ينبغي علينا أن نبين الأقوال والمذاهب في هذه المسألة قبل أن نبين رأي الخواجة نصير الدين الطوسي وحده ، کما هو عليه مدار البحث في هذه الرسالة ، لأن الأقوال والمذاهب لم تکن متفق فيها على رأي واحد ، بل هي آراء مختلفة جداً ، کما سيأتي بيانها على نحو الاختصار في هذا البحث ، وإليک بيانها :
1. وهو لجماعة الدهرية والملاحدة وجماعة الأطباء وبعض الطبيعيين : فقد زعم هؤلاء أن الإنسان ليس إلا هذا الهيکل المحسوس ، حامل الکيفية وما يتبعها من القوى والأعراض ، وأن جميعها يفني بالموت وينعدم بزوال الحياة ولا يبقى إلا المواد العنصرية المتفرقة ، فالإنسان کسائر الحيوان والنبات ، إذا مات فات ، فلا معاد ، وسعادته وشقاوته منحصرة فيما له بحسب اللذات والآلام الحسية الدنيوية ، وقد حکى البارى عزّوجلّ عقيدتهم بقوله تعالى : ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ).
2. وهو لمشهور المتکلمين القائلين بجواز إعادة المعدوم ، وعدم فناء الإنسان بفناء هيکله المحسوس : ويرى هؤلاء أن الإنسان أجزاء باقية متجزئة أو غير متجزئة ، يعاد منها الإنسان في اليوم الآخر ، على أساس أن المراد من حشرهم فيه ، هو جمع تلک الأجزاء المتفرقة الباقية فتکون حقيقة الإنسان منها ، وحملوا الآيات والنصوص الواردة في بيان الحشر على هذا المعني. (1)
3. وهو لجماعة للمحقيقن من الفلاسفة والمليين : فقد اتفقت کلمتهم على حقيقة المعاد ، ولکن اختلفوا في کيفيته ، ولهم في هذه المسألة آراء مختلفة وهي کما يلي :
4. وهو لجمهور المتکلمين وعامة الفقهاء وأهل الحديث : فقد ذهب هؤلاء الجماعة إلى القول بجسمانية المعاد ، بناءً على أن الروح عندهم جسم سار في البدن سريان النار في الفحم ، والماء في الورد والزيت في الزيتونة.
5. لجمهور الفلاسفة وأتباع المشائين : ويرى هؤلاء الجماعة أن المعاد روحاني فقط ، لأنّ البدن ينعدم بصورته وأعراضه فلا يعاد ، والنفس جوهر باق لا سبيل للفناء إليه ، فيعود إلى عالم المجردات لقطع التعلقات بالموت الطبيعي. (2)
6. وهو لأکابر الحکماء ومشايخ العرفاء وجماعة من المتکلمين المتأخرين : وقد ذهب إليه کلٌّ من أبي حامد الغزالي والکعبي والحليمي والراغب الأصفهاني والقاضي أبي يزيد الدبوسي وکثير من مشايخنا وعلمائنا الإمامية الأثنى عشرية کالشيخين المفيد وأبي جعفر والسيد المرتضى والعلامة الطوسي وغيرهم. (3)
ثم إضافة ملا صدرا قائلاً : ( و جميع هؤلاء قد ذهبوا إلى القول بالمعادين الجسماني والروحاني معاً ذهاباً إلى أن النفس المجردة تعود إلى البدن ، إلاّ أنّهم اختلفوا في جانب البدن ، أهو هذا البدن بعينه أو بمثله ؟ وهل يشترط في العينية التشخص من حيث الأعضاء والأشکال والهيئات والتخاطيط أو لا ؟ والظاهر لم يشترط فيها هذا ؛ إذ أنه لم يشترط هذا أحد ، بل مآل کلامهم إلى أن بدن المعاد غير البدن الأول بحسب التشخص ، مع أنه عينه ، بناءً على ما دل عليه بعض الأحاديث المروية ، من کون أهل الجنة ، وکون ضرس الکافر مثل جبل أُحد « جرداً مرداً » ، وکذا بقوله : ( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ) ، وقوله أيضاً : ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ الخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ).
وقالوا : ( العبرة في ذلک بالإدراک وإنما هو للروح ولو بواسطة الآلات ، وهو باق بعينه ، ولهذا يقال للشخص من الصبا إلى الشيخوخة إنه هو بعينه وإن تبدلت الصورة الهيئات ، بل کثير من الأعضاء والآلات ، ولا يقال لمن جنى في الشباب فعوقب في المشيب ، أنه عقاب لغير الجاني ).
7. وهو لجماعة النصارى والتناسخية : وهم أيضا يذهبون إلى القول بالمعادين ، مع فرق بينهم وبين جماعة المسلمين ، لأنهم ينظرون للنفوس بأنها قديمة ، وأنه کلما حصل لها الموت عادت في أبدان هذه الدنيا ، وليس لها معاد أخروي.
8. وهو المنقول عن جالينوس : وقد نقل عنه التوقف في هذه المسألة ، بناءً على تردده في أمر النفس ، أنها هل هي المزاج فيفني بالموت فلا يعاد ، أم هي جوهر مجرد باق بعد الموت ليکون لها المعاد ؟
9. مختار الخواجة نصير الدين الطوسي : وقد اختار من هذه الأقوال ، القول بکون النفس جوهراً مجرداً باق لا يفسد بفساد البدن الإنساني مؤلفا من أجزاء أصلية لا يطرأ عليها الفساد والتحول والتبدل أبداً ، ومن أجزاء فضليّة يطرأ عليها ذلک ، والأُلى تعاد مع النفس في اليوم الآخر ، والأخرى لا تعاد ، ، وعليه فهو معتقد بالمعاد الجسماني والروحاني معاً ، وقد استدل على وجوبه وإمکانه بأدلة عقلية وسمعية کالتالي. (4)
الدليل الأول : الدليل العقلي على وجوب البعث والمعاد مطلقاً : وقد استدل عليه الخواجة بوجهين عليين ، بقوله : ( ووجوب إيفاء الوعد والحکمة يقتضي وجوب البعث ) ، وهما کما يلي :
الوجه الأول : وجوب الإيفاء بالوعد : لقد خص الخواجة الوجوب بإيفاء الوعد دون الوعيد ، مع أن الله سبحانه وتعالى توعد المطيع والکافر بهما ، وقد وقع هذا البحث مورد الاختلاف بين الإمامية والمعتزلة ، فقد ذهبت الأولى إلى وجوب الوعد دون الوعيد ، والثانية إلى وجوبهما معاً ، حتى صار هذا القول رکناً وأصلاً من أصولها فعرفت بالوعيدية ؛ لأن الإمامية يرون أن الوعيد حق لله تعالى لا عليه ، فلا يجب الوفاء به ، بل قد يکون العفو منه تفضلاً ورحمة على عبده ، في حين أن الوعد حق للمطيع ، والله تعالى وعده بإيصال حقه إليه ، من دون أن يظلمه في ذلک أو يغره ، ولم ينله المطيع في الدنيا ، فوجب أن يعطيه له في الآخرة ، وعليه فيجب بعث المؤمن وإعادته حتى يصل إليه حقه من الباري عزوجل ، مع أن العمل الصالح کان بنعمة الله وفضله ، إلا أنه وعده عليه أن يثيبه ، لقوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ ) ، ( رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ المِيعَادَ ) ، ولقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، وغيرها ، فوجب عليه بعثه ليوصل إليه الثواب والعطاء.
وهذا بخلاف المعتزلة التي ترى أن وجوب الوفاء يجب أن يکون شاملاً لهما معاً ـ الوعد والوعيد ـ وإلاّ قبح التکليف ، والمولى لا يفعل القبيح أصلاً وأبداً ، بل يرونه من مقتضى العدل الإلهي أن يفي بوعده ووعيده في اليوم الآخر ، وکيفما کان فإن وجوب الوفاء بالوعد کافٍ في ثبوت وجوب الإعادة ، وإن لم نقل بوجوب الوعيد ، وهذا خلاف للأشاعرة التي لا ترى موضوعية للبحث ، فلا يکفي ذلک دليلاً على وجوب المعاد ، بناء على ما ذهبوا إليه في التحسين والتقبيح الشرعيين ، لقوله تعالى : ( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ).
الوجه الثاني: دليل الحکمة الإلهية : ويعد هذا الدليل العقلي واحداً من أمتن الأدلة التي ذکرت في مسألة وجوب البعث والمعاد ، والتي لا يرد عليها کثير إشکال ، وما ورد عليها من قبل بعض المعاصرين ، راجع إما إلى عدم إدراکه وفهمه لحقيقة الصفات الإلهية وعلاقة بعضها مع البعض الآخر ، أو إلى استخدام أسلوب المغالطة لأجل التمويه في القضايا الثابتة واقعاً ، أو لأجل قاعدة خالف تعرف ، وخلاصة ما جاء به من إشکال هو أن العدل والحکمة صفتان اعتباريتان للمولى ، والأمر الاعتباري کيفما کان لا يمکن أن يکون أمراً يقينياً ، والبراهين تابعة في نتائجها إلى أخس المقدمات ، وعليه فکيف تکون نتيجة البرهان يقينية ، وهو قائم على أمر اعتباري ؟ وقد ردّ هذا الاعتراض من قبل الشيخ مصباح اليزدي ، بأن الصفات الإلهية وإن کانت أُموراً اعتبارية ، ولکن ليست جميعها اعتبارية محضة کما تصور المعترض ، بل البعض منها اعتبارية غير محضة ، ومنها العدل والحکمة الإلهية ، مستندة على أمر واقعي حقيقي ، وهي صفة القيوميّة لله تعالى ، ولا يشک أحد في واقعيتها وحقيقتها ، فالعدل والحکمة لهما خصائص هذه الصفة باعتبار استنادهما عليها ، وعليه فالبرهان قائم على مقدمتين واقعيتين حقيقيتين بهذا الاعتبار ، فتأمل ! (5)
وبعد ثبوت هذا الأمر ، نقول إن الله تعالى کلَّف عبده بمجموعة تکاليف تحمل من أجلها الآلام والإيذاء ، وهو يستلزم العوض عليها ، وإلا لکان ظلم منه تعالى لعبده ، وساحته منزَّهة عن هذا ، کما وصف نفسه تعالى بقوله : ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) ، ولقوله : ( وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) ، لقوله : ( لا يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ ) ، وغيرها ، بل هو مقتضى عدله وحکمته أن يعطيه أجره على ذلک ، ومادام العبد لم يحصل على هذا الأجر في عالم الدنيا ، فوجب عليه من هذا لمنطلق أن يعطيه إياه في يوم توفّى فيه کل نفس ما عملت من خير أو شر ، وذلک هو اليوم الآخر.
الدليل الثاني : الدليل السمعي : وقد عبر عنه بقوله : ( الضرورة الدينية قاضية بثبوت الجسمانية من دين محمد صلی الله عليه وآله وسلم مع إمکانه ).
ويمکن أن يعترض عليه بما يلي :
أولاً : ما المقصود من هذه الضرورة ، وما هي حدودها ، ولماذا قيدت بدين النبي محمد صلی الله عليه وآله وسلم ؟
ويمکن أن نجيب عن السؤال باحتمالين ، وهما : إنّ المراد منها هي خصوصية الضرورة الدينية ، وعندئذ نسأل هل المقصود منها الإجماع والاتفاق الحاصل لعلماء الأمة الإسلامية من دين محمد صلی الله عليه وآله وسلم أم أن المقصود منها الحکم العقلي المؤيد بالشرع المحمدي الحنيف ؟
فعلى الأول ، يکون الإجماع مدرکياً ، فيرجع في ثبوته وعدمه إلى تحقيق المدرک المتکئ عليه ، کما هو الظاهر من کلامه الشريف إرادته منه خصوص النصوص الشريفة التي جاء بها الدين الإسلامي التي تشکّل ما يقارب ثلث القرآن الکريم ، ولکن هذه النصوص يعتمد فيها على حجية الظهور وعدمها ، فهذا وإن کان ثابتاً بالبحث والاستدلال في محله ، ولکن مثله لا يتناسب مع أصولية المسألة هذه ـ إذ أن المعاد من أصول الدين ـ فحمل الضرورة على الإجماع المدرکي لا يتناسب معها ، فتدبر !
وعلي الثاني ـ الحکم العقلي ـ نقول إن الأحکام العقلية لا تختص بأمه دون أمة ، فلماذا قيدها بدين محمد صلی الله عليه وآله وسلم ونحن لا ننکر ما جاء به الدين الإسلامي في خصوصها ، من تصويرها وتبيين جميع جزئياتها وما يرتبط بها ، کماً وکيفاً ، ولکن إذا کان ثبوتها من الأمور الضرورية العقلية ، والشرع مرشد عليها ، فلا يسوغ لنا أن نقيدها بالأمة الإسلامية دون سائر الأمم الأخرى.
دفاع عن الخواجة
أقول : ويمکن أن نجيب عن کلا الاعتراضين ، بأن الخواجة نصير الدين الطوسي لم يکن ناظراً إلى إثبات أصل المسألة ـ أصل المعاد ـ باعتبار أنه يعلم جيداً أن جميع البعثات النبوية کان من لوازم الإيمان بها هو الإيمان بالله يبعث من في القبور ، ومن لم يؤمن بذلک فليس بمسلم ومؤمن بنبوة ورسالة النبي أو الرسول ، فهذا معلوم للخواجة ، فالضرورة التي عبر عنها بالدينية ليست ناظرة لهذا ، وإنما ناظرة إلى الطبيعة والکيفية التي يکون عليها المعاد في اليوم الآخر ، ولا شک أن ما جاء به الإسلام بخصوصه لم يکن له نظير مثله في الديانات السماوية السابقة ، خصوصاً بعد ما حرفت بيد المغرضين.
وعليه فالقول بجسمانية المعاد يعد اليوم من مختصات الإسلام ؛ لأنه لم يطرح ولم يوجد بهذا النحو من الوجود ، بل قد يکون الموجود يتناسب مع المعاد الروحاني فقط ، کما عليه الأناجيل الموجودة اليوم ، وإما التوراة فيکاد لا يکون فيها وجود للمعاد الاُخروي ، نعم توجد نصوص في کتاب التلمود لليهود المختص بذکر الأحکام والتعاليم اليهودية ، وعندئذ فلا يرد عليه إشکال من هذه الجهة.
ما المقصود من الإمکان المذکور في الدليل ؟ يعني هل هو إمکان بالنسبة إلى القابل ، أو الإمکان بالنسبة إلى الفاعل ؟
ويجيبنا عن هذا السؤال الخواجة قائلاً : ( ... وهما حاصلان ، إمّا بالنظر إلى القابل ، فإن الجسم للأجزاء القائمة به أمر ثبت له لذاته ، وما بالذات کان حاصلاً أبداً ، وإمّا إلى الفاعل ، فإنه تعالى بدأ بأعيان أجزاء کل شخص لکونه عالماً بالجزئيات وقادراً على جمعها ، وخلق الحياة فيها لکونه قادراً على کل الممکنات ، وإذا کان کذلک کانت الإعادة ممکنة ). (6)
ويمکن أن يقال : إنّه لا إشکال في قبول الجسم للأعراض من هذه الجهة ، ولکن الإشکال في بقاء الجسم العنصري الدنيوي بعد مفارقة الروح له ، هل يبقى على صورته الأولى ، أم أنه يتبدل إلى صور لأنواع أخرى ؟ وهذا هو محل البحث ، والجواب ببقاء الأجزاء الأصلية دون الفضلية غير ثابت ، کما مرّ علينا سيأتي الکلام مفصلا فيها في بحث إبطال شبهة الآکل والمأکول ، وعليه فبمجرد إمکان الجسم ـ القابل ـ للأعراض غير کاف في دلالته على ثبوت إمکان المعاد الجسماني ، فلنلتمس دليلاً آخراً على المطلوب.
وأمّا من جهة إمکان الفاعل ، فلا إشکال في ثبوت قدرته المطلقة ، ولکن الکلام في متعلق القدرة ، وعندئذٍ نسأل هل ما نحن فيه يصلح أن يکون موضوعاً لها أم لا ؟ وهذا هو محل الکلام ، وسيأتي الکلام فيها إثباتاً أو نفياً في نهاية هذه الأطروحة إن شاء الله.
خلاصة الکلام : إن ما جاء به الخواجة نصير الدين الطوسي من الدليل الثاني على إثبات المعاد الجسماني ، لا ترد عليه شبهة ولا إشکال فيه ؛ إذ أن القرآن مليء بالآيات الدالة على ذلک ، وهي بدرجة عالية من الظهور والصراحة ، کالشمس في رائعة النهار ، فالکل يستدل بها ولا تحتاج إلى دليل عليها ، فالمعاد الجسماني في القرآن الکريم بلغ درجة لا شک فيها إلا معاند وجاحد لآيات ربّه ، نعم توجد إلى جانب هذه الآيات الشريفة الواردة في الجسماني ، توجد آيات أخر تحکى المعاد الروحاني أيضا ، کما جاء في قوله تعالى : ( لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ، وقوله : ( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ، وقوله تعالى : ( وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ، وغيرها.
وأمّا ما ورد في المعاد الجسماني ، کقوله تعالى : ( فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) ، وقوله : ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) ، وقوله : ( أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ) ،وقوله : ( فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ) ، وغيرها.
علاج الخواجة لشبهات المعاد الجسماني
سبق وأن ذکرنا أن نفس الإنسان فيها ثلاثة جوانب فطرية إن لم نقل بالشعور الديني ، فإن قلنا به فهي أربعة ، وواحدة منها هي حب الاستطلاع ومعرفة الحقيقة ، فلذا عندما نتصفح التاريخ البشري نجده مليئاً بالتساؤلات والشبهات والاعتراضات والمناظرات والمجادلات والنظريات التي جاءت نتيجة بحث الإنسان عن الحقيقة والمعرفة بما يتعلق به وبالمحيط الذي يعيش فيه ، ولم يقتصر طلبه على العالم الحسي ، بل تعدى ذلک إلى عالم ما وراء الطبيعة ، وکان من أعقد المسائل التي واجهته هي مسائل ما وراء الحس والطبيعة ، لأنها تتعلق بأمور غيبية لم يکن بوسع الإنسان أن يتوصل إليها عن طريق الوسائل العلمية والحواس الظاهرية ، وما دام الحس الفطري عنده فهو لم يقف موقف المتفرج من دون أن يبدي فيها رأياً في السلب أو الإيجاب ؛ لأنه إن لم يبد فيها رأياً تبقى تهاجمه فتسلب النوم من عينه ، والراحة من نفسه ، فيعيش منغصاً مهموماً محزوناً کئيباً ، بينما لو أبدي رأياً فيها ، وإن لم يکن موافق الواقع والحقيقة لکنه يحس بالراحة والاطمئنان ، ومن جملة هذه المسائل الغيبية ، هي ما يتعلق بالمستقبل المجهول له ، ولا طريق للحس لإدراکها ، إلاّ أن الله سبحانه وتعالى شاءت رحمته بعباده أن يجعل للإنسان طرقاً لمعرفتها تتناسب مع حقيقتها وواقعيتها ، فمنها ما لا يدرك إلاّ بالوحي السماوي ، ومنها ما يدرك بالكشف والشهود ، ومنها يدرک بالعقل الإنساني ، وهو القوة المفکرة عند الإنسان التي يدرک بواسطتها الأمور الکلية ، ولم يترک الباري عز وجل صغيرة ولا کبيرة إلاّ بينها عن طريق الوحي إلى أنبيائه الذين بعثهم إلى إرشاد الناس وتعليمهم وهدايتهم في ما يتعلق بمختلف شؤونهم الاجتماعية والسياسية والعلمية وأمورهم الشخصية. ولا يخفى أن الطريق الأخير ـ الوحي السماوي ـ متوقف على الإيمان برسالات الأنبياء :والتعبد بأقوالهم عند عجز العقل عن إدراک تلک الحقائق والمعارف ، التي يکون أغلبها حقائق ومعارف جزئية لا طريق للعقل إلى إدراکها ، ولکن مع هذا حصلت عدة اعتراضات وشبهات في هذا الباب من المعارف الغيبية ، ومنها مسألتنا ـ طبيعة المعاد في اليوم الآخر ـ ولم تکن هذه المسألة خاصة بقوم دون آخرين ، بل هي مشکلة العالم بأسره ، وإن الکثير منها لا يقتصر على طلب الحقيقة والمعرفة ، بل هي مظاهر للتخرصات والخيالات والمعاندات للحق المبتنية على أساس الظن والوهم دون الدليل عليها عقلاً أو شرعاً ، وقد طالبهم الله في أربع آيات قائلاً لهم : ( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ).
وهناک جملة من الاعتراضات والشبهات يثيرها بعض المسلمين ، مع تسليمهم بکل ما جاء به الرسول الأکرم صلی الله عليه وآله وسلم ، وحجتهم فيها أن العقل الإنساني ـ الحجة الثانية بعد الحجة الأولى الظاهرة التي هي النبوة ـ لا يقبلها ، أو أننا حتى لو سلمنا بها تعبداً للشرع المقدس ، ولکننا لا نستطيع فهمها وتوجيهها الوجهة الصحيحة بواسطة العقل ، وخصوصاً عندما يکون الدليل العلمي قائماً على إثبات خلافها ، ونحن من خلال بحثنا هذا سوف نتعرض لأهم هذه الاعتراضات والشبهات ، ثم نطرح جواب الخواجة الطوسي عنها ؛ لأن مدار البحث هنا مختص به ، ثم إذا کان بالإمکان قبوله نقبله وإلاّ فإنا اتخذنا على أنفسنا في هذه الأطروحة مناقشة بحد الإمکان ، وبالشکل الذي يتناسب معها.
الشبهة الأولى : شبهة الآکل والمأکول
ويمکن تقريرها بصور مختلفة :
الصورة الأولى : لو أکل إنسان إنساناً آخرَ ، أو لو تغذى إنسان بأجزاء إنسانٍ آخرٍ ، أو لو تغذى إنسان بلحم حيوانٍ قد سبق أن أکل أجزاء إنسانٍ آخر حتى صارت أجزاؤه جزءاً من بدنه ، فجاء الثاني وأکل الحيوان المفروض ، فإن أعيدت أجزاء الغذاء إلى الأول عدم الثاني ، وإن أعيدت إلى الثاني عدم الأول.
الصورة الثانية : وهذه حسية وعلمية مدرکة باحس والوجدان ، وهي ما يمارسها العلم الطبي الجراحي اليوم ، عن طريق نقل أعضاء مهمة من بدن إنسان إلى بدن إنسان آخر ، کالقلب والکلية والأيدي والأرجل وغيرها من الأعضاء المهمة الأخرى ، وقد تکون هذه الأعضاء المنقولة من بدن کافر إلى مسلم أو بالعکس ، أو من مذهب واحد ولکن مختلفان من حيث الطاعة والمعصية ، وعليه فإن أعيدت مع الأخير وکان مسلماً مطيعاً وکان أصلها مع الکافر أو العاصي ، فإنها سوف تنعم بنعيم الأخير ، وإن أعيدت مع أصلها فإنها سوف تعذب بعذابه مع أنها قد وقعت منها طاعة في الفترة التي کانت فيها مع المسلم المطيع.
الصورة الثالثة : لو صارت بعض أجزاء عضو معين أجزاءً لعضو آخر عن طريق التوصيل والرقع الجراحي الحديث ، أو عن طريق التغذية المباشرة أو غير المباشرة ، فإن أعيدت أجزاء کل عضو إلى عضوها ، لزم جعل ذلک الجزء جزءاً من عضوين وهو محال ؛ إذ لم يعد کما کان ، کما أن قد لا يصل الحق في الثواب والعقاب إلى المستحق منهما لحصول التحلل والترکب منهما بالنظر صاحب المرکب منهما أولاً وثانياً.
جواب الخواجة نصير الدين الطوسي لها : لقد أجاب عنها الخواجة بنحو مختصر بما يلي : ( قال : ولا تجب إعادة فواضل المکلف ).
توضيح ذلک : ما بينه الشارح لکلام الخواجة ـ العلامة الحلي في کشف المراد ـ وهو على النحو التالي : ( إن لکل مکلف أجزاء أصلية لا يمکن أن تصير جزءاً من غيرها ، بل تکون فواضل من غيره لو اغتذى بها ، فإذا أعيدت جعلت أجزاءً أصلية له أولاً ، وتلک الأجزاء هي التي تعاد ، وهي باقية من أول العمر إلى آخره ).
ويمکن أن يعترض عليه بما يلي :
أولاً : إنّه مبني على أصل قد ثبت بطلانه بالتجربة والعلم الحديث ، في أنه لا يبقى شيء من جسم الإنسان سالماً من دون أن يطرأ عليه التبدل والتغير ، بل ثبت بالدليل العلمي أن جميع أجزاء البدن الإنساني بما فيها خلايا الدماغ وأجزاء العظام صغيرها وکبيرها بما فيها عظام فقرة العجز ، التي يظن أن الرواية ناظرة إليها بحسب ظاهرها : « کعجب الذنب أو کعجز الذنب » ، (7)
تتبدل وتتغير من دون استثناء فيها ، ف « زيد » الذي عاش ببدن في بداية حياته هو « زيد » الذي يعيش ببدن آخر غير الأول تماماً في جميع أجزائه وذراته ، فهو مع وحدته النفسية الشخصية إلاّ أن بدنه غير الأول تماماً ، فلا أصلية بعد للبدن ما دام واقعاً موضوعاً للتغير والتبدل الشامل لجميع أجزائه. وسيأتي الکلام من أنه العمدة في الإنسان هي النفس ، وأمّا البدن فيتشخص ويتعين بها ، والنفس لها وحدة شخصية لا تقبل التبدل والتغير على أساس الکون والفساد ، نعم إنها تتکامل على أساس اللبس بعد اللبس.
ثانياً : حتى لو سلمنا بوجود أجزاءٍ أصلية کما ذهب إليها الخواجة وجمع من المتکلمين ، فإنا نواجه المحذور التالي : وهو فيما لو تعرض جسم الإنسان للاحتراق بنار شديدة جداً بحيث تحول بدنه إلى رماد أسود ، وذلک بمقتضى فاعلية ومؤثرية النار وعدم مانعية ومقاومة جسم الإنسان لها ، وحينئذ لا يبقى شيء اسمه أصلاً وآخر اسمه فاضل مع ثبوت الاستحالة الکلية للجسم وبدن الإنسان بفعل النار القوية ، وطبيعي أن الرماد ماهية وحقيقة أخرى غير اللحم والدم والعظم والجلد ، وعليه کيف لنا أن نحتفظ بالأجزاء الأصلية التي قال بها الخواجة وأتباعه ، والحال لم يبق عندنا شيء يمکن أن نحکم عليه أنه جزء لبدن الإنسان بعد تحول حقيقته حقيقة أخرى ؟
ثالثاً : إن دليل الخواجة ومن تابعه من المتکلمين ليس دليلاً عقلياً ، بل هو دليل نقلي معتمداً على رواية قد رواها العامة عن النبي صلی الله عليه وآله وسلم ، وهي لا تنهض في المقام کدليل على إثبات المطلوب ، وحتى لو سلمنا بدلالية هذه الرواية على المطلوب ، فإنه يبقى سؤال عندنا نسأله من الخواجة وهو : هل إن هذا الشيء المأخوذ في الرواية ـ الذي تعبر عنه الرواية بعجب الذنب ، والذي اعتبره الخواجة أصلاً لا يتغير ولا يتبدل ، يقوم مقام البدن بتمامه ؟ وهل مثل هذا يجوز لنا نسبته إلى المولى القدير العالم بکل شيء ، والقادر کل شيء ؟ وهل إن البدن المعاد من هذا الجزء الذي لا يکاد أن يرى بالعين المجردة عين البدن الأول بوزنه وحجمه ؟ وهل يحقق لنا هذا العينية أم أنه يحقق لنا المثلية ، وأي مثلية منهما العقلية الفلسفية أم المثلية العرفية ؟ وعلى أي حال إن الالتزام بهذا القول يعد تخرصاً ورجماً بالغيب ، ما لم يوضح المراد من العجب أو العجز الوارد ذکره في الرواية السابقة.
رابعاً : ويبقى شيء عندنا يحتاج إلى جواب من الخواجة وأتباعه وهو : ما هو الملاک في تقسيم أجزاء بدن الإنسان إلى أصلية وغير أصلية ، بحيث تکون الأولى غير قابلة للتحول والتجزئة وإن تغذى عليها الإنسان أو غيره من الحيوانات الأخرى دون الثانية ؟ في الوقت الذي أثبت العلم الحديث أنه لا توجد في جسم الإنسان أجزاء غير قابلة للتغيير والتبدل والتحول ، بل البدن الإنساني يتبدل بشکل تام کل سبع سنوات ، وعليه فالتبدل والتغير يطرأ على بدن الإنسان أکثر من عشر مرات في أثناء طي عمره الطبيعي ، ومع ثبوت هذه الحقيقة العلمية ، فما هي الأجزاء الأصلية ، وأين يکمن وجودها ؟ ولماذا لا يکون هناک احتمال أن تکون الأجزاء الأصلية ممکنة لأن تکون جزءاً أصلياً للآکل ؟
وقد يجيبنا البعض بثبوت القدرة الإلهية لله تعالى ، بأن يحفظها عن ذلک.
أقول : نحن لا نشک بثبوت القدرة المطلقة لله تعالى على کُلِّ شيءٍ ، ولکن ثبوت القدرة على کل شيء شيءٌ ، وما نحن فيه شيءٌ آخر ، ولا ملازمة في البين في ذلک ، نعم هذا يصدق فيما لو أغمضنا أعيننا عن الملاکات العقلية ، ولکن هذا يستلزم الهرج والمرج في التکفير الإنساني ، وهو باطل بالضرورة ، وعليه فکيفما کان لا يمکننا أن نسلم بما قاله الخواجة في جواب الشبهة المذکورة ، ولا يضر في إعادة عين الجسم الإنساني في اليوم الآخر ، خصوصاً وأنّ هناک طرقاً أخرى على إثبات هذا الأمر سيأتي عرضها فيما بعد.
الشبهة الثانية : عظم بدن المعاد
ويمکن أن نصورها بصورتين وهما :
الصورة الأولى : وهي أن الله تعالى لو أعاد جميع أجزاء بدن الإنسان من أول عمره إلى آخره ، للزمن هذا عظمة بدن الإنسان ، بالشکل الذي يتغير شکله تماماً ، وهو باطل.
الصورة الثانية : لو أن الله تعالى أقتصر في إعادة البدن الإنساني على القدر الحاصل له عند الموت دون غيره ، للزم إعادة الميت الأقطع أقطع ، والأعمى أعمى ، وغير ذلک من الصور المختلفة التي قد يموت عليها الإنسان ، وهو باطل.
جواب الخواجة عنهما : وقد اعتمد الخواجة في جوابه للصورتين على الجواب السابق في إجابه شبهة الآکل والمأکول ، المبني على الإيمان بوجود أجزاء أصلية في بدن الإنسان لا يطرأ عليها التبدل والتغير من أول عمر الإنسان إلى آخره ، وهي أيضا غير قابلة للانتقال والتحلل إلى أجزاء أخرى ، حتى لو أکلت فهي لا تصير أجزاءً للآکل ، وقد تبقى محفوظة في التراب ومنها يعاد الإنسان في يوم القيامة ، لعلمه تعالى وقدرته على کل شيء.
المصادر :
1- صدرالمتألهين ، المبدأ والمعاد ، ص 464.
2- القاضي الجرجاني ، شرح المواقف ، ص 297 ؛ المبدأ والمعاد ، ص 465.
3- المبدأ والمعاد ، ص 465. ، ص 464. ، ص 465.
4- العلامة الحلي ؛ کشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ، تحقيق الشيخ السبحاني ، قسم الإلهيات ، ص 258 ، 259.
5- کتاب معارف قرآن ، 1 ـ 3 ، قسمت إنسان شناسي ، محمد تقي مصباح اليزدي ، ص 494 ، 495.
6- الخواجة نصير الدين الطوسي ، تلخيص المحصل المعروف بنقد المحصل ، القسم الثاني في المعاد ، ص 392.
7- أحمد بن حنبل ، مسند ، ج 2 ، ص 428 ؛ تفسير الصافي ، ج 1 ، ص 144 ؛ وغيرها.
/ج