هدف بعثة الانبياء ووظائفهم

إن هدف بعثة الانبياء وعملهم لا ينحصر بحسب حكم العقل وضرورة الأديان بمجرد بيان المسائل والأحكام. فلم ينصب الله تعالى الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)ومن بعده الأئمة (عليه السلام) لمجرد نقل الأحكام والمسائل وبيانها للناس بأمانة، ومن ثم قاموا
Wednesday, April 13, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
هدف بعثة الانبياء ووظائفهم
 هدف بعثة الانبياء ووظائفهم

 






 

إن هدف بعثة الانبياء وعملهم لا ينحصر بحسب حكم العقل وضرورة الأديان بمجرد بيان المسائل والأحكام. فلم ينصب الله تعالى الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)ومن بعده الأئمة (عليه السلام) لمجرد نقل الأحكام والمسائل وبيانها للناس بأمانة، ومن ثم قاموا هم (عليه السلام) بايكال هذه الامانة للفقهاء، لينقلوا بدورهم الأحكام التي اخذوها من الانبياء بأمانة فيكون معنى "الفقهاء امناء الرسل" أن الفقهاء أمناء في بيان الأحكام (فهذا ليس صحيحاً)، إذ أن أهم وظيفة للانبياء في الحقيقة هي إقامة نظام اجتماعي عادل من خلال تطبيق القوانين والأحكام، والذي يتلازم بالطبع مع بيان الأحكام ونشر التعاليم والعقائد الالهية. كما يظهر هذا المعنى بوضوح من الآية الشريفة: {ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}(1)
ان هدف بعثة الانبياء بشكل عام تنظيم الناس بعدالة على أساس من العلاقات الاجتماعية، وتقويم آدمية الانسان. وهذا إنما يمكن من خلال تشكيل الحكومة وتنفيذ الأحكام، سواء وفَّق النبي بنفسه لذلك كالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)، أو كان ذلك لاتباعه بعده.
يقول الله تعالى حول "الخمس" : {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى}(2) ويقول حول "الزكاة" {خذ من أموالهم صدقة}(3) كما يصدر بعض القرارات حول "الخراج". وفي الحقيقة لم يكلف النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)ببيان هذه الأحكام للناس فحسب، بل بتطبيقها أيضاً.
فكما يجب عليهم نشر الأحكام بين الناس، فهم مكلفون أيضاً بتنفيذها: بأخذ الضرائب نظير الخمس والزكاة، وصرفها في مصالح المسلمين، ونشر العدالة بين الشعوب وافراد البشر، واجراء الحدود، والحفاظ على أراضي البلاد واستقلالها، وعدم السماح لأحد بان يتصرف في ضرائب الدولة الإسلامية بالظلم والحيف.
إن جعل الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم)رئيساً وعدَّ طاعته واجبة {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}(4) ليس المراد منه أنه إذا ذكر الرسول حكماً فيجب علينا القبول والعمل به، فالعمل بالأحكام إطاعة لله عز وجل، وكل الاعمال العبادية وغير العبادية التابعة للأحكام هي اطاعة لله. اتباع النبي الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم)ليس عملا بالأحكام، وإنما هو أمر آخر. اجل فإطاعة الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم)هي بمعنى من المعاني إطاعة الله، لأن الله قد أمر أن نطيع رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم). فإذا أمر الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم)ـ الذي هو رئيس المجتمع الإسلامي وقائده ـ أمر الجميع بلزوم الذهاب إلى الحرب مع جيش اسامة فلا يحق لأحد ان يتخلف. وهذا ليس امر الله، وانما هو امر الرسول.
فالله تعالى قد أوكل الحكومة والقيادة له (صلی الله عليه وآله وسلم)ويقوم هو (صلی الله عليه وآله وسلم)وفقاً للمصلحة بتجييش الجيوش، وتعيين القضاة والحكام والولاة، أو يعزلهم.
الفقهاء أمناء للرسل في تنفيذ القوانين وقيادة الجيوش وادارة المجتمع والدفاع عن البلاد وأمور القضاء بناءً على هذا "فالفقهاء أمنا الرسل" تعني أن الفقهاء العدول مكلفون ومأمورون بالقيام بجميع الأمور التي كانت في عهدة الانبياء، ولئن كانت "العدالة" من "الأمانة" فمن الممكن ان يكون الانسان أميناً في الأمور المالية، دون أن يكون عادلاً. إلا أن المراد من أمناء الرسل هو أولئك الذين لا يتقاعسون عن أداء أي تكليف، والذين يكونون طاهرين ومنزهين.
إذ يقول (عليه السلام) في ذيل الحديث: "ما لم يدخلوا في الدنيا". اذن فالفقيه الذي يكون مهتماً بجمع مال الدنيا فإنه ليس عادلاً، ولا يستطيع أن يكون أميناً للرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم)ومجرياً لأحكام الإسلام. فالفقهاء العدول وحدهم هم الذين يقومون بتنفيذ أحكام الإسلام، وإقرار نُظُمه، وإقامة الحدود، وتنفيذ القصاص، وحراسة حدود الوطن الإسلامي وكافة اراضيه. والخلاصة أن إجراء جميع القوانين ذات العلاقة بالحكومة هو في عهدة الفقهاء بدءاً من استلام الأخماس والزكوات والصدقات والجزية والخراج، وصرفها في مصالح المسلمين، إلى إجراء الحدود والقصاص ـ الذي يجب أن يكون تحت الاشراف المباشر للحاكم، ولا يستطيع ولي المقتول أن يقوم بذلك دون اشرافه ـ اضافة إلى حفظ الحدود وتنظيم المدن وسائر ما هنالك من أمور.
فكما كان الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم)مسؤولاً عن تطبيق الأحكام، واقامة أنظمة الإسلام، وقد جعله الله تعالى رئيساً وحاكماً للمسلمين، وأوجب عليهم طاعته، فالفقهاء العدول أيضاً يجب أن يكونوا رؤساء وحكاماً، ومسؤولين عن تنفيذ الأحكام وإقرار النظام الاجتماعي للإسلام.
الحكومة الخاضعة للقانونبما أن حكومة الإسلام هي حكومة القانون، فيجب أن يكون علماء القانون، بل والأهم علماء الدين ـ أي الفقهاء ـ هم القائمون بها، والمراقبون لجميع الأمور التنفيذية والإدارية، وإدارة التخطيط في البلاد. الفقهاء أمناء في إجراء الأحكام الإلهية، وأمناء في استلام الضرائب، وحفظ الثغور، واقامة الحدود. فيجب أن لا يتركوا قوانين الإسلام معطَّلة، أو يسمحوا بأن يزاد فيها وينقص. إذا أراد الفقيه إقامة حد الزنا على الزاني، فيجب أن يقوم بذلك بالشكل المحدد، فيأتي به أمام الناس، ويجلده مئة جلدة. فلا يحق له أن يضربه ضربة إضافية، ولا أن يفحش له بالقول، ولا أن يصفعه أو يحبسه يوماً واحداً.
وكذلك إذا قام باستلام الضرائب، فيجب أن يقوم بذلك طبق موازين الإسلام، أي يعمل وفقاً للقانون الإسلامي. فلا يحق له أن يأخذ فلساً واحداً زائداً. ويجب ألاَّ يسمح بوقوع الفوضى في بيت المال، أو بضياع فلس واحد. فلو قام الفقيه بعمل ما خلاف موازين الإسلام، فقد ارتكب فسقاً ـ والعياذ بالله ـ ينعزل عن الحكم تلقائياً، لأنه قد سقط عن كونه أميناً.
الحاكم في الحقيقة هو القانون. والجميع في كنف القانون وأمانه. والشعب والمسلمون أحرار ضمن دائرة الأحكام الشرعية، أي بعد أن يعملوا طبق المقررات الشرعية عندئذٍ لا يحق لأحد أن يتحكم بتصرفاتهم. إذ لا مجال لشيء من هذا، فلهم حريتهم. وهكذا تكون حكومة العدل الإسلامية، فهي ليست كتلك الحكومات التي تسلب الشعب الأمن، وتجعل الناس يرتجفون في بيوتهم خوفاً من مفاجآتها وأعمالها . كما كان الأمر في حكومة معأوية وأمثالها من الحكومات، حيث سلب الناس الأمن، وكانوا يقتلون أو ينفون، أو يسجنون مدداً طويلة على التهمة، أو مجرد الاحتمال.
تلك لم تكن حكومة إسلامية. فعندما تقام الحكومة الإسلامية يعيش الجميع في ظلها بأمن تام، دون أن يحق لأي حاكم أن يقوم بأي تصرفات مخالفة لأحكام وقانون الشرع المطهر.إذاً فمعنى الأمين هو أن يقوم الفقيه بتطبيق جميع مقررات الإسلام على نحو الامانة، لا يقوم ببيان الأحكام فحسب. فهل الامام مجرد مبين للأحكام والقوانين فقط؟ وهل كان دور الانبياء مقتصراً على بيان الأحكام؛ ليكون الفقهاء أمناءهم في ذلك فحسب؟ لاشك أن بيان المسائل والقوانين من جملة الوظائف الفقهية، لكن الإسلام ينظر للقانون نظرة آلية، أي يعتبره وسيلة لتحقيق العدالة في المجتمع، ووسيلة للاصلاح العقائدي والأخلاقي وتهذيب الانسان.
إنما الغاية من القانون هي اقامة وتطبيق الأنظمة الاجتماعية العادلة، وذلك بهدف تربية الانسان المهذب، لقد كانت الوظيفة المهمة للانبياء هي تطبيق الأحكام، والاشراف، وإدارة الحكومة.
لقد قرأت لكم رواية الامام الرضا (عليه السلام) حيث يقول: "لو لم يجعل لهم إماماً قيّماً حافظاً مستودعاً لدرست الملة...". لقد ذكر (عليه السلام) ذلك كقاعدة عامة، فالناس يحتاجون إلى قيّم حافظ أمين. وفي هذه الرواية يقول المعصوم (عليه السلام) ان الفقهاء أمناء الرسل. فيستفاد من هذا الصغرى والكبرى أن الفقهاء يجب أن يكونوا رؤساء الأمة، لكي لا يسمحوا باندراس الإسلام وتعطيل أحكامه. وبما أن الفقهاء العدول لم يقيموا الحكومة في البلاد الإسلامية، ولم تطبق ولايتهم، فقد اندرس الإسلام، وعطَّلت أحكامه، وتحققت كلمة الامام الرضا (عليه السلام). وقد اثبتت التجربة صحة ذلك للجميع.
لقد وصل الأمر بنا إلى هذا الحد، لأن الكثير منا لم يفكر أصلاً أن الأمة الإسلامية يجب ان تدار من خلال الحكومة الإسلامية، فلم يقتصر الأمر على عدم اقامة النظم الإسلامية في البلاد الإسلامية، وتطبيق القوانين الفاسدة والظالمة بدلاً من قانون الإسلام، بل لقد بلت أنظمة الإسلام في أذهان السادة العلماء، بنحو صاروا يفسرون "الفقهاء امناء الرسل" بانهم أمناء في بيان الأحكام. فيتغافلون عن آيات القرآن، ويؤولون جميع هذه الروايات التي تدل على أن علماء الإسلام ولاة في زمن الغيبة، بأن المراد منها "بيان الأحكام".
فهل القيام بالامانة يكون بهذا النحو؟ ألا يجب على الأمين أن لا يسمح بتعطيل أحكام الإسلام، أو ببقاء المفسد دون عقاب؟ وأن لا يسمح بحصول هذه الدرجة من الفوضى والميل والحيف في الضرائب ومدخول البلاد، وبحصول مثل هذه التصرفات المرفوضة؟ من الواضح أن هذا من واجبات الأمين. ووظيفة الفقهاء هي أن يقوموا بالامانة، وعندها سيكونون أمناء وعدولاً.
لمن يكون منصب القضاءعن محمد بن يحيى، عن محمد بن احمد، عن يعقوب بن يزيد، عن يحيى بن مبارك، عن عبدالله بن جبلّة، عن أبي جميلة، عن اسحاق بن عمار، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال امير المؤمنين صلوات الله عليه لشريح: "يا شريح، قد جلست مجلساً لا يجلسه (ما جلسه) إلا نبي أو وصي نبي أو شقي(5).
وحيث أن شريح لم يكن نبياً ولا وصي نبي، فقد كان شقياً جلس على مسند القضاء. لقد تولى شريح منصب القضاء في الكوفة من 50 إلى 60 عاماً، وكان من رجال الدين الذين تكلموا ببعض الأمور، وأصدروا الفتأوى، وقاموا ببعض التصرفات ضد الحكومة الإسلامية تزلفاً لحكومة معأوية. ولم يتمكن امير المؤمنين (عليه السلام) في خلافته من عزله، إذ لم يسمح له رجاله بذلك، وفرضوه على حكومة العدل بحجة كون الشيخين قد ولوه ذلك، وعزله مخالفه لهما. غاية الأمر أن الامام (عليه السلام) لم يسمح له بالقضاء بخلاف القانون.

القضاء للفقيه العادل

يستفاد من الرواية أن تولي منصب القضاء هو إما للنبي (صلی الله عليه وآله وسلم)أو للوصي، ولا خلاف في أن الفقهاء العدول منصوبون للقضاء بتعيين من الائمة (عليه السلام) وأن القضاء من مناصبهم، وذلك بخلاف مسألة "الولاية" التي يرى البعض مثل المرحوم النراقي ومن المتأخرين المرحوم النائيني أن جميع المناصب والشؤون الاعتبارية التي للامام ثابتة للفقيه(6) بينما البعض الآخر لا يرى ذلك. لكن لا اشكال في كون منصب القضاء للفقهاء، والمسألة تقريباً من الواضحات.
.وحيث أن الفقهاء لا يمتلكون مقام النبوة، ولاشك في أنهم ليسوا مصداق "الشقي" فيجب أن نقول بالضرورة أنهم أوصياء، أي خلفاء الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم).
نعم لم يتمسك بمثل هذه الروايات لكونهم يستفيدون من وصي النبي في المرتبة الأولى من الوصي غالباً. ولكن الحق أن دائرة مفهوم "وصي النبي" فيها توسعة، وتشمل الفقهاء أيضاً. نعم الوصي المباشر هو امير المؤمنين (عليه السلام) ومن بعده الأئمة (عليه السلام) حيث قد أحيلت أمور الناس اليهم.
ولا يتصور أن منصب الحكومة أو القضاء قد كان شأنيّاً بالنسبة للأئمة (عليه السلام). لقد كانت الإمارة بالنسبة لهم مهمة لكونها تمكنهم من اقامة حكومة العدل، وتطبيق العدالة الاجتماعية ونشرها بين الناس فحسب، وإلا فإن المقامات المعنوية للائمة (عليه السلام) هي فوق ادراك البشر، ولا تتوقف على النصب والتعيين. إذ حتى لو لم يجعل النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)أمير المؤمنين وصيّاً له، فان مقامات الإمام المعنوية محفوظة. فليس مقام الحكومة والمنصب هو الذي يمنح الإنسان الشأن والمرتبة المعنوية، وانما المقام المعنوي هو الذي يؤهل الانسان للحكومة والمناصب الاجتماعية.
وعلى أية حال فنستنتج من الرواية أن الفقهاء هم أوصياء الدرجة الثانية للرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم)وأن الأمور التي أوكلت للأئمة (عليه السلام) من جانب الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)ثابتة لهم أيضاً، ويجب أن يقوموا بجميع أعمال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)كما قام بها أمير المؤمنين (عليه السلام).والرواية الاخرى التي هي من أدلة المطلب أو مؤيداته، وهي أفضل من الرواية الأولى من ناحية السند والدلالة رويت من طريق الكليني، وهي من هذا الطريق ضعيفة، لكن الصدوق رواها إلى سليمان بن خالد وهو طريق معتبر وصحيح. والرواية بهذا النحو:
عن عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عبس، عن ابي عبدالله المؤمن، عن ابن مُسكان، عن سليمان بن خالد، عن ابي عبدالله (عليه السلام) قال: اتقوا الحكومة انما هي للامام العالم بالقضاء العادل في المسلمين، لنبي (كنبي) أو وصي نبي(7).
تلاحظ هنا أن من يريد ان يحكم (يقضي) فيجب أن يكون أولاً: إماماً. والامام هنا بالمعنى اللغوي الذي هو الرئيس والقائد، لا بالمعنى الاصطلاحي. ولذا اعتبر النبي إماماً أيضاً. ولو كان المراد الامام بالمعنى الاصطلاحي لكان التقييد "بالعالم" "والعادل" تقييداً بأمر زائد.
أن يكون عالماً بالقضاء. فلو كان إماماً دون أن يكون على علم بالقضاء، أي لا يملك الاطلاع على قوانين القضاء ومبادئه؛ فلا حق له في ممارسة القضاء.
فالقضاء اذن هو لمن يمتلك هذه الشروط الثلاثة (اي الرئاسة والعلم والعدالة). ثم يقول (عليه السلام) ان هذه الشروط لا تنطبق إلا على نبي أو وصي نبي.
لقد ذكرت سابقاً أن منصب القضاء هو للفقيه العادل، وهذا الأمر من ضروريات الفقه، ولا خلاف فيه. فيجب أن نرى الآن أن شروط القضأوة موجودة في الفقيه أم لا. ومن الطبيعي أن المقصود هو الفقيه العادل، لا كل فقيه. الفقيه بالطبع عالم بالقضاء، لأن الفقيه لا يطلق على الشخص الذي يكون عالماً بقوانين ومباديء القضاء الإسلامية فقط، بل الذي يكون عالماً بالعقائد والقوانين والأنظمة والأخلاق أي الذي يكون خبيراً بالدين بكل ما للكلمة من معنى. وعندما يكون الفقيه عادلاً، فقد حاز شرطين، والشرط الآخر هو أن يكون إماماً، أي رئيساً. وقد قلنا أن الفقيه العادل يمتلك مقام الإمامة والرئاسة لأجل ممارسة القضاء، وذلك بحسب تعيين الإمام (عليه السلام).
وقد حصر عندها الامام (عليه السلام) وجود هذه الشروط في نبي أو وصي نبي. وبما أن الفقهاء ليسوا أنبياء، فهم اذن أوصياء للنبي أي خلفاؤه. بناءً على هذا يتضح ذلك المجهول من هذا المعلوم، فيكون الفقيه وصياً للرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم)ويكون في عصر الغيبة إمام المسلمين ورئيس الأمة، ويجب أن يكون هو القاضي، ولا حق لغيره في القضأوة والحكم.
لمن الرجوع في الحوادث الاجتماعية المستجدةالرواية الثالثة هي التوقيع الذي استدل به. ونحن نطرح كيفية الاستدلال: في كتاب اكمال الدين واتمام النعمةعن محمد بن محمد بن عصام، عن محمد بن يعقوب، عن إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل اشكلت عليَّ. فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عليه السلام) "اما ما سألت عنه أرشدك الله وثبَّتك (إلى ان قال) : أما الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله. وأما محمد بن عثمان العمري فرضي الله عنه وعن أبيه فانه ثقتي، وكتابه كتابي"(8).
ليس المقصود "بالحوادث الواقعة" المذكورة في هذه الرواية المسائل والأحكام الشرعية، فلا يريد الكتاب (السائل) ان يسأل ما العمل حول الأحكام المستجدة، لأن هذا الموضوع كان من الواضحات في مذهب الشيعة، وهناك روايات متواترة على لزوم الرجوع في المسائل إلى الفقهاء .
وقد كانوا في زمان الأئمة (عليه السلام) يرجعون للفقهاء ويسألونهم. فمن يكون في زمان صاحب الامر (عليه السلام) وله علاقة بالنواب الاربعة ويكتب الرسائل للامام ويتلقى الجواب، يعرف لمن يجب عليه الرجوع لأجل الاطلاع على الأحكام.
فالمقصود "بالحوادث الواقعة" هي الحوادث الاجتماعية المستجدة والمشاكل التي تواجه المسلمين. كان سؤاله بشكل عام، وبنحو مموَّه انه: نحن الآن لا نستطيع الوصول إليك، فماذا يجب أن نفعل تجاه المستجدات الاجتماعية؟ وما هو التكليف؟ أو أنه ذكر بعض الحوادث وسأل أنه: لمن نرجع في هذه الحوادث؟ والذي يبدو في النظر أنه قد سأل بشكل عام، والامام أجابه طبق السؤال انه في الحوادث والمشاكل ارجعوا إلى رواة أحاديثنا ـ أي الفقهاء ـ فهؤلاء حجتي عليكم وأنا حجة الله عليكم.
القاضي يقضي ولا يحكم بكل معنى الكلمة، وإنما هو حاكم يحكم من جهة من الجهات، وذلك لأنه إنما يصدر الحكم القضائي فقط لا التنفيذي. كما أن القضاة في أشكال الحكم في القرون المتأخرة يشكلون إحدى السلطات الثلاث الحاكمة، لا جميع الحاكمين، والسلطتان الباقيتان هما مجلس الوزراء (السلطة التنفيذية) ومجلس النواب (مجلس التخطيط والتشريع). فالقضاء أحد أقسام الحكومة، وواحد من مسؤولياتها، وتشمل القاضي وجميع الحكام.
وعندما يتقرر أن جميع الأمور الدينية هي عبارة عن "امانة" الهية، وهذه الأمانة يجب أن ترد إلى أهلها، فإحدى هذه الأمور: الحكومة. وبمقتضى الآية الشريفة يجب أن يكون كل أمر من أمور الحكومة طبق موازين العدالة، أي طبق مباني قانون الإسلام وحكم الشرع. فعلى القاضي ألاَّ يحكم بالباطل، أي لا يصدر حكماً مبنيّاً على قانون محرم غير إسلامي، يكون شيء من قواعد حكمه، أو القانون الذي يحكم طبقاً له غير إسلامي، والذين يقومون بعملية التخطيط في المجلس إذا ارادوا التخطيط للوضع المالي في البلاد، فلتكون الضرائب الخراجية التي يضعونها على مزارعي الاملاك العامة محددة بنحو عادل، ولا يتكون بنحو يعجزهم.
إذ ثقل الضرائب يؤدي إلى القضاء عليهم وخراب الاملاك والزراعة. وإذا ارادت السلطة التنفيذية تنفيذ الأحكام القضائية وإقامة الحدود مثلاً، فيجب ألا يتجأوزوا القانون، فلا يضربوا المذنب سوطاً زيادة عن الحد ولا يهينوه. أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد ان يقطع ايدي اثنين من اللصوص يقدم لهم من العطف والمحبة والضيافة ما يجعلهما من مادحيه(9)
وعندما يسمع بأن جيش معأوية قد انتزع خلخالاً من معصم امرأة ذمِّية يبلغ به حد الانزعاج والأسى إلى أن يقول في خطبته: "فلو أن مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً بل كان به عندي جديراً" ومع هذه العاطفة نراه يحمل السيف أحياناً ويقتلع المفسدين بكل شدة وقوة.
فالحاكم على المسلمين أو على المجتمع البشري يجب أن يلاحظ دوما الجهات والمصالح العامة، وأن يعرض عن ملاحظة الجهات والعواطف الشخصية. لذا قضى الإسلام على كثير من الاشخاص لأجل مصلحة المجتمع والبشرية، وقطع جذور الكثير من الجهات لأنها كانت مصدر فساد ومضرة للمجتمع. قام رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)بالقضاء على يهود "بني قريظة" لأنهم كانوا جماعة مضرة، وتقوم بايجاد الفساد في المجتمع الإسلامي، وتضر بالإسلام وبالحكومة الإسلامية. وفي الاساس فإن هاتين الصفتين من صفات المؤمنين: أن ينفذ العدالة بكل جرأة وشدة في موضعها ولا يبدي أية عاطفة. وفي مورد العطف يبدي كل المحبة والشفقة. ويكون "مأمناً" للمجتمع، يعيش المسلم وغير المسلم في ظل حكومته في أمن وطمأنينة وراحة بال دونما خوف. إن سبب خوف الناس من هؤلاء الحكام هو أن حكوماتهم ليست طبق القواعد والقوانين، وإنما هي فرعونية.
وبعد انتصار المسلمين قام النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)بمحاصرتهم، فرضوا بالتسليم لحكم سعد بن معاذ. فحكم عليهم بقتل مقاتليهم، وأسر نسائهم واطفالهم، وتقسيم أموالهم بين المسلمين.(10).
لكن في حكومة شخص كأمير المؤمنين (عليه السلام) في الحكومة الإسلامية لا خوف إلاّ للخائن والظالم والمعتدي، أما عامة الناس فلا معنى للخوف بالنسبة لهم.
ويقول تعالى في الآية الثانية: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم...}.
ورد في الرواية أن الآية الأولى {أن تردوا الأمانات إلى أهلها} تتعلق بالأئمة (عليه السلام) وآية الحكم بالعدل {واذا حكمتم بين الناس} متعلقة بالأمراء، وآية {اطيعوا الله} هي خطاب للمجتمع الإسلامي(11) فتأمرهم أن يطيعوا الله ورسوله (صلی الله عليه وآله وسلم)وأولي الأمر، أي الأئمة، ويتبعوهم في الأحكام الالهية. فيتبعوهم في تعاليمهم، ويطيعون أحكامهم الحكومية.
لقد ذكرت أن إطاعة أمر الله تعالى غير طاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)فجميع العباديات وغير العباديات (من أحكام الشرع الالهي) هي أوامر الله عز وجل. فرسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)ليس له أي أمر في باب الصلاة. وإذا ألجأ الناس إلى الصلاة فهو إنما ينفذ حكم الله. ونحن أيضاً عندما نصلي، إنما نطيع أمر الله تعالى.
بينما أوامر الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم)هي تلك التي تكون صادرة عنه، وتكون أمراً حكومياً. كأمره مثلاً بالالتحاق بجيش أسامة، أو بالمرابطة في الثغور، أو بجمع الضرائب بشكل معين، أو بمعاشرة الناس بنحو معين ... فهذه أوامر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم). لقد الزمنا الله تعالى أن نطيع الرسول الأكرم، كا أمرنا أيضاً بطاعة "أولى الامر" والمراد منهم بحسب ضرورة مذهبنا: الأئمة (عليه السلام)، فطاعة أولي الأمر التي تكون في الأحكام والأوامر الحكومية، غير طاعة الله أيضاً. نعم حيث أن الله أمرنا أن نطيع الرسول وأولي الأمر، فمن هذا الباب تكون اطاعتنا لهم إطاعة لله في الحقيقة.
التنازع الذي يحصل بين الناس على نوعين: الأول أن تختلف جماعتان أو شخصان على موضوع ما، فيدعي احدهم مالاً على الآخر مثلاً، بينما ينكر الآخر، ويحتاج الموضوع إلى اثبات شرعي أو عرفي. ففي هذا المورد يجب الرجوع إلى القضاة حيث يقوم القاضي بالتحقيق في الموضوع والحكم فيه. فهذه دعأوي حقوقية.
والنوع الثاني أن لا يكون اختلاف في البين، وانما تكون المسألة ظلم واعتداء، كأن يأخذ أحد السوقة مال شخص من الاشخاص بالقوة، أو يأكل مال الناس، أو يدخل لص إلى بيت أحد الأشخاص، ويأخذ ماله. ففي هذه الموارد ليس القاضي هو المرجع والمسؤول، وانما هو المدعي العام. إذ في هذه الموارد التي هي موارد جزائية ـ لا حقوقية ـ وأحياناً تكون جزائية وحقوقية معا، فالذي يشرع بالعمل ابتداءً هو المدعي العام الذي يقوم بالمحافظة على الأحكام والقوانين، ويُعد المدافع عن المجتمع. ومن ثم يصدر طلباً بمعاقبة المذنب، وعندما يرفع للقاضي يحكم عليه. وهذه الأحكام ـ سواء كانت حقوقية أو جزائية ـ تنفذ بواسطة مجموعة اخرى من الحكام الذين هم السلطة التنفيذية.
يقول القرآن الكريم: {واذا تنازعتم} ففي أي أمرٍ تنازعون فيه، فالمرجع في الأحكام هو الله تعالى، وفي التنفيذ رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم). فالرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم)يجب أن يأخذ أحكام الله وينفذها، إذا كان الموضوع موضوع اختلاف، فالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)يتدخل بصفته قاضياً ويقوم بالحكم والقضأوة. واذا كانت نزاعات اخرى من قبيل: أكل الحق والتسلط، فالمرجع هو رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)أيضاً. وهو باعتباره رئيس الدولة الإسلامية ملزم بالنظر في الشكأوي، فيرسل الشرطة، ويأخذ الحق ويرده إلى أصحابه، فالذي يجب أن يعلم هو أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)هو المرجع في جميع الأمور، وكذلك الإئمة (عليه السلام). واطاعة الأئمة (عليه السلام) اطاعة للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)أيضاً.والخلاصة: أن الآيات الأولى {إذا حكمتم بين الناس} والثانية {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} وآية {فإن تنازعتم في شيء} تتحدث عما هو أعم من الحكومة والقضاء، فلا اختصاص لها بباب القضاء. هذا بغض النظر عن كون بعض الآيات لها ظهور في الحكومة بالمفهوم الاجرائي.
ويقول تعالى في الآية التالية: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به...}.
اذا لم نقل أن المراد من الطاغوت خصوص حكومات الجور والسلطات غير الشرعية بشكل عام، والتي قد طغت وأقامت حكومة مقابل الحكومة الإلهية، فيجب أن نقول أنه أعم من القضاة والحكام. إذ أن الرجوع في المسائل القضائية يكون غالباً إلى القضاة، وينفذ حكم القضاء السلطة التنفيذية التي تمثل الحاكم عادة.
فحكومات الجور سواء القضاة، أم المنفذون، أم غيرهم من المسؤولين كلهم "طاغوت" لأنهم عصوا حكم الله، وطغوا بالنسبة له. فوضعوا القوانين حسب أهوائهم، وقاموا بتنفيذها والقضاء وفقها. وقد امرنا الله تعالى أن نكفر بهم، أي أن نعصي أوامرهم وأحكامهم. ومن البديهي أن ذلك يستتبع مسؤوليات ثقيلة يجب السعي للقيام بها بحسب الوسع والإمكان.
المصادر :
من کتاب الحكومة الإسلامية / الإمام الخميني (قدس سره)
1- سورة الحديد، الآية 25.
2- سورة الانفال، الآية 41.
3- سوره التوبة، الآية 105.
4- سورة النساء، الآية 59.
5- وسائل الشيعة، ج18، ص6و7، كتاب القضاء، الباب 53، الحديث 2.
6- عوائد الايام، ص187 ـ 188. ومنية الطالب في حاشية المكاسب، ج2، ص325 ـ 327
7- وسائل الشيعة، ج18، ص7، كتاب القضاء، الباب 3، الحديث 3. ومن لا يحضره الفقيه، ج3، ص4، الباب 3،
8- كمال الدين، ج2، ص484، باب التوقيعات، الحديث 4.
9- فروع الكافي، ج2، ص264، الحديث 22. ووسائل الشيعة، ج18، ص528، الباب 30 الحديث 15. وبحار الانوار، ج4 ص 281. الباب 297، الحديث 44.،
10- السيرة النبوية لابن هشام، ج3 ـ 4، ص233 ـ 246. وتاريخ الطبري، ج2، ص245
11- اصول الكافي، ج1، ص276، كتاب الحجة


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.