الصور
الصور في اللغة هو القَرن يُنفخُ فيه (1).والفناء هو الهلاك ، كما ان الإحياء هو البعث.
يقال : فنى المال ، اذا باد واضمحلّ ، وكلّ مخلوق صائرٌ الى الفناء : أي الهلاك والاضمحلال (2).
ويُفسّر الصور بصور إسرافيل الذي ينفخ فيه باذن الله تعالى فيموت الجميع ولا يبقى ذو روح إلّا صعق ومات ، ثمّ ينفخ فيه اُخرى باذن الله تعالى فيكون البعث ولا يبقى أحدٌ إلّا حيّ وقام.
وأفاد العلّامة المجلسي أعلى الله مقامه : أنه يجب الايمان بالصور على هذا النحو الذي ورد في النصوص الصريحة.
وأمّا تأويله بأنّه جمع الصورة ليكون النفخ فيه بمعنى النفخ في صور الأشخاص للاحياء فهو خروج عن ظواهر الآيات بل صريحها ، وإطراح للنصوص الصحيحة الصريحة من غير حاجة.
وذلك لأنّه :
أوّلاً : لا يتأتّى هذا التأويل في النفخة الاولى التي هي للإماتة.
ثانياً : يأبى عنه إفراد الضمير في قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ) (3)
إذ لو كان الصور جمع الصورة لكان يقول عزّ اسمه (ونفخ فيها).
ثالثاً : ينافي الدعاء الثالث من الصحيفة السجاديّة المباركة التي جاء فيه في الصلاة على الملائكة المقرّبين :
«وإسرافيل صاحب الصور الشاخص الذي ينتظر منك الاذن وحلول الأمر ، فينبّه بالنفخة صرعى رهائن القبور).
فلا يتمّ تفسير نفخ الصور بنفخ الروح في صُوَر الأشخاص ، كما ادّعاه بعض ، بل الصحيح هو معناه المعهود يعني : نفخ إسرافيل في الصور للفناء والاحياء (4).
وحصيلة الكلام في المقام هو :
أن نفخ الصور هو نفخ إسرافيل في الصور للفناء والاحياء.
والفناء هو هلاك الخلق واضمحلاله ، كما أن الاحياء هو بعثه ونشوره.
وإسرافيل هو الملك المقرّب الالهي الذي تلاحظ علوّ شأنه في مثل حديث جابر الجعفي عن الامام الباقر عليه السلام انه وصفه جبرائيل بقوله :
«إنّ ـ إسرافيل ـ حاجب الرب ، وأقرب خلق الله منه ، واللوح بين عينيه من ياقوتة حمراء ، فإذا تكلم الرب تبارك وتعالى بالوحي ضرب اللوح جبينه فنظر فيه ، ثمّ ألقاه إلينا فنسعى به في السماوات والأرض.
إنه لأدنى خلق الرحمن منه ، وبينه وبينه تسعون (5) حجاباً من نورٍ يقطع دونها الأبصار ، ما يعد ولا يوصف.
وإني لأقرب الخلق منه وبيني وبينه مسيرة ألف عام» (6).
هذا ... ونفخ الصور والفناء والاحياء قد ثبت بدليل الكتاب والسنّة.
أمّا الكتاب :
1 ـ قوله تعالى :(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّـهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ) (7).
2 ـ قوله تعالى :
(وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا) (8).
3 ـ قوله تعالى :
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ) (9).
4 ـ قوله تعالى :
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) (10).
5 ـ قوله تعالى :
(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) (11).
وأمّا السنّة :
فالأحاديث في ذلك متظافرة نكتفي منها بحديثٍ شريف واحد يبيّن كلتا النفختين (12) ، يعني للاماتة والأحياء ، وهو حديث الحسين بن ثوير بن أبي فاختة عن الامام السجاد عليه السلام أنه :
سئل عن النفختين كم بينهما؟ قال : ما شاء الله.
فقيل له فأخبرني يا ابن رسول الله كيف ينفخ فيه؟ فقال : أما النفخة لأولى فإن الله يأمر إسرافيل فيهبط إلى الدنيا ومعه صور وللصور رأس واحد وطرفان وبين طرف كل رأس منهما ما بين السماء والأرض ، قال : فإذا رأت الملائكة إسرافيل وقد هبط إلى الدنيا ومعه الصور ، قالوا : قد أذن الله في موت أهل الأرض وفي موت أهل السماء.
قال : فيهبط إسرافيل بحظيرة بيت المقدس ويستقبل الكعبة فإذا رأوا أهل الأرض ، قالوا : أذن الله في موت أهل الأرض.
قال : فينفخ فيه نفخة فيخرج الصوت من الطرف الذي يلي الأرض فلا يبقى في الأرض ذو روح إلا صعق ومات ، ويخرج الصوت من الطرف الذي يلي السماوات فلا يبقى في السماوات ذو روح إلا صعق ومات إلا إسرافيل.
قال : فيقول الله لإسرافيل : يا إسرافيل مت فيموت إسرافيل فيمكثون في ذلك ما شاء الله ثم يأمر الله السماوات فتمور ، ويأمر الجبال فتسير وهو قوله : (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا) يعني تبسط وتبدل الأرض غير الأرض يعني بأرض لم يكتسب عليها الذنوب بارزة ليس عليها الجبال ولا نبات كما دحاها أول مرة ويعيد عرشة على الماء كما كان أول مرة مستقلا بعظمته وقدرته.
قال : فعند ذلك ينادي الجبار جلّ جلاله بصوت جهوري يسمع أقطار السماوات والأرضين لمن الملك اليوم ، فلا يجيبه مجيب فعند ذلك ينادي الجبار جلّ جلاله مجيباً لنفسه : لله الواحد القهار وأنا قهرت الخلائق كلهم وأمتهم إني أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي ولا وزير وأنا خلقت خلقي بيدي وأنا أمتهم بمشيتي وأنا أحييهم بقدرتي.
قال : فنفخ الجبار نفخة في الصور يخرج الصوت من أحد الطرفين الذي يلي السماوات فلا يبقى في السماوات أحد إلا حي وقام كما كان ويعود حملة العرش ويحضر الجنة والنار ويحشر الخلائق للحساب.
قال فرأيت علي بن الحسين صلوات الله عليهما يبكي عند ذلك بكاء شديداً.
الحشر
الحشر في اللغة بمعنى الجمع ، والمحشر هو المجمع ، يقال : حشرهم : إذا جمعهم كما يستفاد من كتب اللغة (13).قال في مجمع البحرين :
«حشر الأجساد عبارة عن جمع أجزاء بدن الميّت وتأليفها بمثل ما كانت ، وإعادة روحه المدبّرة إليه كما كان.
ولا شكّ في إمكانه ووقوعه ، والله قادر على كلّ ممكن ، وعالم بالجزئيّات ، فيعيد الجزء المعيّن للشخص المعيّن» (14).
وفسّره في المفردات بأنّه :
«إخراج الجماعة عن مقرّهم ... وسمّي يوم القيامة يوم الحشر ، كما سمّي يوم البعث ، ويوم النشر» (15).
والحشر ممّا ثبت بالدليل العلمي : الكتاب الكريم ، والسنّة المتواترة.
وهو من عقائدنا الحقّة كما أفاده الشيخ الصدوق قدس سره (16).
بل إن إنكاره يوجب الكفر كما أفاده العلّامة المجلسي (17).
فلنستعرض جملة طيّبة من الآيات والأحاديث الدالّة على الحشر.
دليل الكتاب :
1 ـ قوله تعالى :
(رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ) (18).
2 ـ قوله تعالى :
(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّـهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ) (19).
3 ـ قوله تعالى :
(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) (20).
دليل الأحاديث :
1 ـ حديث أميرالمؤمنين عليه السلام في خطبته المباركة :
«اسمع يا ذا الغفلة والتصريف من ذي الوعظ والتعريف جعل يوم الحشر يوم العرض والسؤال والحباء والنكال ، يوم تقلب إليه أعمال الأنام ، وتحصى فيه جميع الآثام ، يوم تذوب من النفوس أحداق عيونها ، وتضع الحوامل ما في بطونها ، وتعرق من كل نفس وجيبها.
ويحار في تلك الأهوال عقل لبيبها ، إذ نكرت الأرض بعد حسن عمارتها ، وتبدلت بالخلق بعد أنيق زهرتها ، أخرجت من معادن الغيب أثقالها ، ونفضت إلى الله أحمالها ، يوم لا ينفع الحذر إذ عاينوا الهول الشديد فاستكانوا ، وعرف المجرمون بسيماهم فاستبانوا.
فانشقت القبور بعد طول انطباقها ، واستسلمت النفوس إلى الله بأسبابها ، كشف عن الآخرة غطاؤها ، فظهر للخلق أنباؤها ، فدكت الأرض دكاً دكاً ومدت لأمر يراد بها مداً مداً ، واشتد المبادرون إلى الله شداً شداً ، وتزاحفت الخلائق إلى المحشر زحفاً زحفاً ، ورد المجرمون على الأعقاب رداً رداً ، وجد الأمر ويحك يا إنسان جداً جداً ، وقربوا للحساب فرداً فرداً ، وجاء ربك والملك صفاً صفاً ، يسألهم عما عملوا حرفاً حرفاً ، وجيء بهم عراة الأبدان ، خشعاً أبصارهم ، أمامهم الحساب ، ومن ورائهم جهنم ، يسمعون زفيرها ، ويرون سعيرها ، فلم يجدوا ناصراً ولا ولياً يجيرهم من الذلّ ، فهم يعدون سراعاً إلى مواقف الحشر ، يساقون سوقاً.
فالسماوات مطويات بيمينه كطي السجل للكتب ، والعباد على الصراط وجلت قلوبهم ، يظنون أنهم لا يسلمون ولا يؤذن لهم ، فيتكلمون ولا يقبل منهم فيعتذرون ، قد ختم على أفواههم واستنطقت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.
يا لها من ساعةٍ ما أشجى مواقعها من القلوب حين ميز بين الفريقين ، فريق في الجنة وفريق في السعير ، من مثل هذا فليهرب الهاربون ، إذا كانت الدار الآخرة لها فليعمل العاملون» (21).
2 ـ حديث ياسر الخادم عن الامام الرضا عليه السلام انه قال :
«إن أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن : يوم يولد ويخرج من بطن أمه فيرى الدنيا ، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها ، ويوم يبعث فيرى أحكاما لم يرها في دار الدنيا.
وقد سلم الله عزوجل على يحيى عليه السلام في هذه الثلاثة المواطن وآمن روعته فقال : (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) (22).
3 ـ حديث جميل بن درّاج عن الامام الصادق عليه السلام انه قال :
«إذا أراد الله أن يبعث أمطر السماء على الأرض أربعين صباحاً فاجتمعت الأوصال ونبتت اللحوم.
وقال : أتى جبرئيل رسول الله صلى الله عليه وآله فأخذه فأخرجه إلى البقيع فانتهى به إلى قبر فصوت بصاحبه فقال : قم بإذن الله ، فخرج منه رجل أبيض الرأس واللحية يمسح التراب عن وجهه وهو يقول : الحمد لله والله أكبر ، فقال جبرئيل : عد بإذن الله ؛ ثم انتهى به إلى قبر آخر فقال : قم بإذن الله ، فخرج منه رجل مسود الوجه وهو يقول : يا حسرتاه! يا ثبوراه!
ثم قال له جبرئيل : عد إلى ما كنت بإذن الله ، فقال : يا محمد! هكذا يحشرون يوم القيامة ، والمؤمنون يقولون هذا القول ، وهؤلاء يقولون ما ترى» (23).
إلى غير ذلك من الأحاديث الشريفة الفائقة على التواتر ممّا تلاحظها في سابع البحار ، فالحشر حق في الجميع حتّى يكون في الحيوانات فانه تحشر حتّى ينتصف لها كما بيّنها في حقّ اليقين (24)
المصادر :
1- مرآة الأنوار : ص 142
2- مجمع البحرين : ص 69
3- سورة الزمر ، الآية 68.
4- البحار : ج 6 ، ص 336.
5- في نسخة سبعون .
6- البحار : ج 16 ، ص 292 ، ب 9 ، ح 160.
7- سورة الزمر ، الآية 68.
8- سورة الكهف ، الآية 99.
9- سورة يس ، الآية 51.
10- سورة آل عمران ، الآية 185.
11- سورة الرحمن ، الآية 26.
12- تفسير القمي : ج 2 ، ص 252.
13- ترتب العين : ج 1 ، ص 385 والمحيط : ج 2 ، ص 424 واللسان : ج 4 ، ص 190 والتاج : ج 3 ، ص 141.
14- مجمع البحرين : ص 252.
15- المفردات : ص 119.
16- الاعتقادات : ص 64.
17- الاعتقادات للعلّامة المجلسي : ص 41.
18- سورة آل عمران ، الآية 9.
19- سورة يونس ، الآية 4.
20- سورة الكهف ، الآية 47.
21- البحار : ج 7 ، ص 98 ، ب 5 ، ح 2.
22- الخصال : ص 107 ، ح 71.
23- البحار : ج 7 ، ص 39 ، ب 3 ، ح 8.
24- حقّ اليقين: ج 2 ، ص 101 ،