دلّت الآيات الكريمة على طول يوم القيامة وانّ للإنسان فيه مواقف يُعبَّر عنها بالعقبات.
أمّا طول يومها فيدل ظاهر بعض الآيات على أنّ مقداره خمسون ألف سنة ، وفي الوقت نفسه يستظهر من بعض الآيات انّ طوله ألف سنة ، فكيف يمكن التوفيق بينهما ؟
أمّا ما يدل على أنّ طوله خمسون ألف سنة فقوله سبحانه : ( تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ).
والمراد من يوم هو يوم القيامة بشهادة قوله سبحانه بعده : ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالمُهْلِ * وَتَكُونُ الجِبَالُ كَالْعِهْنِ ).
وما يدل على أنّ طول يومها ألف سنة قوله سبحانه : ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ).
وقوله سبحانه : ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ).
فقوله : ( مِّمَّا تَعُدُّونَ ) شاهد صدق على أنّ المقياس لهذا العدد هو السنين الدنيوية ، وعليه يختلف مضمون الآيات بين ما يعد طوله 50 ألف سنة من السنين الدنيوية وألف سنة كذلك.وقد اختلف المفسرون في التوفيق بين الآيتين ، وأحسن ما ذكر هو انّ للناس يوم القيامة « 50 » موقفاً يلبث الإنسان المحاسب في كلّ واحد ألف سنة ، فيكون مجموع لبثه فيها خمسين ألف سنة.
روى المفيد في أماليه ، قال : قال أبو عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام : « ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، فانّ في القيامة خمسين موقفاً كلّ موقف مثل ألف سنة ممّا تعدون » ثمّ تلا هذه الآية ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ )
وهنا سؤال يطرح نفسه وهو : هل تعم تلك المدة جميع المحشورين ، أو انّها تختلف ؟
يظهر من بعض الروايات انّها تخفف عن المؤمن.
روى أبو سعيد الخدري قال : قيل : يا رسول الله ما أطول هذا اليوم ؟ فقال : « والذي نفس محمد بيده انّه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا ». (1)
وعلىٰ ضوء هذا فليوم القيامة خمسون موقفاً يقف عندها الإنسان للسؤال والحساب فمن ثقلت موازينه فهو يجتازها بسرعة ، وأمّا من خفت موازينه فيلبث فيها مدة طويلة تدوم إلى خمسين ألف سنة ، وقد مرَّ على أنّ المؤمن الفقير يحاسب بأسرع مما يحاسب به المؤمن الثري وهكذا ، وسيوافيك في فصل الصراط ما يدل على أنّ الصراط أحدّ من السيف وأدق من الشعرة إنّما هو بالنسبة إلى غير المؤمن ، وأمّا بالنسبة إلى المؤمن فهو عريض وغير حاد.
إلى هنا تبيّن طول يوم القيامة وقصرها إلى الكافر والمؤمن ، وإليك البحث في مواقفها.
مواقف يوم القيامة
دلّت الروايات الماضية علىٰ أنّ ليوم القيامة مواقف تقف فيها العصاة ويعبّر عنها بالقنطرة تارة ، والعقبة أُخرى ، والمواقف ثالثة.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لابنه الحسن عليه السلام : « واعلم انّ أمامك عقبة كؤوداً ، المخف فيها أحسن حالاً من المثقل ، والمبطئ عليها أقبح حالاً من المسرع ، وانّ مهبطك بها لا محالة إمّا على جنة أو على نار ». (2)
نعم اختلف العلماء في حقيقة تلك المواقف والعقبات ففسّرها الصدوق بظواهر ما ورد في الروايات وانّ لكلّ عقبة اسماً من الفرائض يقول : اعتقادنا في العقبات التي على طريق المحشر انّ كلّ عقبة منها اسمها اسم فرض وأمر ونهي ، فمتى انتهى الإنسان إلىٰ عقبة اسمها فرض وكان قد قصر في ذلك الفرض حبس عندها وطولب بحقّ الله فيها ، فإن خرج منها بعمل صالح قدّمه أو برحمة تداركه نجا منها إلى عقبة أُخرى ، فلا يزال يدفع من عقبة إلى عقبة ، ويحبس عند كلّ عقبة فيسأل عمّا قصر فيه من معنى اسمها ، فإن سلم من جميعها انتهى إلى دار البقاء فيحيا حياة لا موت فيها أبداً ، وسعد سعادة لا شقاوة معها أبداً ، وسكن في جوار الله مع أنبيائه وحججه والصدّيقين والشهداء والصالحين من عباده ، وان حبس على عقبة فطولب بحقّ قصر فيه فلم ينجه عمل صالح قدّمه ولا أدركته من الله عزّوجلّ رحمة زلت به قدمه عن العقبة فهوى في جهنم ـ نعوذ بالله منها ـ وهذه العقبات كلّها على الصراط ، اسم عقبة منها الولاية ، يوقف جميع الخلائق عندها فيسألون عن ولاية أمير المؤمنين والأئمة من بعده عليهم السلام فمن أتى بها نجا وجاز ، ومن لم يأت بها بقي فهوى ، وذلك قول الله عزّوجلّ : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ) وأهمّ عقبة منها المرصاد وهو قول الله عزّوجلّ : ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصَادِ ) ويقول عزّ وجلّ : وعزتي وجلالي لا يجوزني ظلم ظالم. واسم عقبة منها الرحم ، واسم عقبة منها الأمانة ، واسم عقبة منها الصلاة ، وباسم كلّ فرض أو أمر أو نهي عقبة يحبس عندها العبد فيسأل. (3)
وقد اكتفى الصدوق بظواهر الروايات ، فزعم انّ هناك عقبة واقعية لكلّ اسم من أسماء الفرائض وغيرها وانّ أهمّ العقبات عقبة المرصاد ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : « وإن أمهل الله الظالم فلن يفوت أخذه وهو له بالمرصاد علىٰ مجاز طريقه ». (4)
ويدل على ما ذكره الصدوق لفيف من الروايات :
1. ما رواه الصدوق في ثواب الأعمال ، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزّوجلّ : ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصَادِ ) قال : « قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة ». (5)
2. روى ابن عباس في تفسير قوله : ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصَادِ ) ، قال : « انّ علىٰ جسر جهنم سبع محابس يسأل العبد عند أوّلها عن شهادة أن لا إله إلاّ الله ، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثاني ، فيسأل عن الصلاة ، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثالث ، فيسأل عن الزكاة ، فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع ، فيسأل عن الصوم ، فإن جاء به تاماً جاز إلى الخامس ، فيسأل عن الحج ، فإن جاء به تاماً جاز إلى السادس ، فيسأل عن العمرة ، فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع ، فيسأل عن المظالم ، فإن خرج منها وإلاّ يقال : انظروا ، فإن كان له تطوّع أكمل به أعماله فإذا فرغ انطلق به إلى الجنّة ». (6)
وحصيلة هذه الروايات انّ هناك مواقف وقناطر على الصراط سمّي كلّ واحد بواحد من أسماء الفرائض يوقف فيها الإنسان ويُسأل عنها.هذا تفسيرٌ وللشيخ المفيد تفسير أفضل من تفسير الصدوق ، وحاصل ما أفاده هو : انّ المراد من العقبات هي الفرائض ، فيسأل الإنسان عنها ، دون أن يكون في البين جبال وعقبات يعبرها الإنسان حتى يصل إلى الجنة أو النار ، وإنّما سمّيت الفرائض بالعقبات لأنّ إطاعتها لا تخلو عن صعوبة ومشقة ، يقول الشيخ المفيد :
العقبات عبارة عن الأعمال الواجبة والمساءلة عنها والمواقفة عليها ، وليس المراد به جبال في الأرض تقطع ، وإنّما هي الأعمال شبّهت بالعقبات ، وجعل الوصف لها يلحق الإنسان في تخلصه من تقصيره في طاعة الله تعالى ، كالعقبة التي تجهده صعودها وقطعها قال الله تعالى : ( فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ ) فسمّى سبحانه الأعمال التي كلّفها العبد عقبات تشبيهاً بالعقبات والجبال ، لما يلحق الإنسان في أدائها من المشاق ، كما يلحقه في صعود العقبات وقطعها ، وقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : « إنّ أمامكم عقبة كؤوداً ، ومنازل مهولة لابدّ من الممرّ بها ، والوقوف عليها ، فإمّا برحمة الله نجوتم ، وإمّا بهلكه ليس بعدها انجبار ». أراد عليه السلام بالعقبة تخلّص الإنسان من العقبات التي عليها ، وليس كما ظنه الحشوية من أنّ في الآخرة جبالاً وعقبات يحتاج الإنسان إلى قطعها ماشياً وراكباً ، وذلك لا معنى له فيما توجبه الحكمة من الجزاء ، ولا وجه لخلق عقبات تسمّى بالصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها من الفرائض يلزم الإنسان أن يصعدها ، فإن كان مقصراً في طاعة الله ، حال ذلك بينه وبين صعودها ، إذ كان الغرض في القيامة المواقفة على الأعمال والجزاء عليها بالثواب والعقاب ، وذلك غير مفتقر إلى تسمية عقبات ، وخلق جبال وتكليف قطع ذلك وتصعيبه أو تسهيله ، مع أنّه لم يرد خبر صحيح بذلك على التفصيل فيعتمد عليه وتخرج له الوجوه ، وإذا لم يثبت بذلك خبر كان الأمر فيه ما ذكرناه. (7)
ويدل على صحة ما ذكره المفيد هو انّه سبحانه أسمى بعض الفرائض بالعقبات ، فقد سمّى فك الرقبة أو الإطعام في يوم المسغبة عقبة ، فقال سبحانه : ( فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ).
فقد شبّه القيام بالفرائض بمن يقطع العقبات في الصعوبة والمشقة من دون أن تكون هناك جبال ومنعرجات ، فمن استقبل الفرائض برحابة صدر فقد قطع العقبات بسرعة وأمّا من لم يستقبلها أبداً أو استقبل بعضها دون بعض فهو مثل من يقطع العقبات بشق الأنفس.
والذي يدل على ما ذكرنا قوله سبحانه بعد تلك الآية : ( ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالمَرْحَمَةِ * أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ المَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ ).
وحصيلة المعنى بعد جمع الآيات الواردة في سورة البلد هو انّ شقاء الإنسان وسعادته في الآخرة رهن عبور تلك العقبات وماهي إلاّ فك الرقبة أو إطعام الأيتام والفقراء والمساكين والأمر بالصبر والرحمة إلىٰ غير ذلك من الفرائض ، فينتهي أمره إلىٰ أن يكون من أصحاب الميمنة كما انّ عكسه ينتهي إلى أن يكون من أصحاب المشئمة دون أن تكون هناك عقبات ومنعرجات صعبة العبور يؤمر أهل المحشر بطيّها وعبورها.
والذي يدلّك علىٰ صحّة ما ذكره الشيخ المفيد أنّ طي العقبات الدنيوية رهن الكفاءات الذاتية ، دون العقبات الأُخروية فانّها رهن الإيمان والعمل الصالح ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدل على أنّ العقبات كناية عن العمل بالفرائض التي يتوقف العمل بها على الصبر والإيمان الراسخ بالله والصبر على طاعته.
ميزان الأعمال
دلّت الآيات والروايات علىٰ وجود الميزان يوم القيامة الذي تُوزن به الأعمال ، إنّما الكلام في واقع هذا الميزان ، والآيات الواردة في هذا الصدد علىٰ صنفين ، فصنف يذكر أصل وجود الميزان ، وصنف آخر يتعرض لنتائجه ، وإليك بعض ما يدل على الصنف الأوّل :
1. ( وَنَضَعُ المَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ ).
الموازين جمع الميزان ، والآية صريحة في أنّ نصبه يوم القيامة مظهر عدله وقسطه.
2. ( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ).
فقوله : ( فَلا نُقِيمُ ) بمعنى ان لا نقيم لهم ميزاناً توزن به أعمالهم ، وذلك لأنّهم حبطت أعمالهم فلم يبق في صحيفة أعمالهم شيء حسن حتى يوزن به ، وهذه الآيات ناظرة إلىٰ أصل وجود الميزان.
وإليك ما يدل على الصنف الثاني :
1. ( فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ).
2. ( فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ).
3. ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ).
قد فسر الميزان بتفاسير مختلفة نذكر منها ما يلي :
1. الميزان يوم القيامة كموازين الدنيا
ذهب بعض المتكلّمين من المعتزلة وقاطبة أهل الحديث إلىٰ أنّه ينصب يوم القيامة ميزان كموازين الدنيا وتوضع الأعمال الصالحة في كفة والطالحة في كفة أُخرى ، فيوزن ، فلو رجحت كفة الأعمال الصالحة على الطالحة فهو سعيد ، وإلاّ فهو شقي.
قال العلاّمة في كشف المراد :
قال شيوخ المعتزلة : إنّه يوضع ميزان حقيقي له كفتان يوزن به ما يتبيّن من حال المكلّفين في ذلك الوقت لأهل الموقف ، إمّا بأن يوضع كتاب الطاعات في كفة الخير ويوضع كتاب المعاصي في كفة الشر ويجعل رجحان أحدهما دليلاً على
إحدى الحالتين ، أو بنحو من ذلك ، لورود الميزان سمعاً ، والأصل في الكلام الحقيقة مع إمكانها. (8)
وقد اعترض على هذا الوجه جماعة من المتكلّمين ، بقولهم : إنّ الأعمال من مقولة الأعراض وهي تفقد الثقل فكيف توزن ؟
وقد حكىٰ عنهم صاحب المقاصد هذا الاعتراض بقوله : إنّ للميزان كفتين ولسان وساقين عملاً بالحقيقة لإمكانها ، وأنكره بعض المعتزلة ذهاباً إلى أنّ الأعمال أعراض لا يمكن وزنها فكيف إذا زالت وتلاشت ، وأجاب عنه الآخرون بأنّ المراد توزين صحائف الأعمال أو جعل الحسنات أجساماً نورانية والسيّئات أجساماً ظلمانية.
والأولى أن يقال : إنّ هذا النوع من التفسير أخذ بحرفية النص دون التدبّر في مغزاه ، فانّ للكلام ظهورين :
أ. ظهور تصوّري بدوي.
ب. ظهور تصديقي.
والمراد من الأوّل هو ما يفهمه الإنسان عند سماع اللفظ دون تدبّر في القرائن الحافة به.
والمراد من الثاني هو ما يذعن به الإنسان بعد الإحاطة بالقرائن الحافة بالكلام. فربما يكون المتبادر عندئذ من الكلام غير ما هو المتبادر من الظهور الابتدائي ، وهذا ما نوضحه بمثال :
قد اشتهرت الكناية عن السخاء والجود بقولهم فلان باسط اليد ، ولا يغلق بابه ، فالظهور البدوي منه عبارة عمّا يتبادر من ظاهر اللفظ وهو كون يده المحسوسة مبسوطة لا تجمع ، وانّ بابه لا يغلق ، ولكنّه ليس بمراد قطعاً ، وإنّما المراد هو الظهور التصديقي ، وهو التأمّل في مفهوم هذه الجمل والانتقال إلى ما صيغ لأجله الكلام ، وهو أنّه سخي ، وبابه مفتوح لكلّ من يحلّ ضيفاً عليه وآفة أهل الحديث انّهم يفسرون الآيات الراجعة إلى المعارف بحرفيتها ولا يتأملون في القرآئن الحافة بالكلام حتى يقفوا على ما أُريد من الآيات.
2. الميزان هو العدل الإلهي
يقول صاحب المقاصد : المراد به العدل الثابت في كلّ شيء ، ولذا ذكره بلفظ الجمع. (9)
وحاصل هذه النظرية : انّه سبحانه يتعامل مع عباده بالعدل والقسط ويقضي به ، وهذا هو المراد من نصب الموازين.
أقول : إنّ النظرية الأُولىٰ نظرية بعيدة عن الصواب ، وأمّا الثانية فهي تتعرض إلى نتيجة الميزان من دون أن تشير إلىٰ واقعه ، وانّه بعدما تم التوزين يتعامل سبحانه في قضائه بالعدل والقسط ، فلابدّ قبل القضاء والتعامل من أداة تبيّن حال العباد من حيث الطاعة والعصيان ، حتى تصل النوبة إلى قضائه سبحانه ، فما هي تلك الأداة التي تكون معياراً لكثرة الطاعات أو قلتها ؟ وهذا ما سنتناول
البحث فيه ضمن أُمور :
أ. الميزان واستعمالاته في القرآن إنّ للميزان معناً واحداً وله تطبيقات مختلفة :
ـ الميزان الذي يوزن به المتاع ، قال سبحانه : ( وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا المِكْيَالَ وَالمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ).
ـ الميزان : هو الانسجام والنظم السائدة في عالم الخلق ، قال سبحانه :
( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ ).
فقوله : ( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا ) قرينة علىٰ أنّ المراد من الميزان هو منح النظم التي بها قامت السماوات والأرض فمنظومتنا الشمسية قائمة على أساس التعادل والموازنة بين الجاذبية المركزية للشمس ، والقوى الطاردة لسائر السيارات ، ولولا هذا التعادل الذي عبر عنه القرآن الكريم بالميزان لما قامت لمنظومتنا الشمسية دعامة.
ـ الميزان : هو القوانين العادلة التي تقنّن في سبيل خدمة الإنسان والمجتمع ، قال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) فالمراد من الميزان بقرينة قوله : ( أَنزَلْنَا ) هو التشريع السماوي الذي أنزله سبحانه بإنزال كتابه ، كما يحتمل أن يكون المراد من الميزان هو قضاء العقل الحصيف ، ولا غرو في أنّ الميزان بهذا المعنى منزلٌ كإنزال الحديد ، قال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ).
هذه هي تطبيقات لمفهوم الميزان في القرآن.
ب. لكلّ شيء ميزان يوزن به الألفاظ الواردة في القرآن الكريم التي تصف مشاهد القيامة لها حقائق غيبية غير معلومة لنا ، ومن هذه الألفاظ لفظ « الميزان » الذي نحتمل أن يكون له واقعية غير ما نشاهد من الموازين العرفية ، ويتضح ذلك من خلال البيان التالي :
كان الميزان يطلق قبل فترة طويلة على ما يوزن به المتاع بشيء له كفتان ولسان وساقان ، وظلّ البشر يستعمل الميزان في ذلك المصداق ولكن الثورة الصناعية التي اجتاحت الغرب كشفت عن موازين لم تكن موجودة من ذي قبل ، فأخذ يوزن استهلاك الماء والكهرباء والغاز والهاتف وغيرها ، بل أحدث ميزاناً يوزن به حرارة الهواء وضغط الجو والدم الذي يجري في عروق الإنسان وقلبه ، كما أنّه نجح نجاحاً باهراً في صناعة الكامبيوتر فأحدث تحولاً جذرياً في حياته ، حتى عرف هذا العصر بعصر الكامبيوتر ، فأصبح كمعيار لتصحيح الأغلاط التي يقع الإنسان فيها.
كلّ ذلك يعرب عن أنّ لكلّ شيء ميزاناً خاصاً يناسب وجود الشيء وليس الميزان منحصراً بماله كفتان ولسان وساقان ، وعندئذ يصحّ أن نقول : إنّ الميزان المنصوب يوم القيامة شيء أعظم ممّا وصل إليه الفكر البشري.وخلاصة القول فيه : إنّه شيء يعلم به صالح الأعمال عن طالحها ، قلّتها عن كثرتها ، والعقائد الصحيحة والباطلة ، وإن لم يعلم لنا ما هي خصوصيات ذلك الميزان.
إذا علمت ذلك فلنرجع إلى تفسير قوله سبحانه : ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ).
وقد اختلفت كلمة المفسرين في تفسير الآية ، نذكر منها ثلاثة احتمالات :
الأوّل : أنّ الوزن مصدر بمعنى التوزين ، وهو مبتدأ خبره الحق ، والمراد أنّ توزين الأعمال ومحاسبتها أمر حقّ لا سترة فيه.
الثاني : أنّ الوزن بمعنى الميزان أي ما يوزن به ، ويكون المراد أنّ ما يوزن به هو الحقّ ، فالحقّ هو الذي يعرف به حقائق الأعمال عند قياسها إليه. فكلّ عمل تمتع بقسط وافر من الحقّ ثقل الميزان عندئذٍ في مقابل عمل لا يتمتع بقسط من الحقّ أو يتمتع بشيء قليل فيخفف ميزانه. فيصبح الحقّ مثل الثقل في الموازين العرفية غير انّ الثقل فيها يوضع في كفة والمتاع في كفة أُخرى.
وأمّا الحقّ فلا يكون شيئاً منفكَّاً عن العمل ، بل بمقدار ما يتمتع به ترجح كفته.
الثالث : انّ الحقّ بمنزلة الثقل في الموازين العرفية ، ويكون له تجسّم واقعيٌّ يوم القيامة ، فبمطابقته وعدمها يعرف صلاح الأعمال عن غيرها.
والفرق بين الثاني والثالث واضح ، فإنّ الحقّ على المعنى الثاني يكون داخلاً في جوهر الأعمال فبمقدار ما يوصف به العمل من الحقّ ، وأمّا الاحتمال الثالث فالحقّ بالذات هو الموجود المجسَّم يوم القيامة ، ولا يعلم صلاح الأعمال عن ضدها ، إلاّ بعرضها على الحقّ المجسَّم فبمقدار ما يشبهه ويناسبه يكون موصوفاً بالحقّ ، دون مالم يكن كذلك فيوصف بالباطل.
وهذا المعنى الثالث هو المستفاد من بعض الروايات ، قال الإمام الصادق عليه السلام في تفسير قوله : ( وَنَضَعُ المَوَازِينَ الْقِسْطَ ) هم الأنبياء والأوصياء ، ولعلّ أعمال كلّ أُمّة تعرض على أنبيائهم فبالمطابقة مع أعمالهم ومخالفتها معهم يعلم كونه سعيداً أو شقياً ، ويؤيد ذلك ما نقرأه في زيارة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حيث ورد فيه ، « السلام علىٰ يعسوب الإيمان وميزان الأعمال ».
وكأنّ الإمام أمير المؤمنين حقّ مجسّم فمن شابهه فهو ممن ثقلت موازينه ، ومن لم يشابهه فهو ممن خفت موازينه.
وإن شئت قلت : إنّ الإنسان المثالي أُسوة في الدنيا والآخرة يميّز به الحقّ عن الباطل ، بل الطيب عن الخبيث ، وهذا أمر جار في الدنيا والآخرة.
وبذلك تقف على إتقان ما روي عن الإمام زين العابدين ، وقد قال فيما كان يعظ به الناس : « ثمّ رجع القول من الله في الكتاب على أهل المعاصي والذنوب ، فقال عزّ وجلّ : ( وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) ، فإن قلتم أيّها الناس ، إنّ الله عزّوجلّ إنّما عني بهذا أهل الشرك فكيف ذلك ، وهو يقول : ( وَنَضَعُ المَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ ) واعلموا عباد الله أنّ أهل الشرك لا تنصب لهم الموازين ولا تنشر لهم الدواوين وإنّما يحشرون إلى جهنم زمراً ، وإنّما نصب الموازين ونشر الدواوين لأهل الإسلام ».
ويؤيد ذلك أيضاً ما نقل عن الإمام السجاد عليه السلام انّه قال : « ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق ». (10) وبما انّ حسن الخلق من أبرز صفات الأنبياء فمن تمتع به فهو أشبه بالأنبياء من غيرهم فيكون عمله عملاً قيماً له أثره الخاص.وللمحقّق الكاشاني كلام في تفسير الملكين المعروفين بمنكر ونكير يناسب ذكره في المقام لصلته بما ذكرنا ، يقول : ويخطر بالبال انّ المنكر عبارة عن جملة الأعمال المنكرة التي فعلها الإنسان في الدنيا فتمثلتا في الآخرة بصورة مناسبة لها مأخوذ مما هو وصف الأفعال في الشرع ، أعني : المذكور في مقابلة المعروف.
والنكير هو الإنكار لغة ولا يبعد أن يكون الإنسان إذا رأى فعله المنكر في تلك الحال أنكره ووبخ نفسه عليه فتمثل تلك الهيئة الإنكارية أو مبدؤها من النفس بمثال مناسب لتلك النشأة فانّ قوى النفس ومبادئ آثارها كالحواس ومبادئ اللجم تسمّى في الشرع بالملائكة.
ثمّ إنّ هذا الإنكار من النفس لذلك المنكر يحملها على أن تلتفت إلى اعتقاداتها وتفتش عنها ، أهي صحيحة حسنة حقة أم فاسدة خبيثة باطلة ؟ ليظهر نجاتها وهلاكها ويطمئن قلبها.
وذلك لأنّ قبول الأعمال موقوف على صحّة الاعتقاد بل المدار في النجاة علىٰ ذلك كما هو مقرر ضروري من الدين ، وإليه أُشير بقوله صلی الله عليه وآله وسلم : « حب علي حسنة لا تضر معها سيئة ، وبغض علي سيئة لا تنفع معها حسنة ». (11)
ويقول الحكيم عبد الرزاق اللاهيجي ما هذا تعريبه : إنّ المفاهيم الكلية ذات مصاديق مختلفة عبر الزمان ، فهذا لفظ القلم كان يطلق على القلم المنحوت من القصب ، ولكن تلك الخصوصية لم تؤخذ في ماهيته ولذلك يطلق على ما إذا كان من حديد وغيره.
ونظيره الميزان فانّ منه ما يوزن به المتاع ومنه ما يوزن به الوقت ومنه ما يوزن به الأشكال الهندسية كالفرجال والمسطرة والقوس ، ومنه ما يوزن به الأشعار كعلم العروض ومنه ما يوزن به خطأ الإدراكات وصحتها كالمنطق ، وعلى هذا فلا مانع من أن يكون نفس الأنبياء موازين الأعمال ، فكل عمل يشبه أعمالهم فهو حقّ وكلّ عمل يخالف أعمالهم فهو باطل.
فكلّ عمل عند المقايسة إلىٰ أعمالهم يعلم كونه صالحاً أو طالحاً ، صحيحاً أم فاسداً. ويؤيده الحديث التالي :
عن هشام بن سالم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزّوجلّ : ( وَنَضَعُ المَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ) قال : « هم الأنبياء والأوصياء ». (12)
المصادر :
1- بحار الأنوار : 7 / 126 ، الباب 6 الحديث 3. /مجمع البيان : 5 / 353 ، تفسير سورة المعارج.
2- نهج البلاغة ، قسم الرسائل رقم 31.
3- بحار الأنوار : 7 / 128 ، الحديث 11.
4- نهج البلاغة : الخطبة 71.
5- بحار الأنوار : 8 / 66 ، الباب 22 من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 6.
6- مجمع البيان : 9 ـ 10 / 739 ، تفسير سورة الفجر.
7- بحار الأنوار : 7 / 129.
8- كشف المراد : 297 ، ط مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام.
9- شرح المقاصد : 2 / 223 ، ط آستانة.
10- بحار الأنوار : 7 / 250 ، الباب العاشر من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 8. الحديث 7.
11- الحقائق في محاسن الأخلاق : 446.
12- بحار الأنوار : 7 / 249 ، باب الميزان ، الحديث 6.