مظاهر العدل الإلهي في عالم الخلق

إنّ رفع صرح هذا البناء الشامخ دون الاستعانة بدعائم مرئيَّة يكشف عن تناغم دقيق في عالم الخلقة ، ولولاه لتداعت أركان العالم وانهارت ، وهذا النظام الرائع تقاسمته قوّتا الجاذبية والطاردة ( النابذة ) ، وفي ظلّ التعادل القائم بينهما انتظمت
Friday, April 22, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
مظاهر العدل الإلهي في عالم الخلق
 مظاهر العدل الإلهي في عالم الخلق

 






 

إنّ رفع صرح هذا البناء الشامخ دون الاستعانة بدعائم مرئيَّة يكشف عن تناغم دقيق في عالم الخلقة ، ولولاه لتداعت أركان العالم وانهارت ، وهذا النظام الرائع تقاسمته قوّتا الجاذبية والطاردة ( النابذة ) ، وفي ظلّ التعادل القائم بينهما انتظمت حركة النجوم والكواكب والمجرّات في مساراتها.
فالجاذبية قانون عام جار على جميع الأجسام في هذا العالم ، وهي تتناسب عكسياً مع الحدّ الفاصل بين الجسمين إذ تتعاظم كلما تضاءلت المسافة ، وتتضاءل كلما ازدادت الفاصلة ، فلو دارت رحى النظام الكوني الدقيق على قوة الجاذبية فقط لارتطمت الكواكب والنجوم بعضها مع بعض ولتداعى النظام السائد ، ولكن في ظل قانون الطرد يحصل التعادل المطلوب ، وقوة الطرد تلك تنشأ من الحركة الدورانية للأجسام.
ومهما يكن من أمر ففي ظل هاتين القوتين تبقى الملايين من المنظومات الشمسية والمجرّات معلّقة في الفضاء دون عَمَد ، وتحول دون سقوطها وفنائها ، وإلى هذه الحقيقة يشير القرآن الكريم ، ويقول : ( اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ). (1)
وتتضح دلالة الآية من خلال ملاحظة أمرين :
الأوّل : انّ قوله « ترونه » وصف ل‍ « عَمَد » وهي جمع عمود.
الثاني : انّ الضمير في « ترونها » يرجع إلى الأقرب الذي هو « عمد » لا إلى السماوات التي هي أبعد ، ومعنى الآية أنّه سبحانه رفع السماوات من دون أعمدة مرئية ، وهو لا ينفي العمود بتاتاً ، بل وإنّما ينفي العمود المرئي ، ولازم ذلك وجود العمد في رفع السماوات من دون أن يراها البشر ، وهذا هو المعنى الذي اختاره ابن عباس وغيره.
وهو الظاهر مما رواه الحسين بن خالد ، عن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام ، فإنّه عليه‌السلام قال في تفسير الآية : « أليس الله يقول : بغير عمد ترونها ؟ » فقلت : بلى ، قال :
« ثمَّ عَمَد لكن لا ترونها ».
ويؤيده ما روي عن الإمام علي عليه‌السلام ، انّه قال : « هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض ، مربوطة كلّ مدينة إلى عمود من نور ».
ورواه الطريحي أيضاً لكن قال : « عمودين من نور » مكان قوله « عمود من نور ». (2)
ولعل المراد من العمودين هما قوتا الجاذبية والطاردة.
إنّ الكتاب الكريم صاغ الحقيقة المكتشفة من قبل « نيوتن » ، بعبارة يسهل فهمها على عامة الناس ، وقال : ( بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ).
وقد أشار سبحانه في غير واحد من الآيات ، أنّه سبحانه هو الممسك للسماوات من الزوال ، وقال : ( إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا ). (3)
وكونه سبحانه هو المُمْسِك لا يمنع من وجود علل طبيعية حافظة لسقوط السماوات وزوالها ، فقد جرت سنّته سبحانه على تدبير العالم من خلال العلل الطبيعية التي هي من سننه سبحانه وجنوده الغيبية.
وأشار الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام في غير واحد من خطبه إلى خلقة الأرض ، وقال : « أرساها على غير قرار ، وأقامها بغير قوام ، ورفعها بغير دعائم ».
وعلى كلّ تقدير فالتوازن الموجود في خلق السماوات والأرض هو مظهر من مظاهر عدله في عالم الخلقة.
وليس رفع السماوات وإبداعها وتنظيم حركاتها هو الوحيد في كونه مظهراً لعدله سبحانه في التكوين ، بل إبداع الجبال وإيجادها مظهر آخر من مظاهر التوازن والتعادل في الخلقة.
يقول سبحانه : ( وَأَلْقَىٰ فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ).
وقال سبحانه : ( وَالجِبَالَ أَوْتَادًا ).
إنّ الرواسي التي استخدمها القرآن جمع « راسية » ، والمراد منها الأَنجَر التي هي مرساة السفينة ، فللجبال دور المرساة ، فكما أنّها تحول دون اضطراب السفينة وتقاذفها من قِبل أمواج البحر العاتية ، فهكذا الجبال لها دور في تنظيم حركة الأرض.
وإلى هذا الحقيقة يشير الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في بعض خطبه ، ويقول :
« وتّد بالصُّخُور مَيدان أَرضه ». (4)
وقال عليه‌السلام أيضاً : « وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها ». (5)
3. الحياة وتوازنها الدقيق
إنّ من مظاهر عدله سبحانه وجود الحياة في الأرض ، وهي رهن توفرالظروف المناسبة لها ، مثلاً انّ الفاصلة الدقيقة بين الشمس والأرض هيّأت أجواءً مناسبةً لنمو ورشد الخلايا ، وهذه ما كان لها أن تنمو لو طرأ على تلك الفاصلة أدنى تغيير. وهذا يرشدك إلى توازن دقيق للغاية بين السماء والأرض.
واعطف نظرك إلى النباتات والحيوانات ، فانّ حياة الحيوان رهن استنشاق غاز الأوكسجين (O2) الذي تُولّده النباتات ، وحياة النبات رهن استنشاق غاز ثاني أوكسيد الكاربون (CO2) الذي تُولّده الحيوانات من خلال تنفّسها ، فالتوازن الموجود بين الإنتاج والاستهلاك مهّد المناخ المناسب لحياة كلّ من النبات والحيوان ، فلو كانت الأرض محتضنة للحيوان فقط أو للنبات فقط لما قامت للحياة قائمة.
فالتوازن القائم بين الغازين على وجه البسيطة مظهر من مظاهر عدله سبحانه ، يقول سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ).
ويزخر عالم النباتات والحيوانات بعدد لا حصر له من هذا النوع من التوازن والتعادل ، وها نحن نذكر نموذجاً آخر.
كان الملاّحون يعانون من مرض تشقّق الجلد وسيلان الدم منه ، وسببه يعود إلى قلة الفيتامينات في أبدانهم ، إلى أن اكتشف أحد الأخصائيين في « مدغشقر » أنّ علاجه الوحيد هو تناول وجبات كافية من الليمون والنارنج ، ففيها كمّيات هائلة من تلك الفيتامينات ، وبذلك نجا الملاّحون من هذا المرض الذي كانوا يعانون منه.

مظاهر العدل الإلهي في عالم التشريع والجزاء

حاكية عن أنّه سبحانه قائم بأعباء القسط في جميع المجالات تكويناً وتشريعاً ، أمّا التكوين فقد وقفت على نماذج من التعادل الذي هو حجر الأساس لبقاء السماء والأرض واستقرار الحياة على وجه البسيطة.
بقي الكلام في مظاهر عدله في عالم التشريع ، ولنذكر نماذج من ذلك :
1. فرض سبحانه الصيام على كلّ مكلّف ، وقال : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ).
وفي الوقت نفسه استثنى المريض والمسافر ومن يصوم ببذل الجهد الكبير ، قال سبحانه : ( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ).
فأوجب على المريض والمسافر القيام بأعباء هذا التكليف بعد استعادة صحته أو رجوعه إلى الوطن ، كما أنّه اكتفى فيمن يصوم ببذل جهد كبير كالهرم ، بالتكفير وإطعام مسكين.
2. لا شكّ انّ في القصاص حياة لأُولي الألباب ، وفي المثل المعروف : « إنّ الدم لا يُغسّله إلا الدم » ، ومع ذلك كلّه فقد أجاز لوليِّ الدم أن يسلك طريقاً آخر وهو إبدال القصاص بالدية ، فقد شرع ذلك ، وقال : ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) فالإصرار على أحد الحكمين ربما يولِّد الحرج ، فخيّر وليَّ الدم بين القصاص وأخذ الدية حتى يتبع ما هو الأفضل والأصلح لتشفِّي القلوب واستقرار الصلح في المجتمع.
3. لا شكّ انّ الربا من أعظم الجرائم وأكبرها ، كيف وقد وصف المرابي بالمحارب ، وقال : ( فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ) ومع ذلك فإذا تاب المرابي من عمله فقد احترم ماله الذي اقترضه ، فعلى المقترض ردُّ رأس ماله فقط ، قال : ( وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ).
وفي الحقيقة هذه الفقرة أي ( لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) شعار كلّ مسلم في عامة المجالات وهو لا يَظلم ولا يتحمَّل الظلم.
4. حثَّ الناس على الإقراض وجعل أجره عشرة ، قال سبحانه : ( مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) وهو عام يعم كلّ حسنة ومنها الإقراض ، ومع ذلك كلّه فإذا عجز المقترض عن أداء قرضه وصار ذا عسرة أمر المقرض بالصبر حتى يستطيع المقترض من دفع دينه ، قال سبحانه : ( وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ).
5. يأمر سبحانه المقرض والمقترض أن يكتبا سنداً للدين ، وفي الوقت نفسه يأمر الكاتب أن يكتب بالعدل من دون تحيّز إلى واحد من الطرفين ، يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ).
6. يأمر سبحانه من عليه الحق أن يُملي كما هو عليه ، من دون نقيصة ولا زيادة ، يقول سبحانه : ( وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ).
7. كما يأمر إذا كان من عليه الحقّ سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع الإملاء فليقم مكانه وليُّه وليملل بالعدل ، يقول سبحانه : ( فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ).
وباختصار : تتجلى في هذه الآية التي هي أطول آية وردت في القرآن الكريم مظاهر عدله في التشريع مرة تلو مرة ، وللقارئ الكريم أن يستشف منها ما ذكرناه من المعاني.
8. الطهارة من الحدث أحد شرائط صحّة الصلاة والصوم والحجّ ، وتحصل عن طريق استعمال الماء بكيفية خاصة متقرباً فيها إلى الله ، ولكن ربما يكون استعمال الماء مضرّاً بصحّة المتوضئ أو موجباً لبطء برء مرضه ، إلى غير ذلك من الاعذار فأوجب سبحانه التيمّم بالصعيد بدل استعمال الماء ، وهذا يدل على مرونة الإسلام في تشريعه وتعاطفه مع فطرة الإنسان التي ترغب في العافية وتنضجر عن
كلّ ما يحول دونها ، قال سبحانه : ( وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ).
فقوله : ( مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ) يكشف اللثام عن وجه العدول من الطهارة المائية إلى الطهارة الترابية.
كما دلت الآيات القرآنية على استثنائه سبحانه طوائف ثلاث من الحضورفي ساحات الجهاد لأجل الحرج ، قال سبحانه : ( لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ ).
وفي آية أُخرى يُبيِّن بوضوح أنّ تشريعه خال من الحرج ، ويقول : ( مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ). فكلّ حكم يتضمن الحرج فهو مرفوض بحكم أنّه حرجي ، وقد أخبر سبحانه عن عدم تشريع الحكم الذي في امتثاله حرج.
9. لقد شملت العناية الإلهية الأُمةَ الإسلامية من بين سائر الأُمم برفع النسيان والخطأ عنهم وعدم المؤاخذة عليهما ، في حين كانت الأُمم السالفة مسؤولة عن خَطاها ونسيانها إذا كانت مقصِّرة في مبادئ الخطأ والنسيان ، يقول سبحانه :
( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ).
روى الكليني عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : « إنّ هذا الدين متين ، فاوغلوا فيه برفق ولا تكرهوا عبادة الله إلى عباد الله ، فتكونوا كالراكب المنبتِّ الَّذي لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقىٰ ». (6)
فما أروع هذا التشبيه حيث إنّ الراكب المنبتِّ وإن كان يعدو بفرسه أميالاً عديدة بغية الوصول إلى غايته ، ولكنه بفعله هذا يُنتج عكس المطلوب حيث إنّ المركوب يُعْييه التعبُ ولا يكون بمقدوره الاستمرار في العدو ، ويبقى هو في وسط الطريق لا يهتدي إلى بغيته ، فهو لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقىٰ.
فهكذا الدعوة إلى الشريعة إذا كانت مقرونة بالشدة والضعف تنتج عكس المطلوب حيث لا تجد لها أُذناً صاغية ، بل يخرج الناس منها أفواجاً. ولأجل ذلك صدع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسهولة شريعته ، وقال : « بعثت بالشريعة السهلة السمحة ».
10. دلّت الآيات القرآنية على أنّ التكليف على القدر المستطاع وقد أطبق عليه العقل والنقل ، إذ كيف يمكن تكليف الناس بأعمال ، كإدخال الشيء الكبير في الظرف الصغير ، من دون تغيّر في الظرف والمظروف ؟ أو التحليق في الهواء دون وسيلة ، إلى غير ذلك من الأُمور الممتنعة التي تدخل في نطاق التكليف بما لايُطاق ، حتى أنّ محقّقي العدلية ذهبوا إلى أنّ هذا النوع من التكليف المحال ، بمعنى أنّه لا ينقدح في ذهن الآمر ، الطلب والإرادة الجدية المتعلِّقة ببعث العاجز إلى المطلوب ، ولو تظاهر به فإنّما تظاهر بظاهر التكليف لا بواقعه.
فتكون النتيجة : انّ امتناع المكلف به يلازم امتناع نفس التكليف أيضاً ، يقول سبحانه : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ).
وقال في آية أُخرى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا ).
ومضمون كلتا الآيتين واحد ، وهو أنّ الله يكلّف الإنسان بقدر طاقته وقابليته.
هذه نماذج استعرضناها لإثبات أنّ التشريع الإسلامي يتمتّع بمرونة ، وأنّه مبنيٌّ على أساس العدل.
وفي الحقيقة انّ التشريع الإسلامي من مظاهر عدله في هذا المجال.

الأشاعرة والتكليف بما لا يطاق

ذهب لفيف من متكلّمي الإسلام ـ وللأسف الشديد ـ إلى جواز التكليف بما لا يطاق ، ولم يُصغوا لنداء العقل ولا الشرع ، بل أهالوا التراب على فطرتهم القاضية بعدم صحّة التكليف بما لا يطاق.
وقد اتَّخذوا ظواهر بعض الآيات ذريعة لعقيدتهم في هذا المجال ، وها نحن نستعرض تلك الآيات ونناقشها كي يتجلّى الحق.
1. ( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * أُولَٰئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ).
استدل الإمام أبو الحسن الأشعري ( 260 ـ 324 ه‍ ) على أنَّهم كانوا مكلَّفين بالسماع والإبصار ومع ذلك ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يُبصرون ، فدلّ على جواز التكليف بما لا يطاق.
وهذا الاستدلال يتبدَّد بالتوضيح التالي :
وهو أنَّهم وإن كانوا مأمورين مكلّفين بالسماع والإبصار ومع ذلك كانوا عاجزين عنهما لكن ذلك العجز لم يكن مقروناً بهم منذ بلوغهم وتكليفهم ، وإنّما أدّى بهم التمادي في المعصية إلى أن صاروا فاقدين للسمع والأبصار ، فقد سُلِبت عنهم هذه النعم بسوء اختيارهم نتيجة الذنوب التي اقترفوها ، فكان لهم قلوب لا يفقهون بها ، وآذان لا يسمعون بها ، يقول سبحانه : ( لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ).
إنّ التمادي في المعصية والإصرار عليها يترك انطباعات سيِّئة في القلوب على وجه يتجلّى الحسن سيّئاً والسيّء حسناً ، يقول سبحانه : ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ).
فالآية تصرح بأنّ اقتراف الذنوب وارتكاب المعاصي ينجم عنه التكذيب بآيات الله.
فتحصل من ذلك أنّ عدم استطاعتهم للسماع والإبصار كان نتيجة قطعية لأعمالهم السيئة ، كما يقول سبحانه : ( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ ).
2. ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ ).
استدلّ الإمام الأشعري بهذه الآية على جواز التكليف بما لا يطاق ، وقال :
فقد أمروا بالإعلام وهم لا يعلمون ذلك ولا يقدرون عليه.ولكن غاب عنه أنّ لصيغة الأمر معنى واحداً وهو إنشاء الطلب ، لكن الغايات من الإنشاء تختلف حسب اختلاف المقامات ، فتارة تكون الغاية من الإنشاء ، هي بعث المكلف نحو الفعل جداً ، وهذا هو الأمر الحقيقي الذي يُثاب فاعله ويُعاقب تاركه ، وتشترط فيه القدرة والاستطاعة ، وأُخرى تكون الغاية أُموراً غيره ، وعند ذلك لا ينتزع منه التكليف الجدي ، وذلك كالتعجيز في الآية السابقة ، وكالتسخير في قوله سبحانه : ( كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) والإهانة مثل قوله : ( ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) ، أو التمنّي مثل قول أمرئ القيس في معلّقته :
ألا أيُّها الليل الطويل ألا انجلي *** بصُبحٍ وما الإصباحُ مِنكَ بأمثلِ
إلى غير ذلك من الغايات والحوافز التي تدعو المتكلم إلى التعبير عن مقاصده بصيغة الأمر وذلك واضح لمن ألقى السمع وهو شهيد.
3. ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ).
استدلّ بها الشيخ الأشعري على مقصوده ، وقال : إذا جاز تكليفه إياهم في الآخرة بما لا يطيقون ، جاز ذلك في الدنيا.
والحقّ أنّ الإمام الأشعري وأتباعه لا سيما الفطاحل منهم أجلُّ من أن يجهلوا هدف الآية ومغزاها ، إذ ليست الدعوة إلى السجود فيها عن جدّ وإرادة حقيقة ، بل الغاية من الدعوة إيجاد الحسرة في قلوب المشركين التاركين للسجود حال استطاعتهم في الدنيا ، والآية بصدد بيان أنّهم في أوقات السلامة والعافية رفضوا الانصياع والامتثال ، وعند العجز ـ بعد ما كشف الغطاء عن أبصارهم ورأوا العذاب بأُمّ أعينهم ـ همّوا بالسجود ولكن أنّى لهم ذلك.
وإليك توضيح الآية بمقاطعها الثلاثة :
ألف : ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ) كناية عن اشتداد الأمر وتفاقمه ، لأنّ الإنسان عند الشدة يكشف عن ساقه ويخوض غمار الحوادث.
ب : ( وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ) لا طلباً وتكليفاً جدياً ، بل لازدياد الحسرة ، فلا يستطيعون ، إمّا لسلب السلامة عنهم ، أو لاستقرار ملكة الاستكبار في سرائرهم.
ج : ( وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ) والمعنى أنّهم لما دعوا إلى السجود في الدنيا امتنعوا عنه مع صحّة أبدانهم ، وهؤلاء يُدعون إلى السجود في الآخرة ولكن لا يستطيعون ، وما ذلك إلا لتزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرَّطوا.
4. ( وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ).
وقد استدل بها الشيخ الأشعري على ما يروم من جواز التكليف بما لا يطاق ، وقال : وقد أمر الله تعالى بالعدل ومع ذلك أخبر عن عدم الاستطاعة على أن يُعدل. (7)
أقول : لا شكّ أنّه سبحانه أمر من يتزوج بأكثر من واحدة بإجراء العدالة بينهنّ ، قال سبحانه : ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ) وفي الوقت نفسه صرَّح في آية أُخرى بأنَّ إجراء العدالة بينهنّ ، أمر غير مقدور ، ومع ذلك نهى عن التعلّق بواحدة منهن والإعراض عن الأُخرى حتى تُصبح كالمعلّقة لا متزوجة ولا مطلقة.
وبالتأمل في الآية يظهر بأنّ العدالة التي أمر بها غير العدالة التي أخبر عن عدم استطاعة المتزوج القيام بها ، فالمستطاع منها هو الذي يقدر عليه كلّ متزوج بأكثر من واحدة ، وهو العدالة في الملبس والمأكل والمسكن وغيرها من الحقوق الزوجية التي تقع على عاتق الزوج ويقوم بها بجوارحه ولا صلة لها بباطنه.
وأمّا غير المستطاع فهي المساواة في قسمة الحب بينهنّ لأنّ الباعث لها هو الوجدان والميل القلبي وهو ممّا لا يملكه المرء ولا يحيط به اختياره ، لأنّه رهن أُمور خارجة عن الاختيار.

مظاهر العدل الإلهي في تنفيذ العقوبات

قد مضى أنّ لعدله سبحانه مظاهر في التكوين والتشريع ، ومن مظاهر عدله في التشريع أنّه لا يساوي بين المطيع والعاصي ، والمسلم والمجرم ، والمؤمن والمفسد ، ولذلك صار يوم البعث مظهراً لعدله سبحانه بحيث لو لم يكن ذلك اليوم الموعود لما ظهر عدله في مجال الجزاء ، وبذلك أصبح يوم القيامة أمراً لا مفرّ منه لظهور عدله فيه ، وتشير آياتٌ كثيرة إلى هذا المضمون :
1. ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ).
2. ( أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ).
وهاتان الآيتان تدلاّن على أنَّ التسوية بين الطائفتين علىٰ خلاف العدل ، فلا محيص من إحقاق الفرق ، وبما انّ الطائفتين يتعامل معهما في الدنيا على نحو سواء فلابدّ من تحقيقه في يوم ما وليس هو إلاّ يوم القيامة ، ويعرب عمّا ذكرناه قوله سبحانه : ( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ).
ثمّ إنّه سبحانه يحقّق عدله يوم القيامة بوضع موازين القسط ليجزي كلّ نفس بما كسبت ، يقول سبحانه :
( وَنَضَعُ المَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ ).
( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ).
هذه إلمامة عابرة لبيان مظاهر عدله في مجالات مختلفة ، والسابر في آيات القرآن الكريم يجد آيات كثيرة في مجال عدله سبحانه.
المصادر :
1- الرعد : 3.
2- التبيان : 6 / 213./ سفينة البحار : مادة نجم.. مجمع البحرين : مادة كوكب
3- فاطر : 41
4- نهج البلاغة : الخطبة 1.
5- نهج البلاغة : الخطبة 87.
6- الكافي : 2 / 86.
7- لاحظ الاستدلال بهذه الآيات في كتاب اللمع للإمام الأشعري : 99 ـ 114.


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.