![خارطة الاسلام السياسية خارطة الاسلام السياسية](https://rasekhoon.net/_files/thumb_images700/article_ar/A13285.jpg)
1 - أعمدة الدين وأركانه
قام الدين الإسلامي عقائديا على ثلاثة أعمدة أو أركان:
اولا - نبي مرسل لا ينطق عن الهوى، مهمته أن يبين القرآن بيانا قائما على الجزم واليقين، وأن ينفذ الخطة الإلهية للإنقاذ، وأن يتولى تطبيق المنظومة الحقوقية الإلهية، وهو مرجع الأمة وقائدها السياسي، من لحظة إعلان النبوة إلى اللحظة التي تفارق روحه الطاهرة جسده المبارك.
ثانيا - كتاب الله المنزل من عند الله بلفظه ومعناه، وهو بمثابة الخطة الإلهية للإنقاذ، والمنظومة الحقوقية المراد تطبيقها وتعميمها على الجنس البشري.
ثالثا - علاقة (عضوية) بين النبي المرسل والكتاب المنزل، وهي علاقة لا تقبل التجزئة أو التقسيم، فالإيمان بأن الكتاب من عند الله، وأن النبي ليس رسول الله كفر، والقول بأن محمدا رسول الله ولكن القرآن ليس من عند الله كفر، ولا يتم الإيمان إلا بالاثنين معا، ولا يفهم أحدهما إلا بالآخر، فالصلاة وهي عماد الدين جاءت مجملة في القرآن وتولى النبي بيان عددها ومضامين ركعاتها.
2 - هدم العلاقة العضوية بين النبي المرسل والكتاب المنزل
مرض النبي الأعظم، ولا عحب فهو بشر، ولا مفاجأة بمرضه لأنه قد أعلن أمام ماءة ألف حاج أو يزيدون أنه يوشك أن يدعى ويوشك أن يجيب، وأن حجته في ذلك العام هي حجة الوداع، ولكنه بالرغم من مرضه ما زال نبيا وما زال رسولا وما زال مرجعا وما زال إماما، وحقه الثابت أن يستمر بممارسة واجبات النبوة والرسالة والمرجعية والإمامة، ولا يملك أحد على الإطلاق أن يحول بينه وبين ممارسة هذه الصلاحيات.
3 - أبسط حقوق المريض
إن من أبسط حقوق المريض في كل الشرائع البشرية أن يوصي، أن يقول ما يريد قوله، وأن أبسط واجبات عواده أو الجالسين في بيته أن يسمحوا بهذا للمريض وأن يسمعوا أقواله ووصيته، وبعد ذلك لهم الحرية، فإما أن يعملوا بقول هذا المريض أو يهملوه، وينفذوا وصيته أو يتجاهلوها.
4 - سابقة لا مثيل لها في التاريخ البشري
أما أن يتصدى العواد والجالسون في بيت المريض للمريض، ويحولوا بينه وبين أن يقول ما يشاء، ويشوشوا عليه حتى لا يكتب وصيته، ويحولوا بينه وبين الانتفاع ببيته وممارسة حريته ببيته الخاص، فتلك والله سابقة لا مثيل لها في التاريخ البشري، وهذه الحادثة فريدة من نوعها!
5 - هل تعلمون من هو المريض الذي سلب أبسط حقوقه؟
إنه نبي الله ورسوله ومرجع الأمة وقائدها السياسي محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتفصيل ذلك أنه أراد أن يلخص الموقف فقال لعواده ومن حضر في مجلسه: قربوا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، فتصدى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) للرسول وقال لا حاجة لنا بكتابة الكتاب، حسبنا كتاب الله، إن المرض قد اشتد برسول!!!
وانقسم الحاضرون إلى قسمين: قسم يقول قربوا يكتب لكم رسول الله، والقسم الآخر يقول حسبنا كتاب الله، إن رسول الله قد اشتد به الوجع، أو إن رسول الله - حاشا له - قد هجر أو يهجر، فاختلفوا وتنازعوا، ولا ينبغي عند النبي تنازع، فغضب النبي بعد أن صدموا خاطره الشريف بقولهم هجر أو يهجر، وقال لهم: قوموا عني ما أنا فيه خير مما أنتم فيه.
6 - ثبوت هذه الحادثة
تلك واقعة ثابتة تناقلتها الأمة جيلا بعد جيل، ورواها أصحاب الصحاح في صحاحهم، ولا ينكرها أحد، وقد رواها البخاري في سبع صيغ، راجع صحيح بخاري في كتاب المرض وراجع صحيح مسلم في آخر كتاب الوصية وصحيح مسلم بشرح النووي وصحيح مسلم ومسند الإمام أحمد مجلد وشرح النهج لابن أبي الحديد وتاريخ الطبري والكامل لابن الأثير.. إلخ.(1)
7 - تساؤل
لست أدري كيف يمكن الاعتذار عن هذه الحادثة؟ وكيف يمكن تبريرها؟ وهل أن لهذه الحادثة شبيها في التاريخ البشري كله!
إنه لا بديل أمام عشاق التاريخ سوى الإنكار!! ولكن كيف ينكرون الواضحات؟
وما هي مصلحتهم بأن لا يصدقوا، وأن لا يعيدوا النظر في فهمهم للأمور التي أوردت هذه الأمة موارد الردى؟
8 - ما هي دواعي هذه الحادثة؟
مبررات الذين حالوا بين الرسول وبين قول ما يريد، حالوا بينه وبين كتابة الكتاب الذي أراد: أن المرض قد اشتد برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم مشفقون أن يجهدوه، ولكنهم أجهدوه بالجدال والمنازعة بين يديه، والاختلاف بحضرته أضعاف أضعاف إجهاده في كتابة الكتاب لو قبلوا!
والداعي الظاهري الثاني: أن الرسول قد هجر - حاشا له - ولا ينبغي أن تتاح له الفرصة لتدوين هجره - حاشا له - تلك هي الدواعي الظاهرية للحيلولة بين الرسول وبين كتابة ما أراد، وهذه دواعي ظاهرية لا تستقيم أمام خطورة الحادثة!
ثم كيف نوفق بين مزاعم القوم بأن رسول الله - حاشا له - هجر أو يهجر، وبين التأكيدات الإلهية بأن الرسول لا ينطق عن الهوى؟!
بل كيف نوفق هذه المزاعم وبين تأكيدات الرسول نفسه أن أكثر ما كان يأتيه جبريل كان يأتيه وهو مريض، كما أكد ذلك ابن سعد في طبقاته!!!
9 - حادثة مشابهة مرض أبي بكر
جاء في تاريخ الطبري ، (أن أبا بكر دعا عثمان خاليا، فقال: أكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين، قال ثم أغمي عليه، فذهب عنه، فكتب عثمان أما بعد: فإني أستخلف عليكم عمر بن الخطاب، ولم آلكم خيرا، ثم أفاق أبو بكر فقال: إقرأ علي، فقرأ عليه، فكبر أبو بكر وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن أسلمت نفسي في غشيتي، قال: نعم. قال: جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله.وأقرها أبو بكر (2)
وذكر الطبري قبل ذلك عن عمر، أنه كان جالسا والناس معه، ومعه شديد مولى لأبي بكر، معه الصحيفة التي فيها استخلاف عمر، وعمر يقول: أيها الناس إسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله، إنه يقول: إني لم آلكم نصحا. (3)
10 - تحليل مبسط لهذه الحادثة
رسول الله مرض، وأبو بكر مرض، ورسول الله تكلم وهو مريض، وأبو بكر تكلم وهو مريض أيضا، وقد اشتد المرض بأبي بكر حتى أغمي عليه وغشي من شدة المرض، وقد اشتد المرض برسول الله ولم يغم عليه ولم يغش عليه من شدة الوجع، وعمر حضر مرض الاثنين، ولكن عندما أراد رسول الله أن يكتب وأن يتكلم قال عمر: حسبنا كتاب الله، إن الوجع قد اشتد برسول الله أو قال: كما قال أبو حامد الغزالي، استفهموه إن رسول الله يهجر!!!
وعندما أراد أبو بكر أن يتكلم وأن يكتب قال عمر: أيها الناس إسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله إنه يقول: إني لم آلكم نصحا!
هذا رسول الله نبي، وهذا أبو بكر صحابي، رسول الله هو الإمام وهو رئيس الدولة وأبو بكر أيضا هو الإمام ورئيس الدولة من بعد النبي!!
كيف يؤذن (بضم الياء) لأبي بكر (رضي الله عنه) بأن يكتب ما يريد وأن يقول ما يريد وهو مريض، ويحال بين النبي وبين كتابة ما أراد أو قول ما أراد من ذات الشخص؟!! إن هذا لشئ عجاب!!!
أبو بكر (رضي الله عنه) يكتب ويقابل ما كتبه بكل التقدير والاحترام، وينفذ حرفيا ولا يكسر أحد بخاطره، وتقوم الاعتراضات على رسول الله إذا أراد أن يكتب، مع أن الذي أراد أن يكتبه رسول الله هو تأمين ضد الضلالة!! إن ذلك من كوارث التاريخ!!!
11 - حادثة أخرى مشابهة مرض عمر نفسه
طعن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وقال طبيبه: لا أرى أن تمسي فما كنت فاعلا فافعل، قال لابنه عبد الله: ناولني الكتف فمحاها، وقال من شدة الوجع: والله لو كان لي ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطلع، وكان رأسه في حجر ابنه عبد الله، فقال لابنه: ضع خدي بالأرض. فلم يفعل، فلطمه، وقال له: ضع خدي بالأرض لا أم لك، الويل لعمر ولأم عمر إن لم يغفر الله لعمر. (4)
وبالرغم من هذا الوجع الشديد الذي كان يعانيه (رضي الله عنه) فقد أوصى وصيته، ورتب أمر الشورى، واطمأن إلى أن عثمان هو الخليفة من بعده، واطمأن أن لا يتسلط هاشمي على رقاب الناس، وأمر بضرب عنق من خالف هذه التعليمات كما روى البلاذري في مجلد 5 صفحة 18، وكما جاء في مجلد 3 صفحة 247 من الطبقات لابن سعد. تلك حقيقة مسلم بها.
والسؤال: كيف يجوز لعمر (رضي الله عنه) أن يكتب ما يريد، وأن يقول ما يريد، وأن يوصي بما يريد، وهو على فراش الموت، وقد اشتد به الوجع، وينفذ قوله حرفيا، ولا يعترض عليه أحد، ولا يحول بينه وبين كتابة ما أراد أحد، ويحال بين الرسول وبين كتابة ما أراد بحجة أن المرض قد اشتد به، وبحجة أن القرآن وحده يكفي!!
كيف يكفي القرآن والنبي موجود، ولا يكفي القرآن والنبي غائب!!
إن هذا لشئ عجاب، يتعذر فهمه!!
ولقد عالجت هذا الأمر بصور متعددة في كتابي نظرية عدالة الصحابة والمرجعية السياسية في الإسلام - باب القيادة السياسية، وكذلك في كتاب النظام السياسي في الإسلام.
12 - إخراج النبي من دائرة التأثير على الأحداث
بنجاح الذين حالوا بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين كتابة الكتاب الذي أراد، خرج النبي عمليا من دائرة التأثير على الأحداث تماما، فلو أصر النبي على كتابة الكتاب الذي أراد لأصر الذين حالوا بينه وبين كتابة ما أراد على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) - حاشا له - هجر أو يهجر، وفي ذلك تهمة تهز العقيدة نفسها من الأعماق، لأن النبي تلقى القرآن من ربه وتلقى المسلمون القرآن منه، لهذا السبب عدل الرسول عن كتابة الكتاب الذي أراد، واكتفى بالنصوص الشرعية التي أعلنها للأمة منفردة ومجتمعة.
كانت لحظات حاسمة، حرمت الأمة من تلخيصه للموقف، وصدموا خاطره الشريف، وواجهوه بكلمة هجر، يهجر - حاشا له - وبمعصيته انهار أكبر ركن من أركان الشرعية، وعلى أثر هذا الانهيار تهاوت واقعيا الترتيبات الإلهية، وفقد تأثيره على الأحداث المتلاحقة، ودنت منيته، وفارقت الروح الطاهرة الجسد المبارك، وغرق أهل البيت في أساهم، وانشغلوا في مصابهم، وانطفأت النجوم، وأظلمت الدنيا!
بهذا المناخ تحرك عمر بن الخطاب وقاد زمام المبادرة، وقام بدور المؤسس لعهد ما بعد النبوة بعد أن خرج ظافرا ومنتصرا في مواجهته مع النبي نفسه، حيث تمكن ومن والاه من أن يحولوا بين النبي وبين كتابة ما أراد!!!
13 - لم العجلة يا ابن الخطاب
ها هو النبي يموت حقا، ها هي الملائكة في صعود وهبوط، لتودع الرجل الذي خلع على الحياة إهابا جديدا، وكشف عن معانيها الإلهية، ولتلقي نظرة الوداع الأخيرة على الجثمان المقدس، خبر الوفاة ينتشر سريعا في طول البلاد وعرضها، النبأ يصعق أهل المدينة ويتركهم في ذهول مطبق، الآل الكرام والعترة الطاهرة مشغولة بمصيبتها ذاهلة عن نفسها.
كل شئ رتبته العناية الإلهية، الدين مكتمل، والنعمة تامة، لم العجلة يا سيدي يا بن الخطاب؟ قف بجانب الجثمان الطاهر، وقدم معذرة أي معذرة، قل بملء فيك:
استغفر لي يا نبي الله، ها هو الكتف، كلنا آذان صاغية، أكتب لنا الكتاب الذي أردت، الكتاب الذي لن نضل بعده أبدا!!
لم العجلة!!! نودع حبيبنا ونبينا ومولانا، ثم نجلس سوية ومعنا الثقلان كتاب الله وعترة نبيه، ولقد سبقت كلمة الله للذين آمنوا أنهم لن يضلوا إن تمسكوا بالثقلين!!!
كل شئ حزين وساكن، لقد ركع الألم كل مسلم، وجمدت كل حركة، إلا ابن الخطاب (رضي الله عنه)، فقد حمل حزنه، واتبعه من والاه، وبدأوا بوضع الترتيبات الجديدة لعهد ما بعد النبوة.
14 - الإشاعة التي تحولت إلى قناعة
في لحظات الألم الماحق تكثر الشائعات، وتروج التقولات، وقد أشيع أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك أمته ولا راعي لها من بعده، وترك دينه، وترك كتاب الله دون مبين، ثم توسعت الإشاعة في ما بعد، فزعمت أن رسول الله لم يجمع حتى القرآن وتركه متفرقا في صدور الرجال!!
وأمام سرعة انتشار شائعة أن رسول الله ترك أمته بغير راع، نهد عمر بن الخطاب وقاد زمام المبادرة، وقام بدور الهيئة التأسيسية لترتيب عهد ما بعد النبوة، حتى يتدارك إشاعة أن رسول الله ترك أمته بغير راع في هذا الظرف الدقيق، فكان همه منصبا بالدرجة الأولى والأخيرة على تنصيب الراعي الذي يرعى الأمة بعد موت النبي، ومع أن القول بأن رسول الله ترك أمته بدون راع، وترك القرآن بدون جمع وبدون مبين، هذا القول مجرد إشاعة، إلا أنه تحول بفعل وسائل إعلام الدولة إلى قناعة آمنت بها عامة الشعب، وحملت بخيلها ورجلها على من يقول بغيرها.
15 - إثبات الإشاعة التي تحولت إلى قناعة
أخرج ابن قتيبة الدينوري في الإمامة والسياسية مجلد 1 صفحة 15 قول أبي بكر (رضي الله عنه) (إن الله بعث محمدا نبيا وللمؤمنين وليا، فمن الله تعالى بمقامه بين أظهرنا حتى اختار له الله ما عنده، فخلى على الناس أمرهم ليختاروا لأنفسهم في مصلحتهم متفقين لا مختلفين، فاختاروني وليا ولأمورهم راعيا... إلخ.
فأبو بكر يؤكد أن الرسول خلى على الناس أمرهم، أي ترك أمته من بعده بغير راع، وترك لهم حرية اختيار هذا الراعي في ما بعد.
أخرج أبو نعيم في حلية الأولياء مجلد 1 صفحة 44، ومسلم في صحيحه، والبخاري في صحيحه، والبيهقي في سننه مجلد 8 صفحة 149، وابن الجوزي في سيرة عمر، أن ابن عمر قال لأبيه عمر: إن الناس يتحدثون أنك غير مستخلف، ولو كان لك راعي إبل أو راعي غنم ثم جاء وترك رعيته رأيت أن قد فرط. ورعية الناس أشد من رعية الإبل والغنم!! ماذا تقول لله عز وجل إذا لقيته ولم تستخلف على عباده؟
قال ابن عمر: فأصابته كآبة، ثم نكس رأسه طويلا، ثم رفع رأسه وقال - أي عمر -:
وأي ذلك أفعل فقد سن لي، إن لم أستخلف فإن رسول الله لم يستخلف، وإن أستخلف فقد استخلف أبو بكر.
وأخرج أبو زرعة في كتاب العلل عن ابن عمر كما في الرياض النظرة مجلد 2 صفحة 74، أن ابن عمر قال: لما طعن عمر قلت: يا أمير المؤمنين لو أجهدت نفسك وأمرت عليهم رجلا... إلخ. فقال عمر: والذي نفسي بيده لأردنها للذي دفعها إلي أول مرة.
روى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة صفحة 22: إن عمر لما أحس بالموت قال لابنه عبد الله: إذهب إلى عائشة واقرئها السلام، واستأذنها أن أقبر في بيتها مع رسول الله ومع أبي بكر، فأتاها عبد الله، فأعلمها، فقالت: حبا وكرامة، ثم قالت: يا بني أبلغ عمر سلامي، وقل له: لا تدع أمة محمد بلا راع، استخلف عليهم، ولا تدعهم بعدك هملا، فإني أخشى عليهم الفتنة، فأتى عبد الله، فأعلمه، فقال عمر ومن تأمرني أن أستخلف؟ لو أدركت... إلخ. (5)
وروى المسعودي في مروج الذهب مجلد 2 صفحة 253، أن عبد الله بن عمر دخل على عمر بن الخطاب وهو يجود بأنفاسه فقال: يا أمير المؤمنين استخلف على أمة محمد، فإنه لو جاءك راعي إبلك أو غنمك وترك إبله أو غنمه لا راعي لها للمته وقلت له:
كيف تركتك أمانتك ضائعة؟ فكيف يا أمير المؤمنين بأمة محمد؟ فأجابه عمر: إن أدع فقد ودع من هو خير مني، وإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني.
جاء في تاريخ الطبري مجلد 4 صفحة 53، وفي العقد الفريد مجلد 2 صفحة 254 أن أبا بكر قال في مرضه الذي توفي منه: وددت أني سألت رسول الله لمن هذا الأمر فلا ينازعه أحد؟ ووددت أني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب؟
وأخرج البلاذري في أنساب الأشراف مجلد 5 صفحة 16 عن ابن عباس قال: قال عمر: لا أدري ما أصنع بأمة محمد - وذلك قبل أن يطعن - فقلت ولم تهتم وأنت تجد من تستخلفه؟... إلخ.
16 - تكييف إشاعة أن النبي ترك أمته ولم يستخلف
راجت إشاعة أن النبي قد مات ولم يستخلف، إنما خلى على الناس أمرهم، ومع الأيام وبفضل وسائل الإعلام التي كانت تحت سيطرة السلطة الغالبة طوال التاريخ، تحولت هذه الإشاعة إلى قناعة آمنت بها الأكثرية الساحقة من الأمة.
وقد رأينا أن ابن عمر بن الخطاب وصف هذه الإشاعة - أي ترك الأمة دون راع - بأنها تضييع للأمانة، وأنها تفريط، وأنها محل لوم يترفع عن الوقوع بها راعي الإبل أو راعي الغنم على حد تعبيره، وأن ترك الأمة بدون راع يعني تركها هملا على حد تعبير أم المؤمنين عائشة، وبالتالي فإن هذا الترك يؤدي للفتنة، كما توقعت أم المؤمنين.
تلك هي خلاصة التكييفات التي خلعها ابن عمر وخلعتها أم المؤمنين على فكرة ترك عمر لأمة محمد دون أن يستخلف عليها من بعده. فهل يعقل أن يكون راعي الإبل أو الغنم أو عبد الله بن عمر أو أم المؤمنين أبعد نظرا من رسول الله، وأدرك لعواقب الأمور منه، وهو صفوة الجنس البشري؟
وهل يعقل أن يكون ابن عمر وأم المؤمنين أكثر رأفة ورحمة من النبي بأمته؟
ثم إن فكرة موت النبي دون أن يبين لأمته من يخلفه من بعده، أو يبين على الأقل الطريقة لتعيين خليفته من بعده، فكرة تتعارض تماما مع كمال الدين وتمام النعمة، وتتعارض مع العقل، ومع طبيعة الدين الإسلامي، ومع قدرة المجتمع الإسلامي الذي لم يمض على تكوينه أكثر من عشر سنوات، وهي فكرة ليست عملية وليست معقولة.
ثم إن الفكرة منافية تماما لما تعارف عليه البشر طوال التاريخ، فرئيس الدولة هو مركز التدبير والتخطيط في الأمة، وهو رمز وحدتها، فإذا اختفى مركز التدبير والتخطيط، ولم يتوفر المركز البديل فورا، فإن عقد الأمة سينفرط، وسيركب كل واحد رأسه، وتسير كل جماعة مع هواها.
وقد ترفع الشارع الوضعي عن السقوط بمثل هذا الفخ، فلا يوجد في الدساتير المعاصرة، ولا حتى في الأنظمة السياسية البائدة، ما يؤيد فكرة أن يموت الرئيس دون بيان شخص من يخلفه، حتى أن التجمعات القبلية أو الأسرية تستهجن مثل هذا العمل وتستغربه، ولها أعراف تنظمه، بحيث تكون النقلة طبيعية بين شيخ القبيلة السابق واللاحق.
فدستور الدولة أو رئيسها عادة هو الذي يعين سلفا الشخص الذي يتولى الرئاسة في حالة خلو منصب الرئيس لأي سبب، أو عند اللزوم يصف هذا الشخص، سواء أكان شخصا طبيعيا كولي عهده، أو شخصا اعتباريا كمجلس أو هيئة تتكون من عدة أشخاص، لتقوم بإدارة دفة الدولة وتصريف أمورها ريثما ينسب أو يعين رئيس جديد.
تلك حقيقة لا يملك عاقل أن يجادل بها، لأن البديل الآخر هو الشر، وتعريض وحدة الأمة للخطر، ووضع مستقبل الدولة في مهب الريح.
والأهم من ذلك أن المنظومة الحقوقية الإلهية منظومة سماوية، وقد بينت كل شئ، أجمله القرآن أو فصله وبينه الرسول وطبقه، وخلو الدين من هذا الأمر الرئيسي والخطير يناقض - كما قلنا - كمال الدين وتمام النعمة خاصة، وأن الرسول قد خير فاختار الموت، ومرض قبل الموت، وأوحي إليه أنه ميت في مرضه ذلك، وأن الله قد قذف في قلبه محبة هذه الأمة، وجعله (بالمؤمنين رؤوف رحيم) وأطلعه على مستقبل هذه الأمة، فهل من الممكن عقلا أن يموت الرسول دون أن يبين للناس من يخلفه من بعده؟!
هذا أمر غير وارد قطعا تدحضه النصوص الشرعية القاطعة، وتكذبه!!
وفي الشرائع الوضعية لا علم لي أن دستورا مكتوبا أو عرفيا لم ينص على من يتولى السلطات في حالة غياب رئيس الدولة أو موته، ولا علم لي على الإطلاق أن رئيسا قد مات دون أن يكون معروفا من سيخلفه!!
17 - إذا كانت إشاعة الترك صحيحة فهي سنة
إذا كانت إشاعة أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك أمته بدون راع، وترك القرآن الذي أنزل الله عليه دون جمع ودون مبين، أو بتعبير آخر (إذا كان الرسول قد خلى على الناس أمرهم) كما يقال فمعنى ذلك أن فعل الرسول هذا سنة فعلية واجبة الاتباع، لماذا؟ لأن الرسول قدوة بالنص الشرعي، ولأن طاعته هي طاعة الله، ومعصيته هي معصية الله، ولأنه من جهة أخرى هو الأعلم إطلاقا والأفهم بالمقاصد الإلهية من تنزيل الرسالة!
18 - من هو الذي اتبع هذه السنة الفعلية؟
لو استعرضنا التاريخ السياسي الإسلامي لعهد ما بعد النبوة، ومن اليوم الذي تولى فيه أبو بكر (رضي الله عنه) ولاية المسلمين إلى اليوم الذي سقط فيه آخر سلاطين بني عثمان، لم نجد على الإطلاق أن أي واحد من الخلفاء قد اتبع هذه السنة فترك الأمة بدون راع أو خلى على الناس أمرهم!
كان الخليفة طوال التاريخ يعين من سيخلفه، وتستمر دورة العهد والتعيين حتى يأتي الفارس الغالب ويجلس على كرسي الخلافة، فما أن يستتب أمره حتى يعلن للناس أن فلانا هو ولي عهده والقائم بالأمر من بعده، وهكذا... حتى يأتي فارس غالب جديد!
بمعنى أن سنة الترك والتخلية هذه لم يتبعها أحد على الإطلاق، وأن الأمة قد أجمعت طوعا وكرها على تجاهل سنة الترك هذه أو التخلية - كما يسمونها - إن كانت هذه الإشاعة صحيحة، وإن كان الترك أو التخلية سنة.
19 - الحاكم الوحيد الذي ترك أمته ولا راعي لها من بعده
باستعراض ادعاءات القوم التي تجمع على أن رسول الله ترك أمته دون أن يعين لها راعيا من بعده، وترك دينه دون أن يحدد من هو المخول بالبيان من بعده، وباستعراض وقائع التاريخ السياسي الإسلامي لعهد ما بعد النبوة، بدءا من خلافه أبي بكر وحتى سقوط آخر سلاطين بني عثمان، لم نجد على الإطلاق أن خليفة من الخلفاء أو حاكما من حكام الأمة قد مات دون أن يعين خليفته من بعده، بمعنى أن كل خليفة كان يعين قبل موته الحاكم الذي سيحكم الأمة بعده، والوحيد الذي لم يعين - حسب ادعاءات القوم - هو رسول الله!!
20 - إثبات هذه الواقعة
اولا - أول خليفة لرسول الله كان أبو بكر، قبل أن تدنو منيته دعا عثمان فقال له:
أكتب بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين، أما بعد: ثم أغمي عليه، فكتب عثمان: إني أستخلف عليكم عمر بن الخطاب، ولم آلكم خيرا، ثم أفاق أبو بكر، فقال: إقرأ علي، فقرأ عليه، فكبر أبو بكر وقال: أراك خفت أن يختلف الناس. (6) وأخرج الإمام مالك عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت:
لما احتضر أبو بكر (رضي الله عنه) دعا عمر فقال: إني مستخلفك على أصحاب رسول الله يا عمر، وكتب إلى أمراء الأجناد: وليت عليكم ولم آل نفسي ولا المسلمين إلا خيرا. راجع تيسير الوصول مجلد 2 صفحة 48 للحافظ ابن الربيع.
وقال مرة لعبد الرحمن بن عوف معاتبا: إني وليت أموركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه. إقرأ ذلك في تاريخ الطبري مجلد 4 صفحة 52، والعقد الفريد مجلد 2 صفحة 254. بمعنى أن أول خليفة بعد النبي لم يمت حتى استخلف، ولم يؤمن بسنة الترك أو التخلية.
ثانيا - لما طعن عمر بن الخطاب دعا ستة كما يروي البلاذري في مجلد 5 صفحة 16 من أنساب الأشراف، ثم دعا صهيبا، فقال: صل بالناس ثلاثا، فليخل هؤلاء النفر في بيت، فإذا اجتمعوا على رجل منهم فمن خالفهم فاضربوا عنقه.
وروى في صفحة 19 أن عمر أمر أصحاب الشورى أن يتشاوروا في أمرهم ثلاثا، فإذا اجتمع اثنان على رجل واثنان على رجل رجعوا في الشورى، فإذا اجتمع أربعة على واحد وأبا واحد، كانوا مع الأربعة، وإن كانوا ثلاثة وثلاثة كان مع الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف. راجع العقد الفريد مجلد 3 صفحة 74 لابن عبد ربه، وراجع طبقات ابن سعد مجلد 3 ويلاحظ أن طلحة كان غائبا في الطائف عند ماله.
ويلاحظ أنه حسب الترتيبات العمرية فإن عثمان هو الفائز، وهو المعين من قبل عمر فعلا، فعثمان هو أول من بايع أبا بكر من زعماء المهاجرين خارج السقيفة، كما ذكر ابن قتيبة في الإمامة والسياسية، وهو أول من شق إجماع بني عبد مناف وبايع أبا بكر، ومن هنا ارتفعت أسهمه عند أبي بكر وعمر، وكان الناس يسمونه في عهد عمر بالرديف - والرديف بلسان العرب هو الرجل الذي بعد الرجل، والعرب تقول ذلك للرجل الذي يرجونه بعد زعيمهم. (7)
بمعنى أن عمر رتب الأمور بحيث يكون الخليفة من بعده هو عثمان بن عفان، وهو يعلم أن عثمان هو الذي سيكون الخليفة من بعده.
وما يؤكد ذلك ما رواه المتقي الهندي في كنز العمال مجلد 3 صفحة 160 أن عمر قال:
بايعوا لمن يبايع له عبد الرحمن بن عوف، فمن أبى فاضربوا عنقه. ومن الواضح أن عبد الرحمن سيختار عثمان، لأن هذه رغبة الخليفة وتوصيته، أنظر إلى قول أبي بكر لعثمان عندما كتب العهد لعمر: والله لو كتبت نفسك لكنت أهلا لها.
وجاء في طبقات بن سعد - طبعة أوربا مجلد 5 صفحة 30 - 31 بترجمة سعيد بن العاص ما خلاصته: أن سعيدا طلب من عمر أرضا ليوسع داره، فذهب معه عمر فزاده، قال سعيد: فقلت: زدني يا أمير المؤمنين، فقال عمر: حسبك، فسيلي الأمر من بعدي من يصل رحمك، ويقضي حاجتك: فآلت الأمور إلى عثمان فوصلني، وقضى حاجتي، وأشركني في أمانته.
بمعنى أن عمر بن الخطاب لم يخل على الناس أمرهم، ولم يترك أمة محمد هملا لا راعي لها من بعده، بل عين عمليا عثمان، لأنه يخشى الفتنة، ويكره أن يترك أمة محمد لا راعي لها، فرضي الله عن عمر.
21 - عثمان بن عفان
قتل عثمان ، ولو أمد الله في عمره لاستخلف مروان بن الحكم، أو معاوية بن أبي سفيان، أو عبد الله بن سرح، أو غيرهم من وزرائه الناصحين له. ولو أسعفه العمر ما ترك أمة محمد بعده هملا لا راعي لها، على حد تعبير أم المؤمنين.
22 - علي بن أبي طالب
آلت الأمور إلى الإمام بعد مقتل عثمان وبايعه أهل المدينة، وجاءته البيعة من جميع الولايات باستثناء ولاية الشام التي رفضت بيعته تبعا لرفض واليها معاوية.
وقد قتل (عليه السلام) وأوصى بالخلافة من بعده إلى ابنه الحسن، ثم تخلى الناس عن الحسن، وهزمت الشرعية، وانتصرت القوة، بمعنى أن الإمام عليا لم يترك أمة رسول الله بلا راع.
23 - معاوية بن أبي سفيان والدولة الأموية
ومعاوية في عنفوان صحته استخلف من بعده ابنه يزيد بن معاوية، وهكذا كل ملوك بني أمية... فما من ملك من ملوكهم إلا وقد عين الخليفة الذي سيحكم الأمة من بعده، لأنه من غير المعقول أن يترك الحاكم أمته هملا ولا راعي لها من بعده. واستمرت هذه السنة حتى زال الملك الأموي.
بمعنى أن الأمويين خالفوا سنة الترك والتخلية المزعومة.
24 - ملك بني العباس
تمكن العباسيون من هزيمة الأمويين وإنهاء ملكهم، وشيدوا على أنقاض الملك الأموي ملكا خاصا ببني العباس ومن شايعهم. ولم يصدف أن مات من بني العباس ملك - وكانت له فرصة للوصية - إلا بعد أن قام بتحديد الملك الذي يأتي من بعده، بل عين أكثرهم وليا للعهد من أول أيام ملكه، وكان يقال: ولي العهد فلان، وولي عهد فلان، واستمرت الأمور على هذه القاعدة حتى سقط ملك بني العباس.
بمعنى أن العباسيين أيضا خالفوا سنة الترك والتخلية المزعومة.
25 - ملك بني عثمان
تمكن العثمانيون من فرض سيطرتهم على العالم الإسلامي، وأقاموا لهم ملكا عظيما على أنقاض ملك بني العباس، ولم يشذ العثمانيون عن قاعدة الاستخلاف، فكل سلطان من سلاطينهم كان يعين قبل موته السلطان الذي يليه، واستمر الأمر على هذه الحال حتى سقط آخر سلاطين بني عثمان، وتهاوى نظام الخلافة، وزالت دولة الخلافة التاريخية. فقد خالفوا سنة الترك والتخلية أيضا.
26 - في محراب التقليد وغفوة العقل
بالرغم من هذه الوقائع التاريخية والحقائق العقلية، فما زال الذين سجنوا أنفسهم في محراب التقليد يرددون - دون إعمال للعقل - إشاعة أن رسول الله ترك أمته دون راع لها من بعده، وأنه لم يستخلف، ولم يبين للناس من يكون الخليفة من بعده!
ويتمادى بهم التقليد، فيرددون إشاعة أخرى مفادها: أن رسول الله ترك القرآن الكريم نفسه دون جمع، فجمعه الخلفاء من بعده!!
وقد عمموا هاتين الشائعتين، وأجمعوا على صحة وقوعهما!!
لست أدري ما هي فائدتهم عندما يجردون رسول الله من فضل جمع القرآن، ويعطون هذا الفضل للخلفاء؟ فهل الخلفاء أحب إليهم من رسول الله؟ إن هذا لشئ عجاب!!!
27 - توضيح وتساؤل
بمعنى أن كل خليفة - وطوال عهد ما بعد النبوة بدءا من خلافة أبي بكر وحتى سقوط آخر سلاطين بني عثمان - كان يعهد لمن يليه، ويبين الخليفة من بعده، وذلك لغايات نبيلة ومعقولة تدل على بعد نظر، ومن أبرز هذه الغايات:
ألف - حتى لا تترك أمة محمد هملا ولا راعي لها، وحتى لا يؤدي الترك إلى الفتنة، كما ذكرت أم المؤمنين عائشة. (8)
ب - حتى يتجنب الخليفة التفريط والتضييع، على حد تعبير ابن عمر لأبيه ، كما ذكر مسلم في صحيحه، والبخاري في صحيحه، والبيهقي في سننه.
ج - حتى يسد الخليفة باب الاختلاف من بعده، على حد تعبير أبي بكر كما ذكر الطبري في تاريخه، وابن الجوزي في سيرة عمر، وابن خلدون في تاريخه.
د - من باب الرأفة والرحمة بأمة محمد، حتى لا يتفرقوا من بعد الخليفة، فيختلفوا ويصيروا شيعا بسبب الخلافة.
هذه الأسباب التي استندت إليها كل الخلفاء أسباب وجيهة، ومعقولة جدا ومن كل الوجوه، وشرعية، لكن غابت عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، كيف لحظها كل الخلفاء بالإجماع فاستخلفوا لتجنب محاذيرها ولم يلحظها الرسول؟!!!
الرسول رسول وهو قمة الوعي البشري، ومدعوم إلهيا، والخلفاء ليسوا رسلا ومع هذا وصلوا دونه إلى هذه النتائج الباهرة؟!
إن هذا لشئ عجاب!! وهو على الأقل يشكك بصحة إشاعة أن رسول الله لم يستخلف، أو خلى على الناس أمرهم حسب صيغة الشائعة!!
28 - ابن خلدون يخترع سندا جديدا ومبررا للاستخلاف
في مقدمة ابن خلدون صفحة 177 قال (رحمه الله): إن الإمام (الخليفة) ينظر للناس في حال حياته، وتبع ذلك أن ينظر لهم بعد وفاته، ويقيم لهم من يتولى أمرهم.
29 - معاوية بن أبي سفيان يبتدع سندا جديدا ومبررا لم يسبق إليه سألت أم المؤمنين عائشة معاوية عن سبب تعيينه لابنه يزيد خليفة من بعده؟
فأجابها معاوية: إن أمر يزيد قضاء من القضاء، وليس للعباد الخيرة من أمرهم.
راجع الإمامة والسياسية لابن قتيبة. وهذا ما أجاب به معاوية عبد الله بن عمر عندما استفسر منه عن سبب استخلافه لابنه يزيد فقال معاوية: إني أحذرك أن تشق عصا المسلمين، وتسعى في تفريق ملتهم، وأن تسفك دماءهم، وإن أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء، وليس للعباد الخيرة من أمره. (9)
30 - امتيازات الخليفة وامتيازات النبي
أجمعوا أن النبي قد مات وترك أمته ولا راعي لها، وأجمعوا أنه ما من خليفة إلا وقد بين للناس من يخلفه، لأن الخليفة مخول من الناس أن ينظر لهم بعد وفاته كما كان ينظر لهم حال حياته - على حد تنظير ابن خلدون - بينما كان الرسول ينظر للناس حال حياته، ولكنه منع من أن ينظر لهم بعد وفاته، بمعنى أن الخليفة كان يتمتع بامتيازات تفوق امتيازات النبي!!!
31 - الإعلان رسميا بأن الخليفة أعظم من النبي
وقد فصلنا ذلك في الفصل السابع من الباب الأول، وبينا أن مقام الخليفة تعاظم حتى بلغ عند شيعة الخلفاء مرتبة لم يبلغها النبي نفسه! فقد بارك مروان بن محمد للوليد بن يزيد خلافة الله علي عباده. راجع تاريخ ابن كثير مجلد 10 صفحة 7 - 8، ووصف الحجاج عبد الملك بأنه خليفة الله وصفيه، كما جاء في سنن أبي داود مجلد 4 صفحة 210، وروى أبو داود في سننه مجلد 4 صفحة 209 الحديث 4642، والمسعودي في مروجه مجلد 3 صفحة 147، وابن عبد ربه في العقد الفريد مجلد 5 صفحة 52، قول الحجاج في خطبة له: رسول أحدكم في حاجته أكرم عليه أم خليفته في أهله؟!!(10)
وفي العقد الفريد مجلد 5 صفحة 51 أنه كتب إلى عبد الملك يعظم أمر الخلافة ويزعم أن السماوات والأرض ما قامتا إلا بها، وأن الخليفة أفضل من الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين.... إلخ.!!!
ثم تلطفوا وأنزلوا من قدر الخليفة فجعلوه مساويا للنبي، فقال الحجاج في خطبة له، كما في سنن أبي داود، والعقد الفريد: إن مثل عثمان عند الله كمثل عيسى... إلخ.
راجع سنن أبي داود، والعقد الفريد ، فمن اتبع عثمان فهو مؤمن، ومن خرج عليه فهو كافر. راجع تاريخ الطبري ، وتاريخ ابن الأثير وأمر الوليد بن عبد الملك خالد بن عبد الله فحفر بئرا فقال خالد في خطبته على منبر مكة المكرمة: أيها الناس أيها أعظم خليفة الرجل على أهله أم رسوله إليهم، والله لا تعلمون فضل الخلفاء، ألا إن إبراهيم خليل الرحمن استسقى فسقاه الله ملحا أجاجا، واستسقاه الخليفة فسقاه الله عذبا فراتا... إلخ!!
وخطب الحجاج يوما على منبر الكوفة، فذكر الذين يزورون قبر رسول الله فقال:تبا لهم يطوفون بأعواد ورمة بالية!! هلا طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، ألا يعلمون أن خليفة الرجل خير من رسوله!!...(11)
32 - دور الأمة في تعيين الخليفة
الخليفة الغالب القائم هو الذي يعين من يخلفه، لأنه مخول من الناس بذلك، كما يرى ابن خلدون في مقدمته صفحة 177، فما هي حقيقة قول ابن خلدون هذا؟
عمليا لا علاقة للأمة بما يفعله الخليفة، لأن فعل الخليفة قضاء - على حد تعبير معاوية - وليس للعباد الخيرة من أمرهم!
ملك مستتب، ودولة تفرض سلطانها على رعاياها، والكل يتظاهر بالطاعة أو مطيع فعلا، فإذا شعر الخليفة بدنو أجله، أو تبين له أنه لا ولي لعهده، يدعو كبراء دولته إلى وليمة أو جلسة، ويعلن أمامهم أنه قد قرر اختيار فلان وليا لعهده وخليفة من بعده، ويتقبل الكبراء هذا الإعلان ويباركونه، لأنه صادر من الخليفة الغالب الذي دانت له مقاليد الأمور.
ويعلن الكبراء هذا المرسوم على الأمة، ودور الأمة مقتصر على القبول والمبايعة، ومن يعارض هذا القرار فإنما يعارض سلطان الدولة المستقر، وأي فرد له القدرة على معارضة سلطان الدولة؟!!
ولنفترض أن هذا الفرد أو ذاك أو هذه الجماعة أو تلك عارضت قرار التعيين هذا، فإن الدولة ستسحق معارضيها بغير رحمة، لأنهم شقوا عصا الطاعة، وخرجوا على الجماعة.
أنظر إلى قول معاوية لابن عمر عندما استوضح عن تعيين معاوية لابنه يزيد خليفة من بعد معاوية: إنني أحذرك أن تشق عصا المسلمين، وتسعى في تفريق ملتهم، وأن تسفك دماءهم.
هذا الكلام يوجهه معاوية لابن عمر المعروف بكراهيته لأمير المؤمنين علي وموالاته لمعاوية، يوجهه لابن الخليفة، عمر الذي عين معاوية واليا على الشام، فكيف بالشخص العادي الذي يعارض؟
ومن هو أعظم من ولي الله علي؟ فقد هدد بالقتل إن لم يبايع!!
ومن هي أعظم من فاطمة الزهراء؟ فقد هددت بحرق بيتها ولطمت، وأجهضت!!
فالبديل الأسلم بالنسبة للأمة هو قبول قرار الخليفة الغالب، فقراره قضاء، ولا خيرة للعباد من أمرهم، فالخليفة هو الذي يعين، ودور الأمة هو مبايعة من يعينه هذا الخليفة الغالب!!!
33 - الخليفة يعين خليفته
قال قاضي القضاة الماوردي في الأحكام السلطانية صفحة 6 وما فوق وأبو يعلى (الفرا) في الأحكام السلطانية صفحة 7 - 11: الإمامة تنعقد من وجهين بعهد الإمام من قبل... إلى أن يقول: وأما انعقاد الإمامة بعهد من قبله فهو ما انعقد الإجماع على جوازه، ووقع الاتفاق على صحته، لأمرين عمل المسلمون بهما ولم يناكروهما وهما:
أن أبا بكر عهد بها إلى عمر، فأثبت المسلمون إمامته بعهده، والثاني أن عمر عهد بها إلى أهل الشورى... إلى قوله لم يتوقف على رضا الصحابة، ولأن الإمام أحق بها. الأحكام السلطانية 6 - 7
وقال إمام الحرمين الجويني: إعلموا أنه لا يشترط في عقد الإمامة الجماعة، والدليل عليه أن الإمامة لما عقدت لأبي بكر ابتدر لإمضاء أحكام المسلمين، ولم يتأن في نشر الخبر لمن نأى من الصحابة. راجع الإرشاد في الكلام لإمام الحرمين الجويني صفحة 424 ط القاهرة.
وقال ابن العربي في شرحه سنن الترمذي مجلد 13 صفحة 229: لا يلزم في عقد البيعة للإمام أن تكون من جميع الأنام بل يكفي لعقد ذلك اثنان أو واحد!!
وقال القرطبي في تفسير (إني جاعلك في الأرض خليفة) فإن عقدها واحد من أهل الحل والعقد فذلك ثابت ويلزم الغير فعله، وذلك خلافا لبعض الناس حيث قال: لا تنعقد إلا بجماعة، ودليلنا أن عمر عقد البيعة لأبي بكر... إلخ.
قال الإمام أبو المعالي: متى انعقدت له الإمامة بعقد واحد فقد لزمت، ولا يجوز خلعه... وإذا انعقدت الإمامة باتفاق أهل الحل والعقد أو بواحد، وجب على الناس كافة مبايعته!
وقال عضد الدين الإيجي في المواقف - المقصد الثالث: إنها تثبت بالنص من الرسول، ومن الإمام السابق بالإجماع... دليلنا ثبوت إمامة أبي بكر... وقال: إذا ثبت حصول الإمامة بالاختيار والبيعة، فإن ذلك لا يفتقر إلى الإجماع، إذ لم يقم عليه دليل من العقل أو السمع، بل الواحد والاثنان من أهل الحل والعقد كاف.... كعقد عمر لأبي بكر، وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان. (12)
34 - الخلافة تثبت بالقهر والغلبة
وقال قاضي القضاة الماوردي: إن الخلافة تثبت بالقهر والغلبة، ولا تفتقر إلى العقد، من غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما، برا كان أو فاجرا، فهو أمير المؤمنين!!!
وقال في الإمام يخرج عليه من يطلب الملك، فيكون مع هذا قوم، ومع هذا قوم:
تكون الجمعة مع من غلب، والدليل على ذلك أن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال يوم الحرة، نحن مع من غلب. راجع الأحكام السلطانية صفحة 7 - 8
ومن الطبيعي أن هذا الغالب يتمتع بحق تعيين خليفته من بعده، لأنه ينظر للناس حال حياته، وتبع ذلك أن ينظر لهم بعد وفاته، ويقيم لهم من يتولى أمورهم، كما بين ذلك ابن خلدون في مقدمته صفحة 177
وقد قام تاريخ الخلافة على هذا الأساس، فإذا أخذنا بعين الاعتبار شائعة أن رسول الله ترك أمته ولا راعي لها، أو خلى على الناس أمرهم، نجد أن فعل الخلفاء هو السند الشرعي الوحيد في هذه الناحية، وسند الإجماع ما هو إلا للتقوية، فمن يجرؤ على مخالفة الغالب؟ وهل يتحقق الإجماع بالإكراه؟!!
إن الحقيقة الثابتة هو أن الخليفة القائم هو وحده المختص بتعيين الذي يليه، وأنه لا بديل أمام الأمة، فإما الموافقة أو الفتنة، والموافقة أسلم!
وأنت تلاحظ أن هذه القواعد وضعية من جميع الوجوه، بمعنى أن الحكام قد وضعوها ولا علاقة للشرع بها. لأن التشريع منحصر بالله وبرسوله. ولا يملك أي كان أن يشترك مع الله والرسول بهذه المهمة!
المصادر :
1- صحيح بخاري مجلد 7 صفحة 9 ومجلد 4 صفحة 31ومجلد 1 صفحة 37 وراجع صحيح مسلم مجلد 5 صفحة 75 وصحيح مسلم بشرح النووي مجلد 1 صفحة 95 وصحيح مسلم مجلد 2 صفحة 16 ومجلد 2 صفحة 16 ومجلد 11 صفحة 94 - 95 ومسند الإمام أحمد مجلد 1 صفحة 355 ومجلد 4 صفحة 356 حديث 2992 وشرح النهج لابن أبي الحديد مجلد 6 مجلد 51
وتاريخ الطبري مجلد 2 صفحة 193 والكامل لابن الأثير مجلد 2 صفحة 320 .
2- تاريخ الطبري مجلد 3 صفحة 429، وفي صفحة 176 - 177 من نظام الحكم لظافر القاسمي، وصفحة 37 من سيرة عمر لابن الجوزي، ومجلد 2 صفحة 85 من تاريخ ابن خلدون
3- تاريخ الطبري ط أوربا مجلد 1 صفحة 2138
4- الإمامة والسياسية لابن قتيبة صفحة 21 و 22 والطبقات مجلد 2 صفحة 364، .
5- أعلام النساء مجلد 2 صفحة 786
6- تاريخ الطبري ط أوربا مجلد 1 صفحة 2138، سيرة عمر لابن الجوزي صفحة 37، تاريخ ابن خلدون مجلد 2 صفحة 85
7- نظام الحكم لظافر القاسمي وقد نقلها عن تاريخ الطبري صفحة 197 - 198 ومجلد 5 صفحة 237،
8- الإمامة والسياسة صفحة 22
9- الإمامة والسياسية لابن قتيبة مجلد 1 صفحة167 الی 171 طبعة مصر.
10- تاريخ ابن كثير مجلد 10 صفحة 7 - 8، سنن أبي داود مجلد 4 صفحة 210، أبو داود في سننه مجلد 4 صفحة 209 الحديث 4642، والمسعودي في مروجه مجلد 3 صفحة 147، وابن عبد ربه في العقد الفريد مجلد 5 صفحة 52
11- مجلد 4 صفحة 209 من سنن أبي داود، والعقد الفريد مجلد 5 صفحة 51، تاريخ الطبري مجلد 5 صفحة 61 حوادث سنة 89، وتاريخ ابن الأثير مجلد 1 صفحة 205، وابن كثير مجلد 9 صفحة 76
12- المواقف في علم الكلام مجلد 8 صفحة 251 - 253
/ج