من المباحث التي لها صلة بالعدل الإلهي ، والتي تتمحور حول فاعلية الإنسان ، يمکن ان تلخص باربعة نقاط رئيسية هي :
1. العدل الإلهي وحرية الإرادة الإنسانية.
2. العدل الإلهي وعلمه السابق بأفعال العباد.
3. العدل الإلهي والقضاء والقدر القطعيان.
4. العدل الإلهي وخلود العقاب.
وقد تناول الحكماء والمتكلّمون هذه الأبحاث من زوايا مختلفة واحتدم النقاش حولها ، وبما أنّ رائدنا في هذه البحوث هو القرآن الكريم فنحن نتناولها من ذلك الجانب ونترك جوانبها الأُخرى إلى الكتب المعدّة في هذا المجال.
العدل الإلهي وحرية الإرادة الإنسانية
البحث عن حرية الإرادة ، وأنّ الإنسان هل هو فاعل مجبور أو فاعل مختار ؟من المسائل الفلسفية الّتي تمتد جذورها في تاريخ الفكر الإنساني ، ومنذ ذلك الحين اتجهت أنظار كافة الناس صوبها لأنّها تمسّ جانباً من حياتهم العملية ، وبذلك أصبحت دراسة تلك المسألة لا تقتصر على الحكماء فحسب بل شملت أكثر الناس.
إنّ الرؤية القرآنية تتلخص في أنّ الإنسان حرّ فيما شاء وأراد ، وهي تشطب بقلم عريض على مزعمة المشركين بتعلّق مشيئة الله سبحانه بعبادتهم الأوثان ولذلك صاروا مجبورين على الشرك. يقول سبحانه في ردّ تلك المزعمة : ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ ). (1)
فهذه الآية تعكس لنا بوضوح جانباً من عقيدة المشركين في عصر الرسالة وانّهم كانوا يؤمنون بالجبر ، وإنّ كلّ ما يصدر منهم فهو خاضع لإرادته سبحانه إرادة سالبة للاختيار.
ويقول سبحانه في موضع آخر مبيّناً تلك العقيدة الفاسدة : ( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ). (2)
فإنّ الفقرة الأُولى من الآية تعكس عقيدة المشركين وأنّه لولا أمره ومشيئته لما كنّا مشركين ، لكن الفقرة الثانية تردُّ عليها ببيان أنّ الشرك ظلم وقبيح ، والله لا يأمر بهما ، وبالتالي لا تتعلق مشيئته بهما.
والعجب أنّ تلك العقيدة السخيفة لم تُجْتثّ بل بقيت عالقة في أذهان عدّة من الصحابة حتى بعد بزوغ نجم الإسلام.
روى السيوطي عن عبد الله بن عمر : انّه جاء رجل إلى أبي بكر ، فقال :
أرأيت الزنا بقدر ؟
قال : نعم. قال : فإنّ الله قدّره عليّ ثمّ يعذِّبني ؟! قال : نعم يابن اللخناء ، أما والله لو كان عندي إنسان أمرته أن يجأ أنفك. (3)
وليس الخليفة الأوّل وحده ممن كان يحتج بالقدر السالب للاختيار ، بل كان غيره على هذه الفكرة. روى الواقدي عن أُم الحارث الأنصارية ، وهي تحدّث عن فرار المسلمين يوم حنين ، قالت : مرّ بي عمر بن الخطاب منهزماً ، فقلت : ما هذا ؟
فقال عمر : أمر الله. (4)
نرى أنّ عمر يلجأ إلى أمر الله وقضائه ، وأنّ الهزيمة كانت أمراً قطعياً لأنّه سبحانه شاءها وأرادها ، دون أن ينظر إلى سائر الأسباب التي حدت بهم إلى تلك الهزيمة.
لقد اتخذ الأمويون مسألة القدر أداة تبريرية لأعمالهم السيِّئة وكانوا ينسبون وضعهم بما فيه من شتى ضروب العيث والفساد إلى القدر ، قال أبو هلال العسكري : إنّ معاوية أوّل من زعم أنّ الله يريد أفعال العباد كلّها. (5)
ولأجل ذلك لما سألت أُمّ المؤمنين عائشة ، معاويةَ عن سبب تنصيب ولده يزيد خليفة على رقاب المسلمين فأجابها : إنّ أمر يزيد قضاء من القضاء وليس للعباد الخيرة من أمرهم. (6)
وبهذا الجواب أيضاً أجاب معاويةُ عبدَ الله بن عمر ، عندما استفسر من معاوية عن تنصيبه يزيد ، بقوله : إنّي أُحذِّرك أن تشقّ عصا المسلمين وتسعى في تفريق ملئهم ، وأن تسفك دماءهم وإنّ أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء وليس
للعباد خيرة من أمره. (7)
وقد تسرّبت فكرة الجبر إلى أكثر الأوساط الإسلامية خصوصاً بين الشعراء وأصحاب الملاحم ، حيث راحوا يفسرون الوضع المزري الذي يعاني منه المسلمون بالقضاء والقدر. وسيوافيك أنّه لا صلة للقضاء والقدر بسلب الاختيار عن الإنسان.
حرية الإرادة من منظارٍ قرآني
إنّ الآيات القرآنية تصرّح باختيارية الإنسان وانّه فاعل مختار مسؤول عن عمله.1. يقول سبحانه : ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ). (8)
فالشاكر يسلك السبيل الذي أراده الله سبحانه له ، فيصل إلى الهدف المنشود ، بخلاف الكفور ، فيسلك غير هذا السبيل.
2. ( قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ). (9)
ترى أنّ الآية تنسب الضلالة إلى نفس الإنسان ، والهداية إلى وحيه سبحانه إليه ، مع أنّ الهداية والضلالة كلّها من الله سبحانه ، وما هذا إلاّ لأنّه سبحانه قد هيّأ كافّة وسائل الهداية للإنسان منذ أنْ خُلِقَ إلى أن يُدرج في أكفانه ، وهي عبارة عن تزويده بفطرة التوحيد وتعزيزها ببعث الأنبياء والمرسلين ، والعقل السليم ، إلى غير ذلك من أدوات الهداية ، فمن انتفع بها فقد اهتدى ، فصحّ أن يقال : إنّ الهداية من الله لأنّه زوّد الإنسان بوسائلها ، ومن لم ينتفع بها فقد ضلّ فصحّ أن يقال ( إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي ).
وبهذا المضمون قوله سبحانه : ( مَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ). (10)
3. ( وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ). (11)
ولا تجد في القرآن الكريم آية أكثر نصاعة في حرية الإنسان من هذه الآية ، وقد صبّ شهيدنا الثاني ( 909 ـ 966 ه ) مضمون هذه الآية ضمن بيتين ، حيث قال :
لقد جاء في القرآن آية حكمة *** تدمّر آياتِ الضلال ومن يُجبر
وتخُبر انّ الاختيار بأيدينا *** فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر
4. ( قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ). (12)
5. ( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ). (13)
6. ( كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ). (14)
7. ( إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ). (15)
إلى غير ذلك من الآيات الدالَّة على أنّ الإنسان فاعل مسؤول عن أعماله ، حرّ في إرادته ، مختار فيما يكتسب.
وعلى ضوء هذا فمن حاول أن ينسب الجبر إلى القرآن فقد خبط خبطَ عشواء.
إنّ بعث الأنبياء ودعوة الناس إلى طريق الرشاد ، ونهيهم عن ارتكاب القبائح أوضح دليل على أنَّ الإنسان موجود قابل للإصلاح والتربية ، إذ لو كان مجبوراً على فعل المعاصي ، لكان بعث الأنبياء ودعوتهم أمراً سدىٰ.
نعم الدعوة إلى حرية الإنسان وكونه فاعلاً مختاراً لا تعني أبداً انقطاع صلة الإنسان بالله سبحانه وإرادته. لأنّ تلك الفكرة كفكرة الجبر باطلة تورد الإنسان في مهاوي الشرك والثنويّة التي ليست بأقلَّ ضرر من القول بالجبر.
فالتفويض بمعنى استقلال الإنسان في فعله وإرادته وكل ما يكتسب وخروجه عن سلطة الله سبحانه ، تفويض باطل كالقول بأنّه فاعل مجبور.
لا جبر ولا تفويض :
وقد أكّد أئمّة أهل البيت عليهمالسلام على وهن تلك الفكرتين.قال الإمام الصادق عليهالسلام : « إنّ الله أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون ، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد ». (16)
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليهالسلام فسّر حرية الإنسان بهذا النحو :
« وجود السبيل إلى إتيان ما أُمروا وترك ما نهوا عنه ». (17)
نعم التركيز على بطلان الجبر أكثر في الروايات من التصريح ببطلان التفويض.
قال الإمام الصادق عليهالسلام : « الله أعدل من أن يجبر عبداً على فعل ثمّ يعذّبه عليه ». (17)
وسأل الحسن بن علي الوشاء الإمام الرضا عليهالسلام : هل الله أجبر العباد على المعاصي ؟ فقال عليهالسلام : « الله أعدل وأحكم من ذلك ». (19)
نعم موضوع الاختيار عبارة عن الأفعال التي يقوم بها الإنسان ، وأمّا الأُمور الخارجة عن حيطة الثواب والعقاب التي ربّما يبتلى بها الإنسان من حيث لم يشأ كالبلايا والمصائب والزلازل والسيول المخرّبة والأعاصير ، إلى غير ذلك فهي خارجة عن اختيار الإنسان ، فليس هو بالنسبة إليها لا فاعلاً جبرياً ولا فاعلاً بالاختيار.
هذه هي نظرة القرآن الكريم في أفعال الإنسان ، غير انّ هناك شبهات تذرَّعت بها بعض الفرق الإسلامية وحاولوا بذلك سلب الاختيار عنه ظناً منهم أنّهم بذلك يحسنون صنعاً.
المصادر :
1- الأنعام : 148.
2- الأعراف : 28.
3- تاريخ الخلفاء : 95.
4- مغازي الواقدي : 3 / 904.
5- الأوائل : 2 / 125.
6- الإمامة والسياسة : 1 / 167.
7- الإمامة والسياسة : 1 / 171.
8- الإنسان : 3.
9- سبأ : 50.
10- الإسراء : 15.
11- الكهف : 29.
12- الأنعام : 104.
13- الأنفال : 42.
14- الطور : 21.
15- النور : 16.
16- البحار : 5 / 41.
17- البحار : 5 / 12.
18- التوحيد للصدوق : 360 ، الحديث 6 ، باب نفي الجبر والتفويض.
19- نفس المصدر : 363 ، الحديث 10.