قد وردت كلمة الأعراف في القرآن مرّتين ، تارة بلفظ : ( عَلَى الأَعْرَافِ ) ، وأُخرى بلفظ : ( أَصْحَابُ الأَعْرَافِ ) ، وكلتا الآيتين لهما ارتباط بالقيامة.
أمّا الأعراف ، فهو جمع العرف ، ويطلق على النقطة المرتفعة. (1)
فيكون الأعرافي هو المنتسب لهذه النقطة الرفيعة ، يقول الصدوق : اعتقادنا في الأعراف انّه سور بين الجنة والنار ، ( وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ ) والرجال هم النبي وأوصياؤه : لا يدخل الجنّة إلاّ من عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النار إلاّ من أنكرهم وأنكروه ، وعند الأعراف ، المرجون لأمر الله إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم. (2)
وقال المفيد : قد قيل انّ الأعراف جبل بين الجنة والنار ، وقيل أيضاً انّه سور بين الجنة والنار ، وجملة الأمر في ذلك انّه مكان ليس من الجنّة ولا من النار ، وقد جاء الخبر بما ذكرناه وانّه إذا كان يوم القيامة كان به رسول الله وأمير المؤمنين والأئمّة من ذريته صلی الله عليه وآله وسلم وهم الذين عنى الله سبحانه ، بقوله : ( وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الجَنَّةِ أَن سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ). (3)
وذلك انّ الله تعالى يُعلِّمُهم أصحابَ الجنة وأصحابَ النار بسيماهم يجعلها عليهم وهي العلامات ، وقد بيّن ذلك في قوله تعالى : ( يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ )
( يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ) (4)
وقد قال تعالى : ( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ ) (5)
فأخبر انّ في خلقه طائفة يتوسمون الخلق فيعرفونهم بسيماهم ». (6)
إنّ الأعراف كما تقدم ورد في القرآن الكريم على النحو التالي حتى سمّيت السورة بذلك الاسم لما ورد فيها آياته :
1. ( وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الجَنَّةِ أَن سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ). (7)
2. ( وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ). (8)
3. ( وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ). (9)
4. ( أَهَٰؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ). (10)
دلّت الآية الأُولىٰ على أنّ الواقفين على الأعراف يعرفون أهل الجنّة وأهل النار ، فإذا بأصحاب الجنة ينادونهم بالتسليم عليهم ، وهم بعدُ لم يدخلوا الجنة ولكن ينتظرون الدخول ، كما يقول سبحانه : ( وَنَادَوْا أَصْحَابَ الجَنَّةِ ) أي نادىٰ أصحاب الأعراف أصحاب الجنّة ان ( سَلامٌ عَلَيْكُم ) تحية منهم إليهم وهم بعد لم يدخلوها ولكن ينتظرون أن يأذن لهم بالدخول وكأنّهم مصطفون علىٰ أبواب الجنّة ينتظرون فتح أبوابها.
ثمّ إنّ أصحاب الأعراف ينظرون إلىٰ أصحاب النار نظر عداء ، فلا ينظرون إليهم إلاّ إذا صرفت وجوههم إليهم ولأجل التبرّي من أعمالهم يقولون : ( رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) كما يقول سبحانه : ( وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ).
وبما انّ أصحاب الأعراف نادوا أصحاب الجنة ـ فبطبع الحال ـ ينادون أصحاب النار الذين تبرّأوا منهم فنادوهم بما يحكي عنهم سبحانه ،
ويقول : ( وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ).
ولما كان أصحاب النار يستهزئون بالمؤمنين ويصفونهم بأنّهم لا يصيبهم الله برحمة وخير ولا يدخلون الجنّة ، حاول أهل الأعراف تقريعهم وتكذيبهم وقالوا :
أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة.
فانظروا كيف نالتهم رحمة الله وهم مصطفون على أبواب الجنة ينتظرون الدخول فإذا بأصحاب الأعراف يجيزون لهم بالدخول أمام أعين أصحاب النار ويخاطبونهم ( ادْخُلُوا الجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ) ، وعلى ما ذكرنا ، فقوله : ( لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) في الآية الأُولى راجع إلى المؤمنين المصطفين على أبواب الجنة.
كما أنّ قوله في الآية الرابعة : ( ادْخُلُوا الجَنَّةَ ) راجع إلى هؤلاء الذين كانوا من أصحاب الجنّة وهم بعد لم يدخلوها.
هذا ما وصلنا إليه بعد التدبّر في أطراف الآية ، وبذلك يظهر أنّ ما ذكره المفسرون أو بعضهم في تفسير الآيات ليس بتام.
هذا ولنرجع إلى الآيات وإلى ما يستفاد منها :
1. انّ الأعراف مقام شامخ رفيع عليه رجال مشرفون على الجنة والنار وأهلهما.
2. الأعراف مكان خاص وراء الجنة والنار ، وهو مشرف عليهما.
3. انّ أصحاب الأعراف يتمتعون بمعرفة خاصة يعرفون على ضوئها أصحاب الجنّة والنار.
هذا ما يستفاد من الآيات ، ولكن من هم أصحاب الأعراف ؟ فقد اختلفت فيهم كلمة المفسرين إلى أقوال :
أ. فئة من الناس لهم مكانة خاصّة ، وقد شملتهم عناية الله.
ب. هم الذين تستوي حسناتهم وسيئاتهم ، ولأجل ذلك لا يدخلون الجنة والنار بل يمكثون بينهما ، وإن كانت عاقبتهم الجنة لشمول رحمة الله سبحانه لهم.
ج. الملائكة المتمثلون بصورة الرجال يعرفون الجميع.
د. الفئة العادلة من كلّ أُمّة الذين يشهدون على أُمّتهم.
ه. فئة صالحة من حيث العلم والعمل.
هذه هي الأقوال المذكورة في المقام ، لكن القول الثاني مردود ، لأنّ المتوسطين في العلم والعمل ليس لهم أي امتياز حتى يهنئّوا يسلّموا على أصحاب الجنّة وينددوا ويوبخوا أصحاب النار.
كما انّ القول الثالث لا يدعمه الدليل.
وأمّا القول الرابع والخامس فقريبان من القول الأوّل ، ويمكن إرجاع الجميع إلىٰ قول واحد.
والحاصل انّ أصحاب الأعراف هم الرجال المثاليّون الذين بلغوا في العلم والعمل درجة ممتازة ويُشكِّل الأنبياء والأولياء معظمهم ، ثمّ الصالحون والصادقون.
4. ما تضمنته هذه الآيات إنّما هو من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس ، ويحكي لنا حقيقة رائعة لا تدرك إلاّ بهذا النحو الوارد في الآيات ، وكأنّ الحكومة المطلقة لله سبحانه تتجلّى يوم القيامة بالشكل التالي :
ـ طائفة متنعمة ( أصحاب الجنة ) جزاء لأعمالهم الحسنة.
ـ طائفة معذبة ( أصحاب النار ) جزاء لأعمالهم السيئة.
ـ طائفة تنفِّذ أوامره سبحانه بإدخال أهل الجنّة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار.
هذا ما يستفاد من الآيات ، وإليك ما ورد في الروايات :
الأعراف في الروايات
وقد ركزت الروايات علىٰ أمرين :
أ. ما هي الأعراف ؟
ب. من هم أصحابها ؟
أمّا الأوّل : فقد روى القمي في تفسيره ، عن الإمام الصادق عليه السلام ، أنّه قال :
« إنّ الأعراف كثبان بين الجنة والنار ، أي طريق بينهما ».
وفي رواية أُخرى ، عن الإمام الباقر عليه السلام ، قال : « الأعراف صراط بين الجنّة والنار ». (11)
وليعلم انّه لو ثبت أنّ الأعراف بمعنى الصراط ، فهو غير الصراط الذي تكفَّلت ببيانه الآيات الأُخرى ، لأنّ الصراط المتقدم ذكره ، طريق عام يجتازه كلّ من المؤمن والكافر مع أنّ الأعراف مقام خاص لعدَّة من الناس.
وأمّا تسمية الأعراف بالصراط فلأجل أنّ لفيفاً من المؤمنين العصاة يحتفُّون حوله وينتظرون مصيرهم بشفاعة النبي وآله ، وهؤلاء غير الذين يقفون على الأعراف.
وأمّا الثاني : أي من هم أصحاب الأعراف ؟ فقد اختلفت فيهم الروايات :
1. الأئمّة المعصومون
وهذا القول ورد فيه روايات تربو على 14 حديثاً. (12)
ولنقتصر علىٰ رواية واحدة.
قال أبو جعفر الباقر عليه السلام : « هم آل محمد لا يدخل الجنة إلاّ من عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النار إلاّ من أنكرهم وأنكروه ». (13)
2. المؤمنون العصاة
وهذا ما يستفاد مما رواه القمي في تفسيره ، وقال : الأئمّة : يقفون على الأعراف مع شيعتهم وقد سبق المؤمنون إلى الجنة بلا حساب.
فيقول الأئمّة لشيعتهم من أصحاب الذنوب : انظروا إلى إخوانكم في الجنة قد سبقوا إليها بلا حساب ، وهو قول الله تبارك وتعالى : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ).
ثمّ يقال لهم : انظروا إلى أعدائكم في النار ، وهو قوله : ( وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ).
( وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ ـ فِي النّار ـ قَالُوا مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ ـ فِي الدنيا ـ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ).
ثمّ يقول لمن في النار من أعدائهم هؤلاء شيعتي وإخواني الذين كنتم أنتم تحلفون في الدنيا أن لا ينالهم الله برحمة.
ثمّ يقول الأئمّة لشيعتهم : ( ادْخُلُوا الجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ) ثمّ نادى أصحاب النار أصحاب الجنّة أن أفيضوا علينا من الماء أو ممّا
رزقكم الله. (14)
ولا يخفى انّ هذا التفسير لا يلائم ظاهر الآية ، لما سبق منّا انّ قوله : ( لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) راجع إلى أصحاب الجنّة ، لا العصاة الموجودين حول الأعراف الذين ينتظرون مصيرهم.
كما أنّ قوله : ( ادْخُلُوا الجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ ) راجع إلى هؤلاء المنتظرين.
3. الذين تتساوى سيئاتهم مع حسناتهم
يظهر ممّا رواه العياشي أنّ أصحاب الأعراف هم الذين تتساوى حسناتهم مع سيئاتهم.
سأل رجل أبا عبد الله عليه السلام وقال : قلت له : أي شيء أصحاب الأعراف ؟
قال : « استوت الحسنات والسيئات ، فإن أدخلهم الله الجنّة برحمته وإن عذبهم لم يظلمهم ». (15)
وهذا القول لا يلائم ظاهر الآيات لما عرفت من أنّ أصحاب الأعراف هم
الذين يهنّئون أصحاب الجنة ويباركون لهم دخولها ، كما ينددون بأصحاب النار ولا
تصدر مثل هذا الكلمات إلاّ ممّن حاز على منزلة كبيرة لا ممّن تساوت حسناته
وسيئاته.
فما ذكره الشيخ الصدوق هو الأقوى حيث قال : والرجال هم النبي
وأوصياؤه صلی الله عليه وآله وسلم لا يدخل الجنة إلاّ من عرفهم وعرفوه ولا يدخل النار إلاّ من أنكرهم
وأنكروه. (16)
المصادر :
1- أقرب الموارد : مادة عرف.
2- بحار الأنوار : 8 / 340 ، باب ذبح الموت من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 23.
3- الأعراف : 46.
4- الرحمن : 41.
5- الحجر : 75 ـ 76.
6- تصحيح الاعتقاد : 48 و 49.
7- الأعراف : 46.
8- الأعراف : 47.
9- الأعراف : 48.
10- الأعراف : 49.
11- بحار الأنوار : 8 / 335 ، باب الأعراف من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 2 و 3.
12- انظر بحار الأنوار : 8 / 329 ـ 341.
13- بحار الأنوار : 8 / 331 ، باب الأعراف من كتاب العدل والمعاد.
14- بحار الأنوار : 8 / 335 ، باب الأعراف من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 2.
15- بحار الأنوار : 8 / 337 ، باب الأعراف من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 11.
16- بحار الأنوار : 8 / 340 ، باب ذبح الموت ، من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 23.