«يا عماه، لولا أنه لا ينبغي للمودع أن يسكت، وللمشيع أن ينصرف، لقصر الكلام، وإن طال الأسف. وقد أتى من القوم إليك ما ترى، فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها وشدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها، واصبر حتى تلقى نبيك (صلى الله عليه وآله)، وهو عنك راض» (1).
تلك هي كلمات الإمام الحسن المجتبى صلوات الله وسلامه عليه، وهو يودع مع أبيه، وأخيه، وعمه عقيل، وابن عمه عبد الله بن جعفر، وابن عباس ـ أبا ذر، ذلك الصحابي الجليل، الذي جاهد وناضل القوم في سبيل الدين والحق. ولاقى منهم ما لاقى من اضطهاد وإهانة وبلاء، حتى قضى غريباً، وحيداً فريداً في «الربذة»: منفاه.
هي كلمات ناطقة بموقفه القائم على أساس العقيدة والحق، تجاه تصرفات وأعمال الهيئة الحاكمة: «القوم».
وهو بكلماته هذه يساهم في تحقيق ما كان يرمي إليه أبو ذر من أهداف، حيث كان لا بد من إطلاق الصرخة، لإيقاظ الأمة من سباتها، وتوعيتها على حقيقة ما يجري وما يحدث، وإفهامها: ان الحاكم لا يمكن أن يكون أبداً في منأى عن المؤاخذة، ولا هو فوق القانون، وإنما هو ذلك الحامي له، والمدافع عنه، فإذا ما سوّلت له نفسه أن يرتكب أية مخالفة، أو أن يستغل مركزه في خدمة أهوائه ومصالحه الشخصية، فإن بإمكان كل أحد أن يقف في وجهه، ويعلن كلمة الحق، ويعمل على رفع أي ظلم أو حيف يصدر منه.
ومن جهة أخرى... فإنه إذا كانت الظروف لا تسمح لأمير المؤمنين وسبطيه (عليهم السلام)، وآخرين ممن هم على خطهم لأن يقفوا موقف أبي ذر، فإن عليهم ـ على الأقل ـ أن يعلنوا عن رأيهم ـ الذي هو رأي الإسلام ـ فيه، وفي مواقفه، فإن ذلك من شأنه: أن يعطي موقفه العظيم ذاك بعداً إعلامياً، وعمقاً فكرياً وسياسياً، يحمي تلك المعطيات والنتائج التي ستنشأ عنه.. فكانت مبادرتهم ـ إلى جانب مبادرات أخرى لأمير المؤمنين (عليه السلام) خاصة، لامجال لذكرها هنا ـ لتوديعه، رغم منع السلطة، ثم جرى بينهم وبين مروان، ثم بينهم وبين عثمان ما جرى، حسبما ذكره، أو أشار إليه غير واحد من المؤرخين (2).
وإذا تأملنا في كلمات الإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه لأبي ذر في ذلك الموقف، فإننا نجدها تتضمن: تأسفه العميق لما فعله القوم بأبي ذر، ثم هو يشجعه على الاستمرار على موقفه، ويعتبر أن فيه رضى النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، ومن ثم رضى الله سبحانه وتعالى..
كما أنه يحاول التخفيف عن أبي ذر، وإعطائه الرؤية الصحيحة، التي من شأنها أن تخفف من وقع المحنة عليه، وتسهل عليه مواجهة البلايا التي تنتظره، وذلك حينما يأمره (عليه السلام) بأن: يضع عنه الدنيا، بتذكر فراغها، وشدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها.
فإن هذه الكلمات بالذات قد تكفلت ببيان السر الحقيقي، الذي يجعل شخصية الإنسان المسلم أقوى من كل ما في الدنيا من أسلحة وقدرات تملكها قوى البغي والشر، وتجعله على استعداد لأن يضحي بكل شيء حتى بنفسه، بكل رضا وثقة واطمئنان، بل وباندفاع يحمل معه شعوراً غامراً بالسرور والهناء، بل وبالفرحة والسعادة.
اشتراك الإمام الحسن (عليه السلام) في الفتوح:
1 ـ ويقولون: إنه في سنة ثلاثين غزا سعيد بن العاص طبرستان، وكان أهلها في خلافة عمر قد صالحوا سويد بن مقرن على مال بذلوه، ثم نقضوا، فغزاهم سعيد بن العاص، ومعه الحسن، والحسين، وابن عباس (3).
قال أبو نعيم بالنسبة إلى الإمام الحسن (عليه السلام): «دخل أصبهان غازياً، مجتازاً إلى غزاة جرجان» (4).
وعده السهمي هو وأخاه الحسين (عليه السلام) ممن دخل جرجان (5).
2 ـ وفي مناسبة فتح افريقية يقولون: إن عثمان جهز العساكر من المدينة، وفيهم جماعة من الصحابة، منهم ابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو بن العاص، وابن جعفر، والحسن والحسين، وابن الزبير، وساروا مع عبد الله بن أبي سرح سنة ست وعشرين (6).
التفسير والتوجيه:
وقد حاول البعض توجيه ذلك على أساس: أنه (عليه السلام) يريد أن يرى اتساع نفوذ الإسلام، حيث إن في هذه الفتوحات خدمة للدين، ونشراً للإسلام، فدخل (عليه السلام) ميدان الجهاد «والجهاد باب من أبواب الجنة» وألقى الستار على ما يكنه في نفسه من الاستياء على ضياع حق أبيه.. وذلك لأن أهل البيت (عليهم السلام) ما كان همهم إلا الإسلام والتضحية في سبيله (7).وعلى حد تعبير الحسني: «وليس بغريب على علي بن أبي طالب وبنيه أن يجندوا كل إمكانياتهم وطاقاتهم في سبيل نشر الإسلام، وإعلاء كلمته. وأذا كانوا يطالبون بحقهم في الخلافة فذاك لأجل الإسلام ونشر تعاليمه، فإذا اتجه الإسلام في طريقه، فليس لديهم ما يمنع من أن يكونوا جنوداً في سبيله، حتى ولو مسهم الجور والأذى وقد قال أمير المؤمنين أكثر من مرة: والله لأ سالمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن جور إلا عليَّ خاصة» (8).
ويعلل رحمه الله تعالى عدم اشتراك الحسنين في المعارك الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب، بالرغم من أنها قد بلغت ذروتها في مختلف المناطق، والانتصارات يتلو بعضها بعضاً، والأموال والغنائم تتدفق على المدينة من هنا وهناك.. وبالرغم من أن الإمام الحسن (عليه السلام) كان في السنين الأخيرة من خلافة عمر قد أشرف على العشرين من عمره، وهو سن مناسب للاشتراك في الحروب، التي كان يتهافت المسلمون كهولاً وشباباً وشيوخاً على الاشتراك بها ـ يعلل رحمه الله ذلك بقوله: «لعل السبب في ذلك يعود إلى انصراف أمير المؤمنين عن التدخل في شؤون الدولة والحياة السياسية، ومما لا شك فيه: أن عدم اشتراك الإمام في الحروب والغزوات لم يكن مرده إلى تقاعس الإمام، وحرصه على سلامة نفسه. بل كان كما يذهب أكثر الرواة والمؤرخين لأن عمر بن الخطاب قد فرض على الكثير من أعيان الصحابة ما يشبه الإقامة الجبرية لمصالح سياسية يعود خيرها إليه، وبقي الحسن السبط إلى جانب والده منصرفاً إلى خدمة الإسلام، ونشر تعاليمه، وحل ما يعترض المسلمين من المشاكل الصعاب» (9).
الرأي الصواب:
ولكننا بدورنا، لا نستطيع قبول ذلك، ونعتقد: أن الحسنين (عليهما السلام) لم يشتركا في أي من تلك الفتوحات.. ونرى أن تلك الفتوحات لم تكن ـ عموماً ـ في صالح الإسلام، إن لم نقل: إنها كانت ضرراً ووبالاً عليه، ونستطيع أن نجمل ما نرمي إليه هنا على النحو التالي:آثار الفتوح على الشعوب التي افتتحت أرضها:
إن من الواضح: أن تلك الفتوحات لم يكن يتبعها أي اهتمام ـ من قبل ـ الهيئة الحاكمة بإرشاد الناس، وتعليمهم، وتثقيفهم، وتربيتهم تربية دينية صالحة، بحيث يتحول الإسلام في داخلهم إلى طاقة عقائدية، تشحن وجدان الإنسان وضميره بالمعاني السامية، والنبيلة، ولينعكس ذلك ـ من ثم ـ على كل حركات ذلك الإنسان ومواقفه، وتغنى روحه وذاته بالمعاني والخصائص الإنسانية الإسلامية السامية، وتؤثر في صنع، ثم في بلورة خصائصه الأخلاقية، على أساس تلك المعاني التي فجرتها العقيدة في داخل ذاته، وفي عمق ضميره ووجدانه.
نعم.. لقد اتسعت رقعة الإسلام خلال عقدين من الزمن اتساعاً هائلاً، يفوق أضعافاً كثيرة جداً ما تم إنجازه على هذا الصعيد في عهد الرسول الأعظم صلى عليه وآله وسلم. ولكن الفارق بينهما كان شاسعاً، والبون كان بعيداً، فلقد كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) لا يكتفي من الناس بإظهار الإسلام والتلفظ بالشهادتين، ثم ممارستهم السطحية لبعض الشعائر والظواهر الإسلامية، وإنما كان يرسل لهم المعلمين والمرشدين، والمربين، ليعلموهم الكتاب والحكمة، وأحكام الدين (10).
وقد أرسل النبي (صلى الله عليه وآله) مصعب بن عمير إلى المدينة ليعلمهم، كما أنه (صلى الله عليه وآله) في عهده لعمرو بن حزم يأمره بتعليمهم (راجع مكاتيب الرسول كتابه صلى الله عليه وآله لعمرو بن حزم).
وفي التراتيب الإدارية ج 1 ص 41: أن النبي (صلى الله عليه وآله) يتهدد من لا يعلم جيرانه. وفي البخاري هامش فتح الباري ج 1 ص 166 يقول النبي (صلى الله عليه وآله) لوفد عبد القيس: «ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم».
وفي غزوة بئر معونة قتل العشرات ممن أرسلهم النبي (صلى الله عليه وآله) لتعليم الناس أحكام الدين.
وليراجع غزوة الرجيع وغير ذلك كثير جداً لا مجال لتتبعه..
ولكن قال بعض المحققين: إن قسطاً عظيماً من الفتوح الإسلامية كان في إيران، ونرى كثيراً من العلماء والمتعبدين من الإيرانيين في زمن التابعين، ولا يمكن نشوء هؤلاء إلا بالتعليم والإرشاد، من قبل الصحابة والتابعين وأهل المدينة، فعدم ذكر هذه الإرشادات لا يدل على عدم وجودها.
ونقول: إن ما ذكره قد كان بعد عشرات السنين من هذه الفتوحات.. كما أن كمية العلماء والمتعبدين التي أشار إليها، لا تتناسب مع حجم الفتوحات هذه.
كما أنهم إنما كان المتعبدون منهم ممن يعيشون في المناطق القريبة من البلاد الإسلامية.
وعلى كل حال، فإن ذلك رغم أنه لم يكن في المستوى المطلوب، ولا في أما هذه الفتوحات العظيمة التي تم إنجازها على عهد الخلفاء الثلاثة بعده (صلى الله عليه وآله)، ثم في عهد الأمويين، فلم يكن يصحبها تربية ولا تعليم، ولا كان ثمة كوادر كافية للقيام بمهمة كهذه، بالنسبة لهذه الرقعة الواسعة، وهذا المد البشري الهائل، ولا كان يهم الخلفاء والفاتحين ذلك من قريب، ولا من بعيد.
وإنما كانوا يكتفون من المستسلمين بالتلفظ بالشهادتين، ثم بممارسة بعض الحركات والشعائر، ظاهراً، من دون أن يكون لها أي عمق عقيدي، أو رصيد ضميري أو وجداني ذي بال.. ولذلك نجد في كتب التاريخ: أن كثيراً من البلدان تفتح، ثم تعود إلى الكفر والعصيان، ثم تفتح مرة أخرى (11).
فالنبي (صلى الله عليه وآله) كان يريد من الناس الإسلام والإيمان معاً.. «قَالَتِ الأَعْرَابُ: آمَنّا. قُلْ: لَمْ تُؤْمِنوا، وَلِكن قُولُوا: أَسْلَمنا، وَلَمّا يدخُلِ الإيمَانُ في قُلوبِكُمْ» (12).
أما الآخرون، فكانوا يكتفون منهم بظاهر الأسلام، ولا يهمهم ما بعد ذلك.
ونجد عدم الاهتمام هذا واضحاً جلياً لدى القرشيين ، وحتى الكثيرين من صحابة رسول الله صلى عليه وآله وسلم منهم.. حتى لقد قال موسى بن يسار: «إن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانوا أعراباً جفاة، فجئنا نحن أبناء فارس، فلخصنا هذا الدين» (13).
وهكذا.. فإن أهل البلاد المفتوحة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) قد بقوا على ما كانوا عليه من عاداتهم وتقاليدهم، ومفاهيمهم الجاهلية، التي كانت تهيمن على حركاتهم، وعلى مواقفهم، وعلى علاقاتهم الاجتماعية بصورة عامة، ولم يتعمق الإسلام في وجدانهم، ولا مسَّ ضمائرهم، فضلاً عن أن يكونوا قد ذابوا فيه، بحيث يصبح هو المهيمن، والمحرك والدافع لهم في كل موقف وكل حركة..
آثار ونتائج:
وعلى صعيد آثار هذه الظاهرة على المدى البعيد، فقد كانت لها آثار سيئة جداً..فإن تلك العادات، والتقاليد، والمفاهيم، والانحرافات الجاهلية، والعلاقات القبلية، والأهواء والأطماع الشخصية، وما يتبع ذلك من ممارسات لا إنسانية لم ير فيها المستفيدون منها، الذين ما عرفوا من الإسلام إلا اسمه، ولا من الدين إلا رسمه أمراً مخالفاً للإسلام، أو مصادماً له، ولا أحسوا فيها أية منافرة أو منافاة له، إن لم نقل: إنها ـ بزعم أولئك المستفيدين منها ـ قد انتزعت من الإسلام اعترافاً بها، وأصبح يؤمِّن غطاء وحماية لها، حيث قد صارت ملبسة بلباس الشرع، ومصبوغة بصبغة الدين.بل إن الحكام وأعوانهم، ممن كان لهم مكانة ما لدى الناس، بسبب صحبتهم للنبي (صلى الله عليه وآله)، ورؤيتهم له ـ هم أيضاً، أو أكثرهم ـ لم يكن الإسلام قد تعمق في نفوسهم كثيراً، بل بقوا على ما كانوا عليه من انحرافات، ومن مفاهيم وتقاليد جاهلية وقبلية، وقد استفادوا من مركزهم، ومن موقعهم، ومن مكانتهم في مجال تركيز تلك المفاهيم والعادات والانحرافات، ولو عن طريق وضع الأحاديث على لسان النبي (صلى الله عليه وآله) لتأييدها، كما كان الحال بالنسبة للتميز العنصري، وتفضيل العربي على المولى، وغير ذلك مما تقدمت الإشارة إلى بعض منه.
ولا أقل.. من أنهم لم يكن يهمهم أمر الإسلام، ونشر مفاهيمه وتعاليمه، من قريب ولا من بعيد.
وبعد.. فإنه إذا كان إسلام الناس صورياً، لا يدعمه أي بعد عقيدي، وليس له أية خلفيات وقواعد ثقافية وعلمية، ولا يتصل بروح الإنسان وعقله ووجدانه، بحيث يصير محركاً وجدانياً، واندفاعاً ضميرياً.. فإنه سيتقلص تدريجاً، ولا يعود له أي أثر على صعيد الحركة والموقف.. ولسوف يعتاد الناس على إسلام كهذا.. يرون أنه لا يتنافى مع جميع أشكال الإنحرافات والجرائم، وتصبح هداية هؤلاء الناس على المدى البعيد أكثر صعوبة، وأعظم مؤونة، إن لم نقل: إنه يحتاج إلى عملية بل إلى عمليات جراحية عميقة جداً تستنفد الكثير من الطاقات والمواهب.. وتنتهي بهدر العظيم من القدرات والإمكانات.. ولقد كان بالإمكان تجنب كل ذلك، لو كان ثمة تأس واتباع للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وتأثُّر لخطاه المباركة والميمونة في هذا المجال.
وعلى صعيد آخر.. فإن مجتمعاً كهذا لا يملك المناعات ولا الحصانات الكافية، التي تضمن عدم صيرورته ألعوبة بأيدي الأشرار، بل بأيدي أولئك الذين يتخذونه أداة لهدم الإسلام الحقيقي، الذي يرونه يقف حاجزاً أو مانعاً أمام أطماعهم وأهوائهم وانحرافاتهم، وقد حصل ذلك بالفعل، كما يتضح لمن يراجع التاريخ، ولا سيما فترة الحكم الأموي، ثم ما يلي ذلك من فترات.
وعن مجتمع العراق في عصر الإمام الحسن (عليه السلام)، نجد النص التاريخي يقول: «ومعه أخلاط من الناس، بعضهم شيعته، وشيعة أبيه (عليهما السلام)، وبعضهم محكِّمة، يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة، وبعضهم أصحاب طمع في الغنائم وبعضهم شكاك، وبعضهم أصحاب عصبية، اتبعوا رؤساء لأحكام ومثلها في أصول دين» (14).
لقد كان هذا حال مجتمع العراق في عهد الإمام الحسن عليه الصلاة والسلام، رغم أنه كان أقرب إلى مركز الحكم الإسلامي من غيره، ورغم أنه قد كان ثمة عناية خاصة من قبل الهيئة الحاكمة بشأن العراق، الذي كان مركز الانطلاق لغزو بلاد المشرق..
وقد تحدثنا عن مجتمع العراق بشيء من التفصيل في بحثنا المستفيض حول الخوارج، والذي نأمل في تقديمه إلى القراء في فرصة قريبة إن شاء الله تعالى.
ولكن يلاحظ على النص المتقدم قوله: «بعضهم شيعته، وشيعة أبيه».. فإننا لا نعتقد: أن هذا البعض كان من الكثرة بحيث يصح جعله في قبال سائر الفئات التي تحدث عنها ذلك النص، إذ:
«قد كان الناس كرهوا علياً، ودخلهم الشك والفتنة، وركنوا إلى الدنيا، وقلّ مناصحوه، فكان أهل البصرة على خلافه، والبغض له، وجلّ أهل الكوفة وقراؤهم، أهل الشام، وقريش كلها» (15).
بل لقد روى الكشي عن الباقر (عليه السلام) قوله: «كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) عندكم بالعراق، يقاتل عدوه، ومعه أصحابه وما كان منهم خمسون رجلاً يعرفنه حق معرفته، وحق معرفته إمامته» (16).
وفي حرب صفين يقول علي (عليه السلام) لعدي بن حاتم: «أدن. فدنا حتى وضع أذنه عند أنفه. فقال: ويحك، إن عامة من معي اليوم يعصيني. وإن معاوية فيمن يطيعه ولا يعصيه» (17).
هذا.. وإن سلوك الحكام والولاة مع الناس آنئذٍ لم يكن إسلامياً على وجه العموم. وإن إلقاء نظرة سريعة على معاملتهم للناس آنئذٍ، تكفي لإطاء صورة عن ذلك.. وكنموذج على ذلك نذكر النص التالي:
«لم يزل أهل أفريقية من أطوع البلدان وأسمعهم إلى زمان هشام بن عبد الملك، حتى دب إليهم أهل العراق، واستثاروهم، فشقوا العصا، وفرقوا بينهم إلى اليوم، وكانوا يقولون: لا نخالف الأئمة بما تجني العمال، فقالوا لهم: إنما يعمل هؤلاء بأمر أولئك، فقالوا حتى نَخْبُرَهُم.
فخرج ميسرة في بضعة وعشرين رجلاً، فقدموا على هشام، فلم يؤذن لهم، فدخلوا على الأبرش، فقالوا: أبلغ أمير المؤمنين: أن أميرنا يغزو بنا، وبجنده، فإذا غنمنا نفّلهم، ويقول: هذا أخلص لجهادنا وإذا حاصرنا مدينة قدمنا وأخرهم، ويقول: هذا ازدياد في الأجر، ومثلنا كفى إخوانه. ثم إنهم عمدوا إلى ماشيتنا، فجعلوا يبقرون بطونها عن سخالها، يطلبون الفراء البيض لأمير المؤمنين، فيقتلون ألف شاة في جلد، فاحتملنا ذلك. ثم إنهم سامونا أن يأخذوا كل جميلة من بناتنا. فقلنا: لم نجد هذا في كتاب ولاسنة، ونحن مسلمون، فأحببنا أن نعلم: أعن رأي أمير المؤمنين هذا، أم لا؟!..
فطال عليهم المقام، ونفدت نفقاتهم، فكتبوا أسماءهم ودفعوها إلى وزرائه، وقالوا: إن سأل أمير المؤمنين، فأخبروه، ثم رجعوا إلى أفريقية، فخرجوا على عامل هشام، فقتلوه، واستولوا على افريقية، وبلغ الخبر هشاماً، فسأل عن النفر، فعرف أسماءهم، فإذا هم الذين صنعوا ذلك» (18).
ويذكر نص آخر: أن قتيبة بن مسلم أوقع باهل الطالقان، فقتل من أهلها مقتلة عظيمة، لم يسمع بمثلها، وصلب منهم سماطين: أربعة فراسخ في نظام واحد، الرجل بجنب الرجل، وذلك مما كسر جموعهم» (19).
كما أن بعضهم يعطي أماناً لبلد في معالمة جرجان، على أن لا يقتل منهم رجلاً واحداً، فيقتلهم جميعاً إلا رجلاً واحداً (20).
وآخر يصالح أهل مدينة قنسرين، ويجعل من جملة الشروط: أن يهدم المدينة من الأساس وهكذا كان (21).
وأيضاً: فقد دعا نائب خراسان: «أهل الذمة بسمرقند، ومن وراء النهر إلى الدخول في الإسلام، ويضع عنهم الجزية.
فأجابوه إلى ذلك، وأسلم غالبهم، ثم طالبهم بالجزية، فنصبوا له الحرب، وقاتلوه» (22).
كما أن عقبة بن نافع، الذي ولاَّه معاوية ابن أبي سفيان على افريقية، حينما دخلها «وضع السيف في أهل البلاد، لأنهم كانوا إذا دخل إليهم أمير أطاعوا، وأظهر بعضهم الإسلام، فإذا عاد الأمير عنهم نكثوا، وارتد من أسلم» (23).
وقال ابن الأثير: «لما رأى أهل فارس ما يفعل المسلمون بالسواد، قالوا لرستم والفيرزان، وهما على أهل فارس: لم يبرح بكما الاختلاف حتى وهنتما أهل فارس الخ..» (24).
وأمثال ذلك كثير جداً.
ولأجل ذلك، فقد اشتدت مقاومة أهل البلاد المفتوحة، وكثر نقض العهود، حتى اضطر المسلمون إلى فتح كثير من البلاد أكثر من مرة، كما ألمحنا إليه فيما سبق.
المصادر :
1- شرح النهج للمعتزلي ج 8 ص 253 والغدير ج 8 ص 301 عنه، وأشار إلى ذلك اليعقوبي في تاريخه ج 2 ص 172 وعن: الوافي ج 3 ص 107 والبحار ج 22 ص 412 و 436. وراجع أيضاً روضة الكافي ج 8 ص 207.
2- مروج الذهب ج 2 ص 339 ـ 342 وشرح النهج للمعتزلي ج 8 ص 252 ـ 255 وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 172/173 والفتوح لابن أعثم ج 2 ص 159 و 160
3- الفتوحات الإسلامية ج 1 ص 175 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 109 وتاريخ الطبري ج 3 ص 323، وفتوح البلدان للبلاذري بتحقيق المنجد، قسم 2 ص 411، وتاريخ ابن خلدون ج 2 قسم 2 ص 135 والبداية والنهاية ج 7 ص 154، وحياة الإمام الحسن (عليه السلام) للقرشي ج 1 ص 96، وسيرة الأئمة الاثني عشر ج 1 ص 536 وج 2 ص 17 عن ابن خلدون والطبري.
4- ذكر أخبار أصفهان ج 1 ص 44 وراجع ص 43 و 47.
5- تاريخ جرجان ص 7.
6- العبر (تاريخ ابن خلدون) ج 2 قسم 1 ص 128 وحياة الحسن (عليه السلام) للقرشي ج 1 ص 95 وسيرة الأئمة الاثني عشر ج 2 ص 16 ـ 18 و ج 1 ص 535 عن ابن خلدون وعن الاستقصاء في أخبار المغرب الأقصى للناصري السلاوي ج 1 ص 39.
7- حياة الحسن (عليه السلام) للقرشي ج 1 ص 95 و 96 وسيرة الأئمة الاثني عشر ج 1 وج 2 ص 16 ـ 18.وكلمة علي (عليه السلام) الأخيرة في نهج البلاغة ج 1 ص 120/121 الخطبة رقم 71 ط عبده.
8- سيرة الأئمة الاثني عشر ج 1 ص 536 وراجع ص 317.
9- سيرة الأئمة الاثني عشر ج 1 ص 534 وراجع صفحة 317.
10- التراتيب الإدارية ج 1 ص 477 و248.
11- تاريخ ابن خلدون ج 2 قسم 2 ص 131 و 132 و 133 والبداية والنهاية ج 7 ص 152 و 155 و 165 و 121 وليراجع: الفتوح لإبن اعثم الترجمة الفارسية ص 85 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 465 وتاريخ الطبري ج 3 ص 325 والفتوحات الإسلامية لدحلان ج 1 فإن فيه الكثير من الموارد وراجع المختصر في أخبار البشر ج 1 ص 186.
12- سورة الحجرات آية: 14.
13- لسان الميزان ج 6 ص 136 وميزان الاعتدال ج 4 ص 227.
14- كشف الغمة للأربلي ج 2 ص 165 والإرشاد للمفيد ص 193 وأعيان الشيعة ج 4 قسم 1 ص 50 و 51.
15- الغارات للثقفي ج 2 ص 552.
16- اختيار معرفة الرجال ص 6.
17- شرح النهج للمعتزلي ج 8 ص 77.
18- الكامل لابن الأثير، ج 3 ص 92 و 93 وتاريخ الطبري ج 3 ص 313.
19- البداية والنهاية ج 9 ص 78 و 81 والكامل لابن الأثير ج 4 ص 545.
20- تاريخ الطبري ج 3 ص 324 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 110 والبداية والنهاية ج 7 ص 154.
21- الفتوحات الإسلامية لدحلان ج 1 ص 53 والكامل لابن الأثير ج 2 ص 493 وتاريخ الطبري ج 3 ص 98.
22- البداية والنهاية ج 9 ص 259/260.
23- الكامل لابن الأثير ج 3 ص 465.
24- الكامل لأبن الأثير ج 2 ص 448.