
بعث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) - كما بعث غيره من الرسل لغاية محددة وهي إنقاذ مجتمع مشرف على الهلاك، أو نقله من حالة الفساد إلى حالة الصلاح، ولو كان المجتمع معافى أو صالحا، لما كان هنالك حاجة لرسول، ولا لعملية إنقاذ وإصلاح إلهي. بمعنى أن العناية الإلهية تدخلت بعد فشل وسائل الإنقاذ والإصلاح البشري، فكانت النبوة والرسالة بمثابة مشروع إنقاذ إلهي لإنقاذ هذا المجتمع أو ذاك، أو حملة طبية إلهية لمقاومة وباء يهدد التجمع البشري المريض.
جرثومة هذا المرض يمكن أن نسميها بالترتيبات الوضعية، هذه الترتيبات التي فرضت سلطانها على حياة هذا المجتمع أو ذاك حتى أوردته إلى تلك الحالة المرضية العامة، لأنها غير مناسبة له، وغير مؤهلة لترشيد حركة هذا المجتمع وقيادته.
فإذا أمكن القضاء على هذه الترتيبات نكون قد خلصنا المجتمع المريض من مرضه ، وأصلحنا آثار فساد هذا المرض، والمجتمع بطبعه متحرك على الدوام، والحركة لا بد لها من ترتيبات معينة لتبقيها دائما ضمن إطار مصلحة هذا المجتمع، والترتيبات بالضرورة تنبع من مصدرين:
فإما أن تكون ترتيبات وضعية من صنع الهوى البشري، فتقود المجتمع عاجلا أو آجلا إلى الدمار والهلاك. أو أن تكون هذه الترتيبات إلهية من صنع الله تعالى الذي خلق المجتمع، وخلق أفراده، ولوازم بقاءه، فإذا أخذ المجتمع بهذه الترتيبات نجا بحجم التزامه بها، وإن تركها ووضع لنفسه ترتيبات بديلة، فقد سار على طريق الهلاك والمرض، وهو هالك لا محالة بمدة تتناسب بمقدار بعد ترتيباته الوضعية، أو قربها من الترتيبات الإلهية.
عبر دعوة قادها النبي بنفسه، تمخضت عن دولة ترأسها النبي بنفسه، أثبت بالدليل القاطع فساد الترتيبات الوضعية التي كانت تحكم حركة المجتمعات البشرية قبل بعثته المباركة، ووضع بين يدي الجنس البشري خلاصة تلك الترتيبات، وأبرز النتائج المدمرة لتلك الترتيبات طوال التاريخ البشري، ثم سلط الأضواء على الترتيبات الإلهية، من خلال الدعوة، ومن خلال الدولة، وأثبت بالكلمة والحركة وبالتصوير الفني البطئ أن الترتيبات الإلهية وحدها هي المؤهلة، وهي المناسبة لترشيد حركة المجتمع البشري.
وقد جذر هذه الترتيبات ووضحها وفصلها وبينها، ثم أجملها كيلا تضيع، ولخصها بثلاثة أمور يمكن لأي شخص من العامة أن يحفظها، وأن يستوعبها إن كان حقا يريد الشفاء، ويريد السعادة وهي:
1 - أهل بيت النبوة أو أئمة أهل بيت النبوة كقيادة سياسية، ومرجعية للذين آمنوا طوال عمر الحياة الدنيا.
2 - القرآن الكريم وبيان النبي لهذا القرآن، ولا يعلم أسرار هذا القرآن، وبيانه علم الجزم واليقين إلا الإمام المعين من الله تعالى، لأن عملية البيان اليقيني اختصاص كعلم الطب، وهي أكثر خصوصية منه، فكل إنسان يستطيع أن يفهم القرآن بحجم علمه، لكن هذا الفهم ليس هو عين المقصود الإلهي من النص، وليس هو الفهم القائم على الجزم واليقين، لأن الفهم القائم على الجزم واليقين لا يعلمه إلا الله والإمام المعصوم عميد أهل البيت، تماما كالحقيقة القانونية الوضعية لا يعلمها علم اليقين إلا غرفة محكمة التمييز، فقرار محكمة التمييز هو عين الحقيقة القانونية، ولا قرار يعلو على قرارها.
3 - فئة أو مجتمع مؤمن بكل هذه الترتيبات الإلهية، يتعاون مع القيادة السياسية والمرجعية لتطبيق نصوص القانون الإلهي المتكون بالضرورة من القرآن، ومن بيان النبي لهذا القرآن، ومن فهم الإمام لهذا القرآن وهذا البيان.
نجاح المشروع الإلهي
نجح النبي الأعظم نجاحا ساحقا في نقض الترتيبات الوضعية التي كانت ترشد حركة المجتمع قبل بعثته، ونجح في إثبات فسادها، كما نجح في إثبات فاعلية وقدرة الترتيبات الإلهية على مستوى الدعوة والدولة معا، وانتهت مهمته كبشر، وكنبي، وكرسول، فقد أكمل الله الدين، وأتم النعمة، وبين كل شئ على الإطلاق، إجمالا، وتفصيلا ثم إجمالا، فمن الطبيعي جدا، أن يختار ما عند الله، فإن التزم الذين آمنوا بالترتيبات الإلهية فسيقطفون الثمرة: سعادة الدارين، وإن حادوا عن إعمال الترتيبات الإلهية، فليس بإمكان الطبيب أن يجبر مريضه الذي تعافى على يديه أن يتناول العلاج ليتعافى من مرضه! فما على الطبيب إلا أن يشخص المرض، ويصف العلاج.فقد شخص النبي علة المجتمعات الجاهلية، وأكد أن العلة تكمن في الترتيبات الوضعية، ووصف العلاج وهو إلغاء الترتيبات الوضعية وإحلال الترتيبات الإلهية محلها.
ثم لخص الترتيبات الإلهية بكلمتين: كتاب الله كقانون نافذ، وعترته كقيادة سياسية، ومرجعية معا، فإذا تخلف أحد هذين الركنين انهارت تماما الترتيبات الإلهية، ودخلت الأمة المسلمة في ليل مظلم طويل. وبعد أن أحيطت الأمة علما بذلك، أسلم روحه الطاهرة لله، وترك الدنيا.
من المعروف أن أهل البيت الكرام هم من بني هاشم، والرسول محمد من بني هاشم أيضا، فمعنى ذلك أن القيادة السياسية والمرجعية ستبقى لمحمد ولآل محمد، وقد أثارت هذه الترتيبات حفيظة البعض واعتبروها إجحافا بحق بقية بطون قريش، واعتقدوا أن من العدل والحكمة أن تعدل هذه الترتيبات الإلهية تعديلا جذريا، فطالما أن النبوة كانت في بني هاشم، فما الداعي لإعطاء الهاشميين القيادة والمرجعية من بعد النبي؟ وما الداعي لحصر النبوة والخلافة والفخر والشرف والرئاسة، في محمد وفي آل محمد، وحرمان بقية بطون قريش من هذا كله؟
تستطيع قريش أن تستوعب نبوة محمد، وقيادته مع أنه من بني هاشم! أما قيادة آل محمد من بعده، والقول بأنها ترتيب إلهي، فهذا أمر لا تقبله رجالات قريش، ولا يمكن أن تصدق بأنه ترتيب إلهي، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، لأن هذا على حد تعبير عمر بن الخطاب إجحاف، والله يكره الإجحاف.
الحل الذي ارتضته رجالات قريش
بزعامة عمر بن الخطاب وأبي بكر رضي الله عنهما، اقتنعت قريش بأن الحل الأمثل والترتيب الأصوب هو أن تكون النبوة في بني هاشم، وقد كانت، وأن تكون الخلافة في بطون قريش تتداولها من بعد وفاة النبي، ولا حرج من أن تؤول الخلافة لأي مسلم شريطة أن لا يكون من بني هاشم لأن النبوة وحدها كفتهم، ولم يشركوا معهم فيها أحدا! فلذلك لا ينبغي إطلاقا أن يشرك الهاشميون في الخلافة أبدا.
وقد وثقت هذا الأمر الخطير في كتابي نظرية عدالة الصحابة والمرجعية السياسية في الإسلام - باب المرجعية.
وليس معنى ذلك أن رجالات قريش تشك بنبوة النبي، فهو نبي، أولا تتيقن بأن القرآن من عند الله، فالقرآن من عند الله، لكنها تعتقد أن ترتيب القيادة السياسية من بعد النبي هو من عند محمد كبشر، وبما أنه غير معصوم، وبما أن هذا الترتيب مجحف بحق بطون قريش، وبما أن العناية الإلهية ساقت رجالات قريش لحماية الإسلام والمسلمين، فإنهم أجروا تعديلات على ترتيبات النبي لتكون متفقة مع الحق والعدل ومصلحة البطون ومصلحة المسلمين.
ويعني إجراء تعديلات على ترتيبات النبي بالضرورة: إيجاد ترتيبات بديلة.
هذه الترتيبات الوضعية تحولت إلى قناعات ترسخت بفعل العادة، والغلبة، والتكرار، وأصبحت لها قوة القناعات الدينية، ولكن من نوع خاص.
وساعد على ذلك أن حزب أهل السنة هو الذي حكم طوال التاريخ السياسي الإسلامي، ففرض هذه القناعات في بادئ الأمر، ثم أخذ الناس يكررونها وينسجون على منوالها، ثم أصبحت عادة، ثم أصبحت دينا حقيقيا آمن به العامة، ونبذوا كلما يتعارض معه، وصبوا جام
غضبهم وسخطهم وحقدهم على من يعارض هذه العادات، وتأولوا الدين بكافة أحكامه ليتفق مع هذه العادات التي تحولت إلى قناعات، وأعملوا خيالاتهم وأوهامهم حتى اختلط بالحق الباطل، وبالحقيقة الوهم، فظهرا معا، وتعذر ظهور الحق والحقيقة على غير هذه الشاكلة، وكان ذلك ثمرة تطور استمر 1200 عام حتى وصل إلى صورته الراهنة.
وإيضاحا للحق والحقيقة سنتناول هذه العادات التي تحولت إلى قناعات واحدا بعد الآخر، ونترك الحكم على هذه القناعات ومحاولات نقضها للذين يحترمون العقل البشري، لأن من يدقق النظر، ويترك التقليد الأعمى سيكتشف أن هذه العادات التي تحولت إلى قناعات هي وحدها التي فرقت كلمة المسلمين، وعطلت الدور التاريخي لدينهم، وحرمت البشرية من الانتفاع بهذا الدين الحنيف، أو إن شئت فقل: إنها هي التي جذرت الخلاف والاختلاف، وجعلتهما لازمتين من لوازم وجود هذه الأمة.
ويحمي هذا القناعات حزب ورث اسمه وقناعات بالوارثة، وسجن نفسه ضمن هذه القناعات، وهو غير متعجل على تبديلها أو تحويلها أو تعديلها، بالرغم من مرور 1400 عام على وجودها، ونقصد بهذا الحزب حزبنا نحن أهل السنة.
تحول الترتيبات الوضعية إلى قناعات
1 - محاولة جعل هذه الترتيبات من صميم الدين تم إيجاد مجموعة من الترتيبات الوضعية، وبفضل العادة، والتكرار، وبالضغوط التي مارستها سلطة دولة الخلافة التاريخية، تحولت هذه الترتيبات الوضعية إلى قناعات سياسية رشدت حركة المجتمع الإسلامي رسميا طوال فترة التاريخ السياسي الإسلامي، من بعد وفاة النبي حتى سقوط آخر سلاطين بني عثمان، وما زالت الأكثرية الساحقة من المسلمين تنظر إلى هذه القناعات وكأنها من صميم الدين، مع أنها في حقيقتها وجوهرها مجرد ترتيبات وضعية، كان القصد من إيجادها إضفاء الشرعية على مشروع تعديل الترتيبات الإلهية. وسنتناول هذه القناعات واحدة بعد الأخرى.
حسبنا كتاب الله
بمعنى أن القرآن الكريم وحده يكفي، ولا حاجة لأي شئ آخر من أي كان، حتى ولو كان النبي نفسه، فالقرآن الكريم يغني عن أي شئ!وأول مسلم على الإطلاق رفع شعار (حسبنا كتاب الله) هو عمر بن الخطاب، فهو الذي أوجد هذا الترتيب الوضعي ورعاه، وحوله إلى قناعة سياسية، تركت طابعها على الحياة السياسية من بعد وفاة النبي، وما زالت للآن.
ويبدو أن أبا بكر كان يؤمن بهذا الترتيب تماما، ويدلنا على ذلك ما رواه الذهبي في تذكرة الحفاظ ترجمة أبي بكر مجلد 1 صفحة 2 - 3 أن أبا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال:... فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا:
بيننا وبينكم كتاب الله!!
وما يؤكد ذلك أن أبا بكر كان في الحجرة المباركة عندما رفع هذا الشعار، وكان مع فريق عمر الذي حال بين النبي وبين كتابة ما أراد تحت شعار (حسبنا كتاب الله).
بمواجهة من طرح شعار: حسبنا كتاب الله
أعلن عمر بن الخطاب عن ولادة هذا الترتيب أمام النبي نفسه، وتفصيل ذلك:
أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد أن يلخص الموقف لأمته تلخيصا نهائيا، فقال لمن حوله - وفيهم عمر بن الخطاب -: قربوا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا.
فتصدى عمر للنبي، وقال موجها كلامه لمن حضر (حسبنا كتاب الله) أي يكفينا كتاب الله، إن النبي قد غلبه الوجع، أو اشتد به الوجع، أو هجر، أو أن النبي يهجر - حاشا له - وفجأة انقسم الحاضرون في الحجرة المباركة إلى قسمين: قسم يؤيد عمر وهم الأغلبية، وقسم يؤيد النبي وهم الأقلية، وأكثر الفريقان لغطا واختلافا، فقال لهم النبي: قوموا عني، ما أنا فيه خير مما تدعوني إليه.
وهكذا فاز فريق عمر فوزا ساحقا، وتمكنوا من أن يحولوا بين النبي وبين كتابة ما أراد! وولد لأول مرة في تاريخ الإسلام ترتيب (حسبنا كتاب الله)، وتحول هذا الترتيب إلى قناعة سياسية آمنت بها الأكثرية الساحقة من الأمة.(1)
التكليف الشرعي لهذه القناعة
قول (حسبنا كتاب الله) أي يكفينا كتاب الله عن سواه، غير معقول، وغير منطقي، فكتاب الله يحتاج إلى بيان، فهو كتاب، والكتاب يحتاج إلى مبين، ومهمة النبي أن يبين هذا الكتاب، وأن يوضح المقاصد الإلهية للعامة والخاصة، ولو كان كتاب الله وحده يحل مشكلة البشرية، لما كان هنالك داع لابتعاث الرسل والأنبياء، ولكان بإمكان الله سبحانه وتعالى أن يرسل نسخا من الكتب السماوية، بطريقة ما إلى كافة المكلفين، ولكن ما صدف على الإطلاق أن أنزل كتابا إلا على عبد، وذلك ليبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم، بيانا قائما على الجزم واليقين لا على الفرض والتخمين.
ومن هنا كان بيان النبي - أي نبي - جزء لا يتجزأ من المنظومة الحقوقية التي جاء بها هذا النبي، ويقرأ هذا البيان مع المنظومة الحقوقية الإلهية، على اعتبار أن هذا النبي أو ذاك هو الأعلم والأفهم بقواعد تلك المنظومة، وعلى اعتبار أن بيانه لتلك المنظومة هو بالضبط عين المقصود الإلهي.
فالكتاب لا يغني عن النبي، والنبي لا يغني عن الكتاب، فكلاهما متمم للآخر، فطاعة النبي هي طاعة الله، ومعصية النبي هي معصية لله تعالى، ولله المثل الأعلى، فهما وجهان لعملة واحدة، فوضع قطعة العملة رسميا بين أيدي المتداولين، والاشتراط عليهم أن لا ينظروا إلا لوجهة واحدة من العملة أمر غير منطقي وغير معقول، تماما كما ترحب بضيفك وتدعوه ليدخل نصفه في بيتك ويبقى النصف الآخر خارج البيت، هذه الدعوة لا يقبلها عقل ولا يستسيغها منطق!
فعندما تتمسك بكتاب الله وحده، وتنبذ الرسول الذي بلغك هذا الكتاب، وتدعي أن الكتاب يغنيك عن الرسول وعن بيان الرسول، فأنت تماما كواضع قطعة العملة في التداول شريطة أن لا ينظر إلا لوجه واحد منها، وأنت تماما كمن يأذن لنصف الضيف بالدخول ويحرم ذلك على نصفه الآخر، وهذا تفريق بين الله ورسوله، وتفريق بين الرسول وبين معجزته، وبين القانون وبين واضعه وبين الجهة المخولة رسميا بتفسير هذا القانون وتطبيقه.
فمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي قاد الدعوة 13 عاما وبعد أن تمخضت الدعوة عن دولة ترأس الدولة لمدة عشرة أعوام، ومن خلال الدعوة والدولة نقل الدين من الكلمة إلى الحركة، ومن النظرية إلى التطبيق.
وطالما أن الدين هو: 1 - كتاب منزل 2 - نبي مرسل، فبأي منطق نجعل الدين فقط كتابا منزلا، ونترك النبي المرسل الذي قاد الدعوة والدولة معا مدة 23 عاما؟
فلو أن أعرابيا جاء النبي وقال له: إنني أقبل كتاب الله، وألتزم بكل ما جاء في هذا الكتاب، ولكنني أكتفي به، ولا أرغب بأن آخذ منك أي شئ لأن القرآن وحده يكفيني! فمن الطبيعي أن النبي سيقول له مشفقا: يا أخا العرب يتعذر عليك أن تفهم القرآن ومقاصده الحقيقية دون بيان النبي لهذا القرآن ومقاصده.
فإذا أصر الأعرابي على ذلك، واكتفى بإيمانه المزعوم بالقرآن وحده، فإن النبي لن يقبل ذلك منه!! لأن القرآن، وبيان النبي لهذا القرآن متكاملان تماما، فالصلاة وهي عماد الدين جاءت إجمالا في القرآن، وتولى النبي بيانها وكيفيتها وصيغتها وأركانها وشروطها... وهكذا الكثير من الأحكام والقواعد.
فالقول (حسبنا كتاب الله) قول غير معقول من كل الوجوه، وهو مقدمة لإيجاد ترتيب وضعي، يهدف إلى كف يد الشرع عن التدخل في رئاسة الدولة بعد النبي واستبدال الحكم الشرعي القائم على الجزم واليقين بالحكم الظني القائم على الفرض والتخمين.
سبب هذه القناعة وتجذيرها بقوة الدولة
آلت رئاسة الدولة لأبي بكر - بالطريقة التي وضحناها في كتابنا نظرية عدالة الصحابة والمرجعية السياسية في الإسلام - باب القيادة السياسية في الإسلام - ومن أول المشاريع التي عملها أبو بكر أنه جمع الناس، كما روى الذهبي في تذكرة الحفاظ مجلد 1 صفحة 2 - 3، وقال بالحرف (إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا! فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه) انتهى النص حرفيا، كما أورده الذهبي!
فأبو بكر بوصفه أول خليفة للنبي، أو أول رئيس دولة بعد النبي يأمر أمرا واضحا بمنع تحديث أي شئ عن رسول الله! بمعنى أن الحديث عن رسول الله يؤدي إلى الاختلاف!
وغني عن البيان أن رسول الله، وحديثه هما ركن الوفاق والائتلاف، ولكن طالما أن رئيس الدولة وهو أعلى سلطة قد أمر بمنع الحديث عن رسول الله، فمن واجب الرعية أن تطيعه، فهو الآمر الحاكم.
وأمر أبي بكر محاولة صادقة لتثبيت قناعة (حسبنا كتاب الله) أي أن كتاب الله يكفي، بدليل قول أبي بكر في النص السابق (فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله).
الخليفة الثاني يتبع نفس السياسية ويعمقها
والصديق يعاني سكرات الموت، وقد اشتد به الوجع، حتى أنه قال: إني قد وليت.... وذهب في غيبوبة من شدة الوجع، فكتب عثمان بقية الوصية (عليكم عمر) ولما أفاق (رضي الله عنه)، وسمع بما كتبه عثمان استحسنه، وقال لعثمان: لو كتبت نفسك لكنت أهلا لها. بهذا الجو الحزين استخلف أبو بكر عمر ليقود سفينة الإسلام من بعده.
وعمر رأس الذين حالوا بين الرسول وبين كتابة ما أراد كتابته، بحجة أن الرسول قد اشتد به الوجع، فلا يجوز أن يسمح له بكتابة وصيته، وحرصا على مصلحة المسلمين رفع شعار (حسبنا كتاب الله) وبمواجهة النبي نفسه، فمن الطبيعي جدا بعد أن آلت إليه الأمور أن يسعى وبكل قوته المعهودة لتثبيت وتجذير هذا الشعار، وتحويله إلى قناعة تؤمن بها العامة والخاصة، وجبرا عند اللزوم.
يبدو أن الأمر الذي أصدره أبو بكر لم يتم احترامه تماما، إذ بقي الناس يتداولون أحاديث الرسول، ويكتبون بعضها، فلما آلت الخلافة أو رئاسة الدولة إلى عمر ناشد الناس أن يأتوه بكل ما كتبوا من أحاديث رسول الله، فلما أتاه الناس بهذه الأحاديث.... أمر بتحريقها.
قال ابن سعد في طبقاته مجلد 5 صفحة 140 بترجمة القاسم بن محمد بن أبي بكر:
إن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب، فأنشد الناس أن يأتوه بها، فلما أتوه بها أمر بتحريقها.
وأخرج ابن عبد البر ثلاثة أسانيد في جامع بيان العلم - باب ذكر من ذم الإكثار من الحديث دون التفهم له مجلد 2 صفحة 147 والذهبي في تذكرة الحفاظ مجلد 1 صفحة 4 - 5 ما يلي:
وروي عن قرظة بن كعب أنه قال: لما سيرنا عمر إلى العراق مشى معنا إلى صرار، ثم قال: أتدرون لم شيعتكم؟ قلنا: أردت أن تشيعنا وتكرمنا، قال: إن مع ذلك لحاجة، إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث عن رسول الله، وأنا شريككم. قال قرظة: فما حدثت بعده حديثا عن رسول الله. انتهى النص، وفي رواية أخرى فلما قدم قرظة بن كعب قالوا: حدثنا، فقال: نهانا عمر.
الإقامة الجبرية والحبس!
أخرج المتقي الهندي عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله، فجمعهم من الآفاق: عبد الله بن حذيفة، وأبا الدرداء، وأبا ذر، وعقبة بن عامر، فقال: ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق؟ قالوا: أتنهانا؟ قال: لا، أقيموا عندي ، والله لا تفارقوني ما عشت، فنحن أعلم نأخذ منكم، ونرد عليكم، فما فارقوه حتى مات!!
وروى الذهبي في تذكرة الحفاظ ترجمة عمر: أن عمر حبس ثلاثة:
ابن مسعود، وأبا الدرداء، وأبا مسعود الأنصاري، فقال: أكثرتم الحديث عن رسول الله.
ويقول ابن الأثير في تاريخه إن عمر كان يقول للصحابة: أقلوا الرواية عن رسول الله، إلا في ما يعمل به.(2)
حتى والرسول الكريم حيا، حاولت مشيخة قريش أن تمنع كتابة حديث رسول الله، فقد روى الدارمي في سننه مجلد 1 صفحة 125 - باب من رخص في الكتابة، من المقدمة، وفي سنن أبي داود مجلد 2 صفحة 126 - باب كتابة العلم، وفي مسند الإمام أحمد مجلد 2 صفحة 162 و 207 و 216، ومستدرك الحاكم مجلد 1 صفحة 105 - 106، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر مجلد 1 صفحة 85 أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله، فنهتني قريش، وقالوا:
تكتب كل شئ سمعته من رسول الله ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا؟
فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله، فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال (أكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق).
والسؤال: فمن من قريش يجرؤ على نهي صحابي من أن يكتب قول نبي ورسول ورئيس دولة بنفس الوقت؟
من يجرؤ على ذلك سوى عمر وأبي بكر رضي الله عنهما.
ويبدو أنهما خشيا أن يروى عن رسول الله حديث في حق أناس قال فيهم في حال الرضا أو الغضب قولا ما ينبغي أن يقال، فحرصا منهما على مصلحة الإسلام، اعتقدا أنه ليس من الحكمة كتابة أحاديث الرسول!
هذا والرسول حي يمارس النبوة والرسالة ورئاسة الدولة!
ويبدو أنه لهذه الغاية حالوا بينه وبين كتابة وصيته، بحجة أن المرض قد اشتد به، مع أن المرض قد اشتد بهما أكثر مما اشتد برسول الله، ومع هذا كتبا وصيتيهما، ونفذت، وبقيت وصيتاهما أسس نظام الخلافة، ولم يقولا أو لم يقل أحد إن المرض قد اشتد بهما، (وحسبنا كتاب الله)!!!
ولما انتقل النبي إلى جوار ربه، وآلت رئاسة الدولة إلى أبي بكر ثم عمر (رضي الله عنه)، بذلا جهدهما بالاستغناء عن حديث رسول الله، وبالاكتفاء بكتاب الله، تجسيدا لهذا الشعار (حسبنا كتاب الله) هذا الشعار الذي تحول بفعل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلى قناعة ضربت جذورها لأعماق الحياة السياسية الإسلامية بعد وفاة النبي!!
عثمان ينهج نهج صاحبيه
عثمان كان موضع ثقة أبي بكر، وموضع ثقة عمر رضي الله عنهما، انظر إلى قول أبي بكر لعثمان عندما كتب عهد عمر (والله لو كتبت نفسك لكنت أهلا لها) أي للخلافة.(3)فقد ترك عثمان أبناء عمومته الهاشميين، وانحاز إلى جانب أبي بكر، فقد كان أول زعيم من زعماء المهاجرين يبايع أبا بكر بعد خروجه من السقيفة. راجع الإمامة والسياسة صفحة 11
وكان موضع ثقة عمر أيضا، فقد كان أبو بكر يقاسي سكرات الموت، فقال لعثمان:
أكتب إني قد وليت... فأغمي على أبي بكر قبل أن يكمل الجملة، فأكملها عثمان من عنده حيث كتب (عليكم عمر) وعمر غائب، فمعنى ذلك أن عثمان على علم مسبق بأن عمر هو الخليفة التي سيعهد له أبو بكر.
والحقيقة أنه بعد وفاة أبي عبيدة الذي حضر اجتماع سقيفة بني ساعدة، وقع اختيار أبي بكر وعمر على عثمان ليكون الخليفة الثالث بدلا من أبي عبيدة الذي انتقل إلى رحمة الله، ومن هنا كان عثمان يدعي في إمارة عمر بالرديف، والرديف بلسان العرب الرجل الذي يأتي بعد الرجل، والعرب تقول ذلك للرجل الذي يرجونه بعد زعيمهم.
ومن يدقق في وصية عمر يكتشف بأقل جهد ممكن أنه قد عهد له بالخلافة. راجع صفحة 364 مجلد 3 من الطبقات لابن سعد، وراجع تولية عثمان في الإمامة والسياسية لابن قتيبة. فعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص في شقة واحدة بالضرورة، وعلي والزبير في جانب آخر بالضرورة، وطلحة غائب، وعمر صريح جدا فقد أوصى: إذا كانوا ثلاثة ثلاثة، فاختاروا الذي في صف عبد الرحمن بن عوف.
وهذا ما لم يحدث، لأن طلحة كان غائبا، فمحكوم حكما أن يكون ثلاثة ضد اثنين، ولنفترض جدلا أن طلحة كان موجودا، فشكل مع علي ومع الزبير ثلاثة، فإن عثمان سينجح قطعا.... راجع الإمامة والسياسية صفحة 27
وبالإيجاز فإن عثمان في حياة الشيخين أبي بكر وعمر كان كظلهما، وكان من شيعتهما، ومن هنا فإنهم من مدرسة واحدة، ويبدو واضحا أن عثمان كان مع الفريق الذي أيد عمر بمواجهة لرسول الله عندما قال (حسبنا كتاب الله) بدليل أنه حتى بعد أن آلت الرئاسة إليه قد بقي على نفس الخط المتعلق بهذه الناحية.
فقد اعتلى المنبر يوما وقال (لا يحل لأحد يروي حديثا لم يسمع به في عهد أبي بكر، ولا في عهد عمر). راجع منتخب الكنز بهامش مسند الإمام أحمد مجلد 4 صفحة 64
فمن الواضح أن عثمان قد حظر حظرا كاملا رواية أي حديث عن رسول الله لم يرو في زمن صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وفعل الخليفة الثالث يصب في النتيجة في غاية صاحبيه، وهي أن القرآن وحده يكفي (حسبنا كتاب الله).
وجاء معاوية فاستعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة وقال له.... ولست تاركا إيصاءك بخصلة: لا تترك شتم علي وذمه، والترحم على عثمان والاستغفار له، والعيب لأصحاب علي والإقصاء لهم، والإطراء لشيعة عثمان والإدناء لهم. فقال له المغيرة:
قد جربت وجربت، وعملت قبلك لغيرك فلم يذممني، وستبلو فتحمد أو تذم، فقال:بل نحمد إنشاء الله! (4)
وقال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته.
رفع الحظر
بقي الحظر مفروضا رسميا على رواية أحاديث الرسول، وكتابتها حتى زمن عمر بن العبد العزيز، فرفع الحظر، وكتب إلى أهل المدينة: أن انظروا حديث رسول الله فاكتبوه، فإني قد خفت دروس العلم وذهاب أهله. راجع فتح الباري باب كتابة العلم مجلد 1 صفحة وقد قاومه العلماء الذين تربوا على محاصرة أحاديث رسول الله، ثم لانت عريكتهم، وأخذوا يروون أحاديث الرسول، ويكتبونها، ولكن بعد حظر رسمي على روايتها، وكتابتها استمر 95 عاما.
- حرية رواية وكتابة كل شئ إلا حديث رسول الله
في عهد أبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، كان بإمكان أي شخص أن يروي، أو يكتب أي شئ، وفي أي موضوع، بغض النظر عن دين الراوي، أو دين المروي عنه، فيمكنه أن يروي أو يكتب الشعر الجاهلي، أو الأنساب، أو أيام العرب، أو التاريخ، أو المفاخرة، أو القصص، بل ويمكن أن يروي الأحاديث والأساطير الإسرائيلية، كما كان يفعل كعب الأحبار، وتميم الداري، ولا حرج، فهذا كله مباح، ولا لوم ولا تثريب لا على راو ولا على مروي عنه، ولا على كاتب.
أما باب التحديث عن رسول الله فقد كان مغلقا تماما، وباب كتابة حديث الرسول كان مغلقا أيضا. وذلك لتثبيت قناعة (حسبنا كتاب الله) حتى تصبح هذه القناعة عامة وشاملة وعميقة، فيتعود المسلمون على العيش بدون نبي معتمدين على القرآن وحده.
فالأسباب الحقيقية لمنع رواية حديث الرسول ومنع كتابته هي:
1 - السبب الأول: تجسيد وتعميق وترسيخ الترتيب الوضعي القائل (حسبنا كتاب الله) أي أن كتاب الله يغني عن أي شئ آخر، ويغني عن قول الرسول نفسه، لأن هذا الشعار رفع لتبرير الحيلولة بين الرسول وبين كتابة ما أراد. وفي ذلك ترويض من السلطة للرعية حتى تتعود على فراق الرسول، والاعتماد على كتاب الله وحده.
2 - إغلاق كل الأبواب بوجه الذين يعارضون السلطة، ويقولون إنهم أولى بالحكم من غيرهم، لأن رسول الله نص عليهم بأنهم قادة الأمة ومرجعيتها، فترك أبواب التحديث عن رسول مفتوحة أمر يحرج السلطة، وقد تتمكن المعارضة من إثبات حجتها وحقها بالحكم استنادا لأحاديث رسول الله، وفي ذلك زعزعة للاستقرار، وهز لكيان الدولة التي يتربص بها أعداؤها الدوائر، وبالتالي تفتيت لوحدة الأمة بذلك الظرف العصيب، فكان إغلاق باب التحديث عن رسول ضربة معلم!
وزيادة بالأمان والاطمئنان، فقد حظرت السلطة كتابة أحاديث رسول الله، حتى تبقى هي المتحكمة بمفاتيح الشرعية!
3 - حماية المتعاونين مع السلطة من طعن المعارضة، فيمكن لعلماء المعارضة أن يكشفوا حقيقة بعض المؤلفة قلوبهم ممن جعلوا الولاء للسلطة ستارا للطعن بالمعارضة. فمن الثابت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعن الحكم بن العاص، ولعن ما في صلبه، ولعن نفرا من قريش، وشاءت الظروف أن يكون مروان هو صهر عثمان وابن عمه، ورئيس وزرائه وحامل أختامه، فإذا كانت هنالك حرية بالتحديث عن رسول الله وبنقل أحاديثه، وكتابتها، فيسهل على عشرات الصحابة الكرام أن يرووا حديث اللعن هذا أمام مروان، وأمام الخليفة، وفي ذلك إحراج ما بعده إحراج للسلطة، ولمقام الخلافة، فيغدو من الأسلم إغلاق باب التحديث وكتابة الحديث عن رسول الله!
- أسباب أخرى لمنع رواية حديث الرسول ومنع كتابته
انتشرت إشاعة مفادها أن رسول الله لم يجمع القرآن، بل تركه مفرقا في صدور الرجال، وانتقل إلى رحمة الله والقرآن على هذه الحالة، حتى نهض الخلفاء الثلاثة بتفصيل خاص لجمع القرآن، حتى لا يضيع بقتل حفظته، وتحولت هذه الإشاعة إلى نظرية متكاملة، وفي ظلال هذه الإشاعة التي تحولت إلى نظرية، ثم إلى قناعة، قيل أن القصد من منع رواية الحديث وكتابته هو أن حتى لا يختلط القرآن وهو كلام الله بالحديث وهو كلام رسول الله. وهذا السبب لا يستقيم ولا يثبت لعلتين:
1 - العلة الأولى: مع أن النبي هو أفصح العرب، إلا أن الحديث يختلف عن كلام الله، فمحمد مخلوق والله خالقه.
2 - العلة الثانية: حسب نظرية أن الخلفاء هم الذين جمعوا القرآن الكريم ، فالمفترض أن يرفع الحظر عن رواية أحاديث الرسول، وكتابتها بعد الجمع، ولكن الثابت أن الحظر بقي قائما حتى زمن عمر بن عبد العزيز، الذي استطاع بصعوبة أن يقنع علماء دولته بضرورة كتابة حديث رسول الله!
- مستثنيات من حظر رواية وكتابة أحاديث الرسول
بينا أن السلطة فرضت حظرا على رواية وكتابة أحاديث رسول الله بعد وفاته مباشرة، واستمر الحظر 95 عاما حتى زمن عمر بن عبد العزيز الذي أصدر مرسوما برفع الحظر.
إلا أن السلطة طوال مدة الحظر استثنت أمورا معينة أجازت فيها رواية حديث رسول الله وكتابته، ومن أبرز هذه الأمور:
1 - إذا عملت السلطة عملا ما استنادا إلى اجتهادها وروى راو حديثا عن رسول الله يشيد بهذا العمل، أو يضفي الشرعية عليه، فلا ترى السلطة غضاضة ولا حرجا من رواية هكذا أحاديث أو تداولها.
2 - إذا تمكن خليفة من تحقيق الغلبة والظفر، واستقامت له الأمور، وجاء راو أو رواة فرووا أحاديث في فضله، في هذه الحالة فإن السلطة ترحب بالرواة، وبما رووا، ولا ترى ما يمنع من كتابة هذه المرويات، وتداولها، بل تشجعها، وتقرب الرواة، وتغدق عطاياها عليهم.
3 - إذا سبق الكتاب على أحد أنه من أهل النار، وانتشر ذلك انتشارا واسعا، وتأكد هذا الانتشار بحيث يتعذر إنكاره، كقضية أبي لهب، تبت يدا أبي لهب وتب، فالكل يعلم أن أبا لهب من أهل النار، والشاهد على ذلك سورة من سور القرآن الكريم. أو كقضية الحكم بن العاص، وولده مروان، فالثابت ثبوتا قطعيا بالسنة المطهرة أن رسول الله قد لعن الحكم بن العاص، ولعن مروان وهو في صلبه، بحيث لا يمكن تغطية واقعة دخول أبي لهب في النار، ولا واقعة لعن الحكم بن العاص وابنه. ومن المعروف أن مروان بن الحكم ملعون كأبيه، لكن خدمه الحظ، وزوجة الخليفة عثمان بن عفان ابنته، واتخذه رئيسا لوزرائه، وحاملا لختمه، ولكن كل المسلمين يعلمون علم اليقين أن رسول الله لعن الحكم، ولعن مروان وهو في صلبه، وبالتالي يستحيل تكذيب واقعة لعن الرسول للحكم وابنه، فهي واقعة ثابتة ثبوتا يقينيا، وترويها أمة يمتنع عقلا اجتماعها على الكذب، وبالرغم من ذلك اصطفاه الخليفة عثمان، لأنه رأى أن أمر المسلمين لا يستقيم تماما إلا إذا استعان بهذا الذي لعنه رسول الله ولعن أباه، ثم إن عثمان خليفة ومروان هو ابن عمه، وبالتالي فهو برأيه يصل أرحامه!
فما هو المخرج الذي يضفي الشرعية على قرار الخليفة بتعيين مروان رئيسا لوزرائه؟
وكيف يمكن تجنب سخط العامة، وضمان الاستقرار، وضرب المعارضة، والتشكيك بسلامة موقفها، وتسليط الأضواء على سوء نيتها الطامعة بالانقضاض على السلطة، وسلب الأمر من أهله، وزعزعة وحدة المسلمين؟
فإذا جاء راو وشكك برسول الله نفسه، بما يخدم هدف السلطة، فإن رواية هذا الراوي تقبل، ولا مانع من تداولها وكتابتها وانتشارها، وهذا الراوي أو الرواة تفتح أمامهم أبواب الحياة، وينادى منادي السلطة أنهم من المقربين، وبهذه الحالة فالرواية والكتابة مباحة ولا يشملها الحظر.
جاء في صحيح البخاري كتاب الدعوات - باب قول النبي: من آذيته، وجاء في صحيح مسلم كتاب البر والصلة - باب من لعنه النبي (صلى الله عليه وسلم) وليس لها أهلا ما يلي:
(أن رسول الله كان يغضب، فيلعن، ويسب، ويؤذي من لا يستحقها، ودعا الله أن يجعلها لمن بدرت منه زكاة وطهورا).
ورويا أيضا في صحيح البخاري - كتاب بدء الخلق - باب صفة إبليس وجنوده، وكتاب الطب - باب هل يستخرج السحر، وباب السحر، وكتاب الأدب - باب أن الله يأمر بالعدل، وكتاب الدعوات، وفي صحيح مسلم - باب السحر ما يلي:
(أن بعض اليهود سحر رسول الله، حتى يخيل إليه أنه يفعل الشئ، وما فعله).
بهذه الضربة الفنية تحول مروان بن الحكم رئيس الوزراء، وتحول والده - الذي لعنه رسول الله - من ملعونين مطرودين من رحمة الله إلى رجلين زاكيين مطهرين، ولكن بعد أن ضحوا بخلق النبي (وإنك لعلى خلق عظيم) وضحوا بحلمه، لينجو مروان ووالد مروان،
نعم، مثل هذه الأحاديث لم يشملها الحظر، سواء على صعيد الرواية، أو على صعيد الكتابة، بل إن روايتها وكتابتها تقرب الرواة إلى السلطة زلفى.
وما عدا هذه الاستثناءات، فإن رواية وكتابة أحاديث رسول الله بقيت محظورة وممنوعة رسميا، حتى زمن عمر بن عبد العزيز.
وغني عن البيان أن عهد علي عهد تنفست فيه الشرعية، ورعى بنفسه حملة كتابة ورواية أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
- الفراغ الحقوقي ومحاولات سده
يستحيل استحالة مطلقة فهم القرآن الكريم، والمقاصد الإلهية من آياته فهما قائما على الجزم واليقين دون بيان النبي لهذا القرآن، فبيان النبي ضرورة من ضرورات فهم القرآن، وعندما رفعت السلطة شعار (حسبنا كتاب الله) وقررت منع رواية وتداول وكتابة أحاديث رسول الله فإنها بعملها هذا أوجدت فراغا حقوقيا مدمرا، ترك بصماته على مختلف قطاعات الحياة، واستدعى البحث عن بديل لمل ء هذا الفراغ، فابتدع العمل بالرأي وسمي أولا بالتأويل، ثم سمي نهائيا بالاجتهاد، وامتلأت الساحة الإسلامية بالقواعد الحقوقية القائمة على الظن والتخمين، والناتجة عن العمل بالرأي بمختلف صوره، فالمنظومة الحقوقية الإلهية التي أنزلت على محمد، والتي كانت تتميز بأنها بيان لكل شئ، فإن كل حكم من أحكامها قائم على الجزم واليقين، ونتيجة منع رواية وكتابة أحاديث رسول الله اختلط من الناحية العملية ما أنزله الخالق، بما وضعه الحاكم وشيعته وطلاب الدنيا من حوله.
صحيح أن هنالك ضمانة إلهية بحفظ القرآن من التحريف والتبديل والتغيير، لكنه عطل عن أداء دوره الكامل في غياب البيان النبوي الموثوق لآياته وأحكامه.
التأويل والاجتهاد: السلطة التاريخية هي التي ابتدعت مصطلح التأويل بمعناه الواقعي، وهي التي ابتدعت الاجتهاد بمعناه الذي استقر نهائيا عليه، وأعوان السلطة هم الذين وضعوا قواعده وأحكامه، ثم ربطوه بالمنظومة الحقوقية الإلهية، أو على حد تعبيرهم ربطوه ( بروح ومقاصد هذه المنظومة) فليس في الدنيا أمر من الأمور إلا وله حكم في الاجتهاد والتأويل، فإذا تبين أن الحاكم عمل عملا يخالف ويختلف مع عمل رسول الله نفسه قالوا: إن الحاكم مجتهد، والرسول الكريم نفسه مجتهد، ولا يلزم المجتهد باتباع رأي المجتهد الآخر. (5)
وضع الأحاديث: ونتيجة الإحساس بالفراغ، قام بعض الصالحين من المسلمين بوضع أحاديث على رسول الله اختلقوها، وجعلوها حسبة لله بزعمهم! فإذا سألهم سائل كيف تكذبون على رسول الله؟ قالوا: نحن نكذب له لا عليه، كما روى ذلك مسلم، ونقله عنه محمود أبو ريه في كتابه الرائع أضواء على السنة المحمدية صفحة 138 ونقل عن ابن حجر قوله (وقد اغتر قوم من الجهلة، فوضعوا أحاديث الترغيب والترهيب، وقالوا: نحن لم نكذب على النبي، بل فعلنا ذلك لتأييد شريعته) راجع صفحة 138 من المرجع السابق، ونقل أبو ريه قال: قال عبد الله النهاوندي قلت لغلام أحمد: من أين لك هذه الأحاديث التي تحدث بها في الرقائق؟ فقال: وضعناها لنرقق بها قلوب العامة، قال ابن الجوزي عن غلام أحمد هذا: إنه كان يتزهد، ويهجر شهوات الدنيا، ويتقوت الباقلاء، وغلقت أسواق بغداد بعد موته!
وكان أحمد بن محمد الفقيه المروزي من أصلب أهل زمانه في السنة، وأكثرهم مدافعة عنها، ويحقر كل من خالفها، وكان مع ذلك يضع الحديث ويقلبه!
وأخرج البخاري في التاريخ الأوسط عن عمر بن صبيح أنه قال: أنا وضعت خطبة النبي، وأخرج الحاكم في المدخل بسنده إلى أبي عمار المروزي أنه قيل لأبي عصمة: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة، وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي ابن إسحاق، فوضعت هذه الأحاديث حسبة! راجع أضواء على السنة المحمدية صفحة 138 - 139.
واغتنم أعداء الدين هذا الفراغ، وأخذوا يضعون الأحاديث المكذوبة ليهدموا الدين، ولم تكن شيعة الحكام في عزلة من هذا، فكل شيعة من هذه الشيع كانت تضع من الأحاديث ما تحتاجه لتثبيت أوضاعها، أو لدحر أعدائها. ويمكن لمن أراد الوقوف على تفاصيل الوضع أن يقرأ أضواء على السنة المحمدية للسيد محمود أبو ريه، وخاصة الصفحات 118 وما فوق.
- أبو هريرة يمهد المناخ للوضع
قال الشيخ أبو ريه: أخرج الطحاوي في المشكل عن أبي هريرة مرفوعا عن النبي أنه قال: إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه، ولا تنكرونه فصدقوا به قلته أم لم أقله!
فإني أقول ما يعرف ولا ينكر، وإذا حدثتم عني حديثا تنكرونه، ولا تعرفونه فكذبوا به، فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف!
ويشبه هذا الحديث حديثا آخر رواه أحمد أن رسول الله قال: إذا سمعتم الحديث عني، تعرفه قلوبكم، وتلين له أبشاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد، فأنا أبعدكم منه.
وقال خالد بن يزيد، سمعت محمد بن سعيد الدمشقي يقول: إذا كان كلام حسن لم أر بأسا من أن أجعل له إسنادا!
قال الحافظ ابن حجر: هذه والله قاصمة الظهر للمحتجين بالرسل، إذ بدعة الخوارج كانت في مبدأ الإسلام والصحابة متوافرون، ثم في عصر التابعين فمن بعدهم، وهؤلاء استحسنوا أمرا جعلوه حديثا، فربما سمع الرجل الشئ فحدث به الذي يحتج بالمنقطعات، فيحتج به مع كون أصله ما ذكرت! راجع أضواء على السنة المحمدية صفحة 137
لولا شعار (حسبنا كتاب الله) وإيمان دولة الخلافة الأولى بضرورة ترسيخ وتعميق هذا الشعار، وما اقتضاه ذلك من المنع الرسمي لرواية وكتابة أحاديث رسول الله، ومن فرض الحصار التام على الرواية والكتابة، حتى بلغ الأمر حدا أن طلب من الناس أن يأتوا الخليفة بالأحاديث المكتوبة والمروية عن رسول الله، فلما جاء الناس بتلك الأحاديث وجمعت، أمر الخليفة بحرقها! وكفى بذلك تنفيرا من كتابة تلك الأحاديث وروايتها (6)
لولا هذا الشعار لأحصيت أحاديث رسول الله، وكتبت، فحفظت من الزيادة والنقصان والتبديل والتغيير بعد وفاة الرسول مباشرة، ولما حرم الناس من بيان النبي لهذا القرآن، وبالتالي لما حدث ذلك الفراغ الرهيب الذي أفسح المجال للعمل بالرأي مع وجود النص، وأغرق المسلمين في بحار من الظن والتخمين، ولأمكن توصيل حديث رسول لفظا ومعنى لكل أبناء الجنس البشري!!
ولكن كيف تسمح قريش بكتابة أحاديث رسول الله بعد وفاته، وهي التي كانت تعارض كتابة تلك الأحاديث حالة حياته (صلى الله عليه وآله وسلم). راجع سنن الدارمي مجلد 1 صفحة 125 باب من رخص في الكتابة من المقدمة، وراجع سنن أبي داود مجلد 2 صفحة 126 باب كتابة العلم، وراجع مسند أحمد مجلد 2 صفحة 62 و 207 و 216، وراجع مستدرك الحاكم مجلد 1 صفحة 105 - 106، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر مجلد 1 صفحة 85. تجد أن قريشا حال حياة النبي كانت تحرض على عدم كتابة أحاديث رسول الله، بل وتمنعها بدعوى أنه بشر يتكلم في الرضا والغضب، وتريد قريش أن تتأكد أن كلام الرسول مناسب أو غير مناسب، وهل صدر في الرضا أم في الغضب!
ونتيجة قرار الحظر الذي فرضته السلطة، والذي استمر 95 عاما ضاع حديث رسول الله تحت الأنقاض، وبعد 95 عاما بدأت السلطة تبحث عن حديث الرسول بين الأنقاض، فذهب الناس في ذلك طرائق قددا!
وبعد ذلك قل أن تجد حديثا واحدا لرسول الله مرويا بلفظه ومعناه، وقل أن تجد حديثا دون أن تجد نقيضا له.
وليس هذا فحسب بل إن السلطة طاردت الذين كتبوا بخط أيديهم وبإملاء رسول الله، وشككت بهم ونفرت الناس منهم، واتهمتهم بالكذب، وأمرت بلعنهم على المنابر، وهدمت دور الذين يحبونهم، وأسقطت أسماءهم من ديوان العطاء! كما ذكر ابن أبي الحديد نقلا عن المدائني في كتابه الأحداث، وكما وثقنا سابقا.
وهكذا بدلت السلطة نعمة الله بالرأي، فجرت هذه الأمة إلى مزالق الدمار تحت شعار (حسبنا كتاب الله)
صحيح أن الذين وضعوا هذا الشعار قصدوا خيرا ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فنتيجة الشعار فتحت أبواب التأويلات لكل نص، ووجدت مئات المعاني لكل نص، وكل صاحب معنى مجتهد ومأجور، وألقى الظن والتخمين أجرانه، وضاع الجزم واليقين، وللسلطة أن تختار ما تشاء وأن تركن لمن تشاء، ولها رأيها أيضا، وما يدريك أن الحق معها في غياب البيان النبوي وتغييبه بعد وفاة النبي، وفي غياب الولي المخول بالبيان بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)! والمجتهد مأجور قتلَ أم قُتِل، أصاب أم أخطأ، وكل صاحب رأي مجتهد بما فيه الخليفة!
1- صحيح البخاري مجلد 7 صفحة 9 ومجلد 4 صفحة 21ومجلد 1 صفحة 37 ومجلد 5 صفحة 137، ومجلد 2 صفحة 132، ومجلد 4 صفحة 65 - 66 ومجلد 8 صفحة 161، وراجع صحيح مسلم في آخر كتاب الوصية مجلد 5 صفحة 75 ومجلد 2 صفحة 16، وصحيح مسلم بشرح النووي مجلد 11 صفحة 95، ومجلد 11 صفحة 94 - 95، ومسند الإمام أحمد مجلد 1 صفحة 2 ومجلد 3 صفحة 286، ومجلد 4 صفحة 256، ومجلد 2 صفحة 299، وتاريخ الطبري مجلد 2 صفحة 193، ومجلد 3 صفحة 192 - 193، والكامل في التاريخ لابن الأثير مجلد 2 صفحة 320، وتذكرة الخواص للسبط الجوزي الحنفي، وسر العالمين وكشف ما في الدارين لأبي حامد الغزالي صفحة 21، وشرح النهج لعلامة المعتزلة بن أبي الحديد مجلد 6 صفحة 51 ومجلد 3 صفحة 114 سطر 27 الطبعة الأولى مصر بيروت بتحقيق محمد أبو الفضل، ومجلد 2 صفحة 802، ومجلد 2 صفحة 197... إلخ.
2- مجلد 5 صفحة 239 الحديث رقم 4865 / الذهبي في تذكرة الحفاظ مجلد 1 صفحة 7 /ابن الأثير في تاريخه مجلد 8 صفحة 108 .
3- سيرة عمر لابن الجوزي 1 صفحة 37، وتاريخ ابن خلدون مجلد 2 صفحة 58 .
4- تاريخ الطبري مجلد 2 صفحة 112 - 113 ومجلد 2 صفحة 28، / تاريخ ابن الأثير مجلد 3 صفحة 102، .
5- شرح نهج البلاغة مجلد 4 صفحة 178 مطبعة مصطفى البابي بمصر سنة 1399 ه، وراجع شرح النهج مجلد 2 صفحة 153 ومجلد 2 صفحة 180، وراجع شرح التجريد للقوشجي صفحة 408، .
6- طبقات ابن سعد مجلد 5 صفحة 140 /تذكرة الحفاظ للذهبي بترجمة أبي بكر مجلد 1 صفحة 2 - 3 / تذكرة الحفاظ للذهبي مجلد 1 صفحة 4 - 5، / جامع بيان العلم - باب ذم الإكثار من الحديث مجلد 2 صفحة 147، / الحديث رقم 4865 من الكنز.