من الطبيعيّ أنْ تجد الحضارة الغربيّة في اختيار الشعب الإيرانيّ المسلم الإسلام منهجاً للحياة وطريقاً نحو بناء الدولة المعاصرة، تحدّياً صارخاً لأسسها الفكريّة وأيديولوجيّتها الحضاريّة, لأنّها ظنّت منذ أمد طويل أنّها صفّت الإسلام نهائيّاً، واستطْاعت أنْ تفرض على المسلمين التخلّي عنه، واستبداله بتقليد الإنسان الغربيّ في منهجه وسلوكه في الحياة.
لا بديل عن الشريعة الإسلاميّة, لأنّها حكم الله تعالى وقضاؤه في الأرض، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾(1).
وممّا لا شكّ فيه أنّ طرح الإمام الخمينيّ قدس سره لشعار "الجمهوريّة الإسلاميّة" كمنهج في الحياة وإطار للحكم، ما هو إلّا أداء لفريضة من أعظم الفرائض الإلهيّة، بل هو استمرار لدعوة الأنبياء عليهم السلام ما يُعيد إلى واقع الحياة المعاصرة روح التجربة الّتي مارسها النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وكرّس حياته كلّها من أجلها، ويُعيد روح الأطروحة الّتي جاهد من أجلها أهل البيت عليهم السلام، لا سيّما ثورة كربلاء الحسين عليه السلام الّذي ضحّى بكلّ قطرة من دمه الطاهر في سبيل إقامة حكم الله على الأرض.
وقد قال الغرب الرأسماليّ إنّ أوروبا لم تتطوّر إلاّ حين فصلت الدين عن الحياة، وقال الشرق الشيوعيّ إنّ الدين أفيون الشعوب، فلكي تستطيع الشعوب أنْ تُكافح من أجل الحريّة لا بدّ لها أنْ تتخلّى عن الدين. واليوم فإنّ التجربّة الإسلاميّة الماثلة أمامنا (الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران) بقيادة الوليّ الفقيه، ما هي إلّا تعبير صادق عن ضمير الأمّة الّتي لم تعرف لها مجداً إلّا بالإسلام. ولم تعش الأمّة الذلّ والهوان والحرمان والتبعيّة للكافر المستعمِر إلّا حين تخلّت وابتعدت عنه.
ومن هنا كان اختيار مركز نون للتأليف والترجمة هذه الدراسة ـ الّتي بين يدي القارىء العزيز ـ من كلمات الشهيد الصّدر، حيث تمّ تهذيبها وتشذيبها من بعض المكرّرات، مع التصرّف البسيط بالعبارة بغية المحافظة قدر الإمكان على عبارة الشهيد، هذا إلى جانب إضافة بعض العناوين للفقرات والمواضيع، وإعادة ترتيب بعض الأبحاث المترامية، وجمعها في بحث واحد.
ولذا تُعدّ هذه الدراسة تلخيصاً لدراسة الشهيد السيّد محمّد باقر الصّدر (رضوان الله عليه)، والّتي قدّم فيها أطروحته حول بناء الدولة الإسلاميّة المعاصرة، وقد نُشرت هذه الدراسة ضمن كتاب (الإسلام يقود الحياة) وهو من منشورات دار التعارف، بيروت - لبنان، طبع في العام 1424هـ - 2003م.
يُردّد المثقّفون الغربيّون، وبعض المثقّفين العرب، أنّ الإسلام دين وعقيدة وليس ثورة ومنهجاً للحياة، وأنّه عبارة عن علاقة بين الإنسان وربّه، ولا يصلح لأنْ يكون أساساً لثورة اجتماعيّة كالّتي حصلت في العصر الحديث في إيران بقيادة الإمام الخمينيّ قدس سره.
وقد فات هؤلاء أنّ الإسلام ثورةٌ لا تنفصل فيها الحياة عن العقيدة، ولا ينفصل فيها الوجه الاجتماعيّ عن المحتوى الروحيّ، ومن هنا كانت الثورة الإسلاميّة تحت مظلّة الوليّ الفقيه فريدةً من نوعها على مرّ التأريخ.
لقد جاء الإسلام بمبدأ (لا إله إلّا الله)، وهو مبدأ التوحيد الّذي يُمثّل جوهر العقيدة الإسلاميّة، بل بهذا المبدأ تمّ تحرير الإنسان من الداخل أوّلاً، أي حقيقة تحريره من عبوديّة غير الله، وجعله يرفض كلّ أشكال الألوهيّة المزيّفة على مرّ التأريخ، وهذا ما سُمّيَ بـ (الجهاد الأكبر) أو (جهاد النفس)، ليكون ذلك مقدّمة نحو تحقيق نتيجة طبيعيّة ألا وهي تحرير الإنسان من الخارج ثانياً, بمعنى حقيقة تحرير الثروة والكون من أيّ مالك سوى الله تبارك وتعالى، وهذا ما سُمّي بـ (الجهاد الأصغر). وقد ربط أمير المؤمنين عليه السلامبين هاتين الحقيقتين حين قال: "العباد عباد الله والمال مال الله"(-وليس مال الله لله ومال قيصر لقيصر...، كما في العهد الجديد.).
إذاً من خلال ذلك حطّم الإسلام كلّ القيود المصطنعة والحواجز التأريخيّة الّتي كانت تعوق تقدّم الإنسان، وكدحه إلى ربّه، وسيره الحثيث نحوه.
ثورة الأنبياء عليهم السلام:
لقد حمل الأنبياء عليهم السلام مشعل الإسلام الّذي كافحوا من أجله، ليُشكِّلوا بذلك ثورة اجتماعيّة على الظلم والطغيان،وعلى كلّ ألوان الاستغلال والاستعباد، الأمر الّذي نجم عنه أمران أساسيّان، هما:أوّلاً: لم تضع ثورة الأنبياء عليهم السلام مستغلّاً جديداً في موضع مستغلّ سابق، ولا شكلاً من الطغيان بديلاً عن شكل آخر، لأنّها في الوقت الّذي حرّرت فيه الإنسان من الاستغلال فقد حرّرته من منابع الاستغلال في نفسه أيضاً، وغيّرت من نظرته إلى الكون والحياة.
قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾(2).
نُلاحظ في الآية الكريمة كيف يسير العملان الثوريّان جنباً إلى جنب، حيث يجعل (المستضعفين أئمّة ويجعلهم الوارثين), وهذا يعني أنّ حلول المستضعَفين محلّ المستغِلِّين والمستثمرين، وتسلّمهم مقاليد الحكم والسلطة من أيديهم، يواكب جعلهم أئمّة, أي تطهيرهم من الداخل والارتفاع بهم إلى مستوى القدوة والنموذج الإنسانيّ الرفيع.
ولهذا لن تكون عمليّة الاستبدال الثوريّ على يد الأنبياء عليهم السلام كما استُبدل الإقطاعيّ بالرأسماليّ، أو الرأسماليّ بالبروليتاريا (الطبقة العمّاليّة الشيوعيّة), مجرّد تغيير لمواقع الاستغلال، وإنّما هي تصفية نهائيّة للاستغلال ولكلّ ألوان الظلم البشريّ.
صفه الوارثين
وقد حدّد القرآن الكريم في نصٍّ آخر صفة هؤلاء المستضعَفين الّذين ترشّحهم ثورة الأنبياء عليهم السلام لتسلُّم مقاليد الخلافة في الأرض، إذ قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور ﴾(3).ثانياً: إنّ صراع الأنبياء عليهم السلام مع الظلم والاستغلال لم يتّخذ طابعاً طبقيّاً كما وقع لكثير من الثورات الاجتماعيّة,
لأنّه كان ثورة إنسانيّة قد حرّرت الإنسان من الداخل من خلال الجهاد الأكبر قبل كلّ شيء، ولم يكن جانبه الثوريّ الاجتماعيّ إلّا بناء علويّاً.
وقد استطاع الإسلام بعمليّة التحرير من الداخل، أنْ يُنبّه في النفوس الخيّرة كلّ كوامن الخير والعطاء، ويُفجِّر فيها طاقات الإبداع على اختلاف انتماءاتها الطبقيّة في المجتمعات الجاهليّة، فكان الغنيّ يقف إلى جانب الفقير على خطّ المواجهة للظلم والطغيان، وكان مستغِلّ الأمس يندمج مع المستغَلّ في إطار ثوريّ واحد بعد أنْ يُحقّق الجهاد الأكبر فيه قيمه العظيمة.
إذاً: إنّ الثائر على أساس نبويّ ليس ذلك المستغِلّ الّذي يؤمن بأنّ الإنسان يستمدّ قيمته من ملكيّة وسائل الإنتاج وتمكّنه في الأرض، ويسعى في سبيل انتزاع هذه القيمة من يدٍ مستغِلّة، والاستئثار بها لنفسه، لكي تفرض طبيعة هذا الصراع أنْ يكون الانتماء إلى طبقة المستغِلّين أو المستغَلّين هو الّذي يُحدّد موقع الإنسان في الصراع، بل الثائر النبويّ هو ذلك الإنسان الّذي يؤمن بأنّه يستمدّ قيمته الإنسانيّة من سعيه الحثيث نحو الله تعالى، واستيعابه لكلّ ما يعني هذا السعي من قيم إنسانيّة وفضائل أخلاقيّة، وفي الوقت ذاته يشنُّ حرباً لا هوادة فيها على الاستغلال، باعتباره هدراً لتلك القيم، وتحريفاً للإنسانيّة عن مسيرتها نحو الله وتحقيق أهدافها الكبرى.
شبهة أحكام الإسلام الثابتة في ظلّ أحكام الحياة المتغيّرة:
كثيراً ما يُثير المُشكِّكون سؤالاً حول كيفيّة معالجة مشاكل الحياة الاقتصاديّة(-الإشارة إلى المشكلة الاقتصاديّة دون المشاكل الأخرى (الثقافيّة - السياسيّة - الاجتماعيّة...) هو للدلالة على أنّ أكثر المشاكل تعقيداً وبالغة الصعوبة - والّتي نعيشها اليوم - هي المشكلة الاقتصاديّة، بل هي المدخل الرئيس - أحياناً كثيرة - إلى بروز المشاكل السياسيّة والاجتماعيّة وغيرهما. والدليل على هذا فإنّ الأزمة العالميّة المرتقبة في المستقبل القريب هي أزمة اقتصاديّة بامتياز، وتتمثّل في شح المياه العذبة، وندرتها، الأمر الّذي سيُسبّب مشاكل سياسيّة وحروب عسكريّة بين دول العالم، قد نتلمّس بعض معالمها ـ اليوم ـ بمحاولة العدوّ الصهيوني إعادة احتلال مياه الوزّاني في جنوب لبنان، ولو تطلّب ذلك حرباً عسكريّة شاملة مع لبنان وفي المنطقة كلّها.) في نهاية (القرن العشرين)( -كتب الشهيّد الصّدر قدس سره هذه الدراسة في أواخر سبعينات القرن العشرين المنصرم.) على أساس الإسلام، مع ما طرأ على العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة بعد قرابة 14 قرناً من توسّع وتعقيد، وما يواجه إنسان اليوم من مشاكل نتيجة ذلك!.
والجواب: إنّ الإسلام قادر على قيادة الحياة وتنظيمها ضمن أطره الحيّة دائماً، ذلك أنّ الاقتصاد الإسلاميّ تمثّله أحكام الفقه في الثروة والمال، وهذه الأحكام تشتمل على قسمين من العناصر:
1- العناصر الثابتة، وهي الأحكام المنصوص عنها في الكتاب والسُّنة فيما يتّصل بالحياة الاقتصاديّة.
2- العناصر المرنة والمتحرِّكة، وهي تلك العناصر الّتي تُستمدّ - على ضوء طبيعة المرحلة في كلّ ظرف - من المؤشّرات الإسلاميّة العامّة والّتي تدخل في نطاق العناصر الثابتة.
وبالتالي لا يُستكمل الاقتصاد الإسلاميّ إلّا باندماج العناصر المتحرّكة مع العناصر الثابتة في تركيب واحد تسوده روح واحدة وأهداف مشتركة.
أما عمليّة استنباط العناصر المتحرّكة وتحديدها من المؤشّرات الإسلاميّة العامّة فهي تتطلّب ما يلي:
1 - منهجاً إسلاميّاً واعياً للعناصر الثابتة.
2 - استيعاباً شاملاً ودقيقاً لطبيعة المرحلة، وشروطها الاقتصاديّة، وأهدافها، وأساليبها الّتي تتكفّل بتحقيقها.
3 - فهماً فقهيّاً قانونيّاً لحدود وصلاحيّات الحاكم الشرعيّ.
المؤشّرات العامّة للاقتصاد الإسلاميّ:
يوجد في الشريعة الإسلاميّة خطوط عامّة لمؤشّرات تُشكّل أساساً متكاملاً لصورة الاقتصاد الإسلاميّ، وهي كما يلي:1- اتّجاه التشريع:
وهذا المؤشّر يعني أنْ توجد في الشريعة وضمن العناصر الثابتة من الاقتصاد الإسلاميّ أحكام منصوصة في الكتاب أو السّنّة، تتّجه كلّها نحو هدف مشترك على نحو يبدو منه اهتمام الشارع بتحقيق ذلك الهدف، فيعتبر هذا الهدف بنفسه مؤشّراً ثابتاً، وقد يتطلّب الحفاظ عليه وضع عناصر متحرّكة لكي يضمن بقاء الهدف أو السير إلى ذروته الممكنة.مثال ذلك:
لا يجوز للمستأجر أنْ يستثمر (الأُجرة) سواء كانت داراً أم سفينة أم معملاً أم غير ذلك بأجرة محدّدة، ثمّ يؤجّرها بأجرة أكبر ويربح على أساسها دون أنْ يقوم بعمل في العين المستأجرة، وكذلك الحال لو استأجر شخص أُجرة ما، ومن ثمّ أجّر منافعها بأجرة أكبر.
هذا المثال وغيره من الأمثلة الأخرى ــ ضمن السياق نفسه ــ تُشكّل بمجموعها أحكاماً شرعيّة تدلّ على اتّجاه تشريعيّ ينحو باتّجاه استئصال الكسب الّذي لا يقوم على أساس العمل، ورفض الاستثمار الرأسماليّ, أي تنمية ملكيّة المال بالمال وحده.. بالتالي يعكس هذا الاتجاه التشريعيّ مؤشّراً ثابتاً وأساساً للعناصر المتحرّكة في الاقتصاد الإسلاميّ، وما على الحاكم الشرعيّ إلّا أنْ يسير في هذا الاتّجاه لكي يصوغ أحكاماً تشريعيّة تتّسع لها صلاحيّاته ولا تصطدم بعنصر ثابت في الشريعة الإسلاميّة.
2- الهدف المنصوص لحكم ثابت:
وهذا المؤشّر يعني أنّ مصادر الإسلام من الكتاب والسُّنة إذا شرّعت حكماً ونصّت على الهدف منه، كان الهدف علامة هادية لملء الجانب المتحرّك من صورة الاقتصاد الإسلاميّ بصيغ تشريعيّة تضمن تحقيقه، على أنْ تدخل هذه الصيغ ضمن صلاحيّات الحاكم الشرعيّ، الّذي يجتهد ويُقدّر ما يتطلّبه تحقيق ذلك الهدف عمليّاً من الناحية التشريعيّة والاقتصاديّة.ومثال ذلك النصّ القرآنيّ التالي:
قال تعالى: ﴿مَّا أَفَاء اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْلَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ...﴾(4).
فإنّ الظاهر من النصّ الشريف أنّ التوازن الاجتماعيّ، وانتشار المال بصورة تُشبع كلّ الحاجات المشروعة في المجتمع، وعدم تركّزه واحتكاره في عدد محدود من أفراده، هو هدف من أهداف التشريع الإسلاميّ. وهذا الهدف يُعتبر مؤشّراً ثابتاً يتّصل بالعناصر المتحرِّكة.
3- القيم الاجتماعيّة الّتي أكّد الإسلام عليها:
وهذا المؤشّر يعني أنّ في النصوص الإسلاميّة من الكتاب والسُّنّة ما يؤكّد على قيم معيّنة كالمساواة، والأخوّة، والعدالة، والقسط ونحو ذلك. وهذه القيم تُشكِّل أساساً لاستنباط صيغ تشريعيّة متطوّرة ومتحرّكة وفقاً للمستجدّات والمتغيّرات، تكفل تحقيق تلك القيم صلاحيّات الحاكم الشرعيّ في ملء منطقة الفراغ التشريعيّ.ومثال ذلك قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾(5) وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى﴾(6).
4- اتّجاه العناصر المتحرّكة على يد النبيّ أو الوحي:
وهذا المؤشّر يعني أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام لهم شخصيّتان:الأولى بوصفهم مبلِّغين للعناصر الثابتة عن الله تعالى، والأخرى بوصفهم حكّاماً وقادة للمجتمع الإسلاميّ، يضعون العناصر المتحرِّكة الّتي يستوحونها من المؤشّرات العامّة للإسلام وروح الشريعة.
وعلى هذا الأساس كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام يُمارسون وضع العناصر المتحرِّكة في مختلف شؤون الحياة الاقتصاديّة وغيرها، بحيث يعكس ذلك الروح العامّة للاقتصاد الإسلاميّ. وتُشكِّل ممارسة المعصوم تلك دلالة ثابتة على الحاكم الشرعيّ أنْ يستفيد منها.
ومن الأمثلة الّتي تُذكر حول هذا المؤشِّر ما روي في أحاديث عديدة من أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم منع في فترة معيّنة إجارة الأرض، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإنْ أبى فليُمسك أرضه"(7).
هذا مع أنّ عقد الإجارة، وإن كان قد سُمح به من وجهة القانون المدنيّ للفقه الإسلاميّ، إلّا أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أظهر من خلال هذه الرواية ـ وغيرها من الروايات ـــ أنّه استعمل صلاحيّاته بوصفه وليّ الأمر في المنع عنها، حفاظاً على التوازن الاجتماعيّ، وللحيلولة دون نشوء كسب مترف لا يقوم على أساس العمل، في الوقت الّذي كان فيه نصف المجتمع ـ المهاجرون ـ يغرق في ألوان العوز والفاقة.
5- الأهداف الّتي حُدّدت لوليّ الأمر:
وهذا المؤشّر يعني أنّ الشريعة وضعت في نصوصها العامّة وعناصرها الثابتة أهدافاً لوليّ الأمر، وكلّفتهبتحقيقها أو السعي من أجل الاقتراب نحوها بقدر الإمكان. وهذه الأهداف تُشكِّل أساساً لرسم السياسة الاقتصاديّة، وصياغة العناصر المتحرِّكة في الاقتصاد الإسلاميّ.
ومثال ذلك: أنّه جاء في الحديث عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام: "إنّ على الوالي في حالة عدم كفاية الزكاة أن يموّن الفقراء من عنده بقدر سعتهم حتّى يستغنوا"(8).
وكلمة (من عنده) تدلّ على: أنّ المسؤوليّة في هذا المجال متّجهة نحو وليّ الأمر بكلّ إمكاناته، لا نحو قسم الزكاة خاصّة من أقسام بيت المال. فهناك إذاً هدف ثابت يجب على وليّ الأمر تحقيقه أو السعي في هذا السبيل بما أوتي من إمكانات، وهو توفير حدّ أدنى يُحقّقه الغنى في مستوى المعيشة لكلّ أفراد المجتمع الإسلاميّ، وهذا المؤشّر يُشكّل جزءاً من القاعدة الثابتة الّتي يقوم عليها البناء العلويّ للعناصر المتحرّكة من الاقتصاد الإسلاميّ.
النتيجة:
إنّ الصورة الكاملة لاقتصاد المجتمع الإسلاميّ هي الصورة الّتي تبرز فيها العناصر المتحرّكة إلى جانب العناصر الثابتة، لتتعاون معاً في تحقيق العدل الإسلاميّ على الأرض وفقاً لما أراده الله سبحانه وتعالى. كما يرتكز الاقتصاد الإسلاميّ أيضاً على الإيمان بأنّ مصادر الثروة الطبيعيّة كلّها لله تعالى، وأنّ اكتساب حقّ خاصّ في الانتفاع بها لا يقوم إلّا على أساس الجهد والعمل.أحكام الثروة في الإسلام:
إنّ أحكام الثروة في الشريعة الإسلاميّة تُمثِّل جانباً بارزاً من الأوامر الإلهيّة الّتي تُحدِّد دور الإنسان ـ كخليفة الله على الأرض ـ ومدى التزامه وتطبيقه لها. وقد قدّم الإسلام هذه الأحكام من خلال صورتين:إحداهما: الصورة الكاملة إسلاميّاً.
والأخرى: الصورة المحدّدة إسلاميّاً.
الصورة الكاملة
وهي الصورة التشريعيّة الّتي تُعطى إسلاميّاً في حالة مجتمع كامل يُراد بناء وجوده على أساس الإسلام، وإقامة اقتصاده وخلافته في الأرض على ضوء شريعة السماء.
الصورة المحدّدة
وهي الصورة التشريعيّة الّتي تُعطى إسلاميّاً في حالة فرد متديّن يُعنى شخصيّاً بتطبيق سلوكه وعلاقاته مع الآخرين على أساس الإسلام، غير أنّه يعيش ضمن مجتمع لا يتبنّى الإسلام نظاماً في الحياة، بل يسير وفق أنظمة اجتماعيّة وأيديولوجيّات عقائديّة أخرى.
والفارق بين الحالتين كبير وجوهريّ، وتبعاً لذلك تختلف الصورتان، ويُمكن أنْ نُلخِّص أهمَّ أسباب الاختلاف بين الصورتين فيما يلي:
أوّلاً: إنّ عدداً من الأحكام الثابتة في الشريعة الإسلاميّة يتجاوز قدرة الفرد، ويُعتبر حكماً موجّهاً نحو المجتمع. وهذا النحو من الأحكام لا موضع له في الصورة المحدّدة الّتي تَرسم للفرد المتديّن سلوكه الاقتصاديّ, بينما هي جزء أساس في الصورة الكاملة لاقتصاد المجتمع الإسلاميّ.
ومن أمثلة ذلك: وجوب إيجاد التوازن الاجتماعيّ في المجتمع الإسلاميّ، وهذا الوجوب يُمثِّل تكليفاً للمجتمع وليس له مدلول علميّ في التطبيق الدينيّ الفرديّ البحت.
ثانيّاً: إنّ المؤشّرات الإسلاميّة العامّة الّتي تُشكِّل أساساً للعناصر المتحرّكة في الاقتصاد الإسلاميّ، تدخل في تكوين الصورة الكاملة لاقتصاد المجتمع الإسلاميّ، إلّا أنّها - غالباً - لا تلعب أيّ دور في الصورة المحدودة لسلوك الفرد المتديّن, لأنّها ترتبط بصيغ تشريعيّة يصوغها وليّ الأمر - وفقاً لصلاحيّاته الشرعيّة وتجسيداً لمسؤوليّاته في قيادة المجتمع - على ضوء تلك المؤشّرات العامّة.
ومثال ذلك: الصيغ التشريعيّة الّتي يصوغها الحاكم الشرعيّ وفقاً لصلاحيّاته في مقاومة الاحتكار الاقتصاديّ بجميع أشكاله. فإنّ هذه الصيغ لا تنفصل عادة عن الدور القياديّ للحاكم الشرعيّ، وتكون مجمّدة في حالة فرد متديّن يعيش ضمن مجتمع غير ملتزم اجتماعيّاً بالإسلام.
ثالثاً: إنّ حالة الفرد المتديّن الّذي يعيش ضمن مجتمع لا يتبنّى الإسلام منهجاً للحياة، هي حالة معقّدة ومتناقضة بين تكليفه الشرعيّ والضرورات الّتي لا يجد لها سبيلاً في المجتمع غير الإسلاميّ.
مثال ذلك: موقف الفرد المتديّن من البنوك الحكوميّة في مجتمع يؤمن نظامه بالربا، وموقف المجتمع الإسلاميّ من البنوك ذاتها، فالأوّل قد يسمح له بأخذ الفائدة على ما يودعه في تلك البنوك باعتبارها مالاً مجهول المالك، وأما المجتمع الإسلاميّ فهو يرفض الفائدة رفضاً كاملاً، ويربط أرباح البنك بالعمل، وبما يُساهم به من جهد منتج في الحياة الاقتصاديّة.
أحكام الثروة بين الفقه الفرديّ والفقه المجتمعيّ:
في أكثر الرسائل العمليّة للفقهاء تُقدَّم عادة الصورة المحدودة والفرديّة, لأنّها تتعامل مع فرد متديّن يُريد أنْ يُطبِّق سلوكه على الشريعة رغم وجوده في مجتمع غير ملتزم بالإسلام منهجاً في الحياة.
ومن هنا لم تكن الصورة الّتي توحي بها تلك الرسائل العمليّة كافية لاستيعاب التصوّر الشامل لأهميّة الاقتصاد الإسلاميّ، وثماره المرجوّة في توفير السعادة والرفاه، ولكنّها ـ مع هذا ـ صورة لا غنى عنها، والهدف من تقديمها تحقيق ما يلي:
أوّلاً: تمكين الفرد المتديّن من طاعة ربّه والخروج عن عهدة التكليف في سلوكه الخاصّ.
ثانياً: الحفاظ عمليّاً على ما يُمكن للفرد المتديّن من الحفاظ عليه وتبنّيه في واقع الحياة، كتعبير حيّ عن الإيمان برسالة السماء، والإصرار على أنّها المنهج السويّ للحياة، وعن الرفض الضمنيّ لأيّ نظام اجتماعيّ آخر.
ثالثاً: تحقيق نصيب من العدالة الاجتماعيّة الّتي يتوخّاها الإسلام بالقدر الّذي تتّسع له قدرة الفرد المتديّن في مجال التطبيق، وقد يكون من أروع الأمثلة على ذلك الدور الإنسانيّ الربّانيّ الّذي تقوم به فريضتا الزكاة والخمس في مجال التكافل الاجتماعيّ ورعاية الفقراء البائسين.
عناصر الصورة الكاملة إسلاميّاً:
قبل أنْ نتعرّف إلى العناصر المكوّنة للصورة الكاملة إسلاميّاً، لا بدّ أنْ نبدأ بتحليل العلاقات الّتي يُمارسها الإنسان في حياته الاقتصاديّة، فإنّ الإنسان يُمارس نوعين مختلفين من العلاقات:أحدهما: علاقاته مع الطبيعة من خلال محاولته السيطرة عليها والاستفادة من خيراتها، وهذا النوع من العلاقات تُجسّده عادة (عمليّة الإنتاج) بأشكالها المختلفة على مرّ التأريخ، فالحجر البسيط، والمحراث اليدويّ، والطاحونة الهوائيّة، والآلة البخاريّة، والمحرّكات الكهربائيّة، كلّها أشكال من الإنتاج تُعبِّر عن العلاقات المتنوِّعة الّتي نشأت بين الإنسان والطبيعة في مجال استثماره لها على مرِّ التأريخ.
والآخر: علاقاته مع الإنسان الآخر الّذي يُشاركه حقّه في الاستفادة من الطبيعة وخيراتها، وهذه العلاقات تُجسّدها عادة (عمليّة التوزيع) بأشكالها المختلفة، فالاسترقاق، والنظام الإقطاعيّ، والرأسماليّة، والإشتراكيّة، والاقتصاد الإسلاميّ كلّها أشكال من التوزيع وتُعبّر عن علاقات متنوِّعة تقوم بين أفراد المجتمع لتحديد طريقة اشتراكهم في خيرات الطبيعة إيجاباً وسلباً.
ففي التصوّر الإسلاميّ (علاقات الإنتاج) يجب أنْ تتأثّر باستمرار بتطوّر خبرة الإنسان بالطبيعة وتقدّمه العلميّ.
وأمّا (علاقات التوزيع) فهي تقوم ـ في التصوّر الإسلاميّ ـ على الحقوق الإنسانيّة الثابتة الّتي تُعبّر عنها خلافة الإنسان في الأرض، والّتي تؤكّد على الحقّ، والعدل، والمساواة، والقيم، والكرامة وغيرها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تؤكّد على شجب علاقات التوزيع القائمة على أساس الاستغلال والظلم مهما كان مستوى الإنتاج وشكله.
فالإسلام لم يجعل شكل التوزيع يتحدّد ويختلف ـ بالضرورة ـ تبعاً لاختلاف عمليّة الإنتاج، بل ربط بين العمل والملكيّة, أيْ جعل العمل والحاجة أساسيّين للملكيّة في الاقتصاد الإسلاميّ، بل ومبدأً ثابتاً في علاقات التوزيع لا يختلف فيه عصر الإنتاج اليدويّ عن عصر الإنتاج الآليّ، ومجتمع الطاحونة الهوائيّة عن مجتمع الطاحونة البخاريّة. وكلّ ذلك ـ أي من أدوات الإنتاج ـــ ليس هو ما يُعلّم الإنسان معنى العدل، وإنّما نموّ أدوات الإنتاج وتطوّرها في يد بعض أفراد المجتمع قد يُمكِّنه من الانحراف عن مسيرة العدل الاجتماعيّ والخلافة الإنسانيّة العامّة على الأرض، بما يفتح أبواب الاستغلال والظلم على مصاريعها، ولذا لا بُدَّ من صيانة المجتمع والتصدّي لكلِّ أشكال الاستغلال والظلم من خلال تشريعات تضمن عدم تأثير تطوّر أدوات الإنتاج على سلامة التوزيع وعدالته. وعلى هذا الأساس تُقسّم عناصر الصورة الكاملة لاقتصاد المجتمع الإسلاميّ إلى ثلاثة أقسام:
عناصر الاقتصاد الإسلاميّ:
1- عناصر ثابتة: تُنظّم علاقات التوزيع وفقاً لمبادىء العدالة الاجتماعيّة والخلافة العامّة للإنسان على الأرض. وهذه العناصر قد وُضعت في الإسلام على شكل أحكام منصوصة في الكتاب الكريم والسُّنّة، أو مستخلصة من الأحكام المنصوصة، ومثال ذلك: ما تقدّم من ربط الملكيّة بأساسين فقط هما العمل والحاجة.2- عناصر متحرِّكة في مجال التوزيع: وتنظيم علاقاته، تدعو الضرورة إليها بسبب المستجدّات والمتغيّرات في عمليّة الإنتاج وملابساتها، ومدى ما يُمكن لهذه المتغيّرات من إيجاد فرص جديدة للاستغلال. ويدخل في هذا القسم العناصر الإسلاميّة المتحرّكة الّتي حدّدنا فيما سبق مؤشّراتها الثابتة في الشريعة الإسلاميّة.
ومثال هذا القسم: تحديد الحاكم الشرعيّ حدّاً أعلى لا يُسمح بتجاوزه في عمليّة إحياء الأرض أو غيرها من مصادر الثروة الطبيعيّة، فيما إذا كان السماح المطلق مع نمو آليّات الإنتاج، قد يؤدّي إلى إمكان ظهور ألوان من الاستغلال والاحتكار الّتي لا يُقرّها الإسلام.
3- عناصر متحرِّكة في مجال الإنتاج: وتحسينه وتطوير أدواته وتنمية محصوله. وهذه العناصر متطوّرة بطبيعتها، ولا معنى لافتراض الثبات في علاقات الإنسان بالطبيعة ما دامت هذه العلاقات وليدة الخبرة البشريّة وتناميها باستمرار. والأساس لهذه العناصر المتحرِّكة هو البحث العلميّ والعلوم الطبيعيّة.
وعلى الدولة الإسلاميّة أنْ ترسم سياسة اقتصاديّة للإنتاج تقوم على العناصر المتحرِّكة المستوحاة من تلك الدراسات والخبرات، وأنْ تكون أهداف السياسة منسجمة مع تقييم الإسلام للإنتاج وتوجيهه الحضاريّ له.
المسؤوليّات العامّة للدولة الإسلاميّة:
لقد أضحت القوّة الاقتصاديّة من أكبر القوى الاجتماعيّة الّتي تدخل في تقييم المجتمعات المعاصرة وتحديد درجة قوّتها وصمودها على الساحة الدوليّة، قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾(9).لا تعني الآية هنا القوّة العسكريّة فقط، بل كلّ قوّة تُحقِّق للمجتمع الإسلاميّ رهبة في نفوس المجتمعات الجاهليّة الّتي تتربّص به وتتآمر عليه، وفي طليعة هذه القوى القوّة الاقتصاديّة للمجتمع. وعلى هذا الأساس يُمكن تحديد مسؤوليّات الدولة الإسلاميّة عن الحياة الاقتصاديّة في المجتمع في خطّين عريضين:أحدهما: تطبيق العناصر الثابتة من الاقتصاد الإسلاميّ.
والآخر: ملء العناصر المتحرِّكة وفقاً لظروف الواقع وعلى ضوء المؤشّرات الإسلاميّة العامّة الّتي تقدّم ذكرها.
وتتفرّع من هذين الخطّين عدّة مسؤوليّات تفصيليّة، منها:
1- مسؤوليّة الضمان الاجتماعيّ انطلاقاً من حقّ الأمّة جميعها في الانتفاع بثروات الطبيعة وخيراتها.
2- مسؤوليّات التوازن الاجتماعيّ، بمعنى توفير حدّ أدنى من الراحة والرفاه لكلِّ أفراد المجتمع من خلال توفير إمكانات العمل وفرص الإنتاج للجميع، ومن خلال منع تجاوز مستوى المعيشة بصورة حادّة، أو احتكار الثروة في طبقة خاصّة.
3- مسؤوليّة رعاية القطاع العامّ واستثماره بأقصى درجة ممكنة، وذلك من خلال الاستفادة من أحدث الأساليب وكلّ المستجدات العلميّة في سبيل تنميته وإصلاحه والارتفاع بمستوى قدرته الإنتاجيّة.
4- مسؤوليّة الإشراف على مجمل حركة الإنتاج في المجتمع، وإعطاء التوجيهات اللّازمة بهذا الصدد تفادياً لمشاكل الفوضى في الإنتاج، والحيلولة دون الإسراف في الإنتاج على المستويين الفرديّ والمجتمعيّ.
5- وضع سياسة اقتصاديّة لتنمية الدخل الكلّيّ للمجتمع ضمن الصيغ التشريعيّة الّتي تتّسع لها صلاحيّات الحاكم الشرعيّ.
وعلى ضوء ما تقدّم نكون قد حدّدنا تصوّراً عن حياة المجتمع الإسلاميّ وما يسوده من صور العدالة والرخاء، وذلك من خلال توجيهه للأهداف والقيم الإسلاميّة الكبرى والعمل على تحقيقها.
الخلاصة:
أوّلاً: إنّ الإسلام ليس ديناً وعقيدة فقط، بل هو ثورة ومنهج للحياة في كلّ زمان ومكان، لكي يُحرِّر الإنسان من الداخل أوّلاً عن طريق الجهاد الأكبر، ومن ثُمّ تحرير الإنسان من الخارج عن طريق جهاد الظلم، والاستغلال، والعبوديّة.ثانياً: لقد استطاعت ثورة الأنبياء عليهم السلام كثورة اجتماعيّة أنْ تُزيل مواقع الظلم والاستغلال نهائيّاً وأنْ تُنبِّه في نفوس البشريّة كلّ كوامن الخير، والعطاء، والإبداع.
ثالثاً: إنّ الإسلام قادر على قيادة الحياة وتنظيمها ضمن أطره الحيّة دائماً، ومن منطلق عناصره الثابتة والمتحرِّكة، بحيث يُمكن أنْ يستوعب كلّ مشاكل الحياة المعاصرة ووضع العلاج المناسب لها، وهذا ما يتطلّب منهجاً إسلاميّاً واعياً للعناصر الثابتة في الشريعة وإدراكاً معمّقاً لمؤشّراتها العامّة، والّتي على ضوئها يتمّ استنباط العناصر المتحرِّكة وتحديدها وفقاً لطبيعة المرحلة ومتطلباتها، وذلك ضمن حدود صلاحيّات الحاكم الشرعيّ.
رابعاً: تحتوي الشريعة الإسلاميّة على خطوط عامّة ومؤشّرات أساسيّة ترتسم من خلالها صورة متكاملة لاقتصاد المجتمع الإسلاميّ، ومن أبرز تلك المؤشّرات والخطوط ممارسة المعصوم (نبيّاً أو وصيّاً)، بحيث تُشكّل بمجموعها دلالة ثابتة يُمكن أنْ يستفيد منها الحاكم الشرعيّ (وليّ الأمر) في عصر الغيْبة، والعمل على تحقيق أهدافها وقيمها ضمن نطاق صلاحيّاته الشرعيّة.
خامساً: لقد وضع الإسلام صورتين لأحكام الثروة
والموارد الطبيعيّة، الأولى: الصورة الكاملة للمجتمع الإسلاميّ، والثانية: الصورة المحدّدة للفرد وعلاقاته مع الطبيعة والإنسان الآخر.
سادساً: يعتبر الإسلام أنَّ كلّ قوّة أو قدرة تُحقّق للمجتمع الإسلاميّ وأفراده رهبة في نفوس المجتمعات المتربّصة بهم شرّاً وسوءاً، فإنّها لا بُدَّ من وجوب تنميتها ورعايتها ولا سيّما القدرة والقوّة الاقتصاديّة في عصرنا الحديث، حيث يتطلّب من الدولة الإسلاميّة القيام بجميع مسؤوليّاتها وواجباتها في تطبيق أحكام الإسلام الثابتة والمتغيّرة، والّتي على ضوئها يُمكن تحقيق الضمان الاجتماعيّ، فضلاً عن خلق حالة من التوازن الاجتماعيّ بين الأفراد، والتصدّي لكلِّ أساليب الاحتكار، والاستبداد، والطغيان.
المصادر:
من كتاب (الإسلام يقود الحياة) الشهيد السيد محمد باقر الصدر
1- سورة الأحزاب، الآية: 36.
2- سورة القصص، الآية: 5.
3- سورة الحج، الآية: 41.
4- سورة الحشر، الآية: 7.
5- سورة المائدة، الآية: 42.
6- سورة النحل، الآية: 90.
7- تذكرة الفقهاء، العلّامة الحليّ، ج2، ص 337.
8- الأصول من الكافي، الكليني، ج1، ص 541.
9- سورة الأنفال، الآية: 60.