
أمر المتوكل بحبس الإمام (عليه السلام) وزجه في السجن، وفرض عليه الإقامة الجبرية في داره، وبقي ملازما لها، ويدل على ذلك جملة أخبار نذكر منها:
1 - عن الحسن بن محمد بن جمهور، قال: كان لي صديق مؤدب ولد بغا أو وصيف - الشك مني - فقال لي: قال الأمير [عند] منصرفه من دار الخلافة: حبس أمير المؤمنين هذا الذي يقولون له ابن الرضا اليوم، ودفعه إلى علي بن كركر،فسمعته يقول: أنا أكرم على الله من ناقة صالح *(تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب)* ليس يفصح بالآية ولا بالكلام، أي شيء هذا؟ قال: قلت: أعزك الله تعالى توعدك، أنظر ما يكون بعد ثلاثة أيام. فلما كان من الغد أطلقه واعتذر إليه، فلما كان اليوم الثالث وثب عليه باغر وبغلون أوتامش وجماعة معهم، فقتلوه وأقعدوا المنتصر ولده خليفة.
2 - وقد منعه المتوكل من الخروج عن داره، وفرض عليه إقامة جبرية استمرت طيلة حكمه وبعد حكمه، ففي حديث يوسف بن يعقوب النصراني الذي ذكرناه كاملا في المعاجز، قال: صرت إلى سر من رأى وما دخلتها قط، فنزلت في دار، وقلت: يجب أن أوصل هذه المئة دينار إلى ابن الرضا قبل مصيري إلى دار المتوكل، وقبل أن يعرف أحد قدومي، وعرفت أن المتوكل قد منعه من الركوب وأنه ملازم لداره... الحديث. قاسى الإمام من بني العباس * ما ليس في الوهم وفي القياس كم مرة من بعد مرة حبس * وهو بما يراه منهم محتبس حتى قضى بالغم عمرا كاملا * فسمه المعتز سما قاتلا قضى شهيدا في ديار الغربه * في شدة ومحنة وكربه (1)
محاولة قتل الإمام (عليه السلام):
ولم يتوقف المتوكل عند هذه الحدود، بل ذهب إلى أبعد من هذا حين أراد الإقدام على قتل الإمام (عليه السلام). لكنه لم يصل إلى مرامه، وباءت محاولاته بالخيبة والخسران، وفي ما يلي بعض الأخبار الدالة على ذلك:1 - عن أبي العباس فضل بن أحمد بن إسرائيل الكاتب، قال: كنا مع المعتز، وكان أبي كاتبه، فدخلنا الدار والمتوكل على سريره قاعد، فسلم المعتز ووقف ووقفت خلفه، وكان عهدي به إذا دخل عليه رحب به وأمره بالقعود، ونظرت إلى وجهه يتغير ساعة بعد ساعة، ويقبل على الفتح بن خاقان ويقول: هذا الذي تقول فيه ما تقول! ويردد عليه القول، والفتح مقبل عليه يسكنه ويقول: مكذوب عليه يا أمير المؤمنين، وهو يتلظى ويقول: والله لأقتلن هذا المرائي الزنديق، وهو الذي يدعي الكذب، ويطعن في دولتي. ثم قال: جئني بأربعة من الخزر وأجلاف لا يفقهون. فجئ بهم، ودفع إليهم أربعة أسياف، وأمرهم أن يرطنوا بألسنتهم إذا دخل أبو الحسن، وأن يقبلوا عليه بأسيافهم فيخبطوه ويقتلوه، وهو يقول: والله لأحرقنه بعد القتل. وأنا منتصب قائم خلفه من وراء الستر، فما علمت إلا بأبي الحسن (عليه السلام) قد دخل، وقد بادر الناس قدامه فقالوا: جاء. والتفت ورائي وهو غير مكترث ولا جازع، فلما بصر به المتوكل رمى بنفسه من السرير إليه وهو بسيفه، فانكب عليه يقبل بين عينيه، واحتمل يده بيده، وهو يقول: يا سيدي، يا ابن رسول الله، ويا خير خلق الله، يا ابن عمي، يا مولاي، يا أبا الحسن. وأبو الحسن يقول: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من هذا .
ص 334فقال: ما جاء بك يا سيدي في هذا الوقت؟ قال: جاءني رسولك . فقال المتوكل: كذب ابن الفاعلة، ارجع يا سيدي من حيث جئت، يا فتح، يا عبد الله ويا معتز، شيعوا سيدي وسيدكم. فلما بصر به الخزر خروا سجدا مذعنين، فلما خرج دعاهم المتوكل ثم أمر الترجمان أن يخبره بما يقولون، ثم قال لهم: ثم لا تفعلوا ما أمرتكم به؟ قالوا: لشدة هيبته، ورأينا حوله أكثر من مائة سيف لم نقدر أن ننالهم، فمنعنا ذلك عما أمرنا به، وامتلأت قلوبنا رعبا من ذلك. فقال المتوكل: هذا صاحبكم، وضحك في وجه الفتح، وضحك الفتح في وجهه، وقال: الحمد لله الذي بيض وجهه، وأرانا حجته.(2)
2 - وعن علي بن محمد بن متويه، عن الهمداني، عن علي بن إبراهيم، عن عبد الله بن أحمد الموصلي، عن الصقر بن أبي دلف، قال: لما حمل المتوكل سيدنا أبا الحسن (عليه السلام) جئت أسأل عن خبره، قال: فنظر إلي حاجب المتوكل، فأمر أن أدخل عليه فقال: يا صقر، ما شأنك؟ فقلت: خير أيها الأستاذ. فقال: اقعد. قال الصقر: فأخذني ما تقدم وما تأخر. فقلت: أخطأت في المجئ. قال: فوحى الناس عنه، ثم قال: ما شأنك وفيم جئت؟ قلت: لخبر ما. فقال: لعلك جئت تسأل عن خبر مولاك؟ فقلت له: ومن مولاي؟ [مولاي] أمير المؤمنين. فقال: اسكت مولاك هو الحق، فلا تحتشمني، فإني على مذهبك. فقلت: الحمد لله. فقال: تحب أن تراه؟ قلت: نعم. قال: اجلس حتى يخرج صاحب البريد. قال: فجلست فلما خرج، قال لغلامه: خذ بيد الصقر فأدخله إلى الحجرة التي فيها العلوي المحبوس وخل بينه وبينه، قال: فأدخلني إلى الحجرة، وأومأ إلى بيت، فدخلت فإذا هو (عليه السلام) جالس على صدر حصير، وبحذاه قبر محفور، قال: فسلمت، فرد [علي السلام] ثم أمرني بالجلوس، فجلست. ثم قال: يا صقر، ما أتى بك؟ قلت: سيدي جئت أتعرف خبرك. قال: ثم نظرت إلى القبر فبكيت، فنظر إلي فقال: يا صقر، لا عليك، لن يصلوا إلينا بسوء. فقلت: الحمد لله (3).
3 - ومنها ما روى ابن أرومة، قال: خرجت إلى سر من رأى أيام المتوكل فدخلت إلى سعيد الحاجب، ودفع المتوكل أبا الحسن (عليه السلام) إليه ليقتله، فقال لي: أتحب أن تنظر إلى إلهك! فقلت: سبحان الله، إلهي لا تدركه الأبصار! فقال: الذي تزعمون أنه إمامكم؟ قلت: ما أكره ذلك، قال: قد أمرت بقتله، وأنا فاعله غدا، فإذا خرج صاحب البريد فادخل عليه، فخرج ودخلت وهو جالس وهناك قبر يحفر، فسلمت عليه وبكيت بكاء شديدا، فقال: ما يبكيك؟ قلت: ما أرى. قال: لا تبك إنه لا يتم لهم ذلك، وإنه لا يلبث أكثر من يومين حتى يسفك الله دمه ودم صاحبه، فوالله ما مضى غير يومين حتى قتل.
يا بن النبي المصطفى ووصيه * وابن الهداة السادة الأمناء
كم معجز لك قد رأوه ولم يكن * يخفى على الأبصار نور ذكاء
أن يجحدوه فطالما شمس الضحى * خفيت على ذي مقلة عمياء
برا وتعظيما أروك وفي الخفا * يسعون في التحقير والإيذاء
كما حاولوا إنقاص قدرك فاعتلى * رغما لأعلى قنة العلياء
فقضيت بينهم غريبا نائيا * بأبي فديتك من غريب نائي (4)
ملاحقة شيعته (عليه السلام) وقتلهم:
ولم يكتف المتوكل بإيذاء الإمام (عليه السلام) وحسب، بل منع شيعته من الدخول إليه، وكان ذلك هو الهدف الأول من إشخاص الإمام (عليه السلام) إلى مدينة العسكر، وتابعت أجهزة المتوكل وعيونه بعض الملازمين للإمام (عليه السلام) والقائلين بإمامته من شيعتهم الكرام، لتوصل كل ما يبدو منهم إلى أسماع الطاغية، فيأمر برميهم من أعالي الجبال، أو قطع أرزاقهم، أو حبسهم لمدة طويلة وتحت ظروف قاسية، وقتل بعضهم بأبشع أنواع القتل، وفي كل ذلك يهرعون إلى الإمام (عليه السلام) فينجو بعضهم ببركة دعائه (عليه السلام):1 - عن الحسن بن محمد بن علي، قال: جاء رجل إلى علي بن محمد بن علي ابن موسى (عليهم السلام) وهو يبكي وترتعد فرائصه، فقال: يا ابن رسول الله، إن فلانا - يعني الوالي - أخذ ابني واتهمه بموالاتك، فسلمه إلى حاجب من حجابه، وأمره أن يذهب به إلى موضع كذا فيرميه من أعلى جبال هناك، ثم يدفنه في أصل الجبل. فقال (عليه السلام): فما تشاء؟ ، فقال: ما يشاء الوالد الشفيق لولده. قال: إذهب فإن ابنك يأتيك غدا إذا أمسيت، ويخبرك بالعجب من أمره . فانصرف الرجل فرحا. الحديث. 2 - وعن عبد الله بن سليمان الخلال، قال: وكتبت إليه (عليه السلام) أسأله الدعاء أن يفرج الله عنا في أسباب من قبل السلطان... إلى أن قال: فرجع الجواب بالدعاء... الحديث.
3 - وروى القطب الراوندي بالإسناد عن أبي القاسم بن القاسم، عن خادم علي بن محمد (عليه السلام)، قال: كان المتوكل يمنع الناس من الدخول إلى علي بن محمد (عليه السلام)، فخرجت يوما وهو في دار المتوكل، فإذا جماعة من الشيعة جلوس خلف الدار، فقلت: ما شأنكم جلستم ها هنا؟ قالوا: ننتظر انصراف مولانا لننظر إليه ونسلم عليه وننصرف (5)... الحديث.
4 - وروى الشيخ الطوسي بالإسناد عن أبي محمد الفحام، عن أبي الحسن محمد بن أحمد المنصوري، قال: حدثني عم أبي، قال: قصدت الإمام يوما فقلت: إن المتوكل قد أطرحني وقطع رزقي ومللني، وما اتهم في ذلك إلا علمه بملازمتي لك، فينبغي أن تتفضل علي بمسألته، فقال: تكفى إن شاء الله. فلما كان في الليل طرقني رسل المتوكل، رسول يتلو رسولا، فجئت إليه، فوجدته في فراشه، فقال: يا أبا موسى، نشغل عنك وتنسينا نفسك.. الحديث.
5 - وروى المؤرخون أنه في سنة 244 هقتل المتوكل يعقوب بن السكيت الإمام في العربية، فإنه ندبه إلى تعليم أولاده، فنظر المتوكل يوما إلى ولديه المعتز والمؤيد، فقال لابن السكيت: من أحب إليك: هما أو الحسن والحسين؟ فقال: قنبر خادم علي (عليه السلام) خير منك ومن ابنيك، فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتى مات، وقيل: أمر بسل لسانه من قفاه فمات، وأرسل إلى ابنه بديته (6).
6 - وروى الكشي عن محمد بن مسعود، قال: قال يوسف بن السخت: كان علي بن جعفر وكيلا لأبي الحسن (عليه السلام)، وكان رجلا من أهل همينيا - قرية من قرى سواد بغداد - فسعي به إلى المتوكل، فحبسه فطال حبسه، واحتال من قبل عبد الله ابن خاقان، بمال ضمنه عنه بثلاثة آلاف دينار، فكلمه عبد الله فعرض جامعة على المتوكل فقال: يا عبد الله، لو شككت فيك لقلت: إنك رافضي، هذا وكيل فلان - أي علي بن محمد (عليه السلام) - وأنا عازم على قتله.
قال: فتأدى الخبر إلى علي بن جعفر، فكتب إلى أبي الحسن (عليه السلام): يا سيدي، الله الله في، فقد والله خفت أن أرتاب. فوقع في رقعته: أما إذا بلغ بك الأمر ما أرى فسأقصد الله فيك، وكان هذا في ليلة الجمعة، فأصبح المتوكل محموما، فازدادت عليه حتى صرخ عليه يوم الاثنين. فأمر بتخلية كل محبوس عرض عليه اسمه حتى ذكر هو علي بن جعفر، فقال - الإمام علي الهادي عليه السلام - الحاج حسين الشاكري ص 339: لعبيد الله: لم لم تعرض على أمره؟ فقال: لا أعود إلى ذكره أبدا. قال: خل سبيله الساعة، وسله أن يجعلني في حل، فخلى سبيله، وصار إلى مكة بأمر الحسن (عليه السلام)، فجاور بها، وبرأ المتوكل من علته (7).
دعاء الإمام (عليه السلام) على المتوكل:
وعندما تمادى المتوكل في إيذاء الإمام (عليه السلام) والتنكيل بشيعته، وبلغ الظلم والتعسف أقصاه، توجه الإمام أبو الحسن (عليه السلام) إلى الله تعالى، منقطعا إليه، متضرعا، داعيا بالدعاء التالي، وهو الدعاء المعروف بدعاء المظلوم على الظالم، ويعتبر من الكنوز المشرقة في تراث أهل بيت العصمة سلام الله عليهم، فهو يكشف عن شدة العنت الذي يقاسيه الإمام (عليه السلام) وإحساسه العميق بما تعانيه الأمة من الحيرة والضياع والحدود المعطلة والأحكام المهملة فضلا عن الجوع وتردي الأحوال، فإليك الدعاء بألفاظه الجزلة ومعانيه الفائقة: روى السيد ابن طاووس بالإسناد عن أبي الحسن محمد بن محمد بن المحسن ابن يحيى بن الرضا، قال: حدثني أبي (رضي الله عنه)، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن صدقة يوم السبت لثلاث بقين من صفر سنة اثنين وستين وثلاثمائة بمشهد مقابر قريش، على ساكنه السلام، من حفظه، قال: أخبرنا سلامة بن محمد الأزدي، قال: حدثني أبو جعفر بن عبد الله العقيلي، وحدثني أبو الحسن محمد بن بريك الرهاوي، قال: أخبرنا أبو القاسم عبد الواحد الموصلي إجازة، قال: حدثني أبو محمد جعفر بن عقيل بن عبد الله بن عقيل بن محمد بن عبد الله بن عقيل بن أبي طالب، قال: حدثني أبو روح النسائي، عن أبي الحسن علي بن محمد (عليهما السلام)، أنه دعا على المتوكل، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: اللهم إني وفلانا عبدان من عبيدك إلى آخر الدعاء الذي اتی ذكره.قال: ووجدت هذا الدعاء مذكورا بطريق آخر هذا لفظه: ذكر بإسناده عن زرافة حاجب المتوكل وكان شيعيا، أنه قال: كان المتوكل لحظوة الفتح بن خاقان عنده، وقربه من دون الناس جميعا، ودون ولده وأهله، أراد أن يبين موضعه عندهم. فأمر جميع مملكته من الأشراف من أهله وغيرهم، والوزراء والأمراء والقواد وسائر العساكر، ووجوه الناس، أن يزينوا بأحسن التزيين، ويظهروا في أفخر عددهم وذخائرهم، ويخرجوا مشاة بين يديه، وأن لا يركب أحد إلا هو والفتح بن خاقان خاصة بسر من رأى، ومشى الناس بين أيديهما على مراتبهم رجالة، وكان يوما قائظا شديد الحر، وأخرجوا في جملة الأشراف أبا الحسن علي ابن محمد (عليهما السلام) وشق ما لقيه من الحر والزحمة.
قال زرافة: فأقبلت إليه وقلت له: يا سيدي، يعز والله علي ما تلقى من هذه الطغاة، وما قد تكلفته من المشقة، وأخذت بيده فتوكأ علي، وقال: يا زرافة، ما ناقة صالح عند الله بأكرم مني - أو قال: بأعظم قدرا مني - ولم أزل أسائله وأستفيد منه، وأحادثه إلى أن نزل المتوكل من الركوب، وأمر الناس بالانصراف.
فقدمت إليهم دوابهم فركبوا إلى منازلهم، وقدمت بغلة له فركبها، وركبت معه إلى داره، فنزل وودعته وانصرفت إلى داري. ولولدي مؤدب يتشيع من أهل العلم والفضل، وكانت لي عادة بإحضاره عند الطعام، فحضر عند ذلك وتجارينا الحديث، وما جرى من ركوب المتوكل والفتح، ومشي الأشراف وذوي الأقدار بين أيديهما، وذكرت له ما شاهدته من أبي الحسن علي بن محمد (عليهما السلام) وما سمعته من قوله: ما ناقة صالح عند الله بأعظم قدرا مني .
وكان المؤدب يأكل معي، فرفع يده وقال: بالله إنك سمعت هذا اللفظ منه؟ فقلت له: والله إني سمعته يقوله، فقال لي: اعلم أن المتوكل لا يبقى في مملكته أكثر من ثلاثة أيام ويهلك، فانظر في أمرك، واحرز ما تريد إحرازه، وتأهب لأمرك كي لا يفجؤكم هلاك هذا الرجل، فتهلك أموالكم بحادثة تحدث أو سبب يجري. فقلت له: من أين لك ذلك؟ فقال: أما قرأت القرآن في قصة صالح والناقة وقوله تعالى: *(تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب)* ولا يجوز أن تبطل قول الإمام.
قال زرافة: فوالله ما جاء اليوم الثالث حتى هجم المنتصر ومعه بغا ووصيف والأتراك على المتوكل فقتلوه وقطعوه والفتح بن خاقان جميعا قطعا، حتى لم يعرف أحدهما من الآخر، وأزال الله نعمته ومملكته، فلقيت الإمام أبا الحسن (عليه السلام) بعد ذلك، وعرفته ما جرى مع المؤدب، وما قاله، فقال: صدق، إنه لما بلغ مني الجهد رجعت إلى كنوز نتوارثها من آبائنا، وهي أعز من الحصون والسلاح والجنن، وهو دعاء المظلوم على الظالم، فدعوت به عليه فأهلكه الله. فقلت: يا سيدي إن رأيت أن تعلمنيه؟ فعلمنيه، وهو: اللهم إني وفلانا عبدان من عبيدك، نواصينا بيدك، تعلم مستقرنا ومستودعنا، وتعلم منقلبنا ومثوانا، وسرنا وعلانيتنا، وتطلع على نياتنا، وتحيط بضمائرنا، علمك بما نبديه كعلمك بما نخفيه، ومعرفتك بما نبطنه كمعرفتك بما نظهره، ولا ينطوي عليك شيء من أمورنا، ولا يستتر دونك حال من أحوالنا، ولا لنا منك معقل يحصننا، ولا حرز يحرزنا، ولا مهرب يفوتك منا.
ولا يمتنع الظالم منك بسلطانه، ولا يجاهدك عنه جنوده، ولا يغالبك مغالب بمنعة، ولا يعازك متعزز بكثرة، أنت مدركه أين ما سلك، وقادر عليه أين لجأ، فمعاذ المظلوم منا بك، وتوكل المقهور منا عليك، ورجوعه إليك، ويستغيث بك إذا خذله المغيث، ويستصرخك إذا قعد عنه النصير، ويلوذ بك إذا نفته الأفنية، ويطرق بابك إذا غلقت دونه الأبواب المرتجة، ويصل إليك إذا احتجبت عنه الملوك الغافلة، تعلم ما حل به قبل أن يشكوه إليك، وتعرف ما يصلحه قبل أن يدعوك له، فلك الحمد سميعا بصيرا لطيفا قديرا. اللهم إنه قد كان في سابق علمك وقضائك، وماضي حكمك ونافذ مشيتك في خلقك أجمعين، سعيدهم وشقيهم، وفاجرهم وبرهم، أن جعلت لفلان بن فلان علي قدرة فظلمني بها، وبغى علي لمكانها، وتعزز علي بسلطانه الذي خولته إياه، وتجبر علي بعلو حاله التي جعلتها له، وغره إملاؤك له، وأطغاه حلمك عنه. فقصدني بمكروه عجزت عن الصبر عليه، وتعمدني بشر ضعفت عن احتماله، ولم أقدر على الانتصار لضعفي، والانتصاف منه لذلي، فوكلته إليك، وتوكلت في أمره عليك، وتواعدته بعقوبتك، وحذرته سطوتك، وخوفته نقمتك، فظن أن حلمك عنه من ضعف، وحسب أن إملاءك له من عجز، ولم تنهه واحدة عن أخرى، ولا انزجر عن ثانية بأولى، ولكنه تمادى في غيه، وتتابع في ظلمه، ولج في عدوانه، واستشرى في طغيانه، جراءة عليك يا سيدي، وتعرضا لسخطك الذي لا ترده عن القوم الظالمين، وقلة اكتراث ببأسك الذي لا تحبسه عن الباغين. فها أنا ذا يا سيدي مستضعف في يديه، مستضام تحت سلطانه، مستذل بعقابه، مغلوب مبغي علي مقصود وجل خائف مروع مقهور، قد قل صبري، وضاقت حيلتي، وانغلقت علي المذاهب إلا إليك، وانسدت علي الجهات إلا جهتك، والتبست علي أموري في رفع مكروهه عني، واشتبهت علي الآراء في إزالة ظلمه، وخذلني من استنصرته من عبادك، وأسلمني من تعلقت به من خلقك طرا، واستشرت نصيحي، فأشار علي بالرغبة إليك، واسترشدت دليلي فلم يدلني إلا عليك.
فرجعت إليك يا مولاي صاغرا راغما، مستكينا، عالما أنه لا فرج لي إلا عندك، ولا خلاص لي إلا بك، أنتجز وعدك في نصرتي، وإجابة دعائي، فإنك قلت وقولك الحق الذي لا يرد ولا يبدل: *(ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله)* ، وقلت جل جلالك وتقدمت أسماؤك: *(ادعوني أستجب لكم)* ، وأنا فاعل ما أمرتني، فاستجب لي كما وعدتني. وإني لأعلم يا سيدي أن لك يوما تنتقم فيه من الظالم للمظلوم، وأتيقن أن لك وقتا تأخذ فيه من الغاضب للمغضوب، لأنك لا يسبقك معاند، ولا يخرج عن قبضتك منابذ، ولا تخاف فوت فائت، ولكن جزعي وهلعي لا يبلغان بي الصبر على أناتك، وانتظار حلمك، فقدرتك يا مولاي فوق كل قدرة، وسلطانك غالب كل سلطان، ومعاد كل أحد إليك وإن أمهلته، ورجوع كل ظالم إليك وإن أنظرته، وقد أضرني يا رب حلمك عن فلان بن فلان، وطول أناتك له وإمهالك إياه، وكاد القنوط يستولي علي لولا الثقة بك، واليقين بوعدك. فإن كان في قضائك النافذ، وقدرتك الماضية أن ينيب أو يتوب، أو يرجع عن ظلمي أو يكف مكروهه عني، وينتقل عن عظيم ما ركب مني، فصل على محمد وآل محمد، وأوقع ذلك في قلبه الساعة الساعة قبل إزالته نعمتك التي أنعمت بها علي، وتكديره معروفك الذي صنعته عندي.
وإن كان في علمك به غير ذلك، من مقام على ظلمي، فأسألك يا ناصر المظلوم المبغى عليه إجابة دعوتي، فصل على محمد وآل محمد، وخذه من مأمنه أخذ عزيز مقتدر، وافجئه في غفلته مفاجأة مليك منتصر، واسلبه نعمته وسلطانه، وفل عنه جنوده وأعوانه، ومزق ملكه كل ممزق، وفرق أنصاره كل مفرق، وأعره من نعمتك التي لم يقابلها بالشكر، وانزع عنه سربال عزه الذي لم يجازه بالإحسان، واقصمه يا قاصم الجبابرة، وأهلكه يا مهلك القرون الخالية، وأبره يا مبير الأمم الظالمة، واخذله يا خاذل الفئات الباغية، وابتره عمره، وابتزه ملكه، وعف أثره، واقطع خبره، وأطفئ ناره، وأظلم نهاره، وكور شمسه، واهشم شدته، وجذ سنامه، وأرغم أنفه، ولا تدع له جنة إلا هتكتها، ولا دعامة إلا قصمتها، ولا كلمة مجتمعة إلا فرقتها، ولا قائمة علو إلا وضعتها، ولا ركنا إلا وهنته، ولا سببا إلا قطعته.
وأره أنصاره وجنده عباديد بعد الألفة، وشتى بعد اجتماع الكلمة، ومقنعي الرؤوس بعد الظهور على الأمة، واشف بزوال أمره القلوب المنقلبة الوجلة والأفئدة اللهفة، والأمة المتحيرة، والبرية الضائعة، وأدل ببواره الحدود المعطلة، والأحكام المهملة، والسنن الدائرة، والمعالم المغيرة، والآيات المحرفة، والمدارس المهجورة، والمحاريب المجفوة، والمساجد المهدومة. وأشبع به الخماص الساغبة، وارو به اللهوات اللاغبة، والأكباد الظامئة، وأرح به الأقدام المتعبة، واطرقه بليلة لا أخت لها، وساعة لا شفاء منها، وبنكبة لا انتعاش معها، وبعثرة لا إقالة منها، وأبح حريمه، ونغص نعمته، وأره بطشتك الكبرى، ونقمتك المثلى، وقدرتك التي هي فوق كل قدرة، وسلطانك الذي هو أعز من سلطانه، واغلبه لي بقوتك القوية، ومحالك الشديد، وامنعني بمنعتك التي كل خلق فيها ذليل، وابتله بفقر لا تجبره، وبسوء لا تستره، وكله إلى نفسه في ما يريد، إنك فعال لما تريد.
وأبرئه من حولك وقوتك، وأحوجه إلى حوله وقوته، وأذل مكره بمكرك، وادفع مشيته بمشيتك، واسقم جسده، وأيتم ولده، وانقص أجله، وخيب أمله، وأدل دولته، وأطل عولته، واجعل شغله في بدنه، ولا تفكه من حزنه، وصير كيده في ضلال، وأمره إلى زوال، ونعمته إلى انتقال، وجده في سفال، وسلطانه في اضمحلال، وعاقبة أمره إلى شر حال، وأمته بغيظه إذا أمته، وأبقه لحزنه إن أبقيته، وقني شره وهمزه ولمزه، وسطوته وعداوته، والمحه لمحة تدمر بها عليه، فإنك أشد بأسا وأشد تنكيلا، والحمد لله رب العالمين (8).
انظر إلى عمق الدعاء وفصاحته وجزالته المعبر عما يعانيه الإمام الهادي (عليه السلام) وشيعته ومواليه من استبداد المتوكل وطغيانه واستهتاره. مقتل المتوكل: لقد استجاب الله تعالى دعاء حجته على عباده ووليه على خلقه، العبد الصالح المظلوم أبي الحسن الهادي (عليه السلام) وانتقم من المتوكل أشد انتقام، وأخذه أخذ عزيز مقتدر، إذ لم يلبث بعد هذا الدعاء المبارك سوى ثلاثة أيام حتى أهلكه الله تعالى وجعله أثرا بعد عين وعبرة للطغاة والمتكبرين. فقد اتفق ابنه المنتصر مع جماعة من الأمراء الأتراك، منهم: وصيف وبغا وباغر، فهجموا على دار الخلافة في ليلة الأربعاء لأربع خلون من شوال سنة 247 ه، فقتلوه مع وزيره الفتح بن خاقان، وكان المتوكل سكران ثملا، والذي في رواية ابن الأثير: أنه قتل وقد شرب في تلك الليلة أربعة عشر رطلا، وهو مستمر في لهوه وسروره إلى الليل بين الندماء والمغنين والجواري.
وخرج الأتراك وكان المنتصر بانتظارهم، فبايعوه بالخلافة، وأشاعوا أن الفتح قد قتل المتوكل، فقتلناه به، ثم أخذ البيعة من سائر بني العباس وقطعات الجيش، وكان المتوكل يزدري فانتصر الله له بالمنتصر * وهكذا أخذ عزيز مقتدر عاجله المنتقم القهار * بضربة تقدح منها النار فانهار في نار الجحيم الموصدة * مخلدا في عمد ممددة أيام المنتصر تولى المنتصر سنة 247 هبعد أن قتل أباه، وأعد كتابا قرأه أحمد بن الخصيب، أخبر فيه أن الفتح بن خاقان قد قتل المتوكل فقتله به، فبايع الناس المنتصر، وحضر عبيد الله بن يحيى بن خاقان فبايع وانصرف ، وكان عمره 25 سنة وستة أشهر، واستمرت أيامه ستة أشهر ويومان. قال أبو الفرج: كان المنتصر يظهر الميل إلى أهل هذا البيت، ويخالف أباه في أفعاله، فلم يجر منه على أحد منهم قتل أو حبس ولا مكروه فيما بلغنا، والله أعلم (9).
وقال ابن الأثير: أمر المنتصر الناس بزيارة قبر علي والحسين (عليهما السلام) فأمن العلويين، وكانوا خائفين أيام أبيه، وأطلق وقوفهم، وأمر برد فدك إلى ولد الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب (عليه السلام). وذكر أن المنتصر لما ولي الخلافة كان أول ما أحدث أن عزل صالح بن علي عن المدينة، واستعمل عليها علي بن الحسين بن إسماعيل بن العباس بن محمد، قال المنتصر ويحتقره ويبالغ في الاستهانة به، حتى أنه طلب من الفتح بن خاقان أن يلطمه، فلطمه مرتين قبل أن يقتل بيوم، وخلعه من ولاية العهد، وهو أحد الأسباب التي جعلته يسرع في تنفيذ اغتيال أبيه، وبذلك انطوت بموته صفحات سوداء من تأريخ الظلم والتعسف والعدوان.
علي: فلما دخلت أودعه قال لي: يا علي، إني أوجهك إلى لحمي ودمي، فانظر كيف تكون للقوم، وكيف تعاملهم - يعني آل أبي طالب - فقال: أرجو أن أمتثل أمر أمير المؤمنين إن شاء الله، فقال: إذن تسعد عندي. ولقد روي عن المنتصر أنه كان يخالف على أبيه مناصبته العداء لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) ولأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله)، ومن ذلك ما رواه ابن الوردي في تأريخه، قال: كان المتوكل شديد البغض لعلي ولأهل بيته، وكان يجالس من اشتهر ببغض علي كابن الجهم الشاسي وأبي السمط، وكان نديمه عبادة المخنث يكبر بطنه بمخدة، ويكشف رأسه وهو أصلع ويرقص ويقول: قد أقبل الأصلع البطين، خليفة المسلمين! يعني عليا (عليه السلام).
فقال له المنتصر يوما: يا أمير المؤمنين، إن عليا ابن عمك، فكل أنت لحمه إذا شئت، ولا تخل مثل هذا الكلب وأمثاله يطمع فيه، فقال المتوكل للمغنين: غنوا: غار الفتى لابن عمه * رأس الفتى في حر أمه! وقد علل أبو الفرج إحسان المنتصر إلى العلويين وتوزيعه المال عليهم بعد سنين من الحصار الظالم، لأنه كان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادة مذهبه طعنا عليه، ونصرة لفعله (10)، ومهما يكن الأمر فإن الأيام القليلة التي قضاها المنتصر في الحكم العباسي لم تشر إلى أي بادرة جرت بين الإمام الهادي (عليه السلام) والمنتصر، والشئ المؤكد أنه (عليه السلام) كان مسرورا من الإجراءات التي اتخذها المنتصر إزاء العلويين.
أيام المستعين وفي سنة 248 هـ بويع المستعين - وهو أحمد بن محمد بن المعتصم - بالخلافة، وبقي حتى سنة 251 ه، وكان المستعين مستضعفا في رأيه وعقله وتدبيره، وكانت أيامه كثيرة الفتن، ودولته شديدة الاضطراب حتى خلع ثم قتل. وكانت البيعة له بعد أن خلع المنتصر أخويه المؤيد والمعتز من ولاية العهد، بتدبير من أحمد بن الخصيب والأتراك خوفا من أن يلي أحدهما فيقتلهم بأبيه، وكان اختياره وتنصيبه من قبل بغا الكبير وبغا الصغير وأتامش من قادة الأتراك، فبايعوه وكان عمره 28 سنة.
وكانت أيامه مثالا للفوضى وغياب القانون وتردي الأحوال الاقتصادية لعامة الناس، مع استئثار المقربين له من عائلته وقادة الجيش الأتراك بالأموال، قال ابن الأثير: وكان المستعين أطلق يد والدته وأتامش وشاهك الخادم في بيوت الأموال، وأباح لهم فعل ما أرادوا، فكانت الأموال التي ترد من الآفاق يصير معظمها إلى هؤلاء الثلاثة، وما يفضل منهم يصرفه أتامش للعباس بن المستعين، وكانت الموالي تنظر إلى الأموال تؤخذ وهم في ضيقة (11). وثار في أيام المستعين كثير من العلويين في وجه الظلم والجبروت، مطالبين بحقوق المظلومين والمضطهدين والمعذبين، داعين إلى إقامة حكم الله في أرض الله، وسنأتي إلى ذكر بعضهم:
ثورة الشهيد يحيى بن عمر
نسبه وسبب خروجه:قال أبو الفرج الأصفهاني: وممن خرج في أيام المتوكل وقتل في أيام المستعين أبو الحسين يحيى بن عمر [بن يحيى] بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب (عليه السلام). وأمه أم الحسن بنت عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر ابن أبي طالب (رضي الله عنه). خرج يحيى في أيام المتوكل إلى خراسان فرده عبد الله بن طاهر، فأمر المتوكل بتسليمه إلى عمر بن الفرج الرخجي، فسلم إليه، فكلمه بكلام فيه بعض الغلظة، فرد عليه يحيى وشتمه، فشكا ذلك إلى المتوكل، فأمر به فضرب دررا، ثم حبسه في دار الفتح بن خاقان، فمكث على ذلك مدة، ثم أطلق، فمضى إلى بغداد، فلم يزل بها حينا حتى خرج إلى الكوفة، فدعا إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، وأظهر العدل وحسن السيرة بها إلى أن قتل رضوان الله عليه، وكان (رضي الله عنه) رجلا فارسا شجاعا، شديد البدن، مجتمع القلب، بعيدا من رهق الشباب، وما يعاب به مثله (12).وقال ابن الأثير في حوادث سنة 250 ه: في هذه السنة ظهر يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، المكنى بأبي الحسن، بالكوفة.
وكان سبب ذلك أن أبا الحسين نالته ضيقة، ولزمه دين ضاق به ذرعا، فلقي عمر بن فرج، وهو يتولى أمر الطالبيين، عند مقدمه من خراسان، أيام المتوكل، فكلمه في صلته، فأغلظ له عمر القول، وحبسه، فلم يزل محبوسا حتى كفله أهله، فأطلق، فسار إلى بغداد، فأقام بها بحال سيئة، ثم رجع إلى سامراء، فلقي وصيفا في رزق يجرى له، فأغلظ له وصيف وقال: لأي شيء يجرى على مثلك؟ فانصرف عنه إلى الكوفة، وبها أيوب بن الحسن بن موسى بن جعفر بن سليمان الهاشمي، عامل محمد بن عبد الله بن طاهر، فجمع أبو الحسين جمعا كثيرا من الأعراب وأهل الكوفة وأتى الفلوجة. وقال ابن الطقطقا: كان يحيى بن عمر قتيل شاهي قدم من خراسان في أيام المتوكل، وهو في ضائقة وعليه دين، فكلم بعض أكابر أصحاب المتوكل في ذلك فأغلظ له وحبسه بسامراء، ثم كفله أهله فأطلق وانحدر إلى بغداد، فأقام بها مدة على حال غير مرضية من الفقر، وكان (رضي الله عنه) دينا خيرا عمالا حسن السيرة، فرجع إلى سامراء مرة ثانية، وكلم بعض أمراء المتوكل في حاله، فأغلظ له وقال: لأي حال يعطى مثلك؟ فرجع إلى بغداد وانحدر منها إلى الكوفة، ودعا الناس إلى الرضا من آل محمد. وقال اليعقوبي: وخرج في زمان المستعين يحيى بن عمر بن الحسين بعد أن لقيه بعض ولاة العباسيين في سامراء بما لا يحب، فخرج إلى الكوفة، واجتمع إليه الناس (13).
ومما تقدم من أقوال المؤرخين يبدو أن يحيى خرج على حكم العباسيين بسبب تردي الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والقسوة والظلم والتعسف الذي كانت تعانيه الأمة في أيام حكم المتوكل وما بعده من حكام العباسيين، لذا فقد دعا إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله) وأظهر العدل وحسن السيرة حتى لقي ربه. وبالرغم من أن الشهيد يحيى بن عمر كان في ضائقة مالية، وأن عليه دين باهض، وأن أذناب العباسيين قد قطعوا حقه ورزقه وصلته من بيت المال، إلا أن أهداف ثورته لم تكن من أجل الحصول على المال وحسب، بل كان يهدف إلى إقامة العدل وإرجاع الحق إلى أهله. قال أبو الفرج الإصفهاني: حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار الثقفي، قال: حدثنا محمد بن أحمد الحر، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن السميدع، قال: قال لي عمي: ما رأيت رجلا أورع من يحيى بن عمر، أتيته فقلت له: يا بن رسول الله، لعل الذي حملك على هذا الأمر الضيقة، وعندي ألف دينار ما أملك سواها، فخذها فهي لك، وآخذ لك من إخوان لي ألف دينار أخرى. قال: فرفع رأسه ثم قال: فلانة بنت فلان - يعني زوجته - طالق ثلاثا، إن كان خروجي إلا غضبا لله عز وجل، فقلت له: امدد يدك، فبايعته وخرجت معه (14).
سير المعركة:
قال أبو الفرج الأصفهاني: حدثني أحمد بن عبيد الله، قال: حدثني أبو عبد الله بن أبي الحصين، قال: إن يحيى بن عمر لما أراد الخروج بدأ فزار قبرالحسين (عليه السلام)، وأظهر لمن حضره من الزوار ما أراده، فاجتمعت إليه جماعة من الأعراب، ومضى فقصد شاهي، فأقام بها إلى الليل، ثم دخل الكوفة ليلا، وجعل أصحابه ينادون، أيها الناس، أجيبوا داعي الله، حتى اجتمع إليه خلق كثير، فلما كان من غد مضى إلى بيت المال فأخذ ما فيه ، ووجه إلى قوم من الصيارفة عندهم مال من مال السلطان فأخذه منهم، [فأظهر أمره بالكوفة، وفتح السجون، وأخرج من فيها، وأخرج العمال عنها] ، وصار إلى بني حمان، وقد اجتمع أهله، ثم جلس فجعل أبو جعفر محمد بن عبيد الله الحسني وهو المعروف بالأدرع يساره، ويعظم عليه أمر السلطان، فبينما هم كذلك إذا عبد الله بن محمود قد أقبل وعنده جند مرتبون، كانوا معه في طساسيج الكوفة، فصاح بعض الأعراب بيحيى: أيها الرجل، أنت مخدوع، هذه الخيل قد أقبلت، فوثب يحيى فجال في متن فرسه، وحمل على عبد الله بن محمود فضربه ضربة بسيفه على وجهه، فولى محمود منهزما وتبعه أصحابه منهزمين، [فأخذ أصحاب يحيى ما كان معهم من الدواب والمال] (15)ثم رجع إلى أصحابه فجلس معهم ساعة. وسار خبر يحيى بن عمر وانتهى إلى بغداد، فندب له محمد بن عبد الله بن طاهر ابن عمه الحسين بن إسماعيل، وضم إليه جماعة من القواد، منهم خالد بن عمران وأبو السنا الغنوي، ووجه الفلس، وهو عبد الرحمن بن الخطاب، وعبد الله ابن نصر بن حمزة وسعد الضبابي، فنفذوا إليه على كره، [ودعا يحيى في الكوفة إلى الرضا من آل محمد (عليهم السلام)، فاجتمع الناس إليه، وأحبوه]، وكان هوى أهل بغداد مع يحيى، ولم يروا قط مالوا إلى طالبي خرج غيره [وبايعه جماعة من أهل الكوفة ممن لهم تدبير وبصيرة في تشيعهم] (16).
فنفذ الحسين إلى الكوفة فدخلها، وأقام بها أياما، ثم مضى قاصدا يحيى حتى وافاه، فأقام في وجهه أياما، ثم ارتحل قاصدا القسين حتى نزل قرية يقال لها البحرية، وكان على خراج تلك الناحية أحمد بن علي الإسكافي، وعلى حرسها أحمد ابن الفرج الفزاري، فأخذ أحمد بن علي مال الخراج وهرب، وثبت ابن الفرج فناوش يحيى مناوشة يسيرة، وولى عنه بعد ذلك، ومضى يحيى لوجهه يريد الكوفة، فعارضه المعروف بوجه الفلس فقاتله قتالا شديدا، فانهزم عن يحيى فلم يتبعه. ومضى وجه الفلس لوجهه حتى نزل شاهي، فصادف فيها الحسين بن إسماعيل فأقام بشاهي، وأراحا وشربا الماء العذب، وقويت عساكرهم وخيلهم. وأشار أصحاب يحيى عليه بمعاجلة الحسين بن إسماعيل، وكان معهم رجل يعرف بالهيضم بن العلاء العجلي، فوافى يحيى في عدة من أهله وعشيرته، وقد تعبت خيلهم ورجالهم، فصاروا في عسكره، فحين التقوا كان أول ما انهزم الهيضم هذا. وذكر قوم أن الحسين بن إسماعيل كان راسله في هذا وأجمعا رأيهما عليه، وقال قوم: بل انهزم للتعب الذي لحقه.
فلما رأى يحيى هزيمة الهيضم، لم يزل يقاتل مكانه حتى قتل، فأخذ سعد الضبابي رأسه، وجاء به إلى الحسين بن إسماعيل، وكانت في وجهه ضربات لم يكد يعرف معها. رواية ابن الأثير: وأقام يحيى بالكوفة يعد العدد، ويصلح السلاح، فأشار عليه جماعة من الزيدية، ممن لا علم لهم بالحرب، بمعاجلة الحسين بن إسماعيل، وألحوا عليه، فزحف إليه ليلة الاثنين لثلاث عشرة خلت من رجب سنة 250 ه(17)، ومعه الهيضم العجلي وغيره، ورجالة من أهل الكوفة ليس لهم علم ولا شجاعة، وأسروا ليلتهم، وصبحوا الحسين وهو مستريح، فثاروا بهم في الغلس، وحمل عليهم أصحاب الحسين فانهزموا، ووضعوا فيهم السيف، وكان أول أسير الهيضم العجلي، وانهزم رجالة أهل الكوفة، وأكثرهم بغير سلاح، فداستهم الخيل. وانكشف العسكر عن يحيى بن عمر، وعليه جوشن، قد تقطر به فرسه، فوقف عليه ابن لخالد بن عمران، فقال له: خير، فلم يعرفه، وظنه رجلا من أهل خراسان لما رأى عليه الجوشن، فأمر رجلا، فنزل إليه، فأخذ رأسه، وعرفه رجل كان معه، وسير الرأس إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، وادعى قتله غير واحد، فسير محمد الرأس إلى المستعين، فنصب بسامراء لحظة، ثم حطه، ورده إلى بغداد لينصب بها، فلم يقدر محمد على ذلك لكثرة من اجتمع من الناس، فخاف أن يأخذوه فلم ينصبه، وجعله في صندوق في بيت السلاح.
ووجه الحسين بن إسماعيل برؤوس من قتل، وبالأسرى، فحبسوا ببغداد. قال أبو الفرج الأصفهاني: ولم يتحقق أهل الكوفة قتل يحيى، فوجه إليهم الحسين بن إسماعيل أبا جعفر الحسني يعلمهم أنه قد قتل، فشتموه وأسمعوه ما يكره وهموا به، وقتلوا غلاما له، فوجه إليهم أخا كان لأبي الحسن يحيى بن عمر من أمه يعرف بعلي بن محمد الصوفي من ولد عمر بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وكان رجلا رفيقا مقبولا، فعرف الناس قتل أخيه، فضجوا بالبكاء والصراخ والعويل، وانصرفوا، وانكفأ الحسين بن إسماعيل إلى بغداد ومعه رأس يحيى بن عمر، فلما دخل بغداد جعل أهلها يصيحون من ذلك إنكارا له ويقولون: إن يحيى لم يقتل، ميلا منهم إليه، وشاع ذلك حتى كان الغوغاء والصبيان يصيحون في الطرقات: ما قتل وما فر، ولكن دخل البر. ولما ادخل رأس يحيى إلى بغداد، اجتمع أهلها إلى محمد بن عبد الله بن طاهر يهنئونه بالفتح، ودخل في من دخل على محمد بن عبد الله بن طاهر، أبو هاشم داود ابن القاسم الجعفري، وكان ذا عارضة ولسان، لا يبالي ما استقبل الكبراء وأصحاب السلطان به، فقال: أيها الأمير، قد جئتك مهنئا بما لو كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيا لعزي به، فلم يجبه محمد عن هذا بشيء ، فخرج داود وهو يقول: يا بني طاهر كلوه وبيئا * إن لحم النبي غير مري إن وترا يكون طالبه * الله لوتر نجاحه بالحري (18)
وأمر محمد بن عبد الله حينئذ أخته ونسوة من حرمه بالشخوص إلى خراسان، وقال: إن هذه الرؤوس من قتلى هذا البيت لم تدخل بيت قوم قط إلا خرجت منه النعمة، وزالت عنه الدولة، فتجهزن للخروج. قال أحمد بن عبيد الله بن عمار: وأدخل الأسارى من أصحاب يحيى إلى بغداد، ولم يكن فيما رؤي قبل ذلك من الأسارى أحد لحقه ما لحقهم من العسف وسوء الحال، وكانوا يساقون وهم حفاة سوقا عنيفا، فمن تأخر ضربت عنقه، فورد الكتاب من المستعين بتخلية سبيلهم، فخلوا سبيلهم إلا رجلا يعرف بإسحاق بن جناح، كان صاحب شرطة يحيى بن عمر، فإن محمد بن الحسين الأشناني حدثني أنه لم يزل محبوسا حتى مات، فخرج توقيع محمد بن عبد الله بن طاهر في أمره: يدفن الرجس النجس إسحاق بن جناح مع اليهود، ولا يدفن مع المسلمين ولا يصلى عليه ولا يغسل ولا يكفن! فأخرج (رحمه الله) بثيابه ملفوفا في كساء قومسي على نعش حتى جاءوا به إلى خربة، فطرح على الأرض والقي عليه حائط (رحمه الله تعالى).
رثاؤه:
قال أبو الفرج: وما بلغني أن أحدا ممن قتل في الدولة العباسية من آل أبي طالب رثي بأكثر مما رثي به يحيى، ولا قيل فيه الشعر بأكثر مما قيل فيه، واتفق في وقت مقتله عدة شعراء مجيدون للقول، أولو هوى في هذا المذهب.فممن رثاه أبو الحسن علي بن العباس، المعروف بابن الرومي بقصيدة طويلة تقع في 111 بيتا كما في الديوان ، تعرض فيها لمظالم أهل البيت (عليهم السلام)، وقارن بينهم وبين بني العباس، وبين ظلم الحكام العباسيين وجورهم، وهي قصيدة تستحق العناية والشرح. قال أبو الفرج: وهي من مختار ما رثي به، بل إن قلت: إنها عين ذلك والمنظور إليه، لم أكن مبعدا ، وفيما يلي بعض أبياتها:
أمامك فانظر أي نهجيك تنهج * طريقان شتى: مستقيم وأعوج
أكل أوان للنبي محمد * قتيل ذكي بالدماء مضرج
بني المصطفى كم يأكل الناس شلوكم * لبلواكم عما قليل مفرج
أما فيهم راع لحق نبيه * ولا خائف من ربه يتحرج
أبعد المكنى بالحسين شهيدكم * تضئ مصابيح السماء فتسرج
لنا وعلينا لا عليه ولا له * تسحسح أسراب الدموع وتنشج
وكيف نبكي فائزا عند ربه * له في جنان الخلد عيش مخرفج (19)
فإن لا يكن حيا لدينا فإنه * لدى الله حي في الجنان مزوج
وكنا نرجيه لكشف عماية * بأمثاله أمثالها تتبلج
فساهمنا ذو العرش في ابن نبيه * ففاز به، والله أعلى وأفلج
مضى ومضى الفراط من أهل بيته * يؤم بهم ورد المنية منهج
سلام وريحان وروح ورحمة * عليك وممدود من الظل سجسج
ولا برح القاع الذي أنت جاره * يرف عليك الإقحوان المفلج
ألا أيها المستبشرون بيومه * أظلت عليكم غمة لا تفرج
أكلكم أمس اطمأن مهاده * بأن رسول الله في القبر مزعج
كأني به كالليث يحمي عرينه * وأشباله لا يزدهيه المهجهج
كدأب علي في المواطن قبله * أبي حسن، والغصن من حيث يخرج
أجنوا بني العباس من شنآنكم * وأوكوا على ما في العياب وأشرجوا
وخلوا ولاة السوء منكم وغيهم * فأحر بهم أن يغرقوا حيث لججوا
نظار لكم أن يرجع الحق راجع * إلى أهله يوما فتشجوا
كما شجوا فلا تلقحوا الآن الضغائن بينكم * وبينهم إن اللواقح تنتج
لعل لهم في منطوى الغيب ثائرا * سيسمو لكم والصبح في الليل مولج
فيدرك ثأر الله أنصار دينه * ولله أوس آخرون وخزرج
ويقضي إمام الحق فيكم قضاءه * تماما، وما كل الحوامل تخدج
أفي الحق أن يمسوا خماصا وأنتم * يكاد أخوكم بطنة يتبعج
تمشون مختالين في حجراتكم * ثقال الخطأ أكفالكم تترجرج
وإن كنتم منهم وكان أبوكم * أباهم، فإن الصفو بالرنق يمزج
وإني على الإسلام منكم لخائف * بوائق شتى بابها الآن مرتج
وفي الحزم أن يستدرك الناس أمركم * وحبلهم مستحكم العقد مدمج (20)
2 - وقال ابن الأثير: وأكثر الشعراء مراثي يحيى لما كان عليه من حسن السيرة والديانة، فمن ذلك قول بعضهم:
بكت الخيل شجوها بعد يحيى * وبكاه المهند المصقول
وبكته العراق شرقا وغربا * وبكاه الكتاب والتنزيل
والمصلى والبيت والركن * والحجر جميعا له عليه عويل
كيف لم تسقط السماء علينا * يوم قالوا: أبو الحسين قتيل
وبنات النبي يبدين شجوا * موجعات دموعهن همول
قطعت وجهه سيوف الأعادي * بأبي وجهه الوسيم، الجميل
إن يحيى أبقى بقلبي غليلا * سوف يودي بالجسم ذاك الغليل
قتله مذكر لقتل علي * وحسين، ويوم أوذي الرسول
صلوات الإله وقفا عليهم * ما بكى موجع وحنت ثكول (21)
3 - وقال علي بن محمد بن جعفر العلوي، يذكر دخولهم على محمد بن عبد الله بن طاهر في التهنئة:
قتلت أعز من ركب المطايا * وجئتك أستلينك في الكلام
وعز علي أن ألقاك إلا * وفيما بيننا حد الحسام
ولكن الجناح إذا أهيضت * قوادمه يدف على الأكام
وقال أيضا من قصيدة يرثي بها يحيى:
تضوع مسكا جانب القبر إن ثوى * وما كان لولا شلوه يتضوع
وقال أيضا يرثيه:
فإن يك يحيى أدرك الحتف يومه * فما مات حتى مات وهو كريموما مات حتى قال طلاب نفسه * سقى الله يحيى إنه لصميم
فتى غرة لليوم وهو بهيم * ووجه لوجه الجمع وهو عظيم
لقد بيضت وجه الزمان بوجهه * وسرت به الإسلام وهو كظيم (22)
الحسن بن زيد العلوي
وممن خرج في أيام المستعين من الطالبيين الحسن بن زيد العلوي، مؤسس الدولة العلوية في طبرستان، فقد تقدم أن الحسن بن زيد من جملة من تفرق في النواحي والديار من آل أبي طالب منذ زمان المتوكل، ونضيف هنا مختصرا عن ترجمته وأحواله في زمان المستعين.وهو الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل الحسني العلوي، مؤسس الدولة العلوية في طبرستان، كان يسكن الري، فحدثت فتنة بين صاحب خراسان وأهل طبرستان سنة 250 ه، فكتب إليه هؤلاء يبايعونه، فجاءهم وزحف بهم على آمد (ديار بكر) فاستولى عليها وكثر جمعه، فقصد سارية (قرب جرجان) فملكها بعد قتال عنيف، ووجه جيشا إلى الري فملكها، وذلك في أيام المستعين العباسي، ودامت إمرته مدة عشرين عاما، كانت كلها حروبا ومعارك، أخرج من خلالها من طبرستان وعاد إليها، وتوفي بها سنة 270 ه، وكان حازما مهيبا، مرهوب الجانب، فاضل السيرة، حسن التدبير. الحسين بن محمد بن حمزة: وخرج في أيام المستعين أيضا الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ويعرف بالحرون، خرج بالكوفة بعد يحيى بن عمر، فوجه إليه المستعين مزاحم بن خاقان في عسكر عظيم، وحبس بضع عشرة سنة (23).
محمد بن جعفر بن الحسن: وخرج محمد بن جعفر بن الحسن بن جعفر بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي (عليه السلام)، وهو خليفة الحسين الحرون، فخرج بعده بالكوفة، فكتب إليه ابن طاهربتوليته الكوفة، وخدعه بذلك، فلما تمكن بها أخذه خليفة أبي الساج فحمله إلى سر من رأى، فحبس بها حتى مات. أيام المعتز في سنة 251 هقتل باغر التركي، قتله وصيف وبغا الصغير، فشغب الجند على المستعين، فانهزم إلى بغداد في زورق صغير مع وصيف وبغا ، فنزل دار محمد بن عبد الله بن طاهر، فعاث الأتراك بغيا وفسادا، وأخرجوا المعتز من سجن الجوسق، وبايعوه بالخلافة، وصارت بغداد وسائر النواحي مسرحا للاقتتال والخراب بين جيش المعتز ومؤيدي المستعين، حتى انتهى القتال بخلع المستعين لنفسه من الخلافة 252 ه، وكان نتيجة ذلك القتال أن خربت الدور والحوانيت والبساتين ونهبت الأسواق والأموال (24)، وتردت الأحوال الاقتصادية والاجتماعية بشكل لم يسبق له مثيل.
ومما يعكس مدى استئثار العائلة الحاكمة بأموال الناس، ما رواه المؤرخون من أن قبيحة أم المعتز عثر عندها بعد موته على مقدار 500 ألف دينار، وخزائن تحت الأرض فيها أموال طائلة، ومن جملتها دار تحت الأرض وجدوا فيها ألف ألف دينار، وثلاثمائة ألف دينار، ووجدوا في سفط قدر مكوك زمرد لم ير الناس مثله، وفي سفط آخر مكوك من اللؤلؤ الكبار وغيرها. وفي أيام المعتز قتل الإمام الهادي (عليه السلام) مسموما،
موقف الحكام المتأخرين من الإمام (عليه السلام)
ويبدو من حياة الإمام الهادي (عليه السلام) أن السنين السبعة التي قضاها في عهد المنتصر والمستعين بالله والمعتز لم يشهد فيها ما شهده في عهد المتوكل من التحديات والوشايات بين الحين والآخر، وقد اكتفى الحكام الثلاثة بفرض الإقامة الجبرية عليه في مدينة الجيش سامراء، وانتهت بمقتله مسموما (عليه السلام) في عهد المعتز. ولعل السبب في ذلك أن سلطة الحكام العباسيين في تلك الفترة من تأريخ خلافة بني العباس قد تلاشت تقريبا، ولم يعد للخليفة منها غير الاسم، وأصبح الحكم للقادة الأتراك وغيرهم، فهم يتولون الأمر والنهي، وهم يعزلون الخليفة أو يقتلونه ويولون غيره. قال ابن الطقطقا: وكان الأتراك قد استولوا منذ قتل المتوكل على المملكة، واستضعفوا الخلفاء، فكان الخليفة في يدهم كالأسير، إن شاءوا أبقوه، وإن شاءوا خلعوه، وإن شاءوا قتلوه.
وكثير من الأحداث تؤكد ضعف الخلفاء في تلك الفترة من التأريخ، وقد وصف بعض شعراء العصر الحالة التي انتهت إليها الخلافة العباسية بقوله: خليفة في قفص * بين وصيف وبغا يقول ما قالا له * كما تقول الببغا وقد وصف بهذه الأبيات حال المستعين الذي لم يكن له أدنى أمر مع امراء الجند الأتراك وصيف وبغا وغيرهما.
شهادة الإمام الهادي (عليه السلام):
وانتهت قصة الصراع المرير بين إمامنا الهادي (عليه السلام) ورموز السلطة العباسية بدس السم إليه من قبل المعتز ، وصلى عليه ابنه الإمام بعده أبو محمد الحسن العسكري (عليه السلام) ، وذلك في يوم الاثنين المصادف الثالث من رجب سنة 254 ه، واكتظ الناس في موكب توديع وتشييع الإمام (عليه السلام)، وخرج الإمام أبو محمد الحسن العسكري في جنازته مشقوق القميص (25)، وكان أبو أحمد بن هارون الرشيد، المبعوث من قبل المعتز العباسي للصلاة على جثمان الإمام (عليه السلام) لما رأى اجتماع الناس وضجتهم أمر برد النعش إلى دار الإمام (عليه السلام) فدفن هناك ، وكان المعتز قد أرسل مبعوثه للتغطية على جريمته النكراء، كما هو ديدن أسلافه العباسيين مع الأئمة الهداة من عترة المصطفى (عليهم السلام). قال الشاعر: ثم نال المعتز ما شاء منه * إذ سقاه السم النقيع جهارا فاستشاطت له البلاد وصارت * صيحة طبقت بها الأقطارا وقيل في يوم وفاته: إنه يوم الاثنين الخامس والعشرون من جمادى الآخرة سنة 254 ه، والتأريخ الأول أشهر وعليه عامة أعلام الطائفة محدثيهم ومؤرخيهم. وروي عن ابن بابويه أنه (عليه السلام) مات مسموما، وأن الذي سمه هو المعتمد العباسي (26)، وإذا صح ذلك فإنه لا بد أن يكون قد سمه المعتز، كما نقله الشيخ إبراهيم الكفعمي، ذلك لأنه استشهد في عهده سنة 254 ه، وبويع المعتمد العباسي بالخلافة سنة 256 هفي النصف من رجب بعد قتل المهتدي بن محمد بن هارون الواثق.أقول: لقد صرح كثير من المحدثين والمؤرخين بأن الإمام (عليه السلام) قد مات مسموما، منهم: الشبلنجي وابن الصباغ المالكي والشيخ أبو جعفر الطبري الإمامي والشيخ إبراهيم الكفعمي وغيرهم ، وبعض هؤلاء اكتفى بنقل القول في ذلك، ومما لا شك فيه أن الإمام (عليه السلام) قد استشهد في زمان المعتز، وهو المعروف عند المؤرخين بأنه كان شابا نزقا سفاكا للدماء، لم يتحرج عن القتل. ففي أول جلوسه على سرير الحكم بعث إلى أخويه المؤيد وأبي أحمد ابني المتوكل، فأخذهما وحبسهما، وقيد المؤيد وضربه أربعين مقرعة، وخلعه من ولاية العهد، وأخذ خطه بخلع نفسه، ثم قتله في السجن، وجعل أخاه أبا أحمد في محبسه، وخشي أن يتحدث عنه الناس أنه قتل أخاه أو احتال عليه، فأحضر القضاة حتى شاهدوه وليس به أثر. وأبعد ابن عمه المهتدي إلى بغداد خوفا من أن ينصبه الأتراك خليفة من بعده ، وهو الأمر الذي حدث فعلا. (27)
وكتب أمانا لابن عمه المستعين بعد أن خلع الأخير نفسه عن الخلافة وبايع للمعتز، وسكن واسط، لكنه بعث إليه سعيد بن صالح، فأدخله سعيد منزله وضربه حتى مات، وقيل: جعل في رجله حجرا، وألقاه في دجلة. وحمل رأسه إلى المعتزوهو يلعب بالشطرنج، فقيل له: هذا رأس المخلوع. فقال: ضعوه حتى أفرغ من الدست. فلما نظر إليه وأمر بدفنه، أعطى سعيد خمسين ألف درهم وولاه معونة البصرة. فهذا فعله مع إخوته وأبناء عمه، أما مع الطالبيين فإن أفعاله أشد قسوة وأكثر مرارة، وهي تتوزع بين الإبعاد والتشريد والحبس والقتل، وفي ما يلي نقدم صورا من ذلك. فقد روى المؤرخون أنه حمل جماعة من الطالبيين من المدينة إلى سامراء ظلما وعدوانا دون أن يبدو منهم شيء من المعارضة أو المخالفة، منهم أبو أحمد محمد ابن جعفر بن الحسن بن جعفر بن الحسن المثنى، وأبو هاشم داود بن القاسم الجعفري (28).
وقال أبو الفرج الأصفهاني: وفي أيام المعتز قتل عبد الرحمن خليفة أبي الساج أحمد بن عبد الله بن موسى بن محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن علي. وتوفي في الحبس عيسى بن إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وأمه فاطمة بنت سليمان، كان أبو الساج حمله، فحبس بالكوفة، فمات هناك. وقتل بالري جعفر بن محمد بن جعفر بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين، في وقعة كانت بين أحمد بن عيسى بن علي بن الحسين بن علي بن الحسين (عليه السلام) وبين عبد الله بن عزيز، عامل محمد بن طاهر بالري. وقتل إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن عبيد الله بن الحسن بن عبد الله بن العباس بن علي، وأمه أم ولد، قتله طاهر بن عبد الله في وقعة كانت بينه وبين الكوكبي بقزوين. وحبس أحمد بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي (عليه السلام) في دار مروان، حبسه الحارث بن أسد عامل أبي الساج في المدينة، فمات في محبسه.
أخيرا إن مثل هذا الرجل لا يبعد منه أن يقتل الإمام الهادي (عليه السلام) ويقترف مثل هذه الجريمة النكراء، سيما وهو يرى التفاف الناس على الإمام (عليه السلام) وحبهم له، وتفوقه على جميع بني العباس في العلم ومكارم الأخلاق والصفات الحميدة، ولا يبعد أن يكون هو الذي دس إليه السم كما صرح بذلك الشيخ الكفعمي، أو أن يكون المعتمد العباسي هو الذي دس إليه السم بإيعاز من المعتز، وبذلك نكون قد جمعنا بين الروايتين الواردتين في قتله (عليه السلام).
بنفسي مسجونا غريبا مشاهدا * ضريحا له شقته أيدي الغواشم
بنفسي موتورا عن الوتر مغضيا * يسالم أعداء له لم تسالم
بنفسي مسموما قضى وهو نازح * عن الأهل والأوطان جم المهاضم (29)
مقتل المعتز:
ولم تطل أيام المعتز بعد أن أقدم على الجريمة الكبرى في قتل الإمام (عليه السلام) حجة الله في أرضه وخليفته على عباده، فأخذه الله بظلمه وأخزاه في الدنيا قبل الآخرة. فقد روى المؤرخون أن قادة الأتراك طلبوا منه مالا، فاعتذر إليهم، وقال: ليس في الخزائن شيء، فاتفقوا على خلعه وقتله، واتفق معهم الفراغنة والمغاربة، فساروا إليه وصاحوا به، ودخلوا عليه بالسلاح، وجلسوا على بابه، فجروه برجله إلى باب الحجرة، وضربوه بالدبابيس، وخرقوا قميصه، وأقاموه في الشمس في الدار، فكان يرفع رجلا ويضع أخرى لشدة الحر، وكان بعضهم يلطمه وهو يتقي بيده، وأدخلوه حجرة، وأحضروا ابن أبي الشوارب وجماعة آخرين أشهدوهم على خلعه، ثم سلموه من يعذبه، فمنعه الطعام والشراب ثلاثة أيام، فطلب حسوة من ماء البئر فمنعوه، ثم أدخلوه سردابا وجصصوا عليه حتى مات، فلما مات أشهدوا على موته العباسيين والقواد وأنه لا أثر فيه ودفنوه مع المنتصر. وهكذا انتهت بموته صفحة سوداء من تأريخ الظلم والتعسف واللعب بمقدرات الناس وأموالهم، وكان موته خزيا في الدنيا *(ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق)*. إلى هنا أكتفي من سرد الوقائع التي حصلت في عصر الإمام الهادي (عليه السلام) استقيناها من أهم مصادر الوقائع والتأريخ، ومن يرد التفصيل فليراجع كتب التأريخ ومراجعه.المصادر :
1- الثاقب في المناقب: 536، إعلام الورى: 363. كشف الغمة 3: 182. الأنوار القدسية: 101.
2- الثاقب في المناقب: 556، الخرائج والجرائح 1: 417 / 21، كشف الغمة 3: 185، الصراط المستقيم 2: 205، حلية الأبرار 2: 465
3- كفاية الأثر: 285، كمال الدين: 382 / 9، معاني الأخبار: 123 / 1، الخصال: 394 / 102، بحار الأنوار 36: 413 / 3.
4- كشف الغمة 3: 184. المجالس السنية 5: 655.
5- الثاقب في المناقب: 543، المناقب 4: 416. الثاقب في المناقب: 548، إثبات الوصية: 208. بحار الأنوار 50: 148 / 33.
6- بحار الأنوار 50: 127 / 5، المناقب. تأريخ الخلفاء: 279، تأريخ ابن الوردي 1: 313.
7- رجال الكشي: 505، بحار الأنوار 50: 183 / 58.
8- مهج الدعوات: 330 - 337.
9- الأنوار القدسية: 101. الكامل في التأريخ 7: 103. تأريخ ابن الوردي 1: 315. مقاتل الطالبيين: 419.
10- الكامل في التأريخ 7: 116. تأريخ ابن الوردي 1: 309. مقاتل الطالبيين: 419.
11- الفخري: 241. الكامل في التأريخ 7: 117. الكامل في التأريخ 7: 123.
12- مقاتل الطالبيين: 419.
13- الكامل في التأريخ 6: 126. الفخري: 240. تأريخ اليعقوبي 3: 229.
14- مقاتل الطالبيين: 430.
15- في الكامل 6: 127، والفخري: 240.
16- من الكامل 6: 127.
17- مقاتل الطالبيين: 420 - 422. في تأريخ اليعقوبي 3: 229،
18- الكامل في التأريخ 7: 128. 129 مقاتل الطالبيين: 423، تأريخ اليعقوبي 3: 229.
19- ديوان ابن الرومي 2: 492 - 500، مقاتل الطالبيين: 424. هو أبو الحسين يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام).
20- الديوان 2: 492 / الرقم 365.
21- الكامل في التأريخ 7: 129.
22- مقاتل الطالبيين: 429 - 430.
23- تأريخ الطبري 11: 90، والكامل لابن الأثير 7: 136. مقاتل الطالبيين: 431.
24- مقاتل الطالبيين: 432. تأريخ ابن الوردي 1: 316. الكامل في التأريخ 7: 139 - 164.
25- الفخري: 243. تأريخ الخلفاء للسيوطي: 287. الإرشاد 2: 315، الكافي 1: 262 / 3، إعلام الورى: 368، المناقب 4: 422. الأنوار البهية: 247.
26- تأريخ اليعقوبي 3: 240. الذخائر: 64. الفصول المهمة: 279، كشف الغمة 3: 165 و174. الكافي 1: 416، دلائل الإمامة: 409، تاج المواليد: 132، المناقب 4: 401.
27- نور الأبصار: 83، الفصول المهمة: 279، دلائل الإمامة: 409، بحار الأنوار 50: 117. تأريخ الخلفاء للسيوطي: 287، الكامل في التأريخ 7: 172. تأريخ الخلفاء للسيوطي: 288.
28- الكامل في التأريخ 7: 172 - 173.
29- مقاتل الطالبيين: 433 - 434. المجالس السنية 5: 656.