محمّد وعليّ خير البشر

في عهد السيّد المرتضى رحمه الله نرى بعض ملامح سيرة اتباع اهل البيت عليهم السلام وحفظ حقوقهم والسؤال عن کل ما يتعلق بالفترة الزمنية التي سحقت بها کل معالم العظمة عندم .. نری تلک الملامح ظاهرةً في شمال العراق ، وبالتحديد في مدينة
Thursday, May 26, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
محمّد وعليّ خير البشر
محمّد وعليّ خير البشر

 






 

في عهد السيّد المرتضى رحمه الله نرى بعض ملامح سيرة اتباع اهل البيت عليهم السلام وحفظ حقوقهم والسؤال عن کل ما يتعلق بالفترة الزمنية التي سحقت بها کل معالم العظمة عندم .. نری تلک الملامح ظاهرةً في شمال العراق ، وبالتحديد في مدينة ميافارقين القريبة من مدينة الموصل العراقية.
فقد سأل جمعٌ من الشيعة هناك مرجعهم وعالمهم ذا الحسبين السيّد الشريف علي بن الحسين الشهير بالمرتضى بست وستين مسألة ، وكان السؤال الخامس عشر منه هو : هل يجب في الأذان ـ بعد قول حيّ على خير العمل ـ محمّد وعليّ خير البشر؟
الجواب : إن قال : محمّد وعليّ خير البشر ، على أنّ ذلك من قوله خارج من لفظ الأذان ، جاز ، فإنّ الشهادة بذلك صحيحة ، وإن لم يكن فلا شيء عليه (1).
قبل كلّ شيء ينبغي التذكير بأنّ هذا النص يدلّ دلالة ظاهرة واضحة على أنّ الشيعة لم يكونوا قائلين ومعتقدين بأنّ صيغ ذكر الولاية في الأذان داخلة في ماهيّة الأذان وأنّها جزء واجب فيه ، بل هم كانوا في شكّ من ذلك وإلاّ لما سألوا ، وهذا معناه أنّ القول بالجزئية ليس ديدن الشيعة في ذلك العصر بل ديدنهم الذكر من منطلق المحبوبية العامة ، هذا شيء.
والشيء الآخر هو أنّ هذا بحدّ ذاته دليل على أنّ المتيقَّن عند عامّة الشيعة محبوبيّة هذا الذكر عندهم ، وأمّا وجوب ذكر الشهادة الثالثة فمشكوك عندهم وإلاّ لما سألوا السيّد المرتضى عنه ، ويترتّب على ذلك أنّ غالب الشيعة في عهد الصدوق ; لم يكونوا يعتقدون بوجوب الذكر لعلي في الأذان وأنّه جزء واجب داخل في ماهيته ، وإلاّ لو كانوا كذلك لما جاء من بعدهم وشكَّ في الوجوب في زمن السيّد المرتضى قدس‏سره ، فلاحظ هذا بدقّة.
والحاصل : هو أنّ هذا النص ينبئ عن عمل مجموعة من الشيعة آنذاك به ، وممارستهم له ، ووضوح مشروعيته العامة دون الخاصة لديهم ، لكنّ سؤالهم كان عن لزوم الإتيان به؟
فالسيّد المرتضى ; أجاب وبصراحة : « إن قال : محمّد وعلي خير البشر ، على أنّ ذلك من قوله خارج لفظ الأذان جاز ، فإنّ الشهادة بذلك صحيحة » ، وهذا الكلام لا يحتاج إلى توضيح وتعليق وذلك لوضوحه.
نعم قوله « وإن لم يكن فلا شيء عليه » فهو غير واضح ، إذ قد يعني ; أحد معنيين :
أحدهما : أنّ القائل لو قالها على أنّها جزء ماهية الأذان ومن فصوله فلا شيء عليه.
فلو صحّ هذا الاحتمال فهو دليل على أنّ السيّد المرتضى كان يعتقد بصحّة الروايات الدالّة على الشهادة بالولاية ـ والتي حكى بعضها الصدوق ـ لأنّ الإفتاء متفرّع على اعتبار تلك الروايات عنده ، وهو بمثابة القرينة الموجِبة للوثوق بصدور ما حكاه الصدوق أو روايات أُخرى عن الأئمة.
ثانيها : قد يريد السيّد المرتضى بكلامه الآنف الإشارة إلى عدم لزوم الإتيان بها ، لعدم جزئيّتها عنده ، مع اعترافه بأنّ الشهادة بها صحيحة ، أي أنّ الإنسان لو لم يأتِ بها فلا شيء عليه ، وهو مثل كلام الشيخ الطوسي الآتي عن الشهادة بالولاية.
ولو تأمّلت في سؤال السائل لرأيته محدَّدا ـ وهو الإتيان بمحمد وعلي خير البشر بعد حيّ على خير العمل ـ وهذا يفهم بأ نّهم كانوا لا يأتون بها على نحو الجزئية ولا يعتبرونها من أصل الأذان ، وهي الأُخرى لم تكن ضمن الصيغ التي أتى بها الشيخ الصدوق ، كلّ ذلك يؤكّد بأنّ أهل الموصل لا يقولون بجزئيّتها بل بمحبوبيّتها الجائزة.
إنّ فتوى السيّد المرتضى بجواز القول بـ « محمد وعلي خير البشر » هي دعم حقيقي لسيرة الشيعة في بغداد ، وشمال العراق ، ومصر ، والشام ، وإيران ، وهي من ناحية أُخرى تصريح بأنّ ما يقوله الحمدانيون والفاطميون والبويهيون ليس شعارا فقط بل هو دين وشرع أجازه الدين والأئمة ، لأ نّك قد عرفت بأنّ هذه الصيغ لا تقتصر على الزيدية والإسماعيلية بل هي شعار لدى الشيعة الإمامية كذلك.
وقد يمكننا من خلال هذا النص أن ندعم ما قلناه عن شيخنا الصدوق ; سابقا ، من أنّ القضيّة تدور مدار الجزئية وعدمها ، والسيّد المرتضى كما رأينا نفى ذلك على منوال الصدوق ؛ إذ أنّ السيّد المرتضى حكم بأنّ من لم يأت بها فلا شيء عليه ، وهذه قرينة على أنّ الصدوق كان يقصد باللعن القائلين بوجوب الإتيان بها على أنّها جزء ، فالملاحظ أنّ كلاًّ من المرتضى والصدوق رحمهما اللّه‏ نفيا الجزئية والوجوب ؛ إذ الوجوب ليس من دين اللّه‏ ، وهذا هو الذي دفع الصدوق لأَنْ يلعن القائلين به ، وأمّا الجواز لا بعنوان الجزئية فالمرتضى قائل به وكذلك الصدوق على ما قدّمنا!
وهو يفهم بأنّ هذه الصيغ موجودة في شواذّ الأخبار ـ وربّما في أخبار أخرى ـ والعمومات التي ذكرنا بعضها في هذا الكتاب لا المحكيّة عن روايات المفوّضة. وإنّما المفوّضة ، كانت قائلة بالوجوب بحسب أخبار موضوعة لا الجواز.
ولو كانت الصيغ الثلاث من موضوعات المفوّضة لَمَا أفتى السيّد المرتضى والشيخ الطوسي وابن البراج رحمهم اللّه‏ تعالى بجواز الإتيان بها في الأذان من دون قصد الجزئية.
وهذا يؤكّد استمرار الشيعة من بداية الغيبة الكبرى إلى عهد السيّد المرتضى في التأذين بها استنادا للروايات التي كانت عندهم ، كخبر الفضل ابن شاذان عن ابن أبي عمير عن أبي الحسن الكاظم ـ والذي مر عليك آنفا ـ المجيزة لفتح دلالة حيّ على خير العمل في الأذان وما رواه عمر بن ادينه ومحمد بن النعمان الاحول مؤمن الطاق وسدير الصيرفي عن الصادق والذي فيه بأن الملائكة سالوا رسول اللّه‏ عن علي فقال صلی الله عليه وآله وسلم اتعرفونه قالوا : كيف لا وقد اخذ اللّه‏ الميثاق منا لك وله. وانا نتطلع كل يوم خمس مرات ـ اشارة إلى اوقات الصلاة ـ إلى اخر الخبر وغيرها.
فالسيّد المرتضى لم يتعامل مع موضوع الشهادة بالولاية كما تعامل مع موضوع التثو يب حيث اعتبر الأوّل جائزا والثاني بدعة وحراما ، فقد قال في جواب مسالة 16 : من لفظ أذان المخالفين ، يقولون في أذان الفجر : « الصلاة خير من النوم » ، هل يجوز لنا أن نقول ذلك أم لا؟
الجواب : مَن قال ذلك في أذان الفجر فقد أبدع وخالف السنّة ، وإجماعُ أهل البيت : على ذلك (2).
ففتواه ببدعية « الصلاة خير من النوم » رغم ورودها في بعض رواياتنا وفتوى بعض المتقدمين بجوازها عند التقية ، يؤكّد بأنّ موضوع الشهادة بالولاية عند السيّد المرتضى لم يكن كالتثويب ، بل أنّه ; بالنظر لفتواه بالجواز كان يأخذ بتلك الروايات ؛ روايات الاقتران التي تفيد المحبوبية أو التفسيرية ولا يراها بدعة ، وإلاّ لما أفتى بالجواز من دون قصد الجزئية ، بل ربّما وصلت إليه روايات أخرى في هذا المضمار.فلو كانت الشهادة بالولاية بدعة كالصلاة خير من النوم لما قال : « جاز ، فإنّ الشهادة بذلك صحيحة ».
وقد قال ; في جواب المسائل الموصليّات أكثر من ذلك في « حي على خير العمل » الدالّة على الإمامة والولاية ، فقال : استعمال « حي على خير العمل » في الأذان ، وان تركه كترك شيء من ألفاظ الأذان.والحجّة أيضا اتّفاق الطائفة المحقّة عليه ، حتّى صار لها شعارا لا يدفع ، وعلما لا يجحد (3).
كان هذا بعض الشيء عن الشهادة بالولاية في عهد السيّد الشريف المرتضى ; ، وقد رأيت عدم تخطئته للذين يأتون بها ، في حين خطّأَ الذين يأتون بالتثويب في أذان الصبح ، وهو دليل على رجحان الإتيان بها عنده ، وخصوصا لو كان في ذلك ما يُنفَى به افتراءات المفترين على الشيعة ، أو يعلو به ذكر الإمام علي ، لكن لا على نحو الشطرية والجزئية بل لرجاء المطلوبيّة ، وهذا ثابت لمن تعقّب السيرة.
قال الشيخ الطوسي(385 ه‍ ـ 460 هـ) في كتاب الصلاة من المبسوط :
... والأذان والإقامة خمسة وثلاثون فصلاً : ثمانية عشر فصلاً الأذان ، وسبعة عشر فصلاً الإقامة ... ومن أصحابنا من جعل فصول الإقامة مثل فصول الأذان ، وزاد فيها : قد قامت الصلاة مرتين ، ومنهم من جعل في آخرها التكبير أربع مرات ، فأمّا قول : أشهد أن عليا أمير المؤمنين ، وآل محمد خير البرية على ما ورد في شواذّ الأخبار فليس بمعمول عليه في الأذان ، ولو فعله الإنسان لم يأثم به ، غير أنّه ليس من فضيلة الأذان ولا كمال فصوله (4).
وقال ; في كتاب النهاية ، بعد أن عدّ الأذان والإقامة خمسة وثلاثين فصلاً : وهذا الذي ذكرناه من فصول الأذان هو المختار المعمول عليه ، وقد رُوي سبعة وثلاثون فصلاً في بعض الروايات ، وفي بعضها ثمانية وثلاثون فصلاً ، وفي بعضها اثنان وأربعون.
ثم جاء ; يصور تلك الأقوال ، فقال : فإن عمل عامل على إحدى هذه الروايات ، لم يكن مأثوما.
وأمّا ما رُوي في شواذّ الأخبار من قول : «أشهد أنّ عليا ولي اللّه‏ ، وآل محمّد خير البرية» فممّا لا يعمل عليه في الأذان والإقامة ، فمن عمل بها كان مخطئا (5).
وقد يتصوّر المطالع أنّ الشيخ قد عارض نفسه ، لأ نّه قال في المبسوط : « ولو فعله الإنسان لم يأثم به » ، وفي النّهاية : « فمن عمل بها كان مخطئا ».
لكنّ هذا التوهّم بعيد جدا حسب قواعد العلم ومعايير الاجتهاد ، لأنّ الشيخ ; عنى بقوله الأوّل : الإنسان لو فعلها بقصد القربة المطلقة ولمحبوبيتها الذاتية « لم يأثم به » ، وأمّا لو فعلها بقصد الجزئية « كان مخطئا » بحسب أصول الاجتهاد ، لأنّ الشيخ الطوسي لا يأخذ بالأخبار الشاذّة إذا عارضت ما هو أقوى منها ، وسيأتي أنّ بعض العلماء ـ كالمجلسي وغيره ـ تمسّكوا بشهادة الشيخ ، فأفتوا بموجب ذلك باستحباب الشهادة الثالثة في الأذان ، باعتبار أنّ الشاذ هو الحديث الصحيح غير المشهور ، في حين ان الشاذ هو مما يؤخذ فيه انواع الحديث الاربعة ، منه الصحيح ، ومنه الضعيف ، وما بينهما عند الكثير.
واحتمل الاخر جمعا بين القولين : بأن الشيخ ; عنى بقوله في النهاية الذي يأتي بها على نحو الجزئية ، فإنه لا يأثم وإن كان مخطئا بحسب الصناعة ، لأ نّه بذل وسعه وتعرف على الحكم وإن كان مخطئا في اجتهاده ، لأخذه بالمرجوح وترك الراجح. وهو كلام بعيد عن الصواب لا نلتزمه.
اما لو قلنا بأن معنى الشاذ عند الشيخ الطوسي هو الضعيف الذي لا يعمل به ، فالشيخ صرح بأن العامل به لا يأثم.
وعلى كل التقادير والاحتمالات في معنى الشاذ عند الشيخ الطوسي يكون العامل بالشهادة الثالثة غير مأثوم.
ولكي نفهم كلام الشيخ أكثر لابدّ من توضيح بعض الأمور :
الأمر الأول : تفسير معنى الشاذ عنده وعند غيره من علماء الدراية والفقه ، فنقول : اختلفت تعابير علمائنا وعلماء العامة في معنى الشاذّ مع اتّفاقهم على معناه اللّغويّ وهو الانفراد عن الجماعة.
فقال البعض : هو ما رواه الثقة ، مخالفا للمشهور ، أو للأكثر ، أو لجماعة الثقات ، والمعنى في جميعها متقارب.
وقال الاخر : هو ما يتفرّد به ثقة من الثقات ، وليس للحديث أصل متابع لذلك الثقة.
وقال الشافعي : ليس الشاذّ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يرويه غيره ، هذا ليس بشاذ ، إنّما الشاذ أن يروي الثقة حديثا يخالف فيه الناس (6).
إذن الشاذّ في الأغلب عندنا وعند العامّة هو ما يقابل المشهور والمحفوظ ، وقد يطلق الشاذّ عندنا خاصّة على ما لم يعمل بمضمونه العلماء وإن صح إسناده ولم يعارضه غيره. وحكى عن الإمام البروجردي قوله : كلما ازداد [الشاذ] صحةً ازدادا ضعفا وذلك لترك الطائفة العمل به.
إنّ الشيخ وصف أخبار الشهادة الثالثة بأنّها شاذّة لكنّه مع ذلك قال بجواز الإتيان بها حين جزم قائلاً : « لم يأثم به » ، وليس لهذا معنى إلاّ أنّه أفتى بمضمونها. وهذا معناه أنّ أخبار الشهادة الثالثة لا تنهض لإثبات جزئيّة الشهادة الثالثة في الأذان لشذوذها ، ولأنّ روايات الأذان المشهورة المعوّل عليها لم تذكر ذلك ، لكن مع ذلك يمكن الجمع والفتوى بالجواز ، وعلى هذا الأساس يمكن للفقيه الفتوى بالجواز بالنظر لذلك ، وهذا بغضّ النظر طبعا عن الأدلّة الأخرى التي تؤدِّي إلى الاستحباب.
الأمر الثاني : من خلال المقارنة بين عبارتي الشيخ في « المبسوط » و « النهاية » نحتمل بأنه ; كان يفتي بجواز العمل بمضمون الروايات المتضمنة للشهادة الثالثة ، لأنّ قوله في المبسوط بعدم إثم من يقول بـ « أشهد أن عليا أمير المؤمنين » ، و « آل محمد خير البرية » ، هو معنى آخر لما قاله عن اختلاف الروايات في فصول الأذان ، وأنّ العامل على إحدى هذه الروايات لم يكن مأثـوما ، أمّا لو أراد القائل أن يقول بالجزئية فيها استنادا لبعض هذه الروايات فسيكون مأثوما ومخطئا ، لشذوذها وقد مر عليك ما احتمله البعض بأ نّه ليس بمأثوم وإن كان مخطئا ، لأ نّه بذل وسعه للحصول على الحكم وإن كان مخطئا فيما توصل إليه ، وبهذا لا يكون تلازم بين الاثم والخطا ، فتأمل.
توضيح ذلك : أنّ الشـيخ يجيز الإتيان بها لا على نحو الجزئية ، لأ نّه لم يعتبر الشهادة بالولاية من « فضيلة الأذان ولا من كمال فصوله » ، وهو معنى آخر لما قاله في النّهاية من أنّ العامل بها كان مخطئا ، وبذلك يكون نهيه من الاتيان بها إنّما هو الإتيان بها على نحو الجزئية ، لكونها ليست من أصل الأذان وأنّ العامل بها على نحو الجزئية يكون مخطئا.
أمّا لو أتى بها لمحبوبيّتـها أو بقصد القربة المطلقة ، فالشيخ لا يمانع من الفتوى بالجواز ، كما جزم في قوله : « ولو فعله لم يأثم به » ، وكلام الشيخ هنا يجري مجرى كلام الشيخ الصدوق ; وما ذهب إليه السيّد المرتضى ; ، فكلّهم لا يرتضون الجزئية لعدم مساعدة النصوص على القول بها ، وهذا يعني عند هؤلاء الأعلام الثلاثة أنّه لا توجد روايات ناهضة للقول بجزئيتها ، ولقد تقدّم في الأمثلة التي سردناها عن الشيخ الطوسي بأنّ الشيخ يرى حجيّة الشاذّ بنحو الاقتضاء ـ بل الفعلية فيما لو أمكن الجمع ـ ولذلك أفتى بمقتضى هذا المبنى بالاستحباب ، فقد قال في ردّ مضمون الخبر المصرّح بضرورة غسل موضع قصّ الأظافر بالحديد : « فالوجه في هذا الخبر ( الشاذ ) أن نحمله على ضرب من الاستحباب ».
ومن كلّ ذلك نقف على نتيجة مهمّة ، وهي أنّ الشيخ لم يكن يرى الحجيّة الفعلية في أخبار الشهادة الثالثة للقول بجزئيتها أو للفتوى بالاستحباب ، فالشيخ لم يقل بحملها على ضرب من الاستحباب هنا كما فعل بالخبر الشاذّ المصرِّح بوجوب غسل موضع قص الاظافر بالحديد ، وهذا معناه أنّ أخبار الشهادة الثالثة لا تمتلك حجيّة فعلية في خصوص ذلك ، لكن يبدو كما احتملنا قو يّا بأنّ الشيخ يرى أنّ لها حجيّة فعلية لتكون دليلاً للفتوى بالجواز ؛ يشهد لذلك أنّه قال : « لم يأثم به » فالتفِتْ لذلك فهذا التفضيل قد غاب في كلمات العلماء.
هذا مع الإشارة إلى أنّ القول برجحان أو عدم رجحان الشهادة الثالثة لا يقف عند هذا الحدّ ؛ إذ هناك أدلّة أخرى لم يتعرّض لها الشيخ الطوسي ، كالعمومات ، وموثقة سنان بن طريف وحسنة ابن أبي عمير ، وغير ذلك مما يثبت الرجحان المطلق كما اتضح وسيتّضح أكثر.
الأمر الثالث : قال الشيخ الطوسي في مقدمة كتابه المبسوط :
وكنت على قديم الوقت عملت كتاب النهاية ، وذكرت جميع ما رواه أصحابنا في مصنّفاتهم وأُصولها من المسائل ، وفرّقوه في كتبهم ، ورتّبته ترتيب الفقه ، وجمعت من النظائر ، ورتّبت فيه الكتب على ما رتّبت للعلّة التي بيّنتها هناك ، ولم أتعرّض للتفريع على المسائل ولا لتعقيد الأبواب وترتيب المسائل وتعليقها والجمع بين نظايرها ، بل أوردت جميع ذلك أو أكثره بالألفاظ المنقولة حتّى لا يستوحشوا من ذلك (7).
هذا وقد عُرِفَ عن السيّد البروجردي ; ـ وغيره ـ أنّه كان يصرّح في دروسه بأنّ كتب المتقدّمين هي بمنزلة الأصول المتلقّاة عن المعصومين ، وأنّها متون روائية ، وأنّ جميع كتاب « النهاية » أو أكثره نصوص روايات منقولة عن المعصومين ، وفيها ما يرتبط بالأذان والإقامة ، والشهادة بالولاية ، ومعناه : أنّ ما فيها لم يكن من وضع المفوِّضة ، وخصوصا مع تأكيد الشيخ في « النهاية » بأنّ أخبار الشهاده بالولاية جاءت ضمن روايات قد وقف عليها (8).
وهذا قد يؤكّد وجود روايات موجودة في أُصول أصحابنا لا أُصول المفوّضة لعنهم اللّه‏ ، غاية ما في الأمر أنّ الشيخ لم يتوصّل إلى إمكانيّة حجيّتها الفعليّة للفتوى بالاستحباب وان تَوَصَّلَ لإمكانيّة الحجّيّة الفعليّة للفتوى بالجواز حسبما بيّنّا.
ولابد لي أن أشير هنا إلى أنّ البعض يطالبنا بتواتر الأخبار لإثبات الشهادة الثالثة ، وهذا طلب عجيب منهم ، لأنّ هذا البعض يعلمُ بأنّ الشيعة قد مرّت بظروف قاسية أدّت إلى إزهاق أرواح الكثير من علمائها ، وأنّ وصول هذه الأخبار الشاذّة قد كلّفنا الكثير من التضحيات ، فكيف يطلبون منّا لإثبات أمرٍ إعلاميّ كهذا بالتواتر؟!
ألم يكن ذلك من التعسّف بحقّ علمائنا ورواتنا؟!
نعم ، نحن بكلامنا هذا لا نريد القول بجزئيّتها ، لأن ليس بحوزتنا ما يدلّ على ذلك ، لكن في الوقت نفسه نريد التأكيد على عدم استبعاد وجود روايات على ذلك ، وهذا ما نعبّر عنه بالحجية الاقتضائية لأخبار الشهادة بالولاية.
فعلى سبيل المثال ، قال الشيخ محمد باقر المجلسي ( ت 1110 ه‍ ) في بحار الأنوار مذيِّلاً عبارة الصدوق : « لا يبعد كون الشهادة بالولاية من الأجزاء المستحبّة في الأذان والإقامة ، لشهادة الشيخ والعلاّمة والشهيد وغيرهم بورود الاخبار بها » (9). وهذا يعني عدم الشكّ في وجود روايات في أصول أصحابنا ؛ دالة على الشهادة الثالثة.
وهذا هو ما جزم به المجلسيّ الأول في روضة المتّقين ؛ حيث قال : والظاهر أنّ الأخبار بزيادة هذه الكلمات أيضا كانت في الأصول وكانت صحيحة أيضا كما يظهر من الشيخ والعلاّمة والشهيد 4‏ ، فإنّهم نسبوها إلى الشذوذ ، والشاذّ ما يكون صحيحا غير مشهور ... (10).
وقال الشيخ حسين العصفور البحراني في ( الفرحة الانسية ) : « واما الفصل المرويّ في بعض الأخبار المرسلة وهو : « أشهد أن عليا ولي اللّه‏ » فممّا نفاه الأكثر ، وظاهر الشيخ في المبسوط ثبوته وجواز العمل به ، وهو الاقوى » (11).
الأمر الرابع : إنّ ما حكاه الشيخ من ورود أخبار شاذّة في الشهادة الثالثة لا يعارضه مع ما حكاه الصدوق عن المفوِّضة ، فقد تكون الأخبار الشاذّة وما عند المسمَّين بالمفوِّضة مقصودة من قبل الأئمّة حتى لا يقف الخصم على رأيهم : في الشهادة الثالثة ، وهو أحد الوجوه التي يمكن قولها في مفهوم التقيّة ، وأنّها لا تقتصر على الخوف من الحكّام ، أو النظر إلى رأي العامّة ، أو ما شابه ذلك ، لأ نّا نعلم أنّ الإمام قد أجاب شيعته في بعض الموارد بأجوبة مختلفة في المسألة الواحدة ، ولم يكن هناك أحد يخاف منه ، أو أنّ ما رواه أو قاله ليس فيه ما يوافق رأي السلطة ، بل قالها لأجل عدم إيقاف الخصم على رأي الأئمّة في ذلك الموضوع.
بمعنى : أنّ ملاك تشريع الشهادة الثالثة موجودٌ لكن اقتضاءً وإن لم تُشرَّع فعليا ، أي أنّ الإمام ذكرها على نحو الاقتضاء وما له إمكانية التشريع لا بنحو العلّة التامّة ، وأودعها عند بعض اصحابه ولم يرضَ بالبوح بها في ذلك الزمان ، لإمكان تشريعهم لها ، أي أنّ المقتضى كان موجودا وكذا المانع ، ولا ريب في أنّ المانع ، كفيل بعدم التشريع ، خصوصا للحفاظ على دماء الشيعة ورقابهم ، وهو نظير قوله صلی الله عليه وآله وسلم : « لولا أن أشقّ على أمّتي لأ خّرت العشاء إلى ثلثي الليل » ، أو قوله صلی الله عليه وآله وسلم لعائشة : « لولا أنّ قومَك حديثو عهد بجاهلية لنقضت البيت ولبنيته كما بناه إبراهيم » (12) وهو ظاهر في أن ملاك نقض البيت وإعادة بنائه موجود ، لكن لم يؤسس النبي عليه حكما ، لوجود مانع ، وهو حداثة عهد الصحابة بالجاهلية ، وكذا الحال بالنسبة إلى تأخير العشاء ؛ فقد تركه لأ نّه إحراج للأمّة.
وعلى هذا الأساس يمكننا القـول بأنّ الاحتمال السابق يقوّي استدلال القائلين برجحان ذكر الشهادة بالولاية في الأذان ، وذلك لارتفاع المانع اليوم من ذكرها ، ولا خوف اليوم على الشيعة منها ، بل صارت شعارا ورمزا للتشيّع ، فلا يُستبعد ضرورة التمّسك بها ، كما هو مذهب السّيّدين الحكيم والخوئي ومذهب غيرهما قدّس اللّه‏ أرواحهم.
وفي الجملة : فإنّ الشـارع المقدّس وإن كان يدور تشريعه مدار الملاكات والمصالح والمفاسد إلاّ أنّ الموانعَ مأخوذةٌ أيضاً في عملية التشريع ، ومن ذلك ما روته الأ مّة عن النبيّ أنّ ملاك تشريع وجوب صلاة الليل في ليالي شهر رمضان موجود لكنّ النبيّ مع ذلك لم يشرّع ذلك لمانع وهو خوفه على الأمة من عدم الامتثال ثمّ الوقوع في المعصية ، ومن هذا القبيل الشهادة الثالثة ، فيمكن القول أنّ النبي لم يشرّعها مع وجود ملاكها خوفا على الأمة من التخبط والتقهقر.
ومهما يكن ، فقد ورد عن أئمّة العصمة في ذلك روايات ظاهرة في أنّ الملاك لا يؤسّس حكما شرعيا لو كان اقتضائيا ما لم يرتفع المانع ، وهو هنا الخوف على دماء الشيعة.
فلو كان الشيخ الطوسي لا يعني الصدوق لأتى بالجملة التي كانت تقال في الموصل على عهد أُستاذه السيّد المرتضى : « محمد وعلي خير البشر » مع الجمل الثلاث الأخرى ، دون اختصاصه بالجمل الثلاث التي اتى بها الصدوق :
إنّ الشيخ الطوسيّ بعد أن عدّ الأقوال في صيغ الأذان والإقامة وأنّها : خمسة وثلاثون فصلاً ، وروي سبعة وثلاثون فصلاً في بعض الروايات ، وفي بعضها ثمانية وثلاثون فصلاً ، وفي بعضها اثنان وأربعون ، قال : فإن عمل عامل على إحدى هذه الروايات لم يكن مأثوما ، وأمّا ما روي في شواذّ الأخبار منها قول « أشهد أن عليا ولي اللّه‏ » و « آل محمد خير البرية » فممّا لا يعمل عليه في الأذان والإقامة ، فمن عمل بها كان مخطئا.
وقال في المبسوط : وفي أصحابنا من جعل فصول الإقامة مثل فصول الأذان وزاد فيها : « قد قامت الصلاة » مرتين ، ومنهم من جعل في آخرها التكبير أربع مرّات ، فأما قول : « أشهد أن عليا أمير المؤمنين » و « آل محمد خير البرية » على ما ورد في شواذّ الأخبار فليس بمعمول عليه في الأذان ، ولو فعله الإنسان لم يأثم به ، غير أنّه ليس من فضيلة الأذان ولاكمال فصوله.
وهذان النصان يوقفاننا على أنّ أخبار الشهادة بالولاية معتبرة عند الشيخ الطوسي إلى حدٍّ ما وهو حد الاقتضاء دون الفعلية ، وهو ما سوّغ له فيما احتملنا قو يّا إفتاؤه بالجواز وعدم الإثم بموجب اقتضائيّتها ، وهذا يقارب قوله: « لم يكن مأثوما » في العمل طبق أخبار اختلاف عدد فصول الأذان.
هذا التقارب يجعلنا نحتمل قو يّا أنّ الشيخ جوّز ذكر الشهادة الثالثة في الأذان اعتمادا على الأخبار الشاذّة ، لكن في مرحلتها الاقتضائية دون الفعلية ، وقد يمكن أن يقال أن الشيخ كان يرى الحجية الكاملة لشواذّ الأخبار لقوله « فإن عمل عامل على احدى هذه الروايات لم يكن مأثوما » لأ نّه ; لم يقل « كان مصيبا » بل قال « لم يكن مأثوما » فمعناه أن العامل بتلك الاخبار لم يكن مأثوما وإن كان مخطئا بنظر الشيخ الطوسي ؛ لأ نّه عمل باخبار شاذة مع وجود الأذان المحفوظ عندهم وعملهم به فتأمل!
وقد يكون الشيخ اعتبر تلك الأخبار شاذة لتصوره أنّها قد وردت عن الأئمة على نحو الجزئية ، وأن عدم عمل الطائفة بتلك الأخبار جعلتها شاذة ، اما لو اعتبرنا ورود تلك الأخبار على نحو التفسيرية والبيانية من قبل المعصومين فلا معنى لاعتبارها اخبارا شاذة وذلك لعدم معارضتها مع الروايات البيانية الصادرة عن المعصومين في صيغ الأذان.
وبهذا فلا يجوز الاخذ بالأخبار الشاذة أن اخذت على نحو الجزئية اما إذا اعتبرت من قبيل التفسير والاتيان بالمستحب ضمن المستحب كما هو الحال في استحباب الصلاة على الرسول كلما ذكر اسمه في الأذان أو في غيره لا يجعلها جزءا من الأذان والإقامة ولا يبقى مانع من الاخذ بتلك الاخبار والعمل بها.
وعليه فالشيخ الطوسي فيما يحتمل كان قد عنى بكلاميه الانفين الشيخ الصدوقَ ، وذلك لاتّحاد النصّ الموجود في « الفقيه » مع ما قاله الشيخ في « النهاية » و « المبسوط ».
الأمر الخامس: من المعلوم أن الشيخ الطوسي قد وقف على كتب لم يقف عليها غيره ، منها مكتبتين عظيمتين : أولاهما : مكتبة أبي نصر سابور وزير بهاء الدولة البويهي ، والذي قال عنها ياقوت الحموي : « ولم يكن في الدنيا أحسن كتبا منها ، كانت كلّها بخطوط الأئمة المعتبرة وأصولهم المحرّرة ... ».
وثانيتهما مكتبة أستاذه السيّد المرتضى الثمانيني ـ والذي لقّب بهذا اللقب لأنّ مكتبته كانت تحتوي أكثر من ثمانين ألف كتابا سوى التي أهديت إليه من الرؤساء والأشراف والتجّار ، وله ثمانون قرية ، وتوفّي وعمره ثمانون عاما ـ وقد كان السيّد المرتضى شيخ الشيعة في وقته وموضع اهتمام الجميع.
وقد استفاد الشيخ الطوسي من هاتين المكتبتين كثيرا قبل دخول السلاجقة بغداد عام 447 ه‍ وإسقاط الدولة البويهية وحرقهم لمكتبة أبي نصر سابور وغيرها من الدور الشيعية في الكرخ.
قال ابن الجوزي في حوادث سنة 448 ه‍ : وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره. ثم قال في حوادث سنة 449 ه‍ : وفي صفر من هذه السنة كبست دار أبي جعفر الطوسي متكلم الشيعة بالكرخ ، وأُخِذَ ما وجد من دفاتره ، وكرسيٌّ كان يجلس عليه للكلام ، وأُحرِقت مكتبته (13).
فيحتمل قو يّا أن يكون الشيخ الطوسيّ ; ـ قبل هجوم السلاجقة على بغداد ـ قد وقف على أخبار دالّة على الشهادة الثالثة في أُصول أصحابنا ، لكنّها كانت أخبارا آحادا لا تقوى على معارضة غيرها ، ونظرا لاعتقاده بحجيّتها الاقتضائيّة دون الفعلية على ما فصّلنا سابقا ، وأنّها حجّة عنده ، لفتواه بالجواز وعدم الإثم ـ خلافا لأُستاذه المرتضى وتلميذه ابن إدريس في خبر الاحاد ـ كان عليه أن يأخذ بها ، ولمّا لم نره يأتِ بأسانيدها في كتبه فليس لنا إلاّ أن نقول أنّه تركها لمخالفتها لما اشتهر عند الأصحاب من أنّ الشهادة بالولاية ليست جزءً في الأذان ، أو للتقيّة لأنّ الشيخ لم يأتِ بتلك الأخبار وأسانيدها للظروف التي كان يعيشها ؛ لأ نّه مرّ بظروف قاسية جدّا.
وممّا حُكي بهذا الصدد أنّه وُشي بالشيخ الطوسي إلى الخليفة العباسي بأ نّه وأصحابه يسبّون الصحابة ، وكتابَهُ المصباح يشهد بذلك ؛ لما في دعاء زيارة عاشوراء : « اللّهمّ خصَّ أنتَ أوَّل ظالم باللعن مني ... ».
فأجاب الشيخُ الخليفَة بأنّ المراد بالأول قابيل قاتل هابيل ، وهو أوّل من سنّ القتل والظلم. وبالثاني عاقر ناقة صالح. وبالثالث قاتل يحيى. وبالرابع عبدالرحمن بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب.
فرفع الخليفة عنه العقوبة (14).
فتلّخص ممّا سبق أنّه ليس هناك تعارضٌ بين قولي الشيخ في النهاية والمبسوط ، لأ نّه ; عنى بقوله الأوّل الذين يأتون بها على نحو الجزئية وهؤلاء مخطئون حسب قواعد الاستنباط ، وأمّا الذين يأتون بها لجوازها في نفسها فلا إثم عليهم.
ولا يخفى عليك أنّ الشيخ قال في النهاية : « كان مخطئا » ولم يقل : « كان مبدعا » كما قاله في الذين يأتون بجملة « الصلاة خير من النوم » ، والفرق بين الأمر ين واضح.
وممّا يجب التنبيه عليه هنا هو أنّ الشيخ ألّف كتابه « النهاية » قبل « المبسوط » ، لأ نّه ; ذكر النهاية والتهذيب في مقدّمة الاستبصار وفي مشيخته ولم يذكر غيرهما من كتبه ، وهو يؤكّد بأنّ النهاية والتهذيب قد ألِّفا قبل الاستبصار.
وبمراجعةٍ لكتاب الخلاف والمبسـوط والعدّة وغيرها من كتبه نرى الشيخ ذكر « الاستبصار » فيهما ، وهذا يعلمنا بأنّ المبسوط قد ألِّف بعد الاستبصار ، ومنه نفهم بأنّ نص النّهاية هو الأوّل ثم يتلوه نصّ المبسوط الذي نفى فيه الإثم.
وهو الآخر يرشدنا إلى أنّ القول الأوّل للشـيخ في « النّهاية » كان قريبا إلى الصدوق حيث أنّهما كانا يعنيان بكلامهما الآتِينَ بالشهادة الثالثة بقصد الجزئية المسمَّين بالمفوَّضة ، ولكنّ الشيخ في « المبسوط » عنى الذين يأتون بها لمحبوبيّتها الذاتية ، ولذلك ليسوا هم بآثمين.
وفي هذين النصَّين إشارة إلى حدوث نقلة نوعية في كلامه ; ؛ لأ نّه في نصّ « النهاية » كان يتصوّر ـ كالشيخ الصدوق ـ أنّ القائلين بالشهادة بالولاية غالبهم ممن يقولون بها على نحو الجزئية ، وأنّ تهمة التفو يض المحرّم تدور مدارهم ، ولأجله خَطَّأَهُم ولم يشر إلى الرأي الآخر ، لكنّه في « المبسوط » تحقق له أنّ عمل غالب الشيعة ـ الذين يأتون بها آنذاك ـ لم يكن على نحو الجزئيّة ، بل أنّهم كانوا يأتون بها لمبحوبيّتها الذاتيّة ولرجاء المطلوبية فأشار إلى الحكم الآخر في المسألة وقال بعدم الإثم في العمل بها.
ويؤيّد ذلك ما ورد عن السيّد المرتضى بعد أن سُئل عن قول القائل : « محمد وعلي خير البشر » ، بعد : « حي على خير العمل » ، فقال :
إن قال : « محمد وعلي خير البشر » على أن ذلك من قوله خارج من لفظ الأذان جاز ، وإن لم يكن فلا شيء عليه.
اذن فالسيّد المرتضى والشيخ الطوسي رحمهما اللّه‏ تعالى هما أوّل من فكّكا بين الأمرين : الجزئية والمحبوبيّة الذاتية ، والشيخ لا يقول باستحباب الشـهادة بالولاية في الأذان ، علاوة على عدم القول بجزئيّتها تبعا لما ورد في شواذّ الأخبار ، لأ نّه لا يأخذ بالخبر الشاذّ إلاّ إذا سلم من المعارِض ، كالعمومات ، والإجماع ، والأخبار المتواترة ، لأنّ أمثال هذه الأمور لا يجوز تخصيصها بمثل الشاذّ النادر.
وعليه : فالشيخ يرى في شواذّ الأخبار الحجيّة الاقتضائية لا الفعلية ، وهذا هو الذي دعاه أن لا يقول باستحبابها ، لقوله : « غير انه ليس من فضيلة الأذان ولا كمال فصوله » لعدم عمل الطائفة بها ، لكنّه في الوقت نفسه ـ حسب ما احتملناه سابقا ـ يرى حجيّتها الفعلية في مرحلة الجواز ، ولذلك أفتى بعدم الإثم بفعلها لو قيلت على غير الجزئية كالمحبوبية الذاتية أو بقصد القربة المطلقة ، وهو يؤكّد وجود عمومات أخرى يمكن الاستدلال بها على الجواز.
القاضي عبدالعزيز بن البراج الطرابلسي(400 ه‍ ـ 481 هـ) ، هو من كبار تلامذة الشيخ المفيد والسيّد المرتضى رحمهما اللّه‏ تعالى ، ويعدّ في مرتبة الشيخ الطوسي ، وعلى أثر تتبّعي لكتابات أعلامنا حول الشهادة الثالثة لم أقف في كتب ابن البراج المطبوعة ـ بصرف النظر عن المفقودة ـ على شيء يدل على الشـهادة بالولاية لآل البيت في الأذان غير ما جاء في كتابه « المهـذب ».
فإنه ; لم يُسأل في ( جواهر الفقه ) عن فصول الأذان والإقامة حتى يجيب ، لكنّه في ( شرح جمل العلم والعمل ) شرَحَ كلام أستاذه المرتضى في فصل الأذان ، ولم يتعرّض إلى موضوع الشهادة الثالثة لا من قريب ولا من بعيد.
وهكذا كان حال معاصريه : أبي الصلاح الحلبي ( 374 ه‍ ـ 447 ه‍ ) ، وأبي يعلى حمزة بن عبدالعزيز الديلمي المتوفى 448 ه‍ ، وسلمان بن الحسن بن سليمان الصهرشتي ( من أعلام القرن السادس ) (15) ، فهم وإن تعرّضو إلى الأذان والإقامة وأنّهما خمسة وثلاثون فصلاً ، لكنّهم لم يتعرّضوا إلى الشهادة الثالثة لا من باب التفسيرية ولا من باب المحبوبية الذاتية ، مع أنّ أبا الصلاح قد أشار في ( الكافي ) إلى ما يفتتح به الصـلاة من التكبير والدعاء وذكر فيه أسماء الأئمّة الاثني عشر واحدا بعد واحد.
والآن مع ما قاله ابن البراج في المهذب : ويسـتحبّ لمن أذّن أو أقام أن يقول في نفسـه عند « حي على خير العمل » : « آل محمّد خير البرية » ، مرّتين ، ويقول في نفسه إذا فرغ من قوله « حيَّ على الصلاة » : « لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه‏ » ، وكذلك يقول عند قوله « حيَّ على الفلاح » ، وإذا قال : « قد قامت الصلاة » قال : « اللّهّم أقمها وأدمها واجعلني من خير صالحي أهلها عملاً » ، وإذا فرغ من قوله « قد قامت الصلاة » قال : « اللهم ربَّ هذه الدعوة التامّة ، والصلاة الدائمة ، أعْطِ محمّدا سؤله يوم القيامة ، وبلّغه الدرجة والوسيلة من الجنّة وتقبّل شفاعته في أُمّته » (16).
إنّ هذا النصّ يوقفنا على أمرين :
أحدهما : صحّة ما قاله الشيخ الطوسي في مقدّمة المبسوط من أنَّ الأصحاب كانوا يستوحشون من الفتوى بغير ألفاظ الروايات ، وأنّ غالب كتب القدماء هي متون روايات وبمنزلة الأُصول المتلقّاة عن المعصومين ، لأنّ الفتوى بالاستحباب من قبل ابن البرّاج متفرِّع على وجود رواية في الباب وخصوصا حينما يقيّدها بعدد كمرتين.
ويؤيد ذلك أن الاذكار الموجودة في كلام ابن البراج إنما هي مروية في روايات أهل البيت وجاءت في كلمات الفقهاء ، ولعل ترتـيب ذكر الأذكار من تقديم الحيعلة الثالثة على الحيعلتين « حيَّ على الصلاة » و « حيَّ على الفلاح » كان كذلك في أصل الرواية ولذلك قدمها بالذكر.
الثانية : وقوف ابن البرّاج على تلك الروايات ووصولها لديه ؛ فقد يقال بأن قوله ; باستحباب قول « محمد وآل محمد خير البرية » في النفس هو لفك الحيعلة الثالثة ، وذلك كاستحباب حكاية ما يقول المؤذن عند سماع الأذان.
فقد روى الشيخ في « المبسوط » والعلاّمة في « التذكرة » مرسلاً بقولهما : وروي أنّه إذا سمع المؤذن يقول « أشهد أن لا إله إلاّ اللّه‏ » أن يقول : وانا أشهد ان لا إله إلاّ اللّه‏ ، وحده لا شريك له ، وان محمدا عبده ورسوله ، رضيت باللّه‏ ربا وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولاً وبالأئمة الطاهرين ائمة ، ويصلي على النبي وآله (17).
فقد يكون ابن البراج من جهة يرى شرعيّة القول بـ « آل محمد خير البرية مرتين » ، لتلك الروايات الدالة على فك معنى الحيعلة ، فيكون كلامه ; معنى آخر لحسنة ابن أبي عمير عن الإمام الكاظم عليه السلام الصريحة في الولاية.
ومن جهة أخرى كان يخاف من الجهر بها لظروف التقيّة التي كان يعيش فيها ولذلك ذهب إلى قولها سرا ، ومعناه : إنّ المقتضي موجودٌ للقول بها وكذا المانع وهو الخوف على النفس ، فسعى للجمع بين الأمرين فأفتى باستحباب أن يقولها المؤذّن سرّا في نفسه عند « حيَّ على خير العمل » ، خلافا للصدوق الذي نفاها تقيّةً ، أو لاعتقاده أنّها من وضع المفوّضة يقينا ، أو لعدم ارتضاء مشايخه لها ، وكذا خلافا للشيخ الطوسي الذي لم يذهب إلى استحباب القول بها ، لكونها وردت في شواذّ الأخبار ، المخالفة للمعمول عليه عند الطائفة ، فالشيخ أفتى بجواز العمل بها لكنّه لم يقل باستحبابها لعدم اعتبار الأخبار الشاذّة عنده إن عارضت ما هو أقوى منها.
وأمّا ابن البرّاج فقد قال باستحباب قولها سرّا للروايات التي وقف عليها ، وبهذا ترى في فتوى ابن البراج نقلة نوعيّة وفقهيّة أُخرى في تطوّر سير هذه المسألة الفقهية بعد السيّد المرتضى والشيخ الطوسي رحمهما اللّه‏ تعالى.
وإنّ تقييد ابن البرّاج الحكم بمرّتين صريح في أنّه أخذه من روايات كانت موجودة عنده تجزم بالمرتين ، وإلاّ لما ساغ له أن يجزم في فتواه بهذا القيد لشرعي الذي لا يمكن التفوّه به لفقيه من دون أصل من الأخبار.
وقد يظهر جليا في ان ابن البرّاج قد وقف على خبر أو اخبار غير التي وقف عليها الشيخ الصدوق ، وذلك لتقييد الذكر هنا بالاخفات في النفس ، وهذا ما لم نجده عند الصدوق ، مع ان محكي الشيخ الصدوق تدل على الجزئية ، وهذه الرواية ظاهرة في أنّها مجرد ذِكْر وليست جزءا ، وعليه تكون هذه الرواية غير مراسيل الصدوق ; المحكية في « الفقيه ».
قال الشهيد في الذكرى ـ : المسألة الرابعة عشر من باب فيما يؤذّن له وأحكام الأذان ـ : قال ابن البرّاج ; : يستحبّ لمن أذّن أو أقام أن يقول في نفسه عند « حي على خير العمل » : « آل محمد خير البرية » مرتين.
وهذا النص من الشهيد الأوّل يفهم بأ نّه يقرّ بما أفتى به ابن البرّاج ; ، وقد يكون فهم من فتوى ابن البرّاج أنّ الشهادة بالولاية لآل محمّد هي من أذكار الأذان المندوبة بالندب الخاصّ لا جزء فصوله ـ كما قدمنا ـ لأ نّه ; قال بعدها : ويقول أيضا في نفسه إذا فرغ من قوله « حي على الصلاة » : لا حول ولا قوة إلاّ باللّه‏ ، وكذلك يقول عند قوله : « حي على الفلاح » ، وإذ قال : « قد قامت الصلاة » قال : « اللهم أَقِمْها وأَدِمْها ، واجعلني من صالحي أهلها عملاً » ، وإذا فرغ من قوله : « قد قامت الصلاة » قال في نفسه : « اللّهّم ربّ الدعوة التامّة والصلاة القائمة ، أَعط محمدا صلواتك عليه وآله سؤله يوم القيامة ، وبلّغه الدرجة والوسيلة من الجنة ، وتقبّل شـفاعته في أمّـته ». وهذه هي نفس العبائر التي جاءت في المهذب (18) لابن البراج. وكلها تشير إلى أنّها ذِكْر وليست جزءا.
وعلاوةً على ما تقدّم يمكننا القول بأنّ ابن البرّاج قال بذلك لعلمه بأن « حي على خير العمل » معناها الولاية ، ويجوز تفسيرها بجمل دالّة عليها تدعو لها تحث عليها حسبما اتّضح في الدليل الكنائي ، كمحمد وآل محمد خير البرية ، لأ نّه قيّد الاستحباب للمؤذّن والمقيم لا للسامع ، لأنّ النداء وظيفة المؤذّن ويتلوه المقيم.
إنّ الصيغة التي أفتى بها ابن البرّاج : « آل محمد خير البرية » هي إحدى الصـيغ الثلاث التي قالها الشـيخ الطوسي وغيره من الأعلام بعد الصدوق.
فابن البراج قال بشرعية « آل محمد خير البرية ، مرتين » حين الحيعلة وفي نفسه ومن باب الذكر.
والسيّد المرتضى ذهب إلى شرعية « محمد وعلي خير البشر ».
والشيخ الطوسي أشار إلى الصيغ الثلاث التي جاء بها الصدوق في الفقيه.
ففي « النهاية » أشار إلى صيغتين منها 1 ـ أشهد أنّ عليا وليّ اللّه‏ ، 2 ـ آل محمد خير البرية.
وفي « المبسوط » أكّد على وجود أشهد أنّ عليا أمير المؤمنين وآل محمد خير البرية في شواذّ الأخبار.
فالسيّد المرتضى وضّح جواز الشهادة بالولاية لأهل الموصل في العراق ، وقد يكون الشيخ الطوسي أشار في كلامه إلى تأذين أهل بغداد وحواليها بالشهادات الثلاث ، وفي كلام ابن البرّاج إشارة إلى تأذين أهل حلب وضواحيها بصيغة « محمد وآل محمد خير البرية » وقد يمكن أن نقول ان شيعة حلب اذنوا بذلك تبعا لمن يقلدونهم من الفقهاء كابن البرّاج والسيّد المرتضى والشيخ الطوسيّ رحمهم اللّه‏ تعالى ، وهو الصحيح الذي لا خلاف فيه.
إذن فصيغة « محمد وعلي خير البشر » و « أشهد أنّ عليا ولي اللّه‏ » أو « أشهد أنّ عليا أمير المؤمنين » أو « آل محمد خير البرية » كانت صيغا تقال في الموصل وبغداد وحلب وحمص ، وجميعها تدلّ على أنّها كانت تقال بعد الحيعلة الثالثة ، أو قبلها ، وهذا هو الذي كان عمر بن الخطاب لا يريد فتحها والإتيان بتفسيرهامعها ، وحسب تعبير الإمام الكاظم « أراد أن لا يكون حثٌّ عليها ودعاءٌ إليها ».
ولقد أكثرنا القول بأنّ حذف عمر بن الخطاب لـ « حيّ على خير العمل » كان بسبب تفسيرها ، وأنّ الحكومات الموالية لعمر والتي جاءت بعده كانت حساسة تسعى لرفع هذا الشعار الشرعي النبوي ومحوه من المآذن ، وتسعى جاهدة لإخماده خوفا من إعلاءِ ذكر عليّ عليه السلام من بعده ؛ ولأ نّه يدل على بطلان حكومة من يخالف الإمام علي ، لأن المؤذن حينما يقول « حي على خير العمل » يعني بكلامه ـ تبعا لتفسير الأئمة ـ أن الإمام علي هو خير البرية ، وخير البشر ، وبما ان انصار النهج الحاكم كانوا يعتقدون بأن هذا الفصل فيه تعريض بخلفائهم وتخطئة لمنهجهم فجدّوا لحذف الحيعلة خوفا من تواليه ، ولذلك ترى الصراع قائما ودائما بين العلو يين وبين الامويين والعباسيين في شعارية هذه المفردة الفقهية العقائدية السياسية ، كما هو ظاهر في تخالف النهجين في مفردات فقهية اخرى ، وهذا ما أكّدناه بالأرقام في الباب الأول من هذه الدراسة : ( حي على خير العمل والشعارية ) (طبع هذا الكتاب قبل اعوام ، وجدد طبعه لمرات عديدة في لبنان ، واليمن ، والعراق ، ومصر ، وترجم إلى اللغات الانكليزية ، والاردو ، والفارسية.).
ولمّا كان غالب فقهائنا اللاّحقين يستندون في أقوالهم على فتاوى الشيخ الطوسي ومنها هذه المسألة ، رأينا من الضروريّ أن نقدّم مقطعا من كلام الشيخ حسن بن زين الدين العاملي في « معالم الأصول » ؛ إذ قال :
... وبأنّ الشّهرة الّتي تحصل معها قوّة الظّنّ ، هي الحاصلة قبل زمن الشّيخ ; لا الواقعة بعده ، وأكثر مايوجد مشهورا في كلامهم حدَثَ بعد زمان الشيخ ، كما نبّه عليه والدي ; في كتاب الرّعاية (19) الّذي ألّفه في رواية الحديث ، مُبيِّنا لوجهه ، وهو أنّ أكثر الفقهاءِ الّذين نَشَؤُوا بعد الشيخ ، كانوا يتّبعونه في الفتوى تقليدا له ، لكثرة اعتقادهم فيه وحسن ظنّهم به ، فلمّا جاء المتأخّرون ، ووجدوا أحكاما مشهورة ، قد عمل بها الشّيخ ومتابعوه ، فحسبوها شهرة بين العلماءِ ، وما دروا أنّ مرجعها إلى الشّيخ ، وأن الشّهرة إنّما حصلت بمتابعته.
قال الوالد ; : وممّن اطّلع على هذا الّذي تبيّنته وتحققّته ، من غير تقليد : الشيخ الفاضل المحقّق سديد الدّين محمود الحمصي ، والسيّد رضي الدّين بن طاوس وجماعة. وقال السيّد في كتابه المسمّى بـ (البهجة لثمرة المهجة) : أخبرني جدّي الصّالح ورّام بن أبي فراس ، أنّ الحمصي حدّثه أنّه لم يبق للإِماميّة مفتٍ على التّحقيق ، بل كلّهم حاكٍ ، وقال السيّد عقيب ذلك : والآن فقد ظهر أنّ الّذي يُفتَى به ويُجاب ، على سبيل ما حُفِظ من كلام العلماءِ المتقدّمين (20).
وما قلناه سابقا يؤكّد لك بأنّ السيرة في الشهادة بالولاية لم تكن قد نشأت في عهد الشيخ الطوسي ; ، أو من بعده ، بل هي كانت سيرة عند أغلب الطوائف الشيعية : زيدية ، وإسماعيلية ، واثني عشرية ، مختلفة في صيغ الأداء فيها ، فبعضهم يقول : « محمد وعلي خير البشر » ، والآخر « محمد وآل محمد خير البرية » ، وثالث « أنّ عليا ولي اللّه‏ » أو أن « عليا أمير المؤمنين » وأن هذه الصيغ هي التي حكاها الشيخ الصدوق في الفقيه والطوسي في المبسوط والنَّهاية ، وهو مما ينبأ بأن السيرة كانت قائمة على التأذين بها قبل عهد الصدوق عملاً ورواية.
لكن لم تكن هذه السيرة إلزاميّة على جميع المؤمنين ، ولم يؤت بها على نحو الجزئية حتّى نقول بتحقيق الشهرة فيها ، بل هي كانت تؤتى في بعض البقاع دون أُخرى ، وقد تكون في البقعة الواحدة يأتي بها البعض ويتركها الآخر لعدم كونها جزءا من الأذان وهو ما نعنيه بكلمة الجواز.
فالذي نريد أن نؤكّد عليه هنا هو أنّ هذه السيرة لم يكن مرجعها الشيخ الطوسي حتى يقال فيها ما يقال ، وأنّ الفقهاء من بعده لم يكونوا يتّبعونه في الفتوى بجواز الاتيان بالشهادة بالولاية في الأذان تقليدا ، وإن كانوا يعيرون إليه كمال الاهتمام ، ويأخذون بقوله ويستندون على فتاواه ، مع ما لهم من أدلّة أُخرى كالعمومات ونحوها.
إذن ما ينبغي أن يقال : هو أنّ السيرة في رجحان الشهادة بالولاية مقرونة بتسالم الفقهاء بعدم الإثم في الإتيان بها ، شريطةَ أن لا تكون على نحو الجزئية والشطرية ، وقد أفتى بذلك السيّد المرتضى ، والشيخ الطوسي ، وابن البراج رحمهم اللّه‏ تعالى وغيرهم ، وإنّ ترك الفقهاء من بعد الشيخ الطوسي التعرض لموضوع الشهادة بالولاية في كتبهم ، لا يعني عدم قولهم بمحبوبيتها بل لتسالمهم على عدم جزئيتها.
وعلى سبيل المثال ، نرى الشهيد الثاني قدس‏سره جمع بين المطلبين في الروضة
بقوله : « ولا يجوز اعتقاد شرعيّة غير هذه الفصول في الأذان والإقامة ، كالتشهّد بالولاية لعليّ وأنّ محمّدا وآله خير البرية أو خير البشر وإن كان الواقع كذلك ، فما كلّ واقع حقّا يجوز إدخاله في العبادات الموظّفة شرعا المحدودة من اللّه‏ تعالى ، فيكون إدخال ذلك فيها بدعةً وتشريعا .. ، ولو فعل هذه الزيادة أو إحداها بنيّة أنّها منه أَثِمَ في اعتقاده ، ولا يبطل الأذان بفعله ، وبدون اعتقاد ذلك لا حرج » (21).
أمّا عدم إشارة البعض إلى حكم من يقول : « محمد وآل محمد خير البرية » و « عليا ولي اللّه‏ » وأمثالها في اذانه ، فقد يعود لعدم شيوع هذا الأمر في ذلك الزمان الذي كانوا يعيشون فيه ، وقد يكون تركهم جاء خوفا من السلطان الجائر. وقد يكون لجوازه وانه لا يلزم الفقيه الاشارة إليه.
وكذا الحال بالنسبة إلى الذي قد أفتى بالحرمة كالشيخ عبدالجليل القزو يني صاحب كتاب ( النقض ) باللّغة الفارسية والذي كتبه في سنة 560 ه‍ ، فقد أفتى بالحرمة لأ نّه رأى بعض الناس في عهده يقولون بالشهادة بالولاية على أنّها جزء الأذان ، ولأجل ذلك تهجّم عليهم ولعنهم وقال بلزوم إعادة الأذان (22).
وعليه فالاشارة من الفقهاء تأتي لتعديل حالة الافراط والتفريط في الأمة ولبيان الاحكام الواجبة والمحرمة وقد يشار إلى الأمور المكروهة والمستحبة أمّا الأمور المباحة فليست من وظائف الفقيه.
فالشيخ الطوسي ، وابن البرّاج ، والعلاّمة رحمهم اللّه‏ تعالى ، وغيرهم كانوا يخالفون من يأتي بها كجزء في الأذان ؛ لعدم الدليل عندهم عليها ، في حين أنّهم يجيزون الاتيان بها لمطلق القربة لأدلّة أخرى عندهم ، وقد وضّح العلاّمة الحلي الشق الاول [ وهو نفي الجزئية ] في ( نهاية الأحكام ) تاركا الشق الاخر إذ قال :
ولا يجوز قول ( أنّ عليّا وليّ اللّه‏ ) و ( آل محمّد خير البرية ) في فصول الأذان ، لعدم مشروعيته.
وعليه فيحيى بن سعيد الحلي والعلاّمة الحلي رحمهما اللّه‏ تعالى لم يكونا مقلِّدَين للشيخ الطوسي فيما حكاه من الأخبار الشاذّة ، بل يفهم من كلام التقي المجلسي ( ت 1070 ه‍ ) أنّهما وقفا على تلك الأخبار ، لعدّ المجلسي : الشيخ والعلاّمة والشهيد في مرتبة واحدة ، إذ قال :
والظاهر أنّ الأخبار بزيادة هذه الكلمات أيضا كانت في الأصول ، وكانت صحيحة أيضا ، كما يظهر من الشيخ والعلاّمة والشهيد فإنّهم نسبوها إلى الشذوذ ، والشاذّ ما يكون صحيحا غير مشهور (23).
ولو ألقيت نظرةً سر يعةً على تاريخ تلك الفترة وما فيها من صراعات دامية في الموصل والشام ومصر ، وما قام به صلاح الدين الأ يّوبي مع الفاطميين والعلويين لوقفت على سرّ عدم تعرّض الأعلام ـ ما بين ابن البراج ( ت 481 ه‍ ) ويحيى بن سعيد الحلي ( ت 689 ه‍ ) أي بمدة قرنين ـ إلى ما يدلّ على رجحان الشهادة بالولاية في الكتب الموجودة بين أيدينا.
وبذلك فقد أمكننا وبهذا العرض السريع إعطاء فكرة بسيطة عن سير هذه المسألة الفقهية الكلامية ، وما يمكن أن يستند عليه في الأحكام الشرعيّة عند القدماء والمتأخّرين.
وكذا اتّضح للقارئ أنّ الشهادة بالولاية لم تكن سيرة شائعة عند جميع الشيعة وفي جميع فتراتها ، وان عدم شيوعها لا ينفي محبوبيّتها وجوازها ، بل إنّ في ترك بعض الشيعة لها في بعض الأحيان دلالة قو يّة على عدم قولهم بجزئيتها ، وكذا في عمل البعض الآخر منهم دلالة على محبوبيّتها ، إذ من غير المعقول أن تُطبِق أغلبُ الدول الشيعية على الإتيان بها خصوصا في ظروف خاصة لا تسمح لهم بالإجهار بها ، فما من حاكم شيعي مبسوط اليد إلاّ أتى بـ « حي على خير العمل » مع ما لها من تفسير عن الأئمّة.
ونحن إن شاء اللّه‏ في الفصل القادم سنواصل هذه السيرة مقرونة مع بيان تسالم الفقهاء على جواز الإتيان بها بقصد القربة المطلقة أو لمحبوبيّتها الذاتية بحسب أخبار اقتران الشهادات الثلاث المارة المعتبرة سندا. وهو ما يؤكّد جواز الاتيان بهذا العمل المحبوب ان لم تعقبه مخاطر تودّي إلى إراقة الدماء.
وقد يصير الإتيان بهذا العمل مطلوبا بنحو أكيد بالعنوان الثانوي خصوصا مع دفع اتّهامات المتَّهمين وافتراءات المفترِين الذين يريدون أن ينسبوا الغلوّ إلى شيعة أمير المؤمنين ، فيجب على الشيعة أن يجهروا بالتّوحيد والنبوة مقرونة بالولاية حتى يدفعوا ومن على المآذن تلك الافتراءات ، وهم يعلمون ويؤكّدون في رسائلهم العملية بأنّها ليست من أصل الأذان أو جزءً داخلاً في ماهيته.
المصادر :
1- المسائل الميافارقيات المطبوع مع كتاب جواهر الفقه : 257 المسأله 15 ، والمطبوع كذلك ضمن المجموعة الأولى من رسائل السيّد المرتضى 1 : 279 المسألة 15.
2- مسائل ميافارقيات المطبوع مع كتاب جواهر الفقه : 257 المسأله 16 ، والمطبوع كذلك ضمن المجموعة الاولى رسائل السيّد المرتضى 1 : 279 المسألة 16.
3- رسائل السيّد المرتضى 1 : 219 ، وانظر جمل العلم والعمل : 57.
4- المبسوط 1 : 148 / طبعة المكتبة المرتضوية 1 : 99 / منتهى المطلب 4 : 381 / الغنائم 2 : 423 .
5- النهاية في مجرد الفقه والفتاوى : 69و68. وأنظر «نكت النهاية» 1 : 293 للمحقق الحلي كذلك.
6- شرح البداية في علم الدراية ، للشهيد الثاني : 39./ الرعاية في علم الدارية : 115 ، وصول الأخبار : 108 ، الرواشح السماوية : 16/ معرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري : 119 ، وصول الاخيار : 106.
7- المبسوط 1 : 2.
8- النهاية : 69 ، والمبسوط 1 : 148.
9- بحار الأنوار 84 : 111.
10- روضة المتقين 2 : 245.
11- الفرحة الانسية 2 : 16.
12- العمدة لابن البطريق : 316 ، 317 ، الجمع بين الصحيحين للحميدي 4 : 43 / باب المتّفق عليه من مسند عائشة.
13- المنتظم 8 : 173/ المنتظم 8 : 179.
14- قاموس الرجال 9 : 208 ، عن مجالس المؤمنين 1 : 481.
15- شرح جمل العلم والعمل ، لابن البراج : 78./ الكافي ، لأبي الصلاح الحلبي : 120 ـ 121./ المراسم العلوية في الأحكام النبوية : 67./(4) اصباح الشيعة بمصباح الشريعة ، المطبوع ضمن سلسلة الينابيع الفقهية / ج 4 : 616.
16- المهذب لابن البراج 1 : 90.
17- المبسوط 1 : 97 ، تذكرة الفقهاء 3 : 84.
18- ذكرى الشيعة 3 : 241./(2) المهذب لابن البراج 1 : 90 / من باب الأذان والإقامة واحكامها.
19- الرعاية في علم الدراية ، للشهيد الثاني : 92 ، الحقل الرابع في العمل بالخبر الضعيف.
20- معالم الأصول : 204 ، تحقيق الدكتور مهدي محقق.
21- شرح اللمعة 1 : 571.
22- النقض : 97.
23- نهاية الاحكام 1 : 412./(2) روضة المتقين 2 : 245. في المصدر المحقق بدل ( الشيخ ).

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.