
اتفق أهل السنة على أن جميع الصحابة عدول، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة، على حد تعبير ابن حجر العسقلاني، ويجب الاعتقاد بنزاهتهم، إذ ثبت أن الجميع من أهل الجنة وأنه لا يدخل أحد منهم النار (1).
ما هو دليل أهل السنة على ذلك
ذكر الخطيب أن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم. فمن ذلك قوله تعالى: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * وقوله: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * وقوله: * (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم) * وقوله: * (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) * وقوله:* (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) * وقوله: * (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون) * إلى قوله: * (إنك رؤوف رحيم) * وفي آيات كثيرة يطول ذكرها، وأحاديث شهيرة يكثر تعدادها .مضمون عدالة الصحابة عند أهل السنة
تعني عدالة الصحابة فيما تعنيه، أن كل من عاصر الرسول أو ولد في عصره، لا يجوز عليه الكذب والتزوير، ولا يجوز تجريحه، ولو قتل آلافا، وفعل المنكرات. وعلى أساس ذلك فجميع الطبقة الأولى من الأمويين، كأبي سفيان وأولاده، وجميع المروانيين بما فيهم طريد رسول الله وأولاده، والمغيرة بن أبي شعبة وولده عبد الله الذي كان في حدود العاشرة من عمره حين وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومع ذلك نسبوا إليه مجموعة من الأحاديث كتبها على النبي في صحيفة يسمونها الصادقة. فجميع هؤلاء من العدول ومروياتهم من نوع الصحاح ولو كانت في تجريح علي وأهل البيت، وفي التقريظ والتقديس لعبد الرحمن بن ملجم. هذه المرويات يجب قبولها ولا يجوز ردها لأن رواتها من العدول، والعادل لا يتعمد الكذب، والذين اتبعوا معاوية وسايروه طيلة ثلاثين عاما من حكمه، هؤلاء كلهم على الحق والهدى، وحتى الذين سموا الحسن بن علي وقتلوا الحسين وأصحابه، وفعلوا ما فعلوا من الجرائم في الكوفة وغيرها كانوا محقين ومن المهتدين بحجة أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد قال بزعمهم: " أصحابي كالنجوم بأيهم اهتديتم اقتديتم ". وهذا الحديث ضعفه أئمة أهل الحديث فلا حجة فيه وطعن فيه ابن تيمية (2).ما هو جزاء من لا يعتقد بهذا الرأي ؟
بأقل أقوال أهل السنة: " إذا رأيت الرجل ينقص أحدا من أصحاب رسول الله فاعلم أنه زنديق. والذين ينقصون أحدا على الاطلاق من أصحاب رسول الله هم زنادقة والجرح أولى بهم " (3). ومن عابهم أو انتقصهم فلا تواكلوه ولا تشاربوه ولا تصلوا عليه).ما هو سر هذا التشدد والصرامة عند أهل السنة ؟
ذلك أن الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة. وهؤلاء الذين ينقصون أحدا من الصحابة يريدون أن يخرجوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح أولى بهم وهم زنادقة.يقصد أهل السنة بالصحابة ما قصده ابن حجر عند تعريفه للصحابي بدءا من خديجة وعلي وزيد بن حارثة وأبي بكر وانتهاء بآخر طفل رأى الرسول أو رآه الرسول، ويستحسن أن نرجع لعرضنا لتحليل ابن حجر لتعريف الصحابي.
محاولة للتخفيف من هذا الغلو
قال المارزي في شرح البرهان: " لسنا نعني بقولنا الصحابة عدول كل من رآه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما أو زاره لماما، أو اجتمع به لغرض وانصرف عن كثب، وإنما نعني به الذين لازموه وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون " انتهى (4).استنكار المحاولة ودفنها
والجواب على ذلك أن التغييرات المذكورة خرجت مخرج الغالب وإلا فالمراد من اتصف بالإنفاق والقتال بالفعل أو القوة. وأما كلام المازري فلم يوافق عليه بل اعترضه جماعة من الفضلاء. وقال الشيخ صلاح العلاني: هذا قول غريب يخرجكثيرا من المشهورين بالصحبة والرواية عن الحكم بالعدالة كوائل بن حجر ومالك بن الحويرث وعثمان بن العاص وغيرهم ممن وفد عليه (صلى الله عليه وآله) ولم يقم عنده إلا قليلا وانصرف. وكذلك من لم يعرف إلا برواية الحديث الواحد ولم يعرف مقدار إقامته من أعراب القبائل والقول بالتعميم هو الذي صرح به الجمهور وهو المعتبر.
الآثار المترتبة على هذا التعميم
المساواة العشوائية، فالصحابة حسب رأي أهل السنة متساوون بالعدالة، فجميعهم عدول، فالقاعد كالمجاهد، والعالم كالجاهل، ومن أسلم عن اقتناع تماما كمن أسلم لينجو بروحه، والسابق كاللاحق، والمنفق كالمقتر، والعاصي كالمطيع، والطفل المميز تماما كالراشد، ومن قاتل الإسلام في كل المعارك تماما كمن قاتل مع الإسلام كل معاركه. فعلي عليه السلام الذي قاتل مع الإسلام كل معاركه هو تماما كأبي سفيان الذي قاد كل الحروب ضد الإسلام، وهو تماما كمعاوية ابن أبي سفيان وحمزة عليه السلام وهو المقتول وسيد الشهداء تماما مثل قاتله (وحشي) وعثمان بن عفان المبشر بالجنة هو تماما مثل عمه الحكم بن العاص والد خلفاء بني أمية، وهو طريد رسول الله وطريد صاحبيه. وقد لعنه الرسول ولعن ولده ، و عبد الله بن أبي سرح الذي افترى على الله الكذب وارتد عن الإسلام وأباح الرسول دمه ولو تعلق بأستار الكعبة (5) هو تماما كأبي بكر، و عبد الله بن أبي زعيم المنافقين تماما كعمار بن ياسر...... الخ.كيف لا ؟ فكلهم صحابة وكلهم عدول وكلهم في الجنة ولا يدخل أحد منهم النار أبدا كما نقلنا.
هل يعقل أن يكون العالم كالجاهل والقاعد كالمجاهد ومن أسلم عن اقتناع كمن أسلم خوفا ؟ هل من المعقول أن يتساوى القاتل والمقتول ؟ وهل يتساوى السابق باللاحق، والمنفق بالمقتر والعاصي بالمطيع وصادق الإيمان بالمتظاهر ؟ وأن يتساوى المؤمن والمنافق.... الخ هل يعقل أن يكون معاوية مثل علي ؟
لا الشرع يقبل هذه المساواة ولا العقل ولا المنطق وهي ظلم صارخ وخلط فظيع ينفر منه العقل وتأباها الفطرة الإنسانية السليمة.
الائتلاف والاختلاف
على ضوء المعنيين اللغوي والاصطلاحي لكلمة صحابة فإنه لا بديل أمام أتباع الإسلام (الفرق الإسلامية) من الاتفاق على أن اصطلاح الصحابة يشمل كل الذين أسلموا أو تظاهروا بالإسلام وسمعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو جالسوه أو شاهدوه، ولكن الخلاف يكمن في التعميم، فبينما يرى أهل السنة أن الصحابة بهذا المعنى الواسع كلهم عدول إلا أن الفرق الإسلامية الأخرى لا تقر أهل السنة على ذلك ولا توافق على هذا التعميم.محاولة للتوفيق
الصحابة بالمعنى الواسع الذي يركن إليه أهل السنة هم كل شعب دولة النبي، أو هم كل الأمة الإسلامية التي دانت لدولة النبي (صلى الله عليه وآله)، وهم أول المخاطبين المعنيين بآيات القرآن الكريم. فعليهم طبقت أحكامه كلها، فمن أعلن إسلامه وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله اعتبر مسلما ومواطنا في دولة النبي، لأن الله هو المطلع على الضمائر، العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور،وهو وحده الذي يثيب على هذا الإسلام. وانطلاقا من هذا الاعتقاد، فقد كان النبي يكتفي بالظاهر ويترك البواطن لله. وسلوك الإنسان متروك للمستقبل ولرحمة الله وتأثير المجتمع المسلم عليه، ولموقف الفرد من معارك الإيمان مع الكفر تحت قيادة النبي أو من ينتدبه. ومن الطبيعي أن النبي لم يقل لمنافق أنت منافق، بل كان يدعو الله أن يستر على عيوب خلقه وأن يصلحهم ويهديهم، مع أن القرآن الكريم حافل بالآيات التي تقرع بشدة المنافقين المنتشرين في عاصمته المدينة ومن حولها من الأعراب. وكشفت هذه الآيات أسرارهم وفضحت أضغانهم وعالجت أمورا واقعية ووصفت وشخصت حالات فردية لأشخاص كانوا يعتبرون صحابة بل وأقيمت الحدود على الكثير منهم.
والشريعة وضعت صفات موضوعية لأعمال البر والتقوى ولأعمال الفجور.
فمن توافرت فيه صفات معينة حشرته تلك الصفات بإحدى هاتين المجموعتين، وترجمة الصفات وبيانها متروك لسلوك الإنسان ميدانيا. فالصدام مع الكفر لم يتوقف طيلة حياة النبي، والإنسان بطبعه يعكس دائما حقيقة اعتقاده بسلوكه آجلا أم عاجلا.
وبانتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى، كان كل مسلم من مواطني الدولة الإسلامية يعرف حقيقة موقعه في حوض التقوى أو في بؤرة الفجور، وعرف الناس كلهم منازل بعضهم، مع أن المجتمع المسلم، خاصة مجتمع المدينة المنورة، كان مجتمع صحابة ولكل واحد من أفراده صفة صحابي لغة واصطلاحا. ثم من يأمن مكر الله وما معنى الأمور بخواتمها ؟ إنه لا بديل من تقسيم الصحابة الكرام إلى مجموعتين كبيرتين:
1 - أفاضل الصحابة: وهم الأخيار الذين قامت الدولة على أكتافهم وتحملوا سخرية وأذى الأكثرية الكافرة حتى ظهر أمر الله وتمسكوا بأمر الله ووالوا نبيه ووالوا من والاه، وانتقلوا إلى جوار ربهم وهم معتصمون بحبل الله، فهؤلاء عدول بالإجماع ولا تشذ عن ذلك أية فرقة من الفرق الإسلامية.
2 - بقية الصحابة: وهم متفاوتون، الله أعلم بهم، فمنهم الصبي ومنهم المنافق.
فالمنافقون الأشرار جعلهم الله في الدرك الأسفل من النار مع أنهم كانوا يتظاهرون بالإسلام ويسمون أيضا صحابة بكل المعايير الموضوعية المعروفة عند أهل السنة.
ما هي الفائدة من هذا التقسيم ؟
إن معرفة أفاضل الصحابة أمر في غاية الأهمية، فهم الذين يبايعون الإمام البيعة الخاصة، وهم ركن من أركان أهل الشورى، وهم الذين ينفذون أوامر الإسلام، وهم حكومة الإمام الفعلية، وهم الذين يقومون بتهيئة المجتمع لتلقي الذكر ولتطبيق الشريعة ولإعطاء البيعة العامة وبرضاهم يجب أن ترضى العامة وبسخطهم يسخطون.فإذا تحقق ذلك نجت الأمة ونجوا، وإن لم يتحقق هلكت الأمة وتأخروا، ووسد الأمر لمن يغلب. وفائدة هذا التقسيم الآن هو دراسة الماضي دراسة موضوعية لمعرفة سر اختلاف المسلمين وبعثرة كلمتهم وانهيار دولتهم تمهيدا لاستشراق مستقبلهم وتوثيق خطواتهم بحيث تبقى ضمن المقصود الشرعي كطريق أوحد لتوحيدهم ثانية وإقامة دولتهم التي ينبغي أن تقوم على الأسس الشرعية حتى تدوم وتحقق غايتها ولا تنهار ثانية.
ثم إن التفضيل ضروري لمعرفة الأفضل ومن هو المستحق لملء الوظائف العامة. يقول تعالى: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)، وقد فسرها الطبري بإسناد الولاية لمن هو جدير بها. وكيف يمكن تأدية هذه الأمانات في هذا المجال دون اللجوء للتفاضل ؟ إن أول من سمع بذلك هم الصحابة، ومن المعني بذلك غيرهم ؟!.
التفاضل سنة إلهية
التفاضل سنة إلهية، ومنهج من مناهج الحياة، وحافز من حوافز السمو بها تقتضيه طبيعة الحياة ويقتضيه التباين بين الخلق في القدرة والقوة والفهم، وتحقيق العدل السياسي والوظيفي من حيث وضع الشخص المناسب في المكان المناسب المؤدي لتحقيق الغاية الشرعية ووسيلة ذلك كله هو نظام التفاضل الشرعي في الإسلام على اعتبار أن التفضيل مكافأة وحافز إلهي وأن التفاضل وسيلة شرعية.الدليل الشرعي للتفاضل
وسيلة التفاضل مكرسة بالشريعة الإسلامية وبروحها العامة. قال تعالى:* (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين) * * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) *. والتفضيل وارد حتى على مستوى الأسر والأقوام، فها هو سبحانه وتعالى يخاطب بني إسرائيل: * (أني فضلتكم على العالمين) * * (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا) * * (وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا) * * (وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) * * (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة) *...... الخ.
والتفضيل ضرورة لمعرفة الأفضل ومن هو المستحق لملء الوظائف العامة عملا بقوله (صلى الله عليه وآله): من ولي على عصابة رجلا وهو يجد من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله.
طبقات الصحابة
إن الصحابة شرعا وعقلا وواقعا ليسوا بدرجة واحدة. فمنهم الصادقون وهم طبقات في صدقهم، ومنهم الأقوياء وهم طبقات في قوتهم، ومنهم الضعفاء وهم أيضا طبقات في درجات ضعفهم، ومنهم المنافقون وهم أيضا طبقات في نفاقهم.أنظر إلى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمن أشار عليه بقتل عبد الله بن أبي رأس النفاق في المدينة: " لعمري لنحسنن صحبته ما دام بين أظهرنا " (6) فزعيم المنافقين حسب هذا النص صحابي، وهو صحابي بالموازين المتفق عليها عند أهل السنة.
ولو جارينا أهل السنة بحرفية فهمهم لتجمدت الحياة ولتجمد الفكر تماما. وبالرغم من أن أهل السنة قد أجمعوا أو أشاعوا الاجماع على أن الصحابة كلهم عدول، إلا أن هذا لم يمنعهم من أن يعترفوا ضمنا بأن هذا التعميم غير واقعي وغير منطقي ويتعارض مع المقصود الشرعي. ولعل تقسيمهم الصحابة الكرام إلى طبقات أكبر شاهد على هذا الاعتراف حيث أن انتماء الصحابة لطبقة من الطبقات يحدد شرعا دوره في الأمور السياسية والحقوق وهذه ليست مسألة اجتهادية لأن الشرع الحنيف بقرآنه وسنته قد وضع معالم تلك الطبقات. ومن هنا فإن ابن سعد تصدى لهذه الناحية فجمع الصحابة في خمس طبقات. وكذلك فإن الحاكم في مستدركه قسم الصحابة إلى اثنتي عشرة طبقة.
طبقات الصحابة كما ذكرهم الحاكم في مستدركه (7)
الطبقة الأولى: الذين أسلموا بمكة قبل الهجرة كالخلفاء الراشدين.
الطبقة الثانية: أصحاب دار الندوة.
الطبقة الثالثة: مهاجروا الحبشة.
الطبقة الرابعة: أصحاب العقبة الأولى.
الطبقة الخامسة: أصحاب العقبة الثانية.
الطبقة السادسة: أول المهاجرين الذين وصلوا بعد هجرة الرسول للمدينة.
الطبقة السابعة: أهل بدر.
الطبقة الثامنة: الذين هاجروا بين بدر والحديبية.
الطبقة التاسعة: أهل بيعة الرضوان.
الطبقة العاشرة: من هاجر بين الحديبية وفتح مكة كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص.
الطبقة الحادية عشرة: الطلقاء وهم الذين أسلموا يوم فتح مكة كأبي سفيان ومعاوية.
الطبقة الثانية عشرة: صبيان وأطفال رأوه يوم الفتح.
فأول الناس إسلاما خديجة ثم علي عليه السلام: تنبأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم الاثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء ثم زيد بن حارثة ثم أبو بكر (8).
وتقسيم الصحابة إلى طبقات دخول واقعي في باب التفاضل، فمن غير المنطقي أن يكون أول من أسلم بنفس الدرجة من العدالة التي يتمتع بها طليق أسلم يوم الفتح. وقد تنبه إلى هذه الناحية الفاروق عند توزيع العطايا، فأخذ بعين الاعتبار توزيع العطايا حسب الطبقة، ولم يساو بين أول من أسلم وآخر من أسلم، ولا ساوى بين من قاتل الإسلام بكل فنون القتال حتى حوصر بجزيرة الشرك مع الرجل الذي قاتل مع الإسلام كل معاركه حتى أعز الله دينه. وفي اجتماع السقيفة كانت حجة المهاجرين على الأنصار: هي أنهم أول من عبد الله في الأرض (السابقة في الإيمان) وأنهم أولياء الرسول وعشيرته وأحق الناس بالأمر من بعده، ولا ينازعهم إلا ظالم، ولأن العرب تأبى أن تؤمر الأنصار ونبيها من غيرهم، ولكن العرب لا ينبغي أن تولي هذا الأمر إلا من كانت النبوة فيهم. وانظر إلى قول عمر: " من ينازعنا سلطان محمد وميراثه ونحن أهله وعشيرته " هذا بالحرف ملخص ما قاله أبو بكر وعمر في السقيفة. ألا ترى أن هذا تطبيق نظري دقيق لعملية التفاضل الشرعية وبالتالي نسف لكامل المقولة إن الصحابة كلهم بلا استثناء عدول ؟ فأذعن الأنصار لتلك الحجج القوية وقالوا: طالما أن الأمر هكذا فإننا لا نبايع إلا عليا (9).
وعند ما واجه الإمام علي القوم بحجته بعد البيعة قال بشير بن سعد الذي شق إجماع الأنصار وبايع أبا بكر مخاطبا عليا: لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان، وما كان بالإمكان الوصول إلى هذه القناعات لولا إعمال نظام التفاضل كوسيلة لتقديم الأعلم والأفضل والأنسب لكل أمر تحتاجه الأمة. ونظام التفاضل يتعارض بطبيعته مع مقولة " كل الصحابة عدول: لأنه لو صحت هذه المقولة لما كانت هنالك دواعي لوجود هذا النظام ولا لسلوك منهج التفاضل باعتبار أن الجميع متساوون بالعدالة.
نظام التفاضل في الإسلام
تجنبا للخلاف والاختلاف، واستبعادا لدور المزاج والهوى، وتقزيما لأي واقع متجبر سيفرض على الأمة، فقد حدد الإسلام بنصوص قاطعة لا تحتمل الانكار والتأويل الأركان الأساسية لنظام التفاضل في الإسلام وحصرها في خمسة أركان، لتكون مسارب للفضل والعدالة وطرفا لمنازل الخير، وهي التي تحدد موقع الإنسان المسلم وتبين دوره وتحدد حجم اعتباره. وهي مجتمعة تقدم الجواب الشرعي الأمثل لكل سؤال يتعلق بالمنازل والكرامات، وهي بالتالي الطريق الأوحد لمعرفة الأعلم والأفضل والأنسب في كل أمر من الأمور.فإذا كان الصحابة كلهم بلا استثناء عدول لا فرق بين واحد وآخر، فما الداعي لإيجاد نظام التفاضل في الإسلام ؟ وما الداعي لتشريع الحدود ووضع الأحكام ؟
أركان التفاضل أو مسارب العدالة
باستقراء أحكام العقيدة الإلهية الإسلامية، يتبين لنا أن التفاضل يقوم على خمسة أركان، وهذه الأركان بمثابة موازين أو معايير شرعية تحدد حجم الاعتبار لكل مسلم وتبين منزلته.الركن الأول والأهم: القرابة الطاهرة، فهم قيادة الأمة السياسية والروحية بعد نبيه الكريم بالنص الشرعي القاطع. أما لماذا هم بالذات ؟ هذا فضل الله يؤتيه من يشاء لماذا أنزل الله الوحي على محمد واختاره للرسالة ؟ لماذا محمد بالذات ؟ لماذا موسى بالذات ؟ هذا أمر بيد الله تعالى. هذه القرابة هي مركز الدائرة بالنص وهي سفينة النجاة بالنص، وهم باب حطة بالنص، وهم نجوم الهدى بالنص، وهم الأسبق بالإيمان بالنص، وهم الأتقى بالنص، وهم الأعلم بالنص، وهم الأكثر بلاء بالنص، ومحبتهم مفروضة على الجميع بالنص، وعميدهم في كل زمان هو الإمام الشرعي للأمة وهو مرجعها فالنبي أولا والكتاب ثانيا، والهادي أولا والهداية ثانيا فمتى بعث الله رسالة بدون رسول ؟ ومتى أنزل الله كتابا إلا على عبد ؟ وسأثبت ذلك في حينه، فهم محط الولاية ومحورها.
الركن الثاني: السابقة في الإيمان.
الركن الثالث: التقوى.
الركن الرابع: العلم.
الركن الخامس: تقييم الرسول القائد أو الإمام الشرعي (المعين شرعا) ليقوم مقامه والذي بايعته الأمة المسلمة بالرضى وبمحض اختيارها بدون إكراه ولا إغراء ولا لف ولا دوران (بدون غلبة).
الحكم على هذه الموازين
تلك موازين شرعية موضوعية مستمدة من الشريعة ومن الشريعة وحدها، وهي تبين معالم العدالة لدى كل فرد - وما سواها - مع عميق الاحترام إلا مواءمة بين واقع مفروض ومثال إلهي آخذ بالأعناق، وهذه الموازين معترف بها، وكانت حجة لا تعلوها حجة في نظام الخلافة التاريخي.
فعلى سبيل المثال أرجع حجة أبي بكر على الأنصار في سقيفة بني ساعدة ، وارجع إلى حجة عمر في السقيفة ، وارجع إلى حجة أبي عبيدة.
فقد قالوا إنهم الأولى بمحمد: 1 - لأن العرب تأبى أن تولي الخلافة إلا من كانت النبوة فيهم. 2 - إن أهل محمد وعشيرته هم أولى بميراثه وسلطانه (وهذا معيار القرابة بعينه) وقالوا: إنهم أول من عبد الله في الأرض، وهذا معيار السابقة في الإيمان والتقوى.... الخ. ثم طريقة عمر بتوزيع الأعطيات. لقد أخذ بأكثر هذه المعايير (10).
تساؤلات
فإذا كان الصحابة كلهم عدول وكلهم في الجنة ولا يدخل أحد منهم النار، وأن الله ساوى بينهم، فما الذي منع الأنصار من أن يتولوا الخلافة ؟ ولماذا اقتنعت أكثريتهم وأعطوا القيادة للمهاجرين الثلاثة عن قناعة ؟ لماذا فرق الخليفة العادل عمر ولم يساو بينهم بالعطايا مع أنهم صحابة وكلهم عدول ولا فرق بين واحد وآخر ؟لماذا أقيمت الحدود على بعضهم ؟ وهل يسرق العادل النزيه المضمون دخوله في الجنة ؟ أنتم لستم أفقه من الشيخين في الدين، وكفى بفقههما عندكم حجة، ليجب كل واحد منكم على هذه التساؤلات أو ليحاول، فمتى كان التقليد الأعمى طريقا للهدى ؟ لقد أنبأنا الله أنه طريق إلى النار، وقد أنعم الله علينا بالعقل لنستثمره في طاعة ومعرفة مقاصد الشريعة.
المصادر :
1- الإصابة في تمييز الصحابة ص 9 و 10 /الإصابة في تمييز الصحابة ص 9 و 10.
2- ص 81 و 82 و91 من كتاب آراء علماء المسلمين في التقية والصحابة وصيانة القرآن الكريم للسيد مرتضى الرضوي.
3- الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني ص 17 و 18.
4- ص 238 من كتاب الكبائر للحافظ الذهبي وراجع آراء علماء المسلمين ص 85 للسيد مرتضى/ الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني ص 17 و 18/ الإصابة في تمييز الصحابة ص 19.
5- كنز العمال ج 11 ص 358 - 361 وراجع المعارف لابن قتيبة ص 131 و 41 و 54.
6- الطبقات لابن سعد ج 6 ص 65 وراجع كتابنا النظام السياسي في الإسلام ص 103.
7- تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 227 - 228 .
8- تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 227.
9- تاريخ الطبري ج 7 ص 198 وراجع الإمامة والسياسة لابن قتيبة وراجع ج 2 ص 326 من شرح النهج .
10- الإمامة والسياسة ص 8/ فتوح البلدان للبلاذري.