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كلّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾(10).إذا عرفنا هذا نأتي إلى الآية التي هي محلّ بحثنا فنجد قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ﴾. فالآية تقول إنّه لا داعي الآن من الخشية من الكفار لأنّهم وصلوا إلى حدّ اليأس من إلحاق الأذى بالمسلمين.ولكن الآية تخاطب المسلمين بقولها ﴿وَاخْشَوْنِ﴾، فما معنى هذا؟ هل أنّ الله عدوّ لدينه؟ طبعاً لا. إذاً هذه الآية من المتشابه، وحلّ ذلك بالرجوع إلى الآية المحكمة(قال تعالى: "انّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم")(11)، التي تتحدث عن أمرٍ وهو أنّ الله سنّ سنّةً في خلقه وهي أنّ أيّ قومٍ غيّروا ما بأنفسهم، ممّا استوجب نزول النعمة عليهم، فإنّ نعمة الله سوف تزول عنهم إذا غيّروا بأنفسهم بحيث استوجبوا إزالة النعمة عنهم. فإذاً، الخشية من الله هي عبر الخشية من النفس الإنسانية، فالله عز وجل يريد أن يقول للمسلمين: إنني أنعمت عليكم بهذه النعمة، ولكن إن حصل منكم أيّ تغيير أو تبديل، فعليكم أن تخافوا من أن أرفع هذه النعمة عنكم، فالخطر الآن من أنفسكم.
خلاصة ونتيجة
إذاً، الآية تتحدث عن مرحلة انتهى فيها الخوف من المشركين، وأصبح الخوف من المسلمين أنفسهم. وهذا إنّما كان في أواخر حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وبملاحظة الشواهد التاريخية، والقرائن المحتفّة بالآية، وبالحديث المتواتر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبإرجاع المتشابه إلى المحكم، كل ذلك يصب في أن هناك يوماً حصلت فيه واقعة الغدير وتمّ فيها تنصيب علي عليه السلام بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إماماً، وقام المسلمون جميعاً رجالاً ونساءً بمبايعته عليه السلام، عندها نزلت آية إكمال الدين وإتمام النعمة.وبهذا نختم الحديث حول النصوص الواردة في إمامة عليٍّ عليه السلام من قِبَلِ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
عليّ عليه السلام والإقدام على التصدّي إنّ ما نصل إليه مما تقدّم، هو أنّ الإمامة منحصرة- بعد النبي مباشرة- بالإمام علي عليه السلام. لكن يبقى هذا السؤال بحاجةٍ إلى إجابةٍ وهو: لماذا لم يُقدِم الإمام عليه السلام على قبول البيعة عندما طُلب منه ذلك بعد مقتل عثمان؟ ألم يكن الأولى الإقدام على التصدّي؟
الجواب يظهر بملاحظة كلام الإمام علي عليه السلام الذي ذكره في ذلك الوقت، فقد قال عليه السلام عندما رفض البيعة: (دعوني والتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمراً له وجوهٌ وألوان) ثم قال: (إنّ الآفاق قد أغامت، والمحجّة قد تنكّرت)(12). لقد كان الإمام عليه السلام يرى أنّ الأمور أصبحت مختلفةً عمّا كانت عليه عند وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا من الأمور الثابتة تاريخياً. فقد كان الإمام عليه السلام يرى انحرافاً في الكثير من الأمور، ويرى أنّ تولي الخلافة من قِبَلِه يعني تغيير الكثير من الأمور التي كانت سائدةً آنذاك. فالإمام عليه السلام إذا تولّى الخلافة فسوف يقوم بعمليّة تغييرٍ واسعة النطاق، ومثل هذا الأمر يحتاج إلى نوعٍ خاصٍ من الطاعة والإتباع من قِبَل المسلمين، ولذا ألقى ذلك الكلام ليتمّ عليهم الحجّة، لأنّ البيعة تعني أخذ العهد بالطاعة والإتباع، ولا يريد منهم الطاعة على ما يريدونه هم، وإنّما البيعة على ما يريده هو.
المصادر :
1- الشعراء: 214.
2- الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج 2 ص 62.
3- صحيح البخاري، ج 4 ص 24، الصواعق المحرقة، ص 121.
4- طـه: 29.
5- المائدة : 67
6- الاحزاب : 6
7- المائدة : 3
8- الفتح: 2.
9- الحديد: 10.
10- آل عمران: 7.
11- سورة الرعد: 11.
12- العلامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج41 ص116، دار الرضا- بيروت.