تفسير القرآن هو بيان معاني الآيات القرآنيّة والكشف عن مقاصدها ومداليلها، بالعقل والقرآن والروايات الشريفة، وللتفسير شروط خاصة به وهي الأسس والمباني الفكريّة والعقائديّة الّتي لا بدّ أن يقوم عليها التفسير من أجل أن يكون تفسيراً صحيحاً للقرآن الكريم.وهنا عدّة مسائل:
الأولى: الذهنيّة الإسلاميّة:
لا بدّ للمفسّر الّذي يريد أن يفسّر القرآن الكريم أن يفسّره بـ (ذهنيّة إسلاميّة). ومعنى ذلك أن يكون لدى هذا المفسّر مجموعة من التصوّرات الأساسيّة يعتمد عليها الإسلام، وترتبط بالقرآن الكريم وتشكّل الإطار العامّ للتفسير, الّذي من خلاله يتمكّن المفسّر من الوصول إلى نتائج صحيحة في عمله التفسيريّ. فيكون تصوّره للقرآن أنّه وحي إلهيّ، وأنّ نسبته هي إلى الله سبحانه وتعالى، وأنّ القرآن ليس نتاجاً وجهداً بشريّاً، ومن خلال هذا وحده يتمكّن من الوصول إلى نتائج صحيحة في تفسيره للقرآن الكريم.الثانية: التصوّر العامّ عن القرآن:
بأن يكون لدى المفسّر تصوّر عامّ عن كيفيّة نزول القرآن والأسلوب الّذي اتّبعه في (عمليّة التغيير) ومنهجه في طرح القضايا والأحداث من قبيل أن يعرف المفسّر (إجمالاً) أنّ في القرآن الكريم ناسخاً ومنسوخاً، فإنّ هذه الفكرة ذات أثر كبير في فهم القرآن وإمكانيّة تفسير بعضه ببعض.
وأن ينظر إلى القرآن الكريم على أنّه يمثّل وبمجموعه نصّاً واحداً، وأن بعضه يشكّل قرينة على بعضه الآخر، ففيه "المطلق والمقيّد" وفيه "المجمل والمبيّّن" وفيه "المحكم والمتشابه" ، وأنّ القرآن الكريم وإن نزل بشكل تدريجيّ وخلال ثلاث وعشرين سنة، إلّا أنّ هناك قرائن عديدة تدلّ على أنّ هذا الشيء الّذي نزل بشكل تدريجيّ يشكّل وبمجموعه قضيّة واحدة وكلاماً واحداً، وأنّ بعضه يكمل الآخر ويوضحه. فقد أكّد أئمّة أهل البيت عليه السلام كثيراً على أهميّة هذا الموضوع في تفسير القرآن الكريم ووجّهوا انتقاداً شديداً لمجموعة من المفسّرين الّذين كانوا يتعاملون مع القرآن الكريم من دون الالتفات إلى هذه الرؤية العامّة للقرآن.
فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في حديث احتجاجه على الصوفية لمّا احتجّوا عليه بآيات من القرآن في الإيثار والزهد قال: "ألكم علم بناسخ القرآن ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه الّذي في مثله ضلّ من ضلّ، وهلك ومن هلك.
من هذه الأمّة؟ قالوا: أو بعضه فأمّا كلّه فلا. فقال لهم: فمن ههنا أُتيتم"3. وكذلك أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - إلى أن قال: - فبئس ما ذهبتم إليه وحملتم الناس عليه من الجهل بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم وأحاديثه الّتي يصدّقها الكتاب المنزل وردّكم إيّاها لجهالتكم وترككم النظر في غريب القرآن من التفسير والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والأمر والنهي - إلى أن قال عليه السلام: - دعوا عنكم ما اشتبه عليكم ممّا لا علم لكم به، وردّوا العلم إلى أهله تُؤجروا وتُعذروا عند الله، وكونوا في طلب ناسخ القرآن من منسوخه، ومحكمه من متشابهه، وما أحلّ الله فيه ممّا حرّم، فإنّه أقرب لكم من الله، وأبعد لكم من الجهل، دعوا الجهالة لأهلها، فإنّ أهل الجهل كثير، وأهل العلم قليل، وقد قال الله: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾"(1).
الثالثة: العقيدة الصحيحة:
بأن تكون المباني العقائديّة للمفسّر مبانٍ صحيحة. والمقصود من العقيدة الصحيحة هي تلك العقيدة الّتي تنتهي في سلسلة مراتبها وارتباطاتها واستنباطها إلى القرآن الكريم نفسه. فتصبح هذه العقيدة - والّتي هي قرينة على فهم المضامين القرآنيّة - نابعة من القرآن الكريم ذاته، ومن ثَمّ لا نخرج بالتفسير عن حدود نفس القرآن الكريم.الرابعة: المعرفة باللغة العربيّة الفصحى وقواعدها:
يقول تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾(2). وهذا أمر مفروغ منه إذ لا يمكن لمن يريد أن يخوض غمار تفسير آي القرآن أن يكون جاهلاً باللّغة العربية وفصاحتها وبلاغتها وقواعدها الإعرابيّة.
تطوّر علم التفسير
بدأ التفسير للآيات وبيان معاني ألفاظ القرآن الكريم منذ عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فكان هو أوّل من أوضح مقاصده. وبعد أن ارتحل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، رجعت الشيعة إلى أهل بيته لما مرّ من حجيّة أقوالهم ولم يركنوا إلى آراء الصحابة والتابعين الّذين اعتمد أقوالهم بقيّة المسلمين، إلّا ما ثبت أنّه حديث نبويّ.فكانت أوائل التفاسير عبارة عن أحاديث مأثورة عن النبيّ وأهل بيته ثمّ تطوّرت إلى أن أصبحت التفاسير تحوي علوماً عديدة.
وما بأيدينا من تفاسير شاهد حيّ على اتّساع أنماط التفسير وتشعّب علومه.
مناهج التفسير
ظهرت مناهج متعدّدة في تفسير القرآن الكريم عند المسلمين عامّة, نتيجة التحوّلات الفكريّة الّتي شهدتها الأجيال اللاحقة ابتداءاً من القرن الثاني الهجريّ، وذلك مع شيوع المباحث الكلامية وانتشار الفلسفة وعلم التصوّف..1- منهج التفسير التجزيئيّ:
"وهو المنهج الّذي يتناول المفسّر ضمن إطاره القرآن الكريم آية فآية وفقاً لتسلسل تدوين الآيات في المصحف الشريف، ويفسّره بما يؤمن به من أدوات ووسائل للتفسير من الظهور أو المأثور من الأحاديث أو بلحاظ الآيات الأخرى الّتي تشترك مع تلك الآية في مصطلح أو مفهوم، وبالقدر الّذي يلقي ضوءاً على مدلول القطعة القرآنيّة الّتي يراد تفسيرها والكشف عن مدلولها اللفظيّ، مع أخذ السياق الّذي وقعت تلك القطعة ضمنه بعين الاعتبار في كلّ تلك الحالات. فالهدف في كلّ خطوة من هذا التفسير هو فهم مدلول هذا المقطع أو هذه الآية الّتي يواجهها المفسّر بكلّ الوسائل الممكنة، أي أنّ الهدف (هدف تجزيئيّ) لأنّه يقف دائماً عند حدود فهم هذا الجزء أو ذاك من النصّ القرآنيّ ولا يتجاوز ذلك غالباً"(3).2- منهج التفسير الموضوعيّ:
"وهو المنهج الّذي(...) يحاول (المفسّر)القيام بالدراسة القرآنيّة لموضوع من موضوعات القرآن العقائديّة أو الاجتماعيّة، كعقيدة التوحيد، أو النبوّة، أو سنن التأريخ في القرآن... ويستهدف التفسير الموضوعيّ من القيام بهذه الدراسات تحديد موقف نظريّ للقرآن الكريم، ومن ثمّ للرسالة الإسلاميّة من ذلك الموضوع"(4).معاني الموضوعيّة :
ومن أجل أن يتّضح موضوع البحث ومركز الاختلاف لا بدّ أن نفهم مصطلح (الموضوعيّة) فإنّ هناك ثلاثة معان لمصطلح (الموضوعيّة) ذكرها الشهيد الصدررحمه الله، وهي:أوّلاً: (الموضوعيّة) في مقابل (الذاتيّة) و (التحيّز). والموضوعيّة بهذا المعنى عبارة عن الأمانة والاستقامة في البحث والتمسّك بالأساليب العلميّة المعتمدة على الحقائق الواقعيّة في نفس الأمر والواقع، دون أن يتأثّر الباحث بأحاسيسه ومتبنّياته الذاتيّة ولا أن يكون متحيّزاً في الأحكام والنتائج الّتي يتوصّل إليها. وهذه (الموضوعيّة) أمر صحيح ومفترض في كلا المنهجين:(التجزيئيّ) و (الموضوعيّ) ولا اختصاص لأحدهما بها.
ثانياً: (الموضوعيّة) بمعنى أن يبدأ في البحث من (الموضوع)، الّذي هو (الواقع الخارجيّ) ويعود إلى (القرآن الكريم) لمعرفة الموقف تجاه الموضوع الخارجيّ. "فيركّز المفسّر - في منهج التفسير الموضوعيّ - نظره على موضوع من موضوعات الحياة العقائديّة أو الاجتماعيّة أو الكونيّة ويستوعب ما أثارته تجارب الفكر الإنسانيّ حول ذلك الموضوع من مشاكل، وما قدّمه الفكر الإنسانيّ من حلول وما طرحه التطبيق التأريخيّ من أسئلة ومن نقاط فراغ، ثمّ يأخذ النصّ القرآنيّ... ويبدأ معه حواراً، فالمفسّر يسأل والقرآن يجيب، وهو يستهدف من ذلك أن يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح". "وقد يسمّى هذا المنهج أيضاً بالمنهج (التوحيديّ) باعتبار أنّه يوحّد بين (التجربة البشريّة) و (القرآن الكريم) لا بمعنى أنّه يحمل التجربة البشريّة على القرآن، بل بمعنى أنّه يوحّد بينهما في سياق واحد، لكي يستخرج نتيجة هذا السياق المفهوم القرآنيّ الّذي يمكن أن يحدّد موقف الإسلام تجاه هذه التجربة أو المقولة الفكريّة".
ثالثاً: وقد يراد من (الموضوعيّة) ما يُنسب إلى الموضوع، حيث يختار المفسّر موضوعاً معيّناً ثمّ يجمع الآيات الّتي تشترك في ذلك الموضوع فيفسّرها. "ويمكن أن يسمّى مثل هذا المنهج منهجاً توحيديّاً أيضاً باعتبار أنّه يوحّد بين هذه الآيات ضمن مركب نظريّ واحد".
ولا شكّ أنّ المعنى الأوّل ليس موضوع البحث إذ لا يختلف التفسير الموضوعيّ عن التفسير التجزيئيّ في ضرورة توفّر هذا الوصف فيه، ويبقى عندنا المعنى الثاني والثالث.
طرائق التفسير
لا بدّ للمفسّر في استكشاف مراد الله تعالى من اتّباع ظواهر الكتاب أو ما حكم به العقل الفطريّ الصحيح، أو ما ثبت عن المعصوم من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو الإمام عليه السلام. وهذه الأمور الثلاثة هي أصول التفسير ومداركه.ظواهر الكتاب
والمراد من ظاهر القرآن ما يفهمه العرف العام العارف باللّغة العربيّة الفصيحة من اللّفظ، ولم يقم على خلافه قرينة عقليّة أو نقليّة معتبرة، فالقرآن نزل بلسان يسير واضح ومفهوم، وخاطب الناس بالطريقة المألوفة، ولذا عبّر أقواله وبيانه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾(5).وأمّا الإمام فلأنّه أحد الثقلين اللّذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتمسّك بهما، والأئمّة كما قال الصادق عليه السلام: "ولاة أمر الله، وخزنة علم الله، وعيبة وحي الله"(6).
كما أنّ في القرآن قواعد كُليّة ومفاهيم عامّة لا نفهم جزئيّاتها وتفاصيلها وحدودها إلّا من خلال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والعترة عليهم السلام وهذا ما يعبّر عنه بالتبيين.
قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾(7).
وذلك من قبيل قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾.
فيأتي بيان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "صلّوا كما رأيتموني أصلّي".
العقل القطعي
فالآيات القرآنيّة الّتي ينافي ظهورها الابتدائيّ أحكام العقل القطعيّة لا بدّ من حملها على معنى يتلاءم مع تلك الأحكام، فالعقل يقطع بوجود الإله بعد التفكّر والتدبّر وعدم جواز الجسميّة له، فقوله تعالى: ﴿وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾(8)، وإن كان ظاهراً ابتداءً في كون الجائي هو الربّ نفسه، المستلزم للجسميّة الممتنعة في حقّه تعالى، إلّا أنّ حكم العقل القطعيّ باستحالة ذلك (لاستلزامه حاجة الخالق لجسم ما يجعله فقيراً محتاجاً كمخلوقاته) يوجب عدم انعقاد ظهور له في هذا المعنى وهو اتّصاف الربّ بالمجيء المادّي، وعليه فلا بدّ من أن يكون المقصود بالمجيء معنى آخر كحضور صفة من صفات الله تعالى.والمفسّر عندما يريد كشف مراد الله تعالى يتسلّح بهذه الأمور الثلاثة ويعتمد عليها فلا يجوز الاعتماد على الظنون والاستحسان، ولا على شيء لم يثبت أنّه حجّة من طريق العقل، أو من طريق الشرع، للنهي عن اتّباع الظنّ وحرمة إسناد شيء إلى الله بغير إذنه.
قال تعالى: ﴿قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ﴾(9). ﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾(10)
والروايات الناهية عن التفسير بالرأي مستفيضة من الطرفين(11).
قد ظهرت طرائق متعدّدة في تفسير القرآن الكريم عند المسلمين عامّة نتيجة التحوّلات الفكريّة الّتي شهدتها الأجيال اللاحقة ابتداءاً من القرن الثاني الهجريّ فصاعداً، وذلك مع شيوع المباحث الكلاميّة وانتشار الفلسفة وعلم التصوّف وما سبق ذلك واكتنفه من ميول سلفيّة ظاهريّة؛ كالتفسير بالمأثور والتفسير الفلسفيّ والتفسير الصوفيّ والتفسير الكلاميّ والتفسير البيانيّ والتفسير اللغويّ والتفسير التاريخيّ والتفسير العلميّ. ونحن ذاكرون لكم بعضاً من هذه الطرائق:
1- تفسير القرآن بالقرآن:
وهو يتمّ من خلال مقابلة الآية بالآية، فما أُجمل منها في مكان يتمّ تفسيره في مكان آخر.وكما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "وإنّ القرآن لم ينزل ليكذّب بعضه بعضاً ولكن نزل يصدّق بعضه بعضاً"(12).
والقرآن كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "يشهد بعضه على بعض وينطق بعضه ببعض"(13).
كما أنّ الأئمّة المعصومين عليه السلام كانوا يستعملون هذا الأسلوب في استدلالاتهم واحتجاجاتهم من قبيل ما ذكر في كتاب الكافي عن عليّ بن يقطين قال: سأل المهديّ(العباسيّ) أبا الحسن عليه السلام عن الخمر هل هي محرّمة في كتاب الله عزَّ وجلَّ فإنّ الناس إنّما يعرفون النهي عنها ولا يعرفون تحريمها؟ فقال له أبو الحسن عليه السلام: "بل هي محرّمة".
فقال: في أيّ موضع هي محرّمة في كتاب الله عزَّ وجلَّ يا أبا الحسن؟
فقال عليه السلام: قول الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾(14)
إلى أن قال عليه السلام: فأمَّا الإثم فإنّها الخمر بعينها، وقد قال الله تعالى في موضع آخر: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾(15).
فأمّا الإثم في كتاب الله فهي الخمر والميسر وإثمهما أكبر من نفعهما كما قال تعالى"(16).
2- التفسير الروائيّ:
وهو التفسير بالأحاديث الواردة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليه السلام. والأحاديث هذه تبلغ الآلاف من طريق الشيعة وفيها مقدار كبير من الأحاديث الّتي يمكن الاعتماد عليها. إلّا أنّ هناك آيات لم يرد فيها حديث أصلاً لا من طريق السنّة ولا من طريق الشيعة.وينبغي الالتفات إلى أنّه ربّما تشير الروايات إلى المصداق الأكمل في تفسير الآية وهذا لا يمنع من تفسير الآية بطريقة أخرى توافق ظاهرها. وقد اشتهر بينهم أنّ المورد لا يخصّص الوارد وذلك لأنّ القرآن يجري مجرى الليل والنهار والشمس والقمر، إلّا أن تقوم قرينة قطعيّة على أنّ آية معينة قد انحصرت في موردها كما في آية: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ﴾(17).
ومن التفاسير الّتي اتّبعت هذه المنهجيّة كتاب (نور الثقلين).
3- التفسير اللغويّ:
وهو تفسير مفردات القرآن واشتقاقاتها وأصولها، كتفسير (مجمع البيان) للشيخ الطبرسيّ.وقد تباينت توجّهات المفسّرين واختلفت الجهات الّتي احتجّوا بها، كالجهة البلاغيّة والفقهيّة والكلاميّة والفلسفيّة والأخلاقيّة.
القرآن مائدة لجميع الناس
القرآن الكريم كما تقدّم واضح وميسّر للفهم. وربما احتاج إلى تعليم بعض حدود الآية الّتي لم يذكرها الله في الكتاب فأوكلها إلى نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم وإلّا فإنّ القرآن في نفسه هو هدى ورحمة للعالمين، وكلّ من كان أصفى فطرةً وأكثر فكراً وتدبّراً فإنّه يحظى بفهم أكبر ويكون القرآن شفاءً ومصحّحاً للآراء والأفكار الّتي يحملها.قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾(18).
فالكلّ في معرض الاستفادة من القرآن الكريم، لذلك تعدّدت الخطابات لطوائف خاصّة كبني إسرائيل، أو المؤمنين، أو الكفّار، وفي بعض الآيات يخاطب عامّة الناس وبديهيّ أنّه لا يصحّ التكلّم بما لا يكون مفهوماً وواضحاً عندهم.
وأيضاً نجد حتّى المعارف العالية يبثّها القرآن بلغة يفهمها عامّة الناس ويلقيها بشكل محسوس أو ما يقرب منه.
وتبقى الحقائق المعنويّة وراء ستار الظواهر فتتجلّى حسب الأفهام ويدرك منها كلّ شخص بقدر عقله ومداركه. واحتواء القرآن على معانٍ دقيقة ومفاهيم رقيقة وذلك في مثل صفاته تعالى الجماليّة والجلاليّة، ومعرفة وجود الإنسان
وسرّ خِلقته، ومسائل من المبدأ والمعاد، كلّ ذلك جاء في القرآن في إشارات عابرة وفي ألفاظ وتعابير كنائيّة واستعارة ومجاز، فكان حلّها والكشف عن معانيها بحاجة إلى فقه ودراسة وتدبّر وإمعان نظر.
كما أنّ في القرآن إشارات إلى أحاديث غابرة وأمم خالية، إلى جنب عادات جاهليّة عارَضَها لم يبق منها سوى إشارات عابرة، ولولا الوقوف عليها لما أمكن فهم معاني تلكم الآيات.
هذا مضافاً إلى غرائب اللغة الّتي جاءت في القرآن على أفصحها وأبلغها، وإن كان فهمها صعباً على عامّة الناس لولا الشرح والبيان وغير ذلك من الأمور الّتي استوجبت تفسيراً، وكشفاً لما استتر ومزيداً من إمعان النظر.
إعداد النفس لحضور مائدة القرآن
تزكية النفس وتطهيرها من الأوساخ والأدران الخُلقيّة هو أهمّ شرط من شروط فهم القرآن، وأعظم هذه الأوساخ الأهواء النفسيّة، فما دام الإنسان أسيراً لأهوائه وغرائزه، فإنّه لا يستطيع أن يدرك القرآن الّذي هو نور، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره:"فالّذين يقفون خلف حجب عديدة لا يمكنهم أن يدركوا النور.. ما دام الإنسان لم يخرج من حجاب نفسه المظلم جدّاً، وطالما أنّه مُبتلى بالأهواء النفسيّة، وطالما أنّه مُبتلى بالعجب، طالما أنّه مُبتلى بالأمور الّتي أوجدها في باطن نفسه، وتلك الظلمات الّتي (بعضها فوق بعض) فإنّه لا يكون مؤهّلاً لانعكاس هذا النور الإلهيّ في قلبه"(19).
نعم، قد يتمكّن مثل هذا الإنسان من فهم بعض ظواهر الألفاظ، ولكنّه لن يصل إلى فهم مقاصده الأصليّة ومراميه الكلّيّة.
ما كان يُوصي أمير المؤمنين عليه السلام به عند القتال
عن عقيل الخزاعيّ أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان إذا حضر الحرب يُوصي للمسلمين بكلمات فيقول: تعاهدوا الصلاة وحافظوا عليها واستكثروا منها وتقرّبوا بها فإنّها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً. وقد علم ذلك الكفّار حين سُئلوا ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين﴾َ(20) وقد عرف حقّها من طرقها وأكرم بها من المؤمنين الّذين لا يشغلهم عنها زين متاع ولا قرّة عين من مال ولا ولد. يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاة﴾ِ(21)وكان رسول الله منصّباً لنفسه بعد البشرى له بالجنّة من ربّه، فقال عزَّ وجلَّ: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا..﴾(22) فكان يأمر بها أهله ويصبّر عليها نفسه. ثمّ إنّ الزكاة جُعلت مع الصلاة قُرباناً لأهل الإسلام على أهل الإسلام ومن لم يُعطها طيّب النفس بها يرجو بها من الثمن ما هو أفضل منها فإنّه جاهل بالسنّة، مغبون الأجر ضالّ العمر، طويل الندم بترك أمر الله عزَّ وجلَّ والرغبة عمّا عليه صالحوا عباد الله، يقول الله عزَّ وجلَّ:﴿ وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾(23) من الأمانة فقد خسر من ليس من أهلها وضلّ عمله، عرضت على السماوات المبنيّة والأرض المهاد والجبال المنصوبة، فلا أطول ولا أعرض ولا أعلى ولا أعظم لو امتنعن من طول أو عرض أو عظم أو قوّة أو عزّة امتنعن ولكن أشفقن من العقوبة ثمّ إنّ الجهاد أشرف الأعمال بعد الإسلام وهو قوام الدين والأجر فيه عظيم مع العزّة و المنعة وهو الكره فيه الحسنات والبشرى بالجنّة بعد الشهادة وبالرزق غداً عند الربّ والكرامة، يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا﴾(24)ثمّ إنّ الرعب والخوف من جهاد المستحقّ للجهاد والمتوازرين على الضلال ضلال في الدين وسلب للدنيا مع الذلّ والصَّغار، وفيه استيجاب النار بالفرار من الزحف عند حضرة القتال يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ﴾(25) فحافظوا على أمر الله عزَّ وجلَّ في هذه المواطن الّتي الصبر عليها كرم وسعادة ونجاة في الدنيا والآخرة من فظيع الهول والمخافة فإنّ الله عزَّ وجلَّ لا يعبأُ بما العباد مقترفون ليلهم ونهارهم، لطف به علماً، وكلّ ذلك في كتاب لا يضلّ ربّي ولا ينسى، فاصبروا وصابروا واسألوا النصر ووطّنوا أنفسكم على القتال واتّقوا الله عزَّ وجلَّ فإنّ ﴿ إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ (26)
المصادر :
1- سورة يوسف، الآية: 76، الكافي، ج5، ص70.
2- سورة يوسف، الآية: 2.
3- المدرسة القرآنيّة للسيّد الشهيد محمّد باقرالصدر قدس سره ، المحاضرة الأولى.
4- تفسير سورة الحمد، السيد محمد باقر الحكيم، ص 92.
5- سورة الحشر، الآية: 7.
6- الكافي، الكليني، ج1، ص192.
7- سورة النحل، الآية: 44.
8- سورة الفجر، الآية: 33.
9- سورة يونس، الآية: 59.
10- سورة الإسراء، الآية: 36.
11- البيان، ص397.
12- الدر المنثور، 8/2.
13- نهج البلاغة، الخطبة 131.
14- سورة الأعراف، الآية: 33.
15- سورة البقرة، الآية: 209.
16- الكافي، الكليني، ج6، ص406.
17- سورة المائدة، الآية: 55.
18- سورة يونس، الآية: 57.
19- القرآن في كلام الإمام الخميني قدس سره، ط4 آذار 2009م -1430هـ، ص24.
20- -إشارة إلى قول الله عزَّ وجلَّ في سورة المدثر آيات 42 إلى 46 .
21- سورة النور، الآية: 38.
22- سورة طه، الآية: 132، واصطبر أي داوم.
23- سورة النساء، الآية: 115 .
24- سورة آل عمران، الآية: 169.
25- سورة الأنفال، الآية: 15.
26- الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 36 – 38.