إنّ من أوائل المسائل الكلامية التي طرحت علىٰ صعيد البحث بين المسلمين ـ بعد مسألة القضاء والقدر ـ هي مسألة حكم مرتكب الكبيرة.
فذهب المتطرفون من المسلمين الذين عابوا على عثمان وعمّاله ما اقترفوه من الاحداث إلى أنّ مرتكب الكبيرة كافر كفر ملّة.
وذهب آخرون منهم إلىٰ أنّه كفر نعمة.
ولما وصلت النوبة إلى المعتزلة قالت بمنزلة بين منزلتين ، لا هو كافر ولا مؤمن.
وذهبت الإمامية والأشاعرة إلى أنّه مؤمن فاسق عن طاعة الله تبارك وتعالى ، وعلى ضوء ذلك ذهب المتطرّفون والمعتزلة إلىٰ خلوده في النار ، خلافاً للآخرين ، حيث خصّوا الخلود بالكفار دون المسلمين وإن كانوا مرتكبين للكبائر.
قال الشيخ المفيد : اتّفقت الإمامية علىٰ أنّ الوعيد بالخلود في النار متوجه إلى الكفار خاصة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى والإقرار بفرائضه من أهل الصلاة ، ووافقهم على هذا القول كافة المرجئة سوى محمد بن شبيب وأصحاب الحديث قاطبة ، وأجمعت المعتزلة علىٰ خلاف ذلك وزعموا أنّ الوعيد بالخلود في النار عام في الكفار وجميع فساق أهل الصلاة.
واتّفقت الإمامية علىٰ أنّ من عُذِّب بذنبه من أهل الإقرار والمعرفة والصلاة لم يخلد في العذاب وأخرج من النار إلى الجنة فينعم فيها على الدوام ، ووافقهم على ذلك من عددناه ، وأجمعت المعتزلة علىٰ خلاف ذلك وزعموا انّه لا يخرج من النار أحد دخلها للعذاب. (1)
وقال التفتازاني : أجمع المسلمون على خلود أهل الجنة في الجنة ، وخلود الكفار في النار ، واختلف أهل الإسلام فيمن ارتكب الكبيرة من المؤمنين ومات قبل التوبة فالمذهب عندنا عدم القطع بالعفو ولا بالعقاب ، بل كلاهما في مشية الله لكن على تقدير التعذيب نقطع بأنّه لا يخلد في النار بل يخرج البتة لا بطريق الوجوب على الله تعالى ، بل بمقتضى ما سبق من الوعد وثبت بالدليل كتخليد أهل الجنة.
وعند المعتزلة القطع بالعذاب الدائم من غير عفو ولا إخراج من النار ، ويعبّر عن هذا بمسألة وعيد الفساق ، وعقوبة العصاة ، وانقطاع عذاب أهل الكبائر ، ونحو ذلك.
وذهب مقاتل بن سليمان وبعض المرجئة إلىٰ أنّ عصاة المؤمنين لا يعذبون أصلاً وإنّما النار للكفّار. (2)
قال السيد الشريف في شرح المواقف : غير الكفار من العصاة ومرتكبي الكبائر لا يخلد في النار ، لقوله تعالى : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) ولا شكّ أنّ مرتكب الكبيرة قد عمل خيراً هو إيمانه ، فإمّا أن تكون رؤيته للخير قبل دخول النار وهو باطل بالإجماع ، أو بعد خروجه عنها فهو المطلوب. (3)
إلى هنا وقفت على جذور المسألة وأقوال المتكلّمين فيها ، فحان البحث لدراسة أدلة القائلين بعدم الخلود.
فقد استدلوا على عدم الخلود بأدلة نقلية وعقلية.الدلائل النقليةاحتجوا بآيات علىٰ عدم الخلود ونحن نذكرها تباعاً.
أ. ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) وقد وقفت علىٰ كيفية الاستدلال في كلام السيد الشريف.
ونزيد بياناً على أنّ رؤية هؤلاء ثواب إيمانهم إمّا تتقدم على الورود في الجحيم أو يكون معه ، أو تتأخر عنه.
فالأوّل خلاف الإجماع ، فانّ معنىٰ رؤية ثواب إيمانه هو دخوله الجنة ولازم ذلك الخروج منها ، وهو على خلاف المجمع عليه.
والثاني أمر محال كما هو واضح ، فتعيّن الثالث.
لكن الاستدلال بالآية مبني على أن لا يكون مرتكب الكبيرة ممن تحبط أعماله الصالحة ، وإلاّ فعلى القول بالإحباط نستكشف انّه لم يكن هناك أيّ ثواب له ، لأنّ الثواب كان مشروطاً بالموافاة ـ أي أن لا يرتكب الكبيرة طيلة عمره ـ و ارتكابه كاشف عن فقدان الشرط ، وفقدانه كاشف عن فقدان المشروط.
وبعبارة أُخرى : أنّ دلالة الآية متوقفة علىٰ عدم الدليل على خلود مرتكب الكبيرة في النار ، وإلاّ فخلوده يكشف عن حبط عمله ، لا بمعنى إبطال الثواب بعد تحقّقه ، بل بمعنى كشف عدم الثواب له من أوّل الأمر ، لاشتراطه بعدم ارتكاب الكبيرة.
ب. ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ).
وقد قرر غير واحد من علمائنا دلالة الآية على عدم القطع بخلود مرتكبي الكبيرة في النار.
قال المرتضىٰ : هذه الآية دلالة على جواز المغفرة للمذنبين من أهل القبلة ، لأنّه سبحانه دلّنا علىٰ أنّه يغفر لهم مع كونهم ظالمين لأنّ قوله : ( عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ) إشارة إلى الحال التي يكونون عليها ظالمين ويجري ذلك مجرى قول القائل : أنا أودّ فلاناً على غدره وأصله على هجره. (4)
وبعبارة أُخرى : أنّ الآية تخبر عن حكمين :
1. انّ هؤلاء تشملهم مغفرته سبحانه.
2. كما يمكن أن يشملهم عقابه سبحانه.
ويشير إلى الأوّل بقوله : ( لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ) ، وإلى الثاني بقوله : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ).
وأمّا تعيّن أحدهما فلا يعلمه إلاّ الله سبحانه ، فلو كان مرتكب الكبيرة خالداً في النار لما صحّ إلاّ الخبر الثاني وهو قوله : ( إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ).
نعم انّ هذه الآية ونظائرها لا ترخص لمرتكبي الكبائر أن يقترفوا المعاصي اتكالاً علىٰ هذه الآية ونظائرها ، وإنّما هو بصيص أمل ورجاء لهؤلاء وليس حكماً قطعياً في حقّهم.
والاستدلال بالآية يستند على جعل قوله سبحانه : ( عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ) حالاً ، أي انّه سبحانه لذو مغفرة للناس في الحالة التي هم عليها من الظلم والعصيان.
ج. ( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ). إنّ قوله سبحانه : ( وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) ناظر إلى الذنوب التي مات صاحبها بلا توبة ، ففي هذا النوع من الذنوب يفرق سبحانه بين الشرك وغيره وانّه لا يغفر الشرك ، ويغفر ما دون ذلك ، وأمّا الذنوب التي مات مقترفها مع التوبة ، فلا فرق فيها بين الشرك وغيره ، فانّ التائب من ذنبه مطلقاً كمن لا ذنب له.
وعلىٰ ضوء ذلك ، فلا يمكن القطع بخلود مرتكب الكبيرة في النار لاحتمال شمول غفرانه سبحانه له ، ودخوله تحت مشيئته.
نعم الآية ليست دليلاً قاطعاً على فلاح مرتكب الكبيرة وإنّما هي بصيص أمل لمقترفي الكبائر. ومعه لا يصحّ قول المعتزلة ولا الخوارج بخلودهم في النار وعدم خروجهم عنها على وجه القطع.
هذه هي الآيات التي تصلح للاستدلال على عدم خلودهم في النار.
وثمة روايات تؤيد تلك النظرية ، وها نحن نذكر بعضها :
1. روى الصدوق في توحيده بسنده عن ابن أبي عمير ، قال : سمعت موسى بن جعفر عليهما السلام يقول : « لا يخلّد الله في النار إلاّ أهل الكفر والجحود ، وأهل الضلال والشرك ».
2. روى الحسين بن سعيد الأهوازي ، عن عمر بن أبان ، قال : سمعت عبداً صالحاً يقول في الجهنميين : « إنّهم يدخلون النار بذنوبهم ويخرجون بعفو الله ».
3. وكتب الإمام الرضا عليه السلام للمأمون في رسالته : « انّ الله لا يدخل النار مؤمناً وقد وعده الجنة ، ولا يخرج من النار كافراً وقد أوعده النار والخلود فيها ، ومذنبو أهل التوحيد يدخلون النار ويخرجون منها ، والشفاعة جائزة لهم ». (5)
4. وقد روى الفريقان انّ النبي صلی الله عليه وآله وسلم قال : « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي ». (6)
وقد حقّق في محله انّ معنى الشفاعة هو حط الذنوب ولا تختص بترفيع الدرجة ، والآيات النازلة حول الشفاعة ناظرة إلى ما هو الدارج بين أهل الكتاب من اليهود والنصارىٰ والشفاعة عندهم كانت بمعنى غفران الذنوب والخروج من النار ، والذكر الحكيم يُدعم الشفاعة بهذا المعنى ، ولكن بشروط وحدود يخرجها عن جعلها ذريعة إلىٰ ترك العمل من خلال وضع شروط في المشفوع له وفي الذنب الذي يكون محطاً للشفاعة ، وبذلك ظهر انّ الروايات أيضاً تؤيد مفاد الآيات.
الدلائل العقلية
استدل على عدم الخلود بوجهين عقليين :الأوّل : انّه يستحق الثواب بإيمانه ، لقوله تعالى : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) والإيمان أعظم أفعال الخير ، فإذا استحق العقاب بالمعصية ، فإمّا أن يقدم الثواب على العقاب وهو باطل بالإجماع ، لأنّ الثواب المستحق بالإيمان دائم على ما تقدم ، أو بالعكس وهو المراد ، والجمع محال.
الثاني : يلزم أن يكون من عبد الله تعالى مدة عمره بأنواع القربات إليه ثمّ عصى في آخر عمره معصية واحدة مع بقاء إيمانه ، مخلداً في النار كمن أشرك بالله تعالىٰ مدة عمره ، وذلك محال لقبحه عند العقلاء. (7)
وذكر التفتازاني وجوهاً أُخرى نذكر منها ما يلي :
الثالث : انّ من واظب على الإيمان والعمل الصالح مائة سنة وصدر عنه في أثناء ذلك أو بعده جريمة واحدة كشرب جرعة من الخمر فلا يحسن من الحكيم أن يعذبه على ذلك أبد الآباد ولولم يكن هذا ظلماً فلا ظلم ، أو لم يستحق بهذا ذماً فلا ذم. (8)
وحاصل هذه الأدلة : انّ النظر إلى المؤمن المقترف للكبيرة والكافر المشرك علىٰ حد سواء يخالف العدالة ، بل يجب أن يكون هناك فرق بينهما ، إمّا في مدّة العذاب ، أو في كيفيته ، فجعلهما على حد سواء يرده العقل السليم ، يقول سبحانه : ( أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ).
نعم غاية ما تُثبت بعض الأدلة العقلية وجود الفروق بين المؤمن والكافر ، أمّا في الكمية كما هو المطلوب ، أو في الكيفية وهذا المقدار يكفي في رفع الظلم.
نعم مقتضى الدليل العقلي الأوّل هو وجود الفرق من حيث الكمية ،فلاحظ.
إلى هنا تمّت دراسة أدلّة القائلين بعدم الخلود ، وإليك ما استدل به القائلون بالخلود من الآيات.
أدلة القائلين بالخلود
استدلت المعتزلة وغيرهم من القائلين بخلود مرتكبي الكبيرة في النار ، بآيات وردت في حقّ طوائف مختلفة كلّهم محكومون بالخلود ويجمعهم اشتراكهم في اقتراف المعاصي الكبيرة ، وتلك الطوائف يربو عددها علىٰ 16 طائفة نسرد أسماءها والآيات الواردة في حقّها على وجه موجز ثمّ يتبعه التفصيل ، وهؤلاء هم :1. الكفار.
2. المشركون ( النحل/ 29، الأحزاب/ 64 ـ 65 ، الزمر/ 71 ـ 72 ، )
76 ، التغابن / 10 ، البينة / 6 وآيات أُخرى ).
3. المنافقون ( التوبة / 68 ، المجادلة / 17 ).
4. المرتدون ( آل عمران / 86 ـ 88 ).
5. المكذبون بآيات الله ( الأعراف / 36 ).
6. أعداء الله ورسوله 6 ( التوبة / 63 ).
7. العصاة والمتمردون على أمر الله ورسوله صلی الله عليه وآله وسلم ( الجن / 22 ـ 23 ).
8. الظالمون ( يونس / 52 ، الأنعام / 128 ـ 129 ).
9. الأشقياء ( هود / 106 ـ 107 ).
10. المجرمون ( الزخرف / 74 ـ 75 ، السجدة / 12 ـ 14 ).
11. المتوغلون في الخطايا ( البقرة / 81 ).
12. المرتكبون للقبائح ( الفرقان / 68 ـ 69 ).
13. المعرضون عن القرآن ( طه / 100 ـ 101 ).
14. المطففون في الميزان ( المؤمنون / 103 ـ 104 ).
15. الآكلون للربا ( البقرة / 275 ).
16. قاتلو المؤمنين ( النساء / 93 ، الفرقان / 68 ).
هذه هي العناوين التي حكم الذكر الحكيم بخلود أصحابها في النار ، ولكن عند إمعان الدقة والنظر في الآيات والقرائن المحفوفة بها ، نقف على أنّ المخلّدين في النار هم الذين ينطبق عليهم أحد العناوين الأربعة الأُولىٰ ، أعني :
الكافرين والمشركين والمنافقين والمرتدين ، وأمّا أصحاب سائر العناوين فلا يخرجون عن هذا الإطار.
وقبل دراسة الآيات الواردة حول هذه الطوائف الست عشرة نلفت نظر القارئ الكريم إلىٰ أمرين مهمين :
الأمر الأوّل : انّ الأُسلوب الصحيح في تفسير الآيات لا سيما فيما يرجع إلى هذه الطوائف هو تفسير الآيات على وفق ما يتبادر منها في عصر الرسول صلی الله عليه وآله وسلم ، فانّ لغة العرب قد تطورت طيلة 14 قرناً فربما يكون المتبادر منه في زماننا هذا غير ما يتبادر في عصر الرسول ، وإن كان بينهما قدر مشترك ، فلا محيص للمفسر عن تفسير الآيات حسب استعمال مفرداتها وجملها في عصر الرسول ، وهذا أمر له بالغ الأهمية في تفسير القرآن وإن كان تحصيل اليقين بذلك أمراً عسيراً ، فانّ الوقوف علىٰ جذور المعاني والمصطلحات القرآنية التي كانت هي الرائجة في عصر الرسول بحاجة إلىٰ عناية ودقة كافية ، ولعلّ كتاب المقاييس لابن فارس يعين المفسر في هذا الطريق ، لأنّه بصدد بيان أُصول المعاني وجذورها ، لا المعاني المتطورة.
الأمر الثاني : دراسة القرائن الحافة بالآيات فانّ بعضها وإن كانت في بادئ الأمر تعم مرتكب الكبيرة وإن كان مؤمناً ولكن بعد الدقة فيها يعلم أنّ المراد هو غير المؤمن فتنحصر في الكافر.
وفي ظل رعاية هذين الأمرين ، نطرح الآيات الواردة حول هذه الطوائف المحكومة بالخلود.
وبما انّ هذه العناوين الأربعة المتقدمة غنية عن البحث والدراسة حيث اتفق الجميع على خلودهم في النار ، فلنقتصر على دراسة بقية الطوائف.
المكذبون بآيات الله
ورد في أوّل الخليقة خطابات إلهية تخاطب فيها أبناء آدم ، منها قوله : ( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ).فالآية أوعدت المكذبين بآيات الله والمستكبرين عنها بالخلود في النار ، وهؤلاء هم الكافرون ، فليست هذه الطائفة إلاّ قسماً من الكافرين ، فخلودهم في النار لا يعني إلاّ خلود الكافر في النار.
أعداءُ الله ورسوله
إنّ الذكر الحكيم يصف من يحادد الله ورسوله انّه من أصحاب النار الخالدين ، يقول : ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَٰلِكَ الخِزْيُ الْعَظِيمُ ) وليس المراد في الآية مطلق العداء بل من بلغ غاية العداء ، بشهادة انّه سبحانه يقول : ( مَن يُحَادِدِ ) وهو من الحد ، والمراد مَنْ وصل إلى النهاية ، قال الطبرسي : المحادة مجاوزة الحد بالمشاقة (9). ومن الواضح أنّ هذه الطائفة هم المكذبون لأنبياء الله ورسله وهو يلازم الكفر ، فليس خلودهم في النار إلاّ رمزاً لخلود الكافر.على أنّ سياق الآيات يدل على أنّها نزلت في حقّ المنافقين وهم الذين أبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان.
العصاة والمتمردون على أمر الله ورسوله صلی الله عليه وآله وسلم
أوعد الله سبحانه العصاة بالخلود في نار جهنم قال سبحانه : ( إِلاَّ بَلاغًا مِّنَ اللهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا * حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ).انّ قوله : ( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ ) يشمل مطلق العاصي وإن كان مؤمناً مقترفاً للكبيرة ، ولكن القرائن الحافة بهذه الآية تثبت بأنّ المراد هم منكرو الرسالة الذين كانوا يحقّرون المؤمنين ، وهذه القرائن عبارة عن سياق الآيات المتقدمة عليها أو المتأخرة عنها.
إنّ الموضوع في الآيات 18 إلى 28 هم المشركون والكافرون ، الذي جاء في ثنايا تلك الآيات بشهادة انّه يقول : ( وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا ).
ويقول أيضاً : ( قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ).
فهاتان الآيتان راجعتان إلى المشركين الذين كانوا يدعون مع الله الأصنام والأوثان ويعبدونهم مع الله سبحانه فتكون هاتان الآيتان دليلاً على أنّ المراد من العصاة هم المشركون.
ويؤيده قوله في الآية 24 : ( حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ) فكأنّهم كانوا يحقّرون الأنبياء لقلة الناصر ، فإذا رأوا ما يوعدون من نار جهنم فسيقفون على خطئهم وانّهم كانوا أقلّ ناصراً وأقل عدداً.
والحاصل انّ القرائن الحافة بالآيات تُحقِّق بأنّ المراد من العصيان هو الكفر ، ومن العصاة هم الكافرون.
الظالمون
هدّد سبحانه الظالمين بعذاب الخلد ، قال سبحانه : ( ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ).وظاهر الآية وإن كان يشمل كلّ ظالم وإن كان مؤمناً مسلماً لكن كان مقترفاً للظلم ، ولكن سياق الآيات يدل على أنّ المراد ليس مطلق من ظلم ، بل الظالمون المنكرون ليوم الوعد ، وإليك الآيات الواردة قبلها :
يقول سبحانه في نفس السورة : ( وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ).
وقال سبحانه : ( أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ). ففي حقّ هؤلاء الذين كانوا يستبعدون النشأة الأُخرى وكانوا يستعجلون بها
يقول سبحانه : ( ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الخُلْدِ ).
ومن هنا يعلم أنّ حال الآيات الأُخرى التي تحكم على الظالمين بالخلود ، ويقول : ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ).
وهاتان الآيتان وإن كانتا ظاهرتين في مطلق الظالمين لكن سياق الآيات يدل على أنّ المراد هم المكذبون لأنبياء الله ورسله من الأُمم السالفة ولو عمَّت بعض الأُمّة الإسلامية فإنّما عمتهم بهذا الملاك.
وإليك ما يخصّص الظالمين بالمكذبين.
يقول سبحانه قبل هاتين الآيتين : ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ).
ويقول بعد هذه الآية : ( يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنفُسِنَا
وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ). فبملاحظة الآيات التي وقعت قبل الآيتين أو التي أعقبتهما يتضح بأنّ المراد
هم الكافرون المنكرون للتوحيد والرسالة لا سيما رسالة النبي صلی الله عليه وآله وسلم.
الأشقياء
إنّ مصير الأشقياء حسب الذكر الحكيم هو الدخول في النار التي لهم فيها زفير وشهيق ، يقول سبحانه : ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ).ففي هاتين الآيتين حكم عليهم بالخلود في النار ، وللمفسرين حول هذه الآية كلمات لا سيما في الاستثناء الوارد في قوله : ( إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ ) فمن أراد فليرجع إلى التفاسير ، ولكن الأمر المهم هو انّ من عصى الله سبحانه ولو في معصية صغيرة فقد شقي ، فللشقاء درجات كما أنّ الأشقياء أصناف ، ولكن المراد في الآية ليس كلّ من شقي ولو بغير الكفر ، وإنّما المراد من شقي لأجل كفره وعدم
إيمانه ، ويؤيده سياق الآيات ، فقد جاء بعد هاتين الآيتين ، قوله سبحانه : ( فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَٰؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ ). فهذه الآية قرينة علىٰ أنّ المراد من الذين شقوا هم المشركون الذين يعبدون الأصنام دون الله سبحانه.
ويؤيد ذلك التفسير : انّه سبحانه فسر الأشقىٰ في بعض الآيات بمن كذب وتولىٰ ، وقال : ( فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّىٰ * لا يَصْلَاهَا إِلاَّ الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ).
المجرمون
إنّ المجرمين حسب الذكر الحكيم مخلّدون في النار ، قال سبحانه : ( إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ).غير انّ اللازم هو دراسة سياق الآيات ليتضح من خلالها المراد من المجرمين ، لأنّ سياقها يشهد على أنّ المراد ليس كلّ من ارتكب معصية ، بل المراد غير هذه الفئة ، وإليك الآيات :
إنّ الآيات المتقدمة تصنّف الناس إلى صنفين :
أ. مؤمن بآيات الله فيُجزىٰ بالجنة.
ب. مجرم يجزىٰ بالخلود في الجحيم.
فالتقابل السائد بين الآية الثانية والآية الأُولىٰ يمكن أن يفسر علىٰ ضوئها لفظ « المجرم » وانّ المراد منه غير المؤمن بآيات الله سبحانه والذي يساوق المشرك ، يقول سبحانه في حقّ الطائفة الأُولى :
( يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ).
ويصف الطائفة الثانية ، بقوله : ( إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ).
وبملاحظة الآيات وتقابل الموضوعين يتضح المراد من « المجرم » فالموضوع في الطائفة الأُولى : ( الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ).
كما أنّ الموضوع في الطائفة الثانية : ( إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ ).
فبالتقابل يتبين انّ جرم هؤلاء هو كفرهم وعدم إيمانهم بآيات الله سبحانه ، ومن الواضح بمكان أنّ الكفار والمشركين خالدون في النار ، ويؤكد ذلك أنّ السورة من السور المكية التي تدور بحوثها حول المشرك والكافر ولا تجنح إلى المؤمنين المسلمين الذين ربما يقترفون المعاصي تلبية لأهوائهم لا كفراً بربوبية الله سبحانه.
وليست تلك الآيات فريدة في إيضاح المقصود من المجرمين ، بل هناك آيات أُخرى تفسر المجرمين بغير المؤمنين بيوم اللقاء ، قال سبحانه :
( وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ... فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ).
تجد أنّه سبحانه يصف المجرمين بأنّهم يوم القيامة يرغبون في الرجوع إلى الدنيا ، ويقولون : ( ارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ) وهذا يعرب عن أنّهم لم يكونوا مؤمنين بيوم الجزاء واللقاء وإنّما أيقنوا لما شاهدوا النار.
ويؤيّدُ ذلك انّه سبحانه يصف المؤمنين ـ في نفس تلك السورة ـ في مقابل المجرمين ، بقوله :
( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ). فالمجرمون هم الذين لا يؤمنون بآيات الله ، ومن الواضح انّ من لا يؤمن لا يخرج عن إطار الشرك.
المتوغلون في الخطايا
يحكم القرآن المجيد علىٰ من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ، انّه من أصحاب النار ، يقول سبحانه : ( بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ).فالمخلدون في النار في هذه الآية ذو سمتين :
السمة الأُولى : اقتراف السيئات.
السمة الثانية : الإصرار على ارتكابها علىٰ نحو تحيط بقلوبهم وأرواحهم ونفوسهم.
ومن الجدير بالذكر أنّ إحاطة الخطايا بالروح والنفس تُسفر عن انسداد طرق الهداية أمام القلوب والأرواح والأنفس ، فلا يستجيب لنداء الأنبياء والرسل ومثل هذا يساوق الشرك والكفر.
والدليل على أنّ المراد ليس مطلق من اقترف الخطيئة ، انّه سبحانه يعطف على قوله : ( كَسَبَ سَيِّئَةً ) قوله : ( وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ) وبيّن بذلك أنّ هذا الإنسان صار لكثرة الذنوب والخطايا غاصّاً فيها لا يتأثر بهداية الهادين ، ونصح الناصحين.
وبعبارة أُخرى : انّ الإنسان الغارق في الآثام والمعاصي ينزلق ـ رويداً رويداً ـ إلى هاوية الكفر والجحود بآيات الله ورسله ، يقول سبحانه : ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ ).
فالآية إنذار لمن يقترف المعاصي ويظن انّه لا يضر الإيمان ، فانّ اقتراف المعاصي شيئاً فشيئاً بلا توبة وندم بينها ربما يؤول مصيره إلى الكفر وتكذيب آيات الله.
وممّا يؤكد ورود الآية ( بَلَىٰ مَن كَسَبَ ) في حقّ الكافرين ، الآية المتقدمةعليها ، يقول سبحانه :
( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ).
فالآية تفسر أنّ المراد ( مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ) ، هم أحبار بني إسرائيل الذين يكتبون الكتاب بأيديهم لبيعه بثمن بخس ، ( فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ).
كما أنّ الآية المتأخرة واردة في حقّ المؤمنين ، يقول سبحانه : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ).
فبالمقابلة بين قوله : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) في هذه الآية وقوله : ( بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ) في الآية المتقدمة يتضح انّ المراد هو الكافر والمؤمن ، فالأوّل مخلّد في النار ، والمؤمن مخلّد في الجنة.
المرتكبون للقبائح
يوعد الذكر الحكيم الذين أشركوا وقتلوا النفس المحرّمة وزنوا بالخلود في العذاب ، يقول سبحانه : ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ).والكلام في تعيين المشار إليه في قوله : ( وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ) ، ففيه احتمالات ثلاثة :
ألف. أي زنى.
ب. أشرك وقتل النفس المحترمة.
ج. أو اقترف المعاصي الثلاث.
والاحتمال الأوّل من البعد بمكان ، إذ لو كان المراد مطلق من زنىٰ ، فما هو الوجه لمضاعفة العقاب الذي أُشير إليه بقوله : ( يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ ) ،
والاحتمال الثاني لا يوافق القواعد العربية إذ لا يصحّ أن يذكر المتكلم أُموراً ثلاثة ثمّ يشير إلى الأمرين الأُوليين بلا قرينة ، فيتعين الاحتمال الثالث ، أي من اقترف الأُمور الثلاثة ، ويكون المراد من أشرك وقتل النفس المحترمة وارتكب الزنا.وهذا مما لا خلاف فيه ، لأنّ المشرك مخلد في النار ، ويؤيد ذلك أمران :
أ. حكم عليه سبحانه بضعف العذاب ، وهذا يناسب المشرك.
ب. استثنى في الآية التالية من تاب وآمن أي تاب من الشرك وآمن بالله ، فهذا دليل على أنّ المستثنى منه هو من لم يؤمن بالله سبحانه ، قال تعالى : ( إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ).
وبما ذكرنا يتضح وجه مضاعفة العذاب ، لأنّ الموضوع ليس هو مطلق المشرك بل المشرك الذي ضم إلى شركه في العقيدة ، قبيحاً في العمل ، وهو قتل النفس المحترمة وهتك الأعراض.
المعرضون عن القرآن
أوعد سبحانه المعرضين عن الذكر بالخلود في النار ، يقول سبحانه :( كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا * مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً ).
إنّ الضمير في قوله : ( خَالِدِينَ فِيهِ ) يرجع إلى الوزر بمعنى العبء الثقيل ، والخلود في الوزر كناية عن الخلود في جزائه وهو العذاب ، فينتج انّ المعرض عن الذكر يخلد في العذاب.
ولكن المراد من المعرض ليس مطلق من أعرض عن تلاوته أو عن العمل ببعض أحكامه ، بل من لا يؤمن بالقرآن فيتركه مهجوراً ، وهو يساوق الكفر ، ولذلك يصف سبحانه المعرضين عن القرآن بالكفر وعدم الإيمان ، يقول سبحانه :
( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ).
ولا شكّ انّ المعرض بهذا النحو الوارد في الآية يساوق الكفر.
المُطَفَّفُون في الميزان
يقسّم القرآن الكريم الإنسان يوم المعاد إلى من ثقلت موازينه ومن خفت موازينه ، فيقول : ( فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ).وظاهر هذه الآية هو خلود مطلق من خفّت موازينه في النار سواء أكان مؤمناً أم كافراً.
ولكن سياق الآيات يدل على أنّ المراد ممن خفّت موازينه هم المكذبون بآيات الله سبحانه وأنبيائه ، يقول سبحانه بعد هذه الآية : ( أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ).
ويقول أيضاً : ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ ). فيستنتج ـ مع ملاحظة هذه الآيات ـ أنّ المحكومين بالخلود هم المكذبون وغير المؤمنين بيوم القيامة.
الآكلون للربا
أوعد الله سبحانه آكلي الربا بالخلود في النار ، قال سبحانه :( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ).
فالآية وإن كانت توعد مطلق آكل الربا بالخلود في النار ولكن قوله : ( وَمَنْ عَادَ ) قرينة على أنّ المراد من لا يؤمن بتحريم الربا ويكرر قوله : ( إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) ويترك قول الله سبحانه : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) ، ومثل هذا هو ممن لا يؤمن بالتشريع السماوي والتقنين الإلهي.
وبعبارة أُخرى كان العرب في العصر الجاهلي يعتقدون بحلية الرباومساواته مع البيع ، وكانوا يتعاطونه في حياتهم ، فمن انتهى عن هذا العمل بعد ورود النهي فله ما سلف وأمره إلى الله ، وأمّا من لم ينزجر عنه ومكث على ما كان عليه ، فأُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ، ومثل هؤلاء لا يخرجون عن إطار الكفر حيث أنكروا الوحي والرسالة بالإصرار علىٰ موقفهم السابق.
قاتلو المؤمنين
يوعد القرآن الكريم من قتل مؤمناً متعمداً بالخلود في نار جهنم ، يقول سبحانه : ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ).إنّ هذه الآية ذريعة أُخرى للقائلين بأنّ مرتكب الكبيرة يخلد في النار ، حيث إنّه سبحانه حكم على من قتل مؤمناً بالخلود في نار جهنم ، والآية تشمل المؤمن والكافر.
يذكر الطبرسي في شأن نزول الآية ، ويقول :
نزلت في مقيس بن صبابة الكناني وجد أخاه هشاماً قتيلاً في بني النجار فذكر ذلك لرسول الله صلی الله عليه وآله وسلم فأرسل معه قيس بن هلال الفهري ، وقال له : قل لبني النجار إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى أخيه ليقتصّ منه ، وإن لم تعلموا فادفعوا إليه ديته ، فبلّغ الفهري الرسالة فأعطوه الدية ، فلما انصرف ومعه الفهري وسوس إليه الشيطان ، فقال : ما صنعت شيئاً ، أخذت دية أخيك فيكون سُبَّة عليك : اقتل الذي معك لتكون نفس بنفس والدية فضل ، فرماه بصخرة فقتله ، وركب بعيراً ورجع إلى مكة كافراً ، وأنشد يقول :
قتلتُ به فهراً وحمّلتُ عقلَهُ *** سراة بني النجار أرباب فارعٍ فادركتُ ثأري واضطجعتُ مُوسَداً *** وكنتُ إلى الأوثان أوّلَ راجعٍ
فقال النبي : « لا أُؤمنّه في حلٍّ ولا حرم » فقُتِلَ يوم الفتح. (10)
ولعل ما ذكره الطبرسي من سبب للنزول يؤيد قول القائلين بالخلود ، ولكن المخالفين لهذا القول أجابوا عن الاستدلال بوجوه :
أ. انّ قوله : ( مُّتَعَمِّدًا ) دليل على أنّ المحكوم بالخلود من قتل المؤمن لأجل إيمانه ، فعندئذ تختص الآية بالكافر ولا يعم المسلم الذي يقتل أخاه لأجل هواه.
ب. الخلود كناية عن الإقامة الممتدة التي إذا طالت يعبر عنها بالخلود.
ج. الخلود وإن كان ظاهراً في التأبيد ، ولكنه ليس أمراً قطعياً لاحتمال خروجه عن النار بالعفو والشفاعة ، وقد مرّ قوله سبحانه : ( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ ).
حصيلة البحث : انّ ما استدل به من الآيات مرجعها إلى أحد العناوين الأربعة التي لا شكّ في أنّ أصحابها من الخالدين في النار ، وقد عرفت القرائن التي تؤكد هذا.
وأقصىٰ ما يمكن أن يقال : إنّ خصوص قاتل المؤمن مخلّد في النار لا كل الفساق ومرتكبي الكبائر وبذلك يتضح انّ مضامين الآيات لا تنافي ما روي عن الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام ، قال : « لا يخلّد الله في النار إلاّ أهل الكفر والجحود وأهل الضلال والشرك ومن اجتنب الكبائر من المؤمنين لم يسأل عن الصغائر ... »
فقلت له : يابن رسول الله فالشفاعة لمن تجب من المذنبين ؟
فقال : « حدثني أبي عن آبائه ، عن علي عليه السلام قال : سمعت رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم يقول :
إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي ، فأمّا المحسنون منهم فما عليهم من سبيل ». (11)
فلو دلّت الآية على أنّ قاتل المؤمن خالد في النار فليس معناه انّ الخلود حكم قطعي في حقّه بحيث لا يمكن أن يتغيّر أو يتبدّل ، بل معناه وجود المقتضي للخلود لو لم يمنع عنه مانع وهو شمول الشفاعة له.
يقول صدر المتألهين : إنّ الأشياء كلّها طالبة لذاتها للحق ، مشتاقة إلى لقائه بالذات ، وانّ العداوة والكراهة طارئة بالعرض ، فمن أحب لقاء الله بالذات أحب الله لقاءَه بالذات ، ومن كره لقاء الله بالعرض لأجل مرض طار علىٰ نفسه ، كره الله لقاءه بالعرض ، فيعذبه مدة حتى يبرأ من مرضه ويعود إلىٰ فطرته الأُولى أو يعتاد بهذه الكيفية المرضية زال ألمه وعذابه لحصول اليأس ، ويحصل له فطرة أُخرى ثانية ، وهي فطرة الكفار الآيسين من رحمة الله الخاصة بعباده.
وأمّا الرحمة العامة فهي التي وسعت كلّ شيء ، كما قال تعالى : ( عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ).
ثمّ نقل عن القيصري في شرح الفصوص كلاماً في خلود أهل النار ، جاء فيه : انّ من اكتحلت عينه بنور الحقّ يعلم انّ العالم بأسره عباد الله وليس لهم وجود وصفة وفعل إلاّ بالله وحوله وقوته ، وكلّهم محتاجون إلىٰ رحمته وهو الرحمن الرحيم ، ومِنْ شأن مَن هو موصوف بهذه الصفات أن لا يعذب أحداً عذاباً أبداً ، وليس ذلك المقدار أيضاً إلاّ لأجل إيصالهم إلى كمالهم المقدر لهم ، كما يذاب الذهب والفضة بالنار لأجل الخلاص ممّا يكدره وينقص عياره ، فهو متضمن لعين اللطف كما قيل : «وتعذيبكم عذب ، وسخطكم رضا ، وقطعكم وصل ، وجوركم عدل». (12)
ثمّ إنّ ما ذكره صدر المتألهين أو الشيخ ابن عربي في الفتوحات كلام جدير بالاهتمام ، فلو لم نقل به على الوجه الكلي فهو مقبول على نحو الموجبة الجزئية.
العصيان المحدود والعذاب الدائم
إنّ من المقرر في محله هو لزوم مساواة العذاب مع العصيان ، وضرورة إقامة الموازنة بينهما وعندئذٍ يُطرح هذا السؤال وهو :كيف يحكم علىٰ هؤلاء بالخلود في النار مع أنّ العصيان كان محدوداً بمقطع زماني خاص ، ولكن الجزاء غير متناه ، وهذا مخالف للعدل الذي يحكم به العقل ؟
هذا هو الإشكال الذي أثير بعد رحيل الرسول في أوساط المسلمين ، ويجاب عن هذا السؤال بالنحو التالي :
لو كان الجزاء أمراً جعليّاً من قبل المقننين ، كالحكم الصادر على السارق والغاصب والزاني لصحت الموازنة ، لأنّ العقل يحكم بلزوم كون الجزاء علىٰ قدر الجرم ، ولذلك يكون جزاء السارق أشدّ من جزاء السابّ بلسانه وإن كان كلٌّ منهما جرماً في نفسه.
وأمّا إذا كان الجزاء أمراً تكوينياً لازماً لوجود الجرم دون أن يكون هناك جعل قانوني فحينها تمتنع إقامة الموازنة بين الجرم والجزاء ، ولذلك ربما يكون الجرم أمراً آنياً ويورث أثراً دائمياً.
ويتضح ذلك من خلال المثال التالي :
إذا انتحر إنسان فقد ارتكب جرماً آنياً ، ولكن خلّف جزاءً غير متناه وهو فقد الحياة ، فإذا صحّ ذلك في الحياة الدنيوية ، فليصح في الحياة الأُخروية ، إذ ربما يكون الشرك بالله تعالى مخلِّفاً لظلمة نفسانية توجب العذاب الدائم الذي هو من ثمرات وجوده وملكاته التي اكتسبها في النشأة الدنيوية.
وبتعبير آخر : لو كانت صلة الجزاء بالعمل صلة اعتبارية بحيث يعتبره الجاعل جزاءً للعمل كان لهذا السؤال حظٌ من الصحة ، فيقال كيف تكون الجريمة محدودة والجزاء غير محدود ؟!
وأمّا إذا كانت صلة الجزاء بالعمل صلة تكوينية علىٰ نحو يورث العمل في نفس المجرم هيئة راسخة لا تفارقه تكون مبدأ للجزاء وتعد من لوازم وجوده ، فعند ذلك يسقط السؤال لأنّ ترتّب المعلول على العلة ترتب ضروري لا يمكن تحديده بزمان أو مكان.
ولعلّ في بعض الآيات والروايات إشارة إلى ما ذكرنا ، يقول سبحانه : ( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ). كما ورد في الحديث النبوي : « الدنيا مزرعة الآخرة » والإنسان يحصد في النشأة الأُخرى ما زرعه في هذه النشأة فما يحصده عبارة عن نتائج أعماله.
يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : « العمل الصالح حرث الآخرة ». (13)
المصادر :
1- أوائل المقالات : 14.
2- شرح المقاصد : 2 / 228 ـ 229 ، ط آستانة.
3- شرح المواقف : 8 / 209.
4- مجمع البيان : 3 / 278 ، تفسير سورة الرعد.
5- بحار الأنوار : 8 / 351 و361 و362 ، الحديث 1 ، 32 ، 36.
6- بحار الأنوار : 8 / 34 ، الحديث 1 ; مسند أحمد : 1 / 281 ; موطأ مالك : 1 / 166.
7- كشف المراد : 276.
8- شرح المقاصد : 2 / 229.
9- مجمع البيان : 3 / 43.
10- مجمع البيان : 3 ـ 4 / 141.
11- توحيد الصدوق : 407 ، الباب 63 ، الحديث 6.
12- الأسفار : 9 / 346 ، الفصل 28 في كيفية خلود أهل النار.
13- نهج البلاغة : الخطبة 221.