مواقف الامام الهادي عليه السلام من الحكام

لقد عانى الإمام الهادي (عليه السلام) من تجاوزات السلطة العباسية وتصرفاتهم الشائنة، والتي تقوم على أساس الحقد والحسد والظلم لأهل بيت النبوة (عليهم السلام)، وليس ثمة سبب لتلك التجاوزات سوى القلق الذي يساور رؤوس السلطة من
Wednesday, May 4, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
مواقف الامام الهادي عليه السلام من الحكام

 مواقف الامام الهادي عليه السلام من الحكام
 

 






 

لقد عانى الإمام الهادي (عليه السلام) من تجاوزات السلطة العباسية وتصرفاتهم الشائنة، والتي تقوم على أساس الحقد والحسد والظلم لأهل بيت النبوة (عليهم السلام)، وليس ثمة سبب لتلك التجاوزات سوى القلق الذي يساور رؤوس السلطة من وجود شخص الإمام، وما يتمتع به من سمو المكارم وشخصيته العلمية، والروحية الفذة في مختلف أوساط الأمة، والمحبة التي تكنها له القلوب المؤمنة، وسيرته الصالحة المدعمة بالعلم ومكارم الأخلاق، أضف إلى ذلك سلبية الإمام (عليه السلام) في التعامل مع الحكم القائم وعدم توافقه (عليه السلام) مع مواقف الحكام المشبوهة، مما يكشف الحقيقة في نظر الأمة والرأي العام المسلم بأن الإمام (عليه السلام) هو الخليفة الحقيقي لامتداد رسالة السماء والبديل المتعين للخلافة القائمة على أساس الظلم والجور.
ومن أجل ذلك فقد استدعي الإمام (عليه السلام) إلى مركز السلطة العباسية في سامراء ليكون تحت رقابة عيونها، وليتسنى لرأس السلطة وأتباعه عزل الإمام (عليه السلام) عن شيعته وأتباعه وقاعدته في مدينة جده المصطفى (صلى الله عليه وآله). وإزاء تصرفات الحكام العباسيين اتخذ الإمام (عليه السلام) موقفا سلبيا في التعامل مع السلطة الحاكمة وأجهزتها، وهو عين الموقف الذي اتخذه آباؤه الكرام (عليهم السلام) من حكم بني العباس الذي كان مبنيا على الظلم والجور، ولذلك اعتبر الشارع المقدس العمل معهم غير جائز شرعا. الحكام المعاصرون له (عليه السلام) تولى الإمام الهادي (عليه السلام) مهام الإمامة الإلهية بعد وفاة أبيه الجواد (عليه السلام) سنة 220 ه‍في أيام المعتصم العباسي، فكان في مدة إمامته بقية ملك المعتصم بن هارون، ومات المعتصم في ربيع الأول سنة 227 ه‍، ونقل أن مدة حكومته كانت ثمان سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام، وخرج في أيامه من الطالبيين محمد بن القاسم ابن علي بن عمر بن علي بن الحسين (عليه السلام) بالطالقان.
ثم تولى بعده ابنه هارون الواثق وذلك سنة 227 ه‍، ومات الواثق سنة 232 ه‍، وهي السنة التي ولد فيها الإمام العسكري (عليه السلام). وتولى بعد الواثق المتوكل جعفر بن المعتصم، وذلك سنة 232 ه‍، فبقي أربع عشرة سنة وتسعة أشهر حتى هلك قتلا على يد الأتراك. وكان المتوكل شديد العداوة والبغض لآل محمد (عليهم السلام)، ولم يكن أحد في زمانه من الشيعة يذكر عليا وأولاده (عليهم السلام)، أو زيارتهم علانية خوفا منه.
فهو الذي حرث قبر الإمام الحسين (عليه السلام) وعفاه، ومنع من زيارته، ووضع المسالح حوله ليمنع محبيه من الزيارة والتبرك بطيب ثراه، وهو أيضا الذي استدعى الإمام الهادي (عليه السلام) وكتب بإشخاصه من المدينة إلى عاصمة الملك سامراء. وقتل المتوكل سنة 247 ه‍، قتله ابنه المنتصر مع جماعة من أمراء الجيش الأتراك، وهو ثمل على مائدة الشراب التي لا يكاد يبرحها.
وتولى بعده ابنه محمد المنتصر وذلك سنة 247 ه‍، وبقي في الحكم ستة أشهر، ومات سنة 248 ه‍. وتولى بعده أحمد المستعين بن محمد بن المعتصم ثلاث سنين وستة أشهر، ومات سنة 251 ه‍. وفي زمانه خرج يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام).
وتولى بعد المستعين المعتز بالله بن المتوكل، وذلك سنة 252 ه‍، وبقي أربع سنين، فكان ثلاث منها في إمامة الهادي (عليه السلام)، حيث توفي ولي الله في ثالث رجب سنة 254 ه‍بسر من رأى، وكانت الصلاة عليه في شارع أبي أحمد بن المتوكل، فلما أقيمت الصلاة كثر الناس واجتمعوا، وكثر بكاؤهم وضجتهم، فرد النعش إلى داره فدفن فيها، وكان عمره أربعون سنة (1).
أيام المعتصم قضى الإمام الهادي (عليه السلام) نحو سبعة سنوات من مدة إمامته (عليه السلام) في زمان حكومة المعتصم بن هارون، وقد تولى مهام الإمامة بعد شهادة أبيه الجواد (عليه السلام) سنة 220 ه‍، ولما يزل يافعا حيث يتراوح عمره الشريف بين 6 - 8 سنوات، وهذا من أوضح الكرامات والمعجزات التي اختص بها الأئمة من عترة المصطفى (صلى الله عليه وآله).
وما أن فرغ المعتصم من اغتيال الإمام الجواد (عليه السلام) بعد أن عزله عن شيعته وحبسه في دار الملك بغداد، توجه إلى ولده الإمام بعده رغم كونه صغيرا،ولا يشكل أدنى خطر على مركز الخلافة العباسية وأجهزتها، وأول بوادر ذلك هو أن عهد المعتصم إلى عمر بن الفرج أن يشخص إلى يثرب ليختار معلما لأبي الحسن الهادي (عليه السلام) على أن يكون المعلم معروفا بالنصب والانحراف عن أهل البيت (عليهم السلام) ليغذيه ببغضهم، فاختار أبا عبد الله الجنيدي وهو رجل أديب عالم ومعروف بالبغض والعداوة لأهل البيت (عليهم السلام)، وأوكل إليه مهمة تأديب الإمام (عليه السلام) على ما زعم، فحبسه عن شيعته ومواليه، ومنعهم من زيارته واللقاء به، ووضع عليه العيون.
وقام الجنيدي بتعليم الإمام إلا أنه قد ذهل لما رآه من حدة ذكائه وغزارة علمه، واعترف بأنه أعلم منه، وأنه يتعلم من الإمام (عليه السلام) ضروبا من العلم، وأنه خير أهل الأرض، وأفضل من برأه الله تعالى، وأنه يحفظ القرآن من أوله إلى آخره ويعلم تأويله وتنزيله، وأخيرا نزع الجنيدي نفسه عن النصب والعداء لأهل البيت (عليهم السلام) ودان بالولاء لهم واعتقد بالإمامة واهتدى إلى سواء السبيل ببركة الإمام (عليه السلام) (2).
قال الشاعر: حار فيه فكر الجنيدي مذ * شاهد فيه ما حير الأفكارا جاء يملي له العلوم صغيرا * فإذا بالصغار تهدي الكبارا (3) وهكذا انتهت هذه المحاولة بالفشل دون أن تستطيع أجهزة السلطة إلحاق أدنى تأثير على شخص الإمام (عليه السلام) ومعارفه، ذلك لأن المعتصم ظن بفكره القاصر أنه يستطيع أن يوجه الإمام (عليه السلام) وفقا لأهوائه، وأن يرسم حدود شخصيته على ما يريد، متناسيا بأن الأئمة (عليهم السلام) يتميزون بالعلم الحضوري والنور الجلي والسر الخفي من لدن رب العالمين. وفي أيام المعتصم اشتدت المحنة على الأمة بصورة عامة وعلى الطالبيين وشيعة أهل البيت (عليهم السلام) بصورة خاصة، حتى إنه كان الرجل منهم إذا تفوه بأدنى معارضة أو أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فإن مصيره سيكون في بركة السباع.
قال المسعودي في مروج الذهب: في سنة 248 ه‍كانت وفاة بغا الكبير القائد التركي، وقد نيف على التسعين سنة، وقد كان باشر من الحروب ما لم يباشره أحد، فما أصابته جراحة قط، وكان دينا بين الأتراك، وكان من غلمان المعتصم، يشهد الحروب العظام ويباشرها بنفسه، فيخرج منها سالما، ويقول: الأجل جوشن ، ولم يكن يلبس على بدنه شيئا من الحديد، فعذل في ذلك، فقال: رأيت في نومي النبي (صلى الله عليه وآله) ومعه جماعة من أصحابه فقال لي: يا بغا، أحسنت إلى رجل من أمتي، فدعا لك بدعوات استجيبت له فيك.
قال: فقلت: يا رسول الله، ومن ذلك الرجل؟ قال: الذي خلصته من السباع. فقلت: يا رسول الله، سل ربك أن يطيل عمري، فرفع يديه نحو السماء،وقال: اللهم أطل عمره، وأتم أجله
فقلت: يا رسول الله، خمس وتسعون سنة. فقال رجل كان بين يديه: ويوقى من الآفات. فقلت للرجل: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب. فاستيقظت من نومي، وأنا أقول: علي بن أبي طالب. قال: فقيل له: من كان ذلك الرجل الذي خلصته من السباع؟ قال: كان أتي المعتصم برجل قد رمي ببدعة، فجرت بين المعتصم في الليل مخاطبة في خلوة، فقال لي المعتصم: خذه فألقه إلى السباع، فأتيت بالرجل إلى السباع لألقيه إليها وأنا مغتاظ عليه، فسمعته يقول: اللهم إنك تعلم ما تكلمت إلا فيك، ولم أرد بذلك غيرك، وتقربا إليك بطاعتك، وإقامة الحق على من خالفك، أفتسلمني؟ قال: فارتعدت وداخلتني له رقة، وملئ قلبي له رعبا، فجذبته عن طرف بركة السباع، وقد كدت أن أزج به فيها، وأتيت به حجرتي فأخفيته فيها. وأتيت المعتصم فقال: هيه. قلت: ألقيته. قال: فما سمعته يقول؟ قلت: أنا أعجمي، وهو يتكلم بكلام عربي، ما أدري ما يقول (4).
وفي أيام المعتصم واصل العلويون حركة المعارضة المسلحة التي لم تهدأ منذ ثورة الشهيد السبط الإمام الحسين (عليه السلام) ذلك لانتشار الظلم والفساد، وتردي الأحوال الاقتصادية والاجتماعية، واهتمام السلطة بإشباع رغباتها وتقوية مؤيديها وأجهزتها القمعية على حساب عامة الناس. وممن خرج في أيام المعتصم من العلويين محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)، ويكنى أبا جعفر، وكان من أهل العلم والفقه والدين والزهد، خرج بالطالقان، واتبعه جماعة كثيرة، فوجه إليه عبد الله بن طاهر بعض عماله، فكانت له معه وقائع كثيرة في الطالقان ونيسابور، وفي آخرها اعتقل محمد بن القاسم (رضي الله عنه) ووجه به عبد الله بن طاهر إلى المعتصم، فحبسه في سرداب شبيه بالبئر عند قصره، فكاد أن يموت فيه، ثم إنه هرب من السجن، فطلبوه فلم يقدروا عليه، فانحدر إلى واسط، وبقي مختفيا حتى مات بها.
وقال أحمد بن الحارث الخزاز: توارى محمد بن القاسم أيام المعتصم وأيام الواثق، ثم أخذ في أيام المتوكل، فحمل إليه فحبس حتى مات في حبسه، قال: ويقال: إنه دس إليه سما فمات منه. مقاتأيام الواثق تولى الواثق مقاليد الحكم العباسي من سنة 227 ه‍إلى سنة 232 ه‍، واستمرت خلال تلك الفترة السلطة العباسية على نهجها المعهود في محاربة أهل الحق، وازداد تحكم الأتراك في تسيير شؤون الدولة والحرب، وازداد مع ذلك الظلم والتعسف.
وقد أخبر الإمام الهادي (عليه السلام) أحد أصحابه القادمين من العراق وهو خيران الأسباطي عن موت الواثق، وتسنم جعفر المتوكل مقاليد السلطة العباسية، قال خيران: قدمت على أبي الحسن علي بن محمد الهادي (عليه السلام) المدينة، فقال لي: ما خبر الواثق عندك؟ قلت: جعلت فداك، خلفته في عافية، أنا من أقرب الناس عهدا به، عهدي به منذ عشرة أيام. قال: فقال لي: إن أهل المدينة يقولون: إنه مات. فلما قال لي: إن أهل المدينة يقولون، علمت أنه يعني نفسه.
ثم قال لي: ما فعل جعفر؟ قلت: تركته أسوأ الناس حالا في السجن. قال: فقال: أما إنه صاحب الأمر، فما فعل ابن الزيات؟ قلت: الناس معه، والأمر أمره. فقال (عليه السلام): أما إنه شؤم عليه . قبض المتوكل على ابن الزيات، وقيده بداره، وصادر أمواله وأملاكه، وسلط عليه أنواع العذاب، ثم جعله في تنور خشب في داخله مسامير تمنع من الحركة وتزعج من فيه لضيقه، فسده عليه حتى مات، وكان هذا التنور قد عمله ابن الزيات لتعذيب ابن أسباط المصري، فقتله المتوكل في تنوره. (5)
وروى السيد ابن طاووس في (مهج الدعوات) بالإسناد عن اليسع بن حمزة القمي، قال: أخبرني عمرو بن مسعدة وزير المعتصم الخليفة أنه جاء علي بالمكروه الفظيع حتى تخوفته على إراقة دمي وفقر عقبي، فكتبت إلى سيدي أبي الحسن العسكري (عليه السلام) أشكو إليه ما حل بي، فكتب إلي: لا روع عليك ولا بأس، ادع الله بهذه الكلمات يخلصك الله وشيكا مما وقعت فيه ويجعل لك فرجا. إلى أن قال: فدعوت الله بالكلمات التي كتب إلي سيدي بها في صدر النهار، فوالله ما مضى شطره حتى جاءني رسول عمرو بن مسعدة، فقال لي: أجب الوزير، فنهضت ودخلت عليه، فلما بصرني تبسم إلي، وأمر بالحديد ففك عني، وبالأغلال فحلت مني... الحديث .
قال: ثم سكت، وقال لي: لا بد أن تجري مقادير الله وأحكامه، يا خيران مات الواثق، وقد قعد المتوكل جعفر، وقد قتل ابن الزيات. قلت: متى جعلت فداك؟ قال (عليه السلام): بعد خروجك بستة أيام (6).
أيام المتوكل لما مات الواثق 232 ه‍اجتمع في دار الخلافة أحمد بن أبي دؤاد وإيتاخ ووصيف وعمر بن الفرج وابن الزيات، وأرادوا البيعة لمحمد بن الواثق، وهو غلام أمرد، فألبسوه فإذا هو قصير، فقال وصيف: أما تتقون الله، تولون الخلافة مثل هذا! ثم تناظروا فيما يولونه، فأحضروا المتوكل فألبسه ابن أبي دؤاد وعممه، وسلم عليه بإمارة المؤمنين، ولقبه المتوكل (7)،
فكان ذلك إيذانا بعهد الظلم والتعسف. كان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب، غليظا على جماعتهم، شديد الغيظ والحقد عليهم، وسوء الظن والتهمة لهم، واتفق له أن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيره يسئ الرأي فيهم، فحسن له القبيح في معاملتهم، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله. هدم قبر الحسين (عليه السلام) ومنع زيارته: وكان من ذلك أن كرب قبر الحسين (عليه السلام) وعفى آثاره، ووضع على سائر
الطرق مسالح له لا يجدون أحدا زاره إلا أتوه به فقتله أو أنهكه عقوبة. قال أبو الفرج الأصفهاني: حدثني أحمد بن الجعد الوشاء، وقد شاهد ذلك، قال: إن المتوكل بعث برجل من أصحابه يقال له الديزج، وكان يهوديا فأسلم، أرسله إلى قبر الحسين (عليه السلام)، وأمره بكرب قبره ومحوه وإخراب كل ما حوله، فمضى لذلك وخرب ما حوله، وهدم البناء وكرب ما حوله نحو مائتي جريب، فلما بلغ إلى قبره لم يتقدم إليه أحد، فأحضر قوما من اليهود فكربوه، ووكل به مسالح بين كل مسلحتين ميل، فلا يزوره زائر إلا أخذوه ووجهوا به إليه (8).
وفي تأريخ الطبري وابن الأثير حوادث سنة 236 ه‍: أنه في تلك السنة هدم قبر الحسين بن علي (عليه السلام) وسواه بالتراب، ثم أمر بحرث الأرض وزرعها لتضيع معالمه، وقتل عددا كبيرا من زواره، وبالتالي فرض عليهم الضرائب وشتى أنواع العقوبات ليمتنعوا عن زيارته (9).
وروي أنه لما صار الماء فوق مكان قبره (عليه السلام) وقف وافترق فرقتين، يمينا وشمالا، ودار حتى التقى تحت المكان، وبقي الوسط خاليا من الماء، والماء مستدير حوله، فسمي من ذلك اليوم ب‍: الحائر (10).
قال أبو الفرج الأصفهاني: وحدثني محمد بن الحسين الأشناني، قال: بعد عهدي بالزيارة في تلك الأيام خوفا، ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها، وساعدني رجل من العطارين على ذلك، فخرجنا زائرين نكمن النهار ونسير الليل حتى أتينا نواحي الغاضرية، وخرجنا منها نصف الليل، فسرنا بين مسلحتين، وقد ناموا، حتى أتينا القبر فخفي علينا، فجعلنا نشم الأرض ونتحرى جهته حتى أتيناه ، وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه وأحرق، وأجرى الماء عليه فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق، فزرناه وأكببنا عليه، فشممنا منه رائحة ما شممت مثلها قط، كشئ من الطيب، فقلت للعطار الذي كان معي: أي رائحة هذه؟ فقال: لا والله ما شممت مثلها، كشئ من العطر، فودعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدة مواضع، فلما قتل المتوكل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة حتى صرنا إلى القبر، فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه إلى ما كان عليه (11).
قال السيوطي في تأريخ الخلفاء: فتألم المسلمون من ذلك، وكتب أهل بغداد شتمه - أي المتوكل - على الحيطان والمساجد، وهجاه الشعراء، ومما قيل في ذلك:
تالله إن كانت أمية قد أتت * قتل ابن بنت نبيها مظلوما
فلقد أتى بنو أبيه بمثله * هذا لعمري قبره مهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا * في قتله فتتبعوه رميما (12)
حصار آل أبي طالب: واستعمل على المدينة ومكة عمر بن الفرج الرخجي، فمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس، ومنع الناس من البر بهم، وكان لا يبلغه أن أحدا أبر أحدا منهم بشيء وإن قل إلا أنهكه عقوبة وأثقله غرما، حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة، ثم يرقعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر، إلى أن قتل المتوكل، فعطف المنتصر عليهم وأحسن إليهم، ووجه بمال فرقه فيهم، وكان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادة مذهبه طعنا عليه ونصرة لفعله (13).
البذخ والترف: وإلى جانب الحصار الاقتصادي المر الذي فرضه الطاغية المتوكل على العلويين بشكل خاص والطالبيين بشكل عام، فقد كان ينفق ملايين الدنانير على لياليه الحمراء، ويهب آلاف الدنانير إلى المغنين والمخنثين، فسجل بذلك صفحات سوداء من تأريخه الملئ بالإثم والعدوان في اضطهاد ذرية النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله).
ومن جملة أعماله الآثمة منحه الأموال الطائلة للمرتزقة من الشعراء الذين ينالون من آل البيت (عليهم السلام) أمثال مروان بن أبي الجنوب، الذي أغدق عليه الأموال والذهب، وعقد له الولاية على البحرين واليمامة، وهو القائل معرضا بآل البيت (عليهم السلام): يرجو التراث بنو البنات * وما لهم فيها قلامه والصهر ليس بوارث * والبنت لا ترث الإمامه (14)
روى ابن الأثير عن أبي الشمط ابن أبي الجنوب، أنه قال: أنشدت المتوكل شعرا ذكرت فيه الرافضة، فعقد لي على البحرين واليمامة، وخلع علي أربع خلع، وخلع علي المنتصر، وأمر لي المتوكل بثلاثة آلاف دينار نثرت علي، وأمر ابنه المنتصر وسعدا الإيتاخي أن يلقطاها لي، ففعلا. قال: ثم نثر علي بعد ذلك لشعر قلته في هذا المعنى عشرة آلاف درهم (15).
أما نفقات المتوكل فقد قال عنها المسعودي في تأريخه: إن النفقات لم تبلغ في وقت من الأوقات ما بلغته أيام المتوكل (16)، وكانت هذه النفقات تغدق على المغنين واللاهين والمضحكين وجواري القصر والشعراء، ولا تصرف في مواردها الصحيحة باعتبارها من بيت المال الذي يشترك فيه جميع المسلمين لتطوير حياتهم وتمشية معاشهم وتنمية قدراتهم. فقد أنفق المتوكل أموالا لا تحصى في الاحتفال الذي أقامه بمناسبة ختان بعض أولاده حتى إن الدراهم والدنانير كانت تنقل في الغرائر، وقد أمر بصبها في وسط المجلس، فبلغت من الكثرة أن حالت من رؤية بعضهم بعضا. وأنفق من الأموال ما يبهر العقول في الاحتفال الذي أقامه بمناسبة البيعة لأولاده، وهم محمد المنتصر، والزبير المعتز، وإبراهيم المؤيد، وذلك سنة 236 هـ ‍(17).
وأنفق ملايين الدنانير على الجواري اللاتي جلبن من مختلف أنحاء البلاد،حتى إنه روى المؤرخون أن له أربعة آلاف جارية وطئهن جميعا. وأنفق المتوكل على قصوره الفخمة ملايين الدنانير، حتى إنه بنى قصرا في سفينة وصفه البحتري الشاعر بقوله:
غنينا على قصر يسير بفتية * قعود على أرجائه وقيام
تظل البزاة البيض تخطف حولنا * جآجئ طير في السماء سوام
ومن أهم قصوره الجعفري، وقد أنفق على بنائه ألفي ألف دينار ، ومنها البرج وقد أنفق على بنائه ألف ألف وسبعمائة ألف دينار ، ومنها المليح وقد أنفق على بنائه خمسة آلاف ألف درهم ، ومنها الشبنداز وقد أنفق على بنائه عشرة آلاف ألف درهم ، ومنها المختار وبركوار والخير والغرو، وقد أنفق على هذه الأربعة ثلاثين ألف ألف درهم (18)، ناهيك عن ملايين الدراهم التي صرفت على برك الماء وهبات الشعراء مما سطره المؤرخون في تأريخ الطاغية المتوكل، وفي قصر الجعفري قتل المتوكل ووزراؤه وهم سكارى على موائد الخمر، ومن كان من أذنابه ومرتزقته.
قال النويري: أنفق المتوكل في بناء قصوره مائة ألف دينار، وخمسين ألف ألف عينا، ومائتي ألف ألف، وثمانية وخمسين ألف ألف، وخمسمائة ألف درهم... (19).
وهكذا ينعم الخلفاء العباسيون وأذنابهم بالحياة إلى حد السفه والهوس، ومن ورائهم طبقات واسعة من عامة الناس قتر عليها الرزق، فهي تعيش في ضنك وضيق شديدين، سيما العلويون والطالبيون بشكل عام، فقد فرض عليهم المتوكل حصارا جائرا حتى إنه منع الناس من البر بهم والإحسان إليهم، وكان لا يبلغه أن أحدا بر بهم إلا أنهكه عقوبة وغرامة - كما قدمنا عن أبي الفرج الأصفهاني - حتى امتنع الناس من صلتهم وإكرامهم خوفا من عقاب الطاغية وسطوته، فعاشوا حياة ملؤها البؤس والفقر والحرمان.
ثورات العلويين وممن ثار في وجه الظلم والجبروت من العلويين أبو الحسين يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، داعيا إلى إقامة حكم الله في الأرض وفقا لكتاب الله وسنة رسوله المصطفى، مطالبا بحقوق المظلومين والمعذبين والمضطهدين، رافعا شعار الرضا من آل محمد (عليهم السلام)، وكان (رضي الله عنه) فارسا شجاعا، وسنأتي على تفصيل أخبار ثورته لاحقا إن شاء الله في أيام المستعين، لأنه ثار أيام المتوكل، وقاتل واستشهد في أيام المستعين سنة 250 ه‍ـ (رضوان الله عليه).
ثورة محمد بن صالح:وممن خرج في أيام المتوكل محمد بن صالح بن عبد الله بن موسى بن عبد الله ابن الحسن المثنى بن الحسن بن علي (عليه السلام)، وكان من فتيان آل أبي طالب وشجعانهم وظرفائهم وشعرائهم، خرج بسويقة واجتمع له الناس، وحج بالناس أبو الساج، فقصده، وخاف عمه موسى بن عبد الله بن موسى أبا الساج على نفسه وولده وأهله، فضمن لأبي الساج تسليمه، وتوثق له بالأيمان والأمان، وجاء عمه إليه فأعلمه ذلك، وأقسم عليه ليلقين سلاحه ففعل، وخرج إلى أبي الساج فقيده، وحمله إلى سر من رأى مع جماعة من أهله، فلم يزل محبوسا بها ثلاث سنين ثم أطلق، وأقام بها إلى أن مات، وكان سبب موته أنه جدر فمات في الجدري (20).
ثورة الحسن بن زيد: قال أبو الفرج الأصفهاني: لما ولى المتوكل تفرق آل أبي طالب في النواحي، فغلب الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن زيد على طبرستان ونواحي الديلم. وخرج بالري محمد بن جعفر بن الحسن بن عمر بن علي بن الحسين يدعو إلى الحسن بن زيد، فأخذه عبد الله بن طاهر فحبسه بنيسابور، فلم يزل في حبسه حتى هلك. ثم خرج من بعده بالري أحمد بن عيسى بن علي بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، يدعو إلى الحسن بن زيد، وخرج بعده الكوكبي، وهو الحسين بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله الأرقط بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) (21)،
قتل القاسم بن عبد الله: وحمل عمر بن الفرج الرخجي القاسم بن عبد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي (عليه السلام) إلى سر من رأى، فأمر بلبس السواد فامتنع، فلم يزالوا به حتى لبس شيئا يشبه السواد فرضي منه بذلك، وكان القاسم رجلا فاضلا. قال أبو الفرج الأصفهاني: أخبرني أحمد بن سعيد، عن يحيى بن الحسن، عن ذوب مولاة زينب بنت عبد الله بن الحسين، قال: اعتل مولاي القاسم بن عبد الله، فوجه إليه بطبيب يسأله عن خبره، وجهه إليه السلطان، فجس يده، فحين وضع الطبيب يده عليها يبست من غير علة، وجعل وجعها يزيد عليه حتى قتله، قال: سمعت أهله يقولون: إنه دس إليه السم مع الطبيب (22).
المتوارون في أيام المتوكل:
وتوارى أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين (عليه السلام) فترة طويلة حتى توفي سنة 247 ه‍، وكان فاضلا عالما مقدما في أهله، معروفا فضله، وقد كتب الحديث، وعمر وكتب عنه، وروى عنه الحسين بن علوان روايات كثيرة، وروى عنه محمد بن المنصور الراوي ونظراؤه (23).
وتوارى أيضا عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي (عليه السلام) منذ أيام المأمون، ومات في أيام المتوكل. قال أبو الفرج الأصفهاني: حدثني أحمد بن سعيد، قال: حدثني يحيى بن الحسن، قال: حدثنا إسماعيل بن يعقوب، قال: سمعت محمد بن سليمان الزينبي يقول: نعي عبد الله بن موسى إلى المتوكل صبح أربع عشرة ليلة من يوم مات، ونعي له أحمد بن عيسى فاغتبط بوفاتهما وسر، وكان يخافهما خوفا شديدا، ويحذر حركتهما، لما يعلمه من فضلهما، واستنصار الشيعة الزيدية بهما وطاعتهما لهما لو أرادوا الخروج عليه، فلما ماتا أمن واطمئن، فما لبث بعدهما إلا أسبوعا حتى قتل (24).
إشخاص الإمام الهادي (عليه السلام)
لقد سار المتوكل على نهج من سبقوه في التعامل مع أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، بل زاد على ذلك باستدعائه الإمام الهادي إلى دار الخلافة في سامراء وعزله عن أوساط الأمة، مع علمه أن دور الإمام (عليه السلام) في المدينة لا يعدو كونه مبلغا لرسالة جده المصطفى (صلى الله عليه وآله) ومحافظا على سنته ومبادئ كتاب الله تعالى، وليس همه السلطة ولا تنزع نفسه الكريمة إلى شيء من متاع الدنيا وزخرفها.
تولى الإمام الهادي (عليه السلام) مهام وأعباء الإمامة وهو لا يزال في مطلع شبابه كما قدمنا، وذلك سنة 220 هـ ‍(25)، وبقي في المدينة حتى بلغ من العمر نحو عشرين سنة مرجعا لرواد العلم من مختلف البلاد وشتى الديار، فأحبه الناس واجتمعوا حوله،
والتف العلماء وطلاب العلم ينهلون من نمير علمه، وكان يتصل به شيعته خاصة يسألونه الحلول لمشاكلهم والأجوبة لمسائلهم، وخلال إقامته في المدينة كان في جميع حالاته تحت رقابة عيون السلطة. فبالنظر للمكانة العالية التي يتمتع بها الإمام (عليه السلام) في نفوس المسلمين، أراد المتوكل وبدافع من حقده السافر لأهل البيت (عليهم السلام) وهاجس الخوف الذي يراوده من انصراف الناس إلى الإمام الهادي (عليه السلام) أن يعزل الإمام (عليه السلام) عن شيعته ومواليه ومريديه من طلبة العلم ومحصليه، فاستدعاه إلى عاصمة ملكه سامراء، وفرض عليه إقامة جبرية استمرت أكثر من عشرين سنة.
لقد أخرج الإمام (عليه السلام) مكرها من مدينة جده المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وقد عبر عن هذا بحديث رواه الشيخ الطوسي وابن شهرآشوب بالإسناد عن المنصوري عن عم أبيه، قال: قال يوما الإمام علي بن محمد (عليه السلام): يا أبا موسى، أخرجت إلى سر من رأى كرها، ولو أخرجت عنها أخرجت كرها... (26)
المصادر :
1- تأريخ اليعقوبي 3: 234.
2- إثبات الوصية للمسعودي: 222، والفصل الثالث من كتابنا هذا (فضائله ومكارم أخلاقه).
3- الذخائر: 63.
4- مروج الذهب 4: 160 - 161.
5- تأريخ ابن خلدون 3: 341، تأريخ ابن الوردي 1: 308.
6- إعلام الورى: 358، الفصول المهمة: 279، بحار الأنوار 50: 158 / 48.
7- تأريخ ابن خلدون 3: 340.
8- مقاتل الطالبيين: 395 - 396.
9- الكامل في التأريخ 7: 55، حوادث سنة 236، سيرة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) 2: 453.
10- بحار الأنوار 45: 403، التتمة في تواريخ الأئمة (عليهم السلام): 137.
11- مقاتل الطالبيين: 396.
12- تأريخ الخلفاء: 278، وقد نسب هذا الشعر للبسطامي، وقيل: لابن السكيت.
13- مقاتل الطالبيين: 396.
14- تأريخ الطبري 9: 231 - دار المعارف.
15- الكامل في التأريخ 7: 95.
16- مروج الذهب 4: 159.
17- حياة الإمام الهادي (عليه السلام): 306 - 308، عن الإنباء في تأريخ الخلفاء.
18- تأريخ الخلفاء: 279. / ديوان البحتري 3: 202. /معجم البلدان 2: 143. /تأريخ اليعقوبي 3: 222. / معجم البلدان 3: 175. /معجم البلدان 3: 319. /معجم البلدان 2: 328، 3: 175، 4: 192.
19- نهاية الإرب 1: 406.
20- مقاتل الطالبيين: 397.
21- مقاتل الطالبيين: 406.
22- مقاتل الطالبيين: 407.
23- مقاتل الطالبيين: 408.
24- مقاتل الطالبيين: 417.
25- كانت ولادته (عليه السلام) سنة 212 ه‍، وقيل: 214 ه‍.
26- المناقب 4: 417، بحار الأنوار 50: 129 / 8.


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.