إنّ مجموعة من المسائل لا يمکن فهمها وإثباتها ما لم تبحث بعض مقدماتها إلى تشکل المبادئ التصورية أو التصديقية في المرحلة الأولى ، وتختلف المسائل في صعوبتها وسهولتها من مسألة إلى أخرى ، وباعتبار أن مسألة المعاد الجسماني واحدة من المسائل المهمة والعويصة ، والتي مازال إلى يومنا هذا الإبهام وعدم الوضوح يخيم على القسم الأکبر من فروعها وجزئياتها ، إذ لا طريق للعقل في إدراک الجزئيات ، ولم يبقَ لنا إلى إدراک هذا الأمر إلا الشرع المنقول ، عن طريق التعبد بما جاء به من بيان لتلک الجزئيات ، ولکن مادام البحث يدور مدار الأبحاث العقلية المطروحة احتجنا إلى مجموعة أصول موضوعية ، وليس من الصحيح أن نبينها هناک ، بل کان علينا أن نذکر بعض ما جاء فيها من بيان واستدلال ، وإليک هذه الأصول :
الأصل الأول : تجرد النفس الإنسانية
سبق وأن بيّنا في موضوع الآراء في حقيقة الإنسان من أن مجموعة من العلماء والمحدثين ذهبوا إلى القول بمادية النفس التي اعتبروها جوهر الإنسان حقيقته ، في قبال من قال بتجردها من الفلاسفة وبعض المحققين من المتکلمين ، ولکن الذي يوافق العقل والشرع المقدّس هو القول بتجردها ، وقد بيّن صدرالمتألهين أن للنفس مراتب في التجرد الخيالي ـ المثالي ـ ولها أيضاً مرتبة أخرى وهي مرتبة تجرد العقلي ، وفي الأولى يکون تجردها ناقص ، وفي الثانية يکون تاماً ، وهناک مرتبة ثالثة يقال لها مرتبة التجرد الأتم ، يعبر عنها فوق التجرد ، ويقصد به أنه ليس لها حد تقف فيه ، ومقام تنتهي إليه ؛ باعتبار أنها طالبة للکمال الإلهي ، والکمال الإلهي لا نهاية له ، وهذا المعنى الأخير ذهب إليه العارف حسن حسن زاده آملي حيث قال فيه : ( وهذا المعنى الرفيع تجردها الأتم أي ما فوق تجردها العقلاني ، يستفاد من عدة مواضع في تضاعيف مجلّدات الأسفار ، ويا ليت صاحب الأسفار جعل لهذا المطلب الشريف فصلاً على حده ثم بسط الکلام حوله بقلمه الفياض ) (1) ، ثم أضاف قائلاً : ( ومما يرشدک إلى أن لها رتبة فوق التجرد العقلاني ، ائتلاف حديثين شريفين من رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم ، إحداهما : « ما من مخلوق إلا وصورته تحت العرش » ، والأخر : « قلب المؤمن عرش الله الأعظم » ، (2) ثم أنه نقل قول أميرالمؤمنين عليه السلام : « کل وعاء يضيق بما جعل فيه ، إلا وعاء العلم فإنه يتسع به » ، (3)ثم إنّ الشيخ الرئيس ابن سينا قد ذکر أدلة کثيرة على إثبات التجرد التام العقلي للنفس الإنسانية ، کما جاء ذلک في کتابه النفس من الشفاء ، في الفصل الثاني الذي خصه بإثبات قوام النفس الناطقة ، وقد ذکر فيه ثمانية براهين عليه ، فمن رام التفصيل فليراجعه. (4)
وبودنا أن نذکّر الأخوة القراء بأن هذا البحث لا يتعلق بذکر کل ما جاء في المسألة من أدلة وبراهين وتفاصيل تتعلق ببيان وتوضيح المسألة ؛ باعتبار أن البحث هنا يتعلق بذکر ما توصل إليه العلماء بالدليل ، فهو بمثابة نتيجة لجملة من الآراء والنظريات المستدل عليها. فتأمل !.
بينما لا يخلو کتاب من کتب صدر المتألهين عن الحديث فيه ، فقد خصص له أبواب خاصة من أبحاثه في إثباته ، وقد لخص الإمام الخميني قدس سره ، ما ذکره صدرالمتألهين من أدلة على إثبات ذلک ، في أحد عشر دليلاً ، فليراجع (5).
وأخيراً نذکر ما قاله الشيخ البهائي في کتابه الکشکول ، حيث بين فيه حقيقة النفس وعلاقتها بالبدن ، فقال : قال البعض : النفوس جواهر روحانية ليست بجسم لا جسمانية ، لا داخلة ولا خارجة عنه ، لها تعلق بالأجساد تشبه علاقة العاشق بالمعشوق ، وهذا القول ذهب إليه الغزالي أبو حامد في بعض کتبه ثم قال : ـ ونقل عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال : « الروح في الجسد کالمعنى في اللفظ » (6) ، وقال الصفدي : ( ما رأيت مثالاً أحسن من هذا ) (7).
الأصل الثاني : النفس لا تفسد بفساد البدن
بعدما بيّنا أن النفس الإنسانية مجردة ، سواء على أساس القول بتجردها في مرتبتها العقلية فقط ، أو على أساس تجردها العقلي والخيالي ، فلازمه القول ببقائها وعدم فسادها بفساد البدن بعد مفارقتها إياه بالموت ، ولکن بالرغم من هذا فإن الفلاسفة أقاموا الأدلة على إثبات هذا الأصل ، ويمکن حمل فعلهم على إرادة التأکيد عليه ، وإلاّ فلا حاجة إليها ؛ لأن البقاء وعدم الفساد لازم للقول بالتجرد ، فإذا ثبت الملزوم ثبت اللازم ، وقد ذکر الشيخ الرئيس عدة براهين على إثباته ، في عدة من کتبه ، فمن أراد التفصيل فليراجعها (8).ثم إنّ صدر المتألهين بيّن لنا علاقة النفس بالبدن بأنها علاقة لزومية ، ولکن لا کعلاقة المتضايفين ، ولا کعلاقة المعلولين لعلة واحدة في الوجود ، بل کمعية شيئين متلازمين بوجه کالمادة والصورة ، والتلازم الذي بينهما کما علمت يشبه التلازم بين الهيولى الأولى والصورة الجرمية ، فکل منهما محتاج إلى الآخر على وجه غير دائر دوراً مستحيلاً ، وأما عدم فسادها بفساد البدن ، فقد بين ذلک تحت عنوان (الفساد على النفس مطلقاً محال ) (9) ، ومن خلال هذا البحث برهن على عدم فسادها ، بعد دفع مجموعة من الإشکالات المحتملة التي ترد على الاستدلال ، فليراجع.
الأصل الثالث : للإنسان جسم طبيعي وجسم مثالي وروح مجردة
هذا الأصل جواب لسؤال قد حير العقول وتيه الأفکار ، وهو : ما هي حقيقة الإنسان ؟ هل الإنسان مجموعة من الأعضاء المتکونة من اللحم والدم والعظام ، أم أنه وراء هذا الجسم والبدن المادي شيء آخر ، فما هو ؟ولقد طرحت نظريات متعددة في جواب هذا السؤال ، بعضها کانت مبتنية على أساس النظرة الحسية ، والأخرى مستندة على أساس النظرة العقلية الفلسفية ، فالأولى لا تري شيئاً مجرداً اسمه الروح أو العقل ، بل الروح عندهم عبارة عن تلک الحياة السارية في البدن ، ولا تؤمن بوجود حقيقة مجردة وراء مجموعة هذه الأعضاء المادية ، وما الإدراک إلا مجموعة تفاعلات وانفعالات ميکانيکية للجهاز العصبي عند الإنسان ، ينتج عنها مجموعة قوانين کلية ، وحالات نفسية وظواهر روحية ، وعند تحلل خلايا الدماغ وعند ما تتعرض لأمر ما يؤدي إلى توقفها عن العمل ، فإن هذه النشاطات الروحية والتفاعلات الميکانيکية تتوقف عن العمل ، وعندئذ لا تبقى من حقيقة الإنسان سوى الجسد المادي الفاقد للحياة ، فلا وجود جوهري مستقل أصيل بعد ، وإليک شاهد على ذلک ، قول العالم المعروف « هنري برجسون » حيث قال : ( قد نضع قبلياً کما فعل أفلاطون تعريفاً للنفس ، فنقول إنها لا تحلل ؛ لأنها بسيطة ، ولا تفسد لأنها غير منقسمة ، وإنها بطبيعتها خالدة ، ثم ننتقل من ذلک عن طريق الاستنتاج إلى فکرة هبوط النفوس في الزمن ، ففکرة العود إلى الأبدية ، ولکن ماذا تقولون لامرئ ينکر وجود النفس المعرّفة على هذا النحو ؟ وکيف تستطيعون أن تحلوا المسائل المتصلة بالنفس الواقعية ، وأصلها الواقعي ، ومصيرها الواقعي ، حلاً واقعياً ؟ بل کيف تستطيعون أن تطرحوها في تعابير واقعية ؟ وکل ما فعلتم أنکم تتأملون في مفهوم فکري قد يکون فارغاً ، أو ضخمتم اتفاقياً معنى کلمة وضعها المجتمع لجزء من الواقع اقتطعه لسهولة التخاطب ؟ إن تقريره يظل عقيماً مادام التعريف اتفاقياً ، والمفهوم الأفلاطوني لم يتقدم بمعرفتنا عن النفس قيد شعرة ، رغم ألفي سنة انقضت في التأمل على أساسه) (10).
وأقول : نحن لا ننکر دور الأعضاء ووظائف الجسم في صياغة تلک القوانين وظهور تلک النشاطات الروحية التي يقوم بها الإنسان الحي ، إلا أننا لا نؤمن بإطلاق هذه القوانين الفيزيائية والفسلجية ، وإنما تقوم هذه الخلايا والأعضاء الجسمية بدور الإعداد والتهيئة لممارسة النفس المجردة دورها الفکري والروحي ، وإن مجرد إثبات العلاقة بين الإدراک أو الشعور والأفعال والانفعالات الکيميائية التي تتم في المخ ، لا يستنتج منه أن الأمر الذي نعبر عنه بالنفس ليس إلا هذه الوسائل والآثار الکيميائية والفيزيائية.
وأما النظرة الفلسفية حول الإنسان فإنها ترى بأنه موجود إمکاني ، کالمرکب من جسد وروح وجسم مثالي ، وإن کان فالخارج نراه شيئاً واحداً متصلاً بحسب الرؤية البصرية ، ولکنه بحسب الواحد ليس هو کذلک.
فقد بيّن صدرالمتألهين في کتاب الأسفار نظره في الإنسان قائلاً : ( اعلم أن القوى القائمة بالبدن وأعضائه وهو الإنسان الطبيعي ، ظل ومثل للنفس المديرة وقواها ، وهي الإنسان النفسي الأخروي ، وذلک الإنسان البرزخي بقواه وأعضائه النفسانية ظل ومثل للإنسان العقلي وجهاته واعتباراته العقلية ، فهذا البدن الطبيعي وأعضاؤه وهيأته ظلال ظلال ، ومثل مثل لما في العقل الإنساني ، وأما أن قوى الإنسان الطبيعي الذي هو بمنزلة قشر وغلاف للإنسان الحيواني المحشور في الآخرة التي هي دار الحياة ، لقوله تعالى : ( وَمَا هَٰذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )
فکأن الحکيم الفيلسوف صدرالمتألهين يريد أن يبيّن لنا من خلال هذا النص من عباراته ، أن الإنسان الواحد بحسب النظرة الحسية ، له مراتب في الوجود ، وهذه المراتب لها ظاهر ولها باطن ، ولباطنها باطن آخر ، فالبدن يعد مرتبة من مراتبه ، والبدن المثالي هو الآخر مرتبة ثانية ، والإنسان العقلي هو مرتبة ثالثة له ، مترتبة بحسب الترتيب الطولي ، فهو وجود واحد ذو مراتب ، ننتزع من کل مرتبة من هذه المراتب مفهوماً يحکي لنا طبيعة ذلک الوجود الخارجي الخاص بها ، وعندئذ يمکن أن يتفق مع ما جاء به حسن زاده آملي في کتابه ( عيون مسائل النفس ) حيث قال فيه : ( اعلم أن الإنسان لما کان لسعة وجوده وکونه مظهراً من مظاهر الحق الکلية شخصاً واحداً ذا مراتب ومقامات من مرتبته النازلة العنصرية التي هي شهادته المطلقة إلى مرتبة غيبة الأحدي الإلهي ، يتصف بالأضداد وهو شخص واحد ، فله أين ومتى مثلاً کما أن له تجرد عنهما ، وهو ظاهر وباطن وغيرهما من الأسماء المتقابلة ، فمن عرف نفسه فقد عرف ربه بجمعه بين الأضداد ... ) (11).
وعليه يظهر مما تقدم وغيرها من عبارات الفلاسفة والحکماء في باب معرفة الإنسان ونفسه ، أن الإنسان الواحد المحسوس ، لم يکون واحداً کما عليه في الحس ، وإنما هو کالمرکب من مجموعة حقائق ، کل واحد منها يمثل مرتبة من مراتب وجوده الخارجي ، فله وجود طبيعي ظاهر بهذا البدن العنصري المادي ، وله وجود مثالي يظهر بالجسم المثالي ، وهو برزخ بين الإنسان العقلي ، فالنفس في وحدتها کل القوى ، تظهر في مراتبها على نحو لا التجلي لا التجافي ، فلها في کل عالم من هذه العوالم الثلاثة حکم بلا تجاف ، وهذا الحکم والأمر لا يختص بالإنسان ، بل ما سواه مشترک فيه لقوله تعالى : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) ، ولقوله: ( مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ... ).
الأصل الرابع : الحرکة الجوهرية
تعدّ مسألة الحرکة الجوهرية من مبتکرات الحکمة المتعالية ، بالشکل الذي طرحت به ، وبالنحو الذي استدل به على إثباتها ودفع الإشکالات الواردة عليها ، إذ لم تحظ هذه المسألة بهذا النحو من الاهتمام والبحث کما حظيت به على يد الحکيم الکبير صدر الدين الشيرازي ، حتى قبل فيه أنه مبتکرها ، فقد عجز بعض الفلاسفة القدماء عن إثباتها ، بل يرون الحرکة فيها تلزم من تحقق الحرکة فيها تلزم من تحقق الحرکة من غير موضوع ثابت ، في الوقت الذي يعد من أهم أرکانها ، بالشکل الذي يتوافق مع تعريفهم للحرکة ، الذي جاء فيه : ( الحرکة عبارة عن خروج الشيء من القوة إلى الفعل تدريجاً ) ، (12) فقد ذکر الشيخ الرئيس في باب الحرکة الجوهرية ما هذا لفظه : ( ... أما الجوهر فإن قولنا أن فيه حرکة قول مجازي ؛ فإن هذه المقولة لا يعرض فيها الحرکة ؛ وذلک لأن الطبيعة الجوهرية إذا فسدت تفسد دفعة ، وإذا حدثت تحدث دفعة واحدة ، فلا يوجد بين قوتها الصرفة وفعلها الصرف کمال متوسط ؛ وذلک لأن الصورة الجوهرية لا تقبل الاشتداد والتنقص ؛ وذلک إذا قبل الاشتداد والتنقص لم يخلُ ، إما أن يکون الجوهر هو في وسط الاشتداد والتنقص يبقى نوعه أو لا يبقى ، فإن کان يبقى نوعه ما تغيرت الصورة الجوهرية ، بل إنّما تغير عارض للصورة فقط ، فيکون الذي کان ناقصاً فاشتد قد عدم ، والجوهر لم يعدم ، فيکون هذا استحالة ، أو غيرها لاکوناً ، وان کان الجوهر لا يبقى مع الاشتداد فيکون الاشتداد جلب جوهراً آخر ، وکذلک في کل آن يفرض للاشتداد يحدث جوهراً آخر ، ويكون الأول قد بطل ويکون بين جوهر وجوهر إمکان أنواع جوهرية على غير النهاية بالقوة کما في الکيفيات ). (13)ويمکننا أن نستشف من کلامه هذا ، أنه مبني على أساس ما يعتقد به الشيخ الرئيس في فلسفته من أصول موضوعة وهي :
1. عدم قبول التشکيک الخاصى بالوجود.
2. تفسير الإدراک على أساس التقشير.
3. إنّ الوجود عبارة عن حقائق بسيطة متباينة بتمام الذات ، وهو ما يصطلح عليه بالتشکيک العامي.
نظريته في تکامل النفس قائمة على أساس اللبس بعد الخلع التي يعبر عنها بنظرية الکون والفساد ، وطبيعي من يرى ذلک لا يستطيع أن يقبل الحرکة الجوهرية ، بينما من يفسر الحرکة التکاملية للنفس على أساس نظرية اللبس بعد اللبس فبسهولة تثبت عنده الحرکة الجوهرية.
وقد عرّف صدرالمتألهين الحرکة بتعريف يختلف عن تعريف الفلسفة المشائية ومن يحذو حذوهم ، فقد قال في تعريفها : ( الحرکة عبارة عن موافاة حدود بالقوة على الاتصال ) ، (14) فيکون الوصف ـ بالقوة ـ وصفاً للحدود وليس للشيء المتحرک حتى تتعلق الحرکة بالموجودات المادية دون غيرها ، وعلى هذا الأساس ـ قبول الحرکة الجوهرية ـ التي تعرض للبرهنة عليها بالأدلة القطعية والاشراقات النورية والمشاهدات العرفانية ، المؤيدة بالشرع المقدّس ، تم إثبات المعاد الجسماني للموجودات الإنسانية وغيرها ، حيث إن المتحرکات تسير في طريق استکمالها إلى مبادئها الفاعلية التي هي صور کمالية غائية لها ، ويشهد لذلک قوله تعالى : ( صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ ) ، ولقوله : ( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) ، (3) فالحرکة الاستکمالية للنفس في الواقع هي عبارة أخرى عن عود النفس إلى مبدئها ، فتکون البدايات هي النهايات ، فالمعاد هو رجوع النفس إلى الحياة الذاتية ، وعندئذ تتحد المتحرکات الجوهرية بصورها الکمالية ، سواء کانت صوراً إدراکية أم غير إدراکية ، على أساس قاعدة اتحاد العاقل والمعقول ، وحينئذ تتجلى تلک البواطن ، کما قال تعالى : ( فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ، (4) ولقوله : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) ، وقال تعالى : ( كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ).
الفرق بين البحث الکلامي والبحث الفلسفي
إنّ مدار البحث في هذه الرسالة التي بين أيدينا يدور حول مسألة المعاد الجسماني عند بعض المتکلمين وعند بعض الحکماء والفلاسفة ، کما سيأتي الکلام مفصلاً عن وجهة نظر کل واحد منهما ، وعليه ينبغي أن نبين بصورة مجملة أهم هذه الفروق التي يمکن مشاهدتها بين البحثين الکلامي والفلسفي ، وسيأتي فيما بعد بيان الأسلوب المتبع من قبل کل واحد منهما في بداية بحثه عن مسألة المعاد الجسماني في الفصل الذي خُصص له ، وفيما يلي ذکر هذه الفروق :
أولاً : من حيث الهدف
ولا يخفى علينا هذا الأمر ؛ إذ أن الهدف من البحث الکلامي هو إثبات مسائل موضوعِهِ ، بشکل يؤدي إلى الإقناع والتبکيت للمقابل ، بينما الهدف من البحث الفلسفي هو الکشف عن الحقيقة والواقع ، وتمييز ما هو حق عما هو باطل ، على أساس محکم ومتقن.
ثانيا : من حيث الطريقة والأسلوب المتبع
إنّ الأسلوب المتبع في الأبحاث الکلامية لإثبات مسألة ما ، هو الأسلوب والطريقة الجدلية في بعض الأحيان ، نعم قد يستفيد الباحث الکلامي من البراهين والأقيسة البرهانية ، ولکن المشهور عنهما هو هذا اللون من الأساليب ، وهذا لا يعني النفي لاستخدامهم الأساليب والأقيسة المنطقية ، والأسلوب الجدلي کما هو معروف يعتمد فيه على مجموعة من المسلمات عن الخصم ، بينما الأسلوب الفلسفي هو الأسلوب البرهاني والاستدلال العقلي القائم على أساس المقدمات اليقينية.
ثالثاً : من حيث الوظيفة
إنّ وظيفة البحث الکلامي هي :
أولاً : البحث عن الموجود المطلق على أساس الشرع.
ثانياً : القيام بوظيفة الدفاع عن الدين عن طريق رفض المزاعم والشبهات المفروضة من قبل الخصم ، وإثبات المزاعم الشرعية له.
ثالثاً : وينبغي أن ننبه إلى أنّ هناک وظيفة ثالثة يجب أن يقوم بها الباحث الکلامي وإن لم تکن متحققة بالشکل المطلوب ، وهي الهجوم على الخصم بطرح مجموعة إشکالات وقضايا يطلب حلها وإثباتها من قبل الخصم ، ولا يقتصر فقط على الدفاع دون الهجوم.
بينما نجد الفلسفة تجعل من موضوعها الوجود المطلق ومسائله وأحکامه العامة ، يعني الوجود بما هو هو ، ومن هنا نستکشف أن النسبة بينهما نسبة العموم والخصوص من وجه ؛ لأن الکلام يشارک الفلسفة في الموضوع وبعض المسائل ، ويخالفها في بعض المسائل.
وهناک سؤال يطرح نفسه ، وهو : هل هناک فرق بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة العامة ؟
الجواب : نعم يوجد فرق ينبغي الالتفات إليه ، وأخذه بنظر الاعتبار ، وهو أن الفلسفة الإسلامية تفترق مع الفلسفة العامة في بعض الأسس والمباني ، منها أن الفلسفة الإسلامية تارة تعتمد في بعض مسائلها على ما يطرحه المعصوم : على أنه أمر يقيني ؛ على أساس الإيمان المسبق بصدق المعصوم عليه السلام في أقواله وأفکاره ، فما يصدر عنه هو عين الواقع ، وعليه فإننا نأخذه ونجعله مقدمة للبرهان والقياس المنطقي ، وعليه تکون النتيجة مأخوذة من مقدمات يقينية ، بينما هذا اللون من التفکير تفتقر إليه الفلسفة العامة في إثبات قضاياها ، وإنما هو مختص فقط بالفلسفة الإسلامية ، نعم هي تتفق مع الفلسفة العامة من حيث الهدف والوظيفة ، ولکن قد تفترق معها من حيث الطريق للوصول إلى إثبات الواقع ، وعلى هذا الأساس تعددت المدارس الفلسفية الإسلامية إلى مشائية وإشراقية وحکمة متعالية.
خلاصة الکلام
يمکننا أن نلخص ما تقدّم من أبحاث في الفصل السابق في النقاط التالية :أولاً : أتضح لنا من أبحاث المسألة الأولى التي تعلق البحث فيها بالتعريف اللغوي والتعريف الاصطلاحي لکلمة المعاد ، أن الأصل اللغوي لهذه الکلمة هو المرجع والمصير ، على وزن مفعل ، أي معود ، مأخوذ من العود ، يطلق على المعنى المصدري فيعني العود والرجوع ، وعلى زمان العود ، فيکون اسم زمان ، کما يطلق على مکان العود ، فيکون اسم مکان ، هذا فيما إذا أُخِذَ بالفتح ، وأما لو أُخِذَ بالضم ، فإنه يراد به نفس الشيء الذي يقع متعلقاً للرجوع والعود ، وهذا هو محل تعلق بحثنا في هذه الأطروحة.
وأما بالنسبة لتعريف المعاد في الاصطلاح الفلسفي والکلامي ، فإنه تابع في الأصل إلى ما يتبناه المتکلم والفيلسوف من رأي في هذه المسألة ، فالشيخ الرئيس عرفه بتعريف يتناسب مع مبناه الفلسفي في تحقيق المسائل ويختلف عمّا انتهى إليه من رأي في هذه المسألة بالذات ، فتعريفه يتفق مع القول بالمعاد الروحاني دون المعاد الجسماني الذي قال به في نهاية البحث ، تعبداً بالشرع المقدّس ، فقال فيه : ( إنه الحال الذي کان عليه الشيء فيه ، فباينه ، فعاد إليه ، ثم نقل إلى الحالة الأولى أو إلى الوضع الأول الذي يصير إليه الإنسان بعد الموت وانفصل عنه قبل الحياة الأخرى ) ، (15) وبالتدبر والتأمل في هذا الکلام نجده يتناسب مع القول بأن المعاد روحاني فقط ، وهو ما توصل إليه عن طريق البحث العقلي دون البحث الشرعي.
وأما الخواجة نصير الدين الطوسي فقد ذهب في تعريفه للمعاد بأنه : إعادة للأجزاء الأصلية ، أو هي مع النفس المجردة ، (16) بينما يرى الغزالي أنّ المعاد يکون للنفس المجردة مع أي بدن کان ، من مادته الأولى أو من مادة أخرى ، مادام الشرع أجاز ذلک ، (17) فلا تناسخ في البين هذا بحسب تعبيره وقد بيّنا الکلام عنه مفصلاً في محله ، أي عند البحث في التناسخ وأقسامه وأدلة بطلانه ، فراجع ، بينما عرفه صدرالمتألهين بالشکل الذي يتناسب مع ما توصل إليه من نظر في مسألة المعاد الجسماني ، (18) وسيأتي الکلام عنه مفصلاً في الفصل السادس ، فارتقب.
ثانياً : فمن خلال ما تقدم من أبحاث في مسألة المعاد عبر التاريخ البشري ، والذي تم التحدث فيه عن تصورات الأقوام والديانات القديمة التي سبقت المجتمع والدين الإسلامي ، فقد توصلنا فيه إلى أن جميع الأقوام والمجتمعات القديمة ، کالمجتمع البدائي الصحراوي والمجتمع المصري والمجتمع الهندي ، کانت جميعها تؤمن بوجود معاد جسماني يحصل بعد الموت مع اختلاف في تصوير کيفية ذلک ، فقد صورهُ بعضهم بتصويرات تتفق مع القول بالتناسخ الملکي الباطل ، وبعض يراه جسمانياً في عالم آخر ، وقد بيّنا في الأبحاث السابقة أن هذا الاختلاف قد يکون سببه نتيجة الخلط الحاصل بين ما وصل إليهم من خبر السماء عن المعاد وکيفيته مع أوهام وخرافات بشرية ، ولکن النتيجة التي انتهت إليها هذه الأقوام تکشف عن وجود أثر السماء فيها ، وأما بالنسبة إلى نظر الديانات القديمة التي تحدثنا عنها في هذه المسألة ، فإنها هي الأخرى قد ذهب أغلبها إلى القول بجسمانية المعاد ، عدا فرقة صغيرة من اليهود کانت لا تؤمن بالمعاد الأخروى ، بل کانت تراه معاداً اجتماعياً دنيوياً خاصاً بقوم اليهود الذين ذلوا وشردوا في البلدان ، وهي فرقة الصدوقيين ، ودليلهم على ذلک عدم وجود نص صريح في التوراة المکتوبة عليه ، وقد تقدم البحث مفصلاً عنه ذلک في محله ، فراجع ، وکذا من جملة القائلين بروحانية المعاد هم المسيحيون ؛ باعتبار أن النصوص الإنجيلية في الأناجيل الأربعة تتحدث عنه بالکيفية الروحانية دون الجسمانية ، کما مرّ بيانه سابقاً ، والسبب في ذلک کله يعود إلى تلاعب الأيدي في تغيير وتبديل النصوص الشرعية بعد رحيل أنبيائهم : ، وإلاّ فلو رجعنا إلى الفطرة الإنسانية والنصوص القرآنية فإنا نجدها تنص على جسمانية المعاد الأُخروي ، کما سيأتي البحث عنه مفصلاً في الفصل الثاني ، فانتظر.
ثالثاً : وهو ما يتعلق في بحث حقيقة النفس الإنسانية التي حارت العقول وتاهت الأفکار في معرفة کنهها وحقيقتها ، وتضاربت الآراء والنظريات فيها ، وقد نقل لنا السيد نعمة الله الجزائري قولهم فيها : ( قالوا : إنها معلومة الوجود مجهولة الکيفية ، فکما أن الربَّ غير مدرک لنا لتعالي حده ، کذلک کيفيتها غير معلومة لنا لتداني حدها ، فعلي هذا قال أمير المؤمنين : « من عرف نفسه فقد عرف ربَّه » من باب تعليق المحال على المحال ).
وقد تبين لنا من خلال البحث في ذلک التفاوت والاختلاف في الآراء ، فقد ذهب أغلب المحدّثين إلى القول بجسمانيتها اعتماداً على ظاهر بعض الأخبار ، ومنهم المحدث المجلسي صاحب کتاب بحار الأنوار کما ذهب إلى هذا القول بعض متکلمي السنة نذکر البعض منهم ، وهو النظام ، والجويني ، وابن الإخشيد ، (19) وأما القول بتجردها عن المادة ، فقد ذهب إليه جملة الفلاسفة والحکماء السابقين والمتأخرين ، مع تفاوت في بعض مراتبها وقواها ، فقد ذهب بعضهم إلى عدم تجردها والبعض الآخر إلى تجردها کما بينا ذلک في محله ، کما ذهب إلى هذا الرأي بعض متکلمي الإسلام ، وأما مفسرو الإسلام فقد ذهب أغلبهم إلى القول بتجردها اعتماداً على جملة من الآيات الشريفة الصريحة فيه ، ويکاد يکون هذا القول محل اتفاق بينهم.
رابعاً : ما يتعلق ببحث الأصول الموضوعة لهذه المسألة ، فقد ذکرنا منها أربعة أصول وکانت نتيجتها ، أن النفس جوهر مجرد ، لا تفسد بفساد البدن العنصري الدنيوي ، وأنها تشکل الجنبة الثالثة في الإنسان بالإضافة إلى الجنبتين الأُخريين وهما الجسم الطبيعي العنصري والجسم المثالي ، وتارة يعبر عنها بالروح ، فيقال إن للإنسان جسماً طبيعياً وجسماً مثالياً وروحاً مجردة ، وأنها قابلة للتکامل الصعودي عن طريق الحرکة الجوهرية التکاملية الاشتدادية التي قال بها صدرالمتألهين .
خامساً : وأخيراً فيما يتعلق بمسألة الفرق بين البحث الکلامي والبحث الفلسفي في تحقيق المسائل المعرفية ، فقد أتضح لنا أنه هناک فرق بين البحث الکلامي والبحث الفلسفي من ثلاثة جهات ؛ الجهة الأولى : من حيث الهدف ، وقد تبين لنا أن هدف الفلسفة هو الکشف عن الحقيقة والواقع وتمييز الحق عن الباطل وهدف الکلام هو الإقناع والتبکيت للمقابل ، والجهة الثانية : من حيث الطريقة والأسلوب ، وتبين لنا أنه في الفلسفة يتم عن طريق إقامة البراهين والأقيسة المنطقية ، وفي الکلام عن طريق الجدل والبرهان العقلي في بعض الأحيان ، وأما الجهة الثالثة : من حيث الوظيفة ، فوظيفة الکلام هي البحث عن الموجود المطلق على أساس الشرع ، والدفاع عن الدين عن طريق رفض المزاعم وردّ الشبهات وإثبات المزاعم الشرعية له ، وأما وظيفة الفلسفة فإنها تجعل من الموجود المطلق وأحکامه العامة موضوعاً لدراستها ، وعليه فالنسبة بين الوظيفتين العموم والخصوص من وجه.
المصادر :
1- کتاب النفس من الأسفار ، ج 4 ص 83
2- إسماعيل بن محمد ، العجلوني الجرامي ، کشف الخفاء ، ج 2 ، ص 100.
3- شرح وتحقيق نهج البلاغة ، قسم الخطب ، ج 4 ، ص 47 ؛ الشريف الرضي ، خصائص الأئمة ، ج 1 ، ص 183. . لاحظ : آية الله الشيخ حسن حسن زاده آملي ، عيون مسائل النفس ، العين 24 ، ص 399.
4- الشيخ الرئيس ابن سينا ، راجع کتاب الشفاء ، تحقيق حسن زاده آملي ، ص 249 ـ 288.
5- فروغ السادات رحيم پور ، معاد از ديدگاه إمام خميني ، ص 217.
6- الشيخ على النمازي ، مستدرک سفينة البحار ، ج 4 ، ص 217 ؛ محمد العلجونى ، کشف الخفاء ، ج 2 ، ص 100.
7- البهائي ، کتاب الکشکول ، ص 45.
8- الشيخ الرئيس ابن سينا ، کتاب الشفاء ، قسم الإلهيات ؛ تحقيق حسن زاده ، ص 288 ـ 249.
9- صدرالدين الشيرازي ، کتاب الأسفار الأربعة ، ج 8 ، ص 388.
10- عبدالله عبدالدائم ، منبعا الأخلاق والدين ، ترجمة د. سامي : ص 280.
11- حسن زاده آملى ، عيون مسائل النفس في شرح العيون ، العين 44 ، ص 563.
12- العلامة محمد حسين الطباطبائي ، کتاب بداية الحکمة ، المرحلة العاشرة ، الفصل الثالث ، ص 153.
13- الشيخ الرئيس ابن سينا ، کتاب الشفاء ، قسم الطبيعيات ، ص 64.
14- صدرالدين الشيرازي ، الأسفار الأربعة ، ج 3 ، ص 31.
15- د. عاطف العراقي ، النزعة العقلية في فلسفة ابن رشد ، بهامش ص 293.
16- العلامة الحلي ، کشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ، قسم الإلهيات ، تحقيق الشيخ جعفر السبحاني ، ص 259.
17- محمد الغزالي ، تهافت الفلاسفة ، ص 243.
18- صدرالدين الشيرازي ، مفاتيح الغيب ، المفتاح 12 ، المشهد 7 ، ص 298.
19- بحار الأنوار ، ج 58 ص 94.
/ج