معالجة مشكلة المجتمع الانسانية

ما هو النظام الاجتماعيّ الّذي يصلح للإنسانيّة وتسعد به في حياتها؟ من الطبيعيّ أنْ تحتلّ هذه المشكلة مقامها الخطير على مستوى البشريّة, لأنّ تحديد الداء ووضع الدواء لها يدخل في أغوار الحياة الإنسانيّة، ويؤثّر في كيانها الاجتماعيّ، والقيميّ، والأخلاقيّ بالصميم.
Monday, August 22, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
معالجة مشكلة المجتمع الانسانية
 معالجة مشكلة المجتمع الانسانية

 





 


ما هو النظام الاجتماعيّ الّذي يصلح للإنسانيّة وتسعد به في حياتها؟
من الطبيعيّ أنْ تحتلّ هذه المشكلة مقامها الخطير على مستوى البشريّة, لأنّ تحديد الداء ووضع الدواء لها يدخل في أغوار الحياة الإنسانيّة، ويؤثّر في كيانها الاجتماعيّ، والقيميّ، والأخلاقيّ بالصميم.
ويهدف هذا البحث إلى مناقشة ونقد أهمّ المذاهب والأنظمة الاجتماعيّة المعاصرة وما تقوم عليه من مرتكزات أساسيّة ومفاهيم فكريّة، ومن ثُمّ مقارنتها بالنظريّة الاجتماعيّة في الإسلام، لكي نستنتج من خلال ذلك الرؤيّة الإسلاميّة ومرتكزاتها.
والنظام الاشتراكيّ الشيوعيّ لم يعد له وجود واقعيّ وعمليّ على الساحة الدوليّة العالميّة، وذلك عقيب سقوط الاتّحاد السوفياتيّ وتفكّكه، بل سقطت النظريّة والتجربة معاً كما تنبّأ لها - آنذاك - الإمام الخمينيّ قدس سره.
أمّا النظام الديمقراطيّ الرأسماليّ فقد شهد منذ قيامه الأزمة تلو الأزمة، وكان آخرها الأزمة الماليّة العالميّة الّتي هزّت المرتكزات الفكريّة والفلسفيّة الماديّة لهذا النظام، وأدخلته في عصر الانهيار التدريجيّ، بعدما كان يعتبر ساسة ومنظّرو هذا النظام أنّه يُمثّل نهاية التأريخ الحضاريّ وذروة النموّ العقليّ والمعرفيّ.
بينما النظام الإسلاميّ بُعث إلى البشريّة مجدّداً بفضل الصحوة الإسلاميّة الّتي تفجّرت ينابيعها الصافية على يد الإمام الخمينيّ بعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، ليشعّ نوره من قلب الظلام الدامس الّذي أغرقت فيه البشريّة من جرّاء النظريّات والمذاهب الوضعيّة والبشريّة الّتي لا تعرف سوى حبّ الذات، وتكديس الثروات.
أملُ البشريّة اليوم هو الإسلام العظيم، الّذي حرّر الإنسان من الداخل قبل الخارج ورفع شعار: لا شرقيّة (شيوعيّة) ولا غربيّة (رأسماليّة)، فهو النظام الأصلح والأقدر على إنقاذ العالم من الويلات والمشاكل الاجتماعيّة، وهو الدِّين الخاتم.
تُعتبر مسألة البحث عن علاج لمشكلة النظام الاجتماعيّ الأصلح للإنسانيّة مشكلة عميقة الجذور في الأغوار البعيدة من تأريخ البشريّة، وقد واجهها الإنسان منذ نشأت في واقعه الحياة الاجتماعيّة، وانبثقت الإنسانيّة الجماعيّة متمثّلة في عدّة أفراد تجمعهم علاقات وروابط مشتركة، هذه العلاقات الاجتماعيّة الّتي كانت ـ وما زالت ـ بحاجة إلى توجيه وتنظيم شامل، يُمكّنهم من الانسجام مع واقعهم الاجتماعيّ ويُحقّق لهم الاستقرار والاطمئنان.
لذا اندفعت البشريّة بشتّى مذاهبها وتوجّهاتها نحو خوض جهاد طويل وكفاح حافل بمختلف ألوان الصراع، بحثاً عن علاج للمشكلة الاجتماعيّة والتنظير لها، ولكنّ ذلك الاندفاع أدّى إلى واقع اجتماعيّ آخر يضجّ بالمآسي والمظالم، وتقترن فيه السعادة بالشقاء, لأنّ كلّ تلك النظريّات الّتي دارت حول علاج المشكلة الاجتماعيّة، كانت عبارة عن مظاهر من الشذوذ والانحراف عن الوضع الاجتماعيّ الصحيح.
ما يهمّنا في هذا الصدد ليس استعراض أشواط الجهاد الإنسانيّ في الميدان الاجتماعيّ والتأريخ له، بل نُريد أنْ نواكب الإنسانيّة في واقعها المعاصر وفي أشواطها الّتي انتهت إليها، لنعرف الغاية الّتي يجب أنْ ينتهي إليها الشوط، وتبرير ذلك يعود إلى ما يلي:
1- إنّ إحساس الإنسان المعاصر بالمشكلة الاجتماعيّة أشدّ من إحساسه بها في أيّ وقت مضى من أدوار التأريخ القديم, لأنّ الإنسان الحديث أصبح يعي أنّ المشكلة الاجتماعيّة من صنعه، وأنّ النظام الاجتماعيّ لا يُفرض عليه من أعلى بالشكل الّذي تفرضه عليه القوانين الطبيعيّة.
2- إنّ إنسان اليوم - من ناحية أخرى - أخذ يُعاصر تطوّراً هائلاً في سيطرة الإنسانيّة على الطبيعة بشكلٍ لم يسبق له نظير، الأمر الّذي أدّى إلى ازدياد المشكلة الاجتماعيّة تعقيداً وتضاعف أخطارها.
3- امتلاك إنسان اليوم خبرة أوسع، وأكثر شمولاً وعمقاً من الخبرات الاجتماعيّة السابقة التي كانت لدى الإنسان القديم. زاد المشكلة تعقيداً، وتنوّعت الآراء في حلّها، والجواب عنها.
وسوف نستعرض أهمّ أربعة مذاهب اجتماعيّة تسود الذهنيّة الإنسانيّة العامّة، ونُناقش مرتكزاتها، وهي كما يلي:
1- النظام الديمقراطيّ الرأسماليّ.
2- النظام الاشتراكيّ.
3- النظام الشيوعيّ.
4- النظام الإسلاميّ.
الثلاثة الأولى من هذه المذاهب تُمثّل ثلاث وجهات نظر بشريّة، في الجواب عن السؤال الأساس: (ما هو النظام الاجتماعيّ الأصلح للإنسانيّة؟) فهي إذاً أجوبة عن هذا السؤال وضعها الإنسان، وفقاً لإمكاناته وقدرته المحدودة.
وأمّا النظام الإسلاميّ فهو يعرض نفسه على الصعيد الاجتماعيّ، بوصفه ديناً قائماً على أساس الوحي، ومعطىً إلهيّاً، لا فكراً تجريبيّاً منبثقاً عن قدرة الإنسان وإمكاناته المحدودة والضيّقة.

المبحث الأوّل: النظام الديمقراطيّ الرأسماليّ:

إنّ حجر الزاوية في بناء النظام الديمقراطيّ الرأسماليّ قائم على أساس الإيمان بالفرد إيماناً لا حدّ له، وبأنّ مصالحه الخاصّة نفسها تكفل - بصورة طبيعيّة - مصلحة المجتمع في مختلف الميادين، وأنّ فكرة الدولة تستهدف حماية الأفراد ومصالحهم الخاصّة، فلا يجوز لها أنْ تتعدّى حدود هذا الهدف في نشاطها ومجالات عملها.
ولذا يسعى النظام الديمقراطيّ الرأسماليّ إلى حماية الحرّيّات الأربع للفرد، والّتي تعكس في واقعها المرتكزات الأساسيّة القائم عليها هذا النظام، وهي كالتّالي:
ألف - الحريّة السياسيّة:
أي يحقّ لكلّ فرد - بشكلٍ متساوٍ - المشاركة في بناء النظام الاجتماعيّ للأمّة، والجهاز الحاكم فيه وتعيين السلطات، وذلك من خلال إبداء رأيه السياسيّ في تقرير الحياة العامّة للأمّة. وعلى هذا الأساس قام حقّ التصويت ومبدأ الانتخاب العامّ، الّذي يضمن انبثاق الجهاز الحاكم - بكلّ سلطاته وشعبه – من رغبة أكثريّة المواطنين.
ب- الحريّة الاقتصاديّة: أيْ الإيمان بالاقتصاد الحرّ لجميع الأفراد على حدٍّ سواء، حيث يُباح لهم التملّك للاستهلاك والإنتاج معاً، بل لكلّ فرد مطلق الحريّة والتنافس في انتهاج أيّ أسلوب، وسلوك أيّ طريقة لكسب الثروة وتضخيمها ومضاعفتها، وذلك على ضوء مصالحه ومنافعه الشخصيّة, لأنّه السبيل نحوتحقيق التوازن الاقتصاديّ وقوانينه الطبيعيّة في المجتمع، لا سيّما من ناحية العرض والطلب.
ج- الحريّة الفكريّة: تعني أنْ يعيش النّاس أحراراً في عقائدهم وأفكارهم، ويعتقدون ما يصل إليه اجتهادهم، أو ما توحيه إليهم مشتهياتهم وأهواؤهم بدون عائق من السّلطة، بل لا يحقّ لدولة أنْ تسلبهم هذه الحريّة.
د- الحريّة الشخصيّة: وتعني تحرُّر الإنسان في سلوكه الخاصّ من مختلف ألوان الضغط والتحديد. فهو يملك إرادته وتطويرها وفقاً لرغباته الخاصّة، مهما نجم عن ذلك من مضاعفات ونتائج، ما لم تصطدم بحرّيّة الآخرين.
والخلاصة: أنّ الخطّ الفكريّ العريض لهذا النظام، هو ارتباط مصالح المجتمع بمصالح الأفراد، فالفرد هو القاعدة الّتي يجب أنْ يرتكز عليها النظام الاجتماعيّ، والدولة الصالحة هي الجهاز الّذي يُسخَّر لخدمة الفرد وحمايته.
نقد النظام الديمقراطيّ الرأسماليّ:
لقد قام من أجل بناء نظام ديمقراطيّ رأسماليّ ونشر مبادئه في العالَم، العديد من الثورات والتحرّكات الجماهيريّة تحت مظلّة قادة وزعماء يعِدون بأنّ هذا النظام سيحمل لهم الخير الكثير والعيش السعيد، فضلاً عن كسب المال والثراء السريع.
وسندخل في بنية هذا النظام واتّجاهاته، لنكشف مدى حقيقة وواقعيّة تلك الوعود والأهداف، وذلك من خلال مناقشة ثلاثة أمور:
الأمر الأوّل: الاتّجاه الماديّ في الرأسماليّة:
إنّ النظام الاجتماعيّ نظام مادّيّ خالص، أخذ فيه الإنسان منفصلاً عن مبدئه وآخرته، محدوداً بالجانب النفعيّ من حياته الماديّة مشبعاً بالروح الماديّة الطاغية، ورغم ذلك لم يُبنَ على فلسفة ماديّة للحياة، وعلى دراسة مفصّلة لها. ولا يعني ذلك أنّ العالَم لم يكن فيه مدارس للفلسفة الماديّة وأنصار لها، بل كان فيه إقبال على النزعة الماديّة الّتي تأثّرت بثلاثة عوامل رئيسة ساعدت على بعث الماديّة في كثير من العقليّات الغربيّة، وهذه العوامل الثلاثة هي كالتّالي:
ألف - التأثّر بالعقليّة التجريبيّة القائمة على الحسّ، والّتي شاعت منذ بداية الانقلاب الصناعيّ، واجتاحت معظم الميادين العلميّة لتكشف الكثير من الحقائق والأسرار في هذا الكون، حيث استثمرها الإنسان في بناء حياته الماديّة وتطويرها.
ب - التأثّر بروح الشكّ الفكريّ، الّذي أحدثه انقلاب الرأي في جملة من الأفكار والعقائد، الّتي كانت تُعدّ من المسلّمات الّتي يؤمن بها مجتمع القرون الوسطى، كالإيمان بأنّ الأرض مركز العالَم، فلمّا انهارت هذه الأفكار والعقائد في ظلّ التجارب الصحيحة، تزعزع الإيمان العامّ، وسيطرت موجة من الشكّ على كثير من الأذهان.
ج - التأثّر بروح التمرّد والسخط على الدِّين المزعوم والقائم آنذاك وهو الدِّين المسيحيّ ومن يُمثّله، بحيث استُغلّ من قبل الكنيسة استغلالاً شنيعاً، وجعلته أداة لمآربها وأغراضها في خنق الأنفس العلميّة وتجميد الأفكار والعقول عبر محاكم التفتيش، والتملّق للظلم والجبروت، حتّى تولّد من ذلك كلّه التبرّم من الدِّين المسيحيّ والسخط عليه.
ومع ذلك لم يُركّز النظام الرأسماليّ على فهم فلسفيّ ماديّ للحياة، وهذا هو التناقض والعجز، فإنّ المسألة الاجتماعيّة للحياة تتّصل بواقع الحياة، ولا تتبلور في شكلٍ صحيح إلّا إذا أُقيمت على قاعدة مركزيّة تشرح الحياة وواقعها وحدودها, بينما النظام الرأسماليّ يفقد هذه القاعدة، فهو ينطوي على خداع وتضليل, لأنّه جمّد المسألة الواقعيّة للحياة وشرع في دراسة المسألة الاجتماعيّة، وكشف أسرارها وقيمها بشكلٍ منفصل عن واقع الحياة.
هذا مع أنّ مسألة الإيمان بالله وانبثاق الحياة عنه ليست مسألة فكريّة خالصة لا علاقة لها بالحياة، ليُغفل عنها أو لتُفصل عن مجالات الحياة، بل هي مسألة تتّصل بالعقل والقلب والحياة جميعاً، وتُقام على أسس من القيم المعنويّة والماديّة معاً.
النتيجة: فإنّ النظام الرأسماليّ ماديّ بكلِّ ما للّفظ من معنى، وبالتّالي فهو إمّا أنْ يكون قد استبطن الماديّة، ولم يجرؤ على الإعلان عن ارتباطه بها وارتكازه عليها، وإمّا أنْ يكون جاهلاً بمدى الربط الطبيعيّ بين المسألة الواقعيّة للحياة ومسألتها الاجتماعيّة، وعلى هذا فهو نظام يفتقد الفلسفة الماديّة الواضحة الخطوط، والّتي لا بدّ لكلِّ نظام اجتماعيّ أنْ يرتكز عليها.
الأمر الثاني: موضع الأخلاق من الرأسماليّة:
لقد كان من جرّاء هذه الماديّة الّتي زخر النظام الرأسمالي بروحها، أنْ أُقصيت الأخلاق عن الحساب، ولم يُلحظ لها وجود في ذلك النظام أو بالأحرى تبدّلت مفاهيمها ومقاييسها، وأعلنت المصلحة الشخصيّة كهدف على، والحرّيّات جميعاً كوسيلة لتحقيق تلك المصلحة، فنشأ عن ذلك أكثر ما ضجّ به العالَم الحديث من محن وكوارث ومآسٍ ومصائب.
وقد يُدافع أنصار الديمقراطيّة الرأسماليّة عن وجهة نظرها في الفرد ومصالحه الشخصيّة قائلين: إنّ الهدف الشخصيّ بنفسه يُحقّق المصلحة الاجتماعيّة، وإنّ النتائج الّتي تُحقّقها الأخلاق بقيمها الروحيّة تتحقّق في المجتمع الديمقراطيّ الرأسماليّ، لكنْ لا عن طريق الأخلاق، بل عن طريق الدوافع الخاصّة وخدمتها, بمعنى أنّ الفرد حين يقوم بخدمة اجتماعيّة هو يُحقّق بذلك مصلحة شخصيّة أيضاً، وتعود عليه بالنفع، لأنّه جزء من المجتمع المستهدف بخدماته الفرديّة، وضمان ذلك هو الدافع الشخصيّ للفرد وما يتمتّع به من حسّ نفعيّ.
ولكنّ هذا الدفاع أقرب إلى الخيال الواسع منه إلى الاستدلال، فتصوّر بنفسك أنّ المقياس العمليّ في الحياة لكلّ فرد في الأمّة هو تحقيق منافعه ومصالحه الخاصّة
على أوسع نطاق وأبعد مدى، وكانت الدولة توفّر للفرد حرّيّاته وتقدّسه بغير تحفّظ ولا تحديد، فما هو وضع العمل الاجتماعيّ أو المنفعة الاجتماعيّة في قاموس هؤلاء الأفراد؟ وكيف يُمكن أنْ يكون اتّصال المصلحة الاجتماعيّة بالفرد كافياً لتوجيه الأفراد نحو الأعمال الّتي تدعو إليها القيم الخلقيّة؟!
الأمر الثالث: مآسي النظام الرأسماليّ:
يُعتبر النظام الديمقراطيّ الرأسماليّ مادّياً في روحه، وصياغته، وأساليبه، وأهدافه، وإنْ لم يكن مركّزاً على فلسفة محدودة - كما سبق وأشرنا - تتّفق مع تلك الروح والصياغة، وتنسجم مع هذه الأساليب والأهداف، إلّا أنّ تطبيق هذا النظام بشكلٍ عمليّ، وانتشاره بين بلدان العالَم، أدّى إلى سلسلة حلقات من المآسي والويلات الّتي اجتاحت مختلف ميادين الحياة، نذكر منها على سبيل المثال:
ألف - تحكُّم الأكثريّة في الأقليّة ومصالحها ومسائلها الحيويّة, لأنّ الحريّة السياسيّة - أحد مرتكزات هذا النظام ـ قد رُسمت قوانينها بما يُلائم حقّ الأكثريّة، فلنتصوّر بالتّالي أنّ الفئة الّتي تُمثّل الأكثريّة في الأمّة ملكت زمام الحكم والتشريع، وهي تحمل العقليّة الديمقراطيّة الرأسماليّة، وهي عقليّة ماديّة خالصة في اتّجاهها، ونزعاتها وأهدافها، فماذا يكون مصير الفئة الأخرى؟ أو ماذا ترتقب للأقليّة من حياة في ظلّ قوانين تُشرّع لحساب الأكثريّة ولحفظ مصالحها؟ فمن الّذي يحفظ لهذه الأقليّة كيانها الحيويّ ويذبّ عن وجهها الظلم، ما دامت المصلحة الشخصيّة هي مسألة كلّ فرد، وما دامت الأكثريّة لا تعرف للقيم الروحيّة والمعنويّة مفهوماً في عقليّتها الاجتماعيّة؟
ب - أمّا الحريّة الاقتصاديّة - وهي المرتكز الثاني في هذا النظام - فقد أجازت مختلف أساليب الثراء وألوانه مهما كان فاحشاً، ومهما كان شاذّاً في طريقته وأسبابه، ما كدّس المال والثروة في أيدي فئة قليلة من المجتمع الصناعيّ، وممّن أتاحت لهم الفرص امتلاك وسائل الإنتاج الحديث، وزوّدتهم الحريّات الرأسماليّة غير المحدودة بضمانات كافية لاستثمارها واستغلالها إلى أبعد حدّ، والقضاء بها على كثير من فئات المجتمع، الّذين أصبحوا تحت رحمة تلك الصفوة، الّتي لا تُفكّر ولا تحسب إلاّ على الطريقة الديمقراطيّة الرأسماليّة، فمن الطبيعيّ حينئذٍ أنْ لا تمدّ يد العطف والمعونة إلى هؤلاء لتنشلهم من الهوّة، وتشركهم في مغانمها الضخمة. ولماذا تفعل ذلك ما دام المقياس الخلقيّ هو المنفعة واللذّة، وما دامت الدولة تضمن ذلك وتوفّر له مطلق الحريّة، وما دام النظام الديمقراطيّ الرأسماليّ يضيق بالفلسفة المعنويّة للحياة ومفاهيمها الخاصة؟!
ج - نصل هنا إلى أفظع حلقات المأساة الّتي يُمثّلها هذا النظام، حيث إنّ تلك الحريّة الاقتصاديّة قد أدّت إلى انقسام المجتمع إلى فئتين: قلّة في قمّة الثراء، وأكثريّة في المهوى السحيق. وهذا يعني أنّ الفئة القليلة الرأسماليّة بحكم مركزها الاقتصاديّ في المجتمع، ستُتيح لها الحريّة السياسيّة - الّتي ستُعدم فيها المساواة بسبب الانقسام الاقتصاديّ - استعمال جميع وسائل الدعاية الّتي تُمكّنها من شراء الأنصار والأعوان، ثُمّ الوصول إلى مقاليد الحكم في المجتمع وتتسلّم السلطة لتسخيرها في مصالحها والسهر على مآربها، ويُصبح التشريع والنظام خاضعين لسيطرة رأس المال، بعد أنْ كان المفترض في المفاهيم الديمقراطيّة أنّها من حقّ الأمّة جمعاء.
وهنا يبدأ سريان المأساة إلى البلدان الأخرى والمجاورة لتلك البلدان المطبّقة للنظام الديمقراطيّ الرأسماليّ، حيث إنّ وفرة الإنتاج فيها، وبدافع الحرص على الربح السريع، والحفاظ على امتلاك القوّة الاقتصاديّة ـ كلّ ذلك ـ يتوقّف على مدى توفّر الموادّ الأوّليّة وكثرتها، والّتي هي موادّ منتشرة في بلاد الله العريضة، فالحصول عليها يتطلّب السيطرة على البلاد الأخرى واستعمارها، لكي تستطيع أنْ تمتصّ ثروتها، وتستغلّها من أجل تحقيق ملذّاتها ومصالحها الفئويّة الضيّقة في داخل بلدانها، هذا فضلاً عن تحويل تلك البلدان المستعمَرة إلى أسواق جديدة لبيع المنتجات الفائضة فيها.

المبحث الثاني: النظام الاشتراكيّ - الشيوعيّ:

في الاشتراكيّة مذاهب متعدّدة، وأشهرها المذهب الاشتراكيّ القائم على النظريّة الماركسيّة والماديّة الجدليّة، الّتي هي عبارة عن: فلسفة خاصّة للحياة، وفهم ماديّ لها بطريقة ديالكتيكيّة. وقد طبّق الماركسيون هذه المادّية الديالكتيكيّة على التأريخ، والاجتماع، والاقتصاد، فصارت عقيدة فلسفيّة في شأن العالَم، وطريقة لدرس التأريخ والاجتماع، ومذهباً في الاقتصاد، وخطّة في السياسة.
ولا ريب أنّ الفلسفة الماديّة وكذلك الطريقة الديالكتيكيّة ليستا من بدع المذهب الماركسيّ وابتكاراته، فقد كانت النزعة الماديّة تعيش منذ آلاف السنين في الميدان الفلسفيّ، كما أنّ الطريقة الديالكتيكيّة في التفكير عميقة الجذور ببعض خطوطها في التفكير الإنسانيّ، وقد استكملت كلّ خطوطها على يد (هيجل) الفيلسوف المثاليّ المعروف، ومن ثُمّ جاء (كارل ماركس) فتبنّاها وحاول تطبيقها على جميع ميادين الحياة، فقام بتحقيقين:

 

أحدهما: أنْ فسّر التأريخ البشريّ تفسيراً ماديّاً خالصاً بطريقة ديالكتيكيّة.
والآخر: زعم فيه أنّه اكتشف تناقضات رأس المال والقيمة الفائضة، الّتي يسرقها صاحب المال من العامل.
وعلى أساس هذين التحقيقين ذهب (ماركس) إلى الاعتقاد بضرورة فناء المجتمع الرأسماليّ، وإقامة المجتمع الاشتراكيّ على أنقاضه، ليكون ذلك خطوة للإنسانيّة نحو تطبيق الشيوعيّة تطبيقاً كاملاً.
وبعبارة أكثر تفصيلاً: يعتقد (ماركس) أنّ الميدان الاجتماعيّ هو ميدان صراع بين المتناقضات، بحيث إنّ كلّ وضع اجتماعيّ ما (كالنظام الرأسماليّ مثلاً) يسود ذلك الميدان فهو ظاهرة ماديّة خالصة، منسجمة مع سائرالظواهر والأحوال الماديّة ومتأثّرة بها، غير أنّه في الوقت نفسه يحمل نقيضه في صميمه، وينشب حينئذ الصراع بين النقائض في محتواه، ويستمر هذا الصراع حتّى يتبدّل ذلك الوضع (الظاهرة) وينشأ وضع جديد...
وهكذا يبقى العراك قائماً حتّى تكون الإنسانيّة كلّها طبقة واحدة. في تلك اللحظة يسود الوئام ويتحقّق السلام وتزول نهائيّاً جميع الآثار السيّئة للنظام الديمقراطيّ الرأسماليّ, لأنّها كانت تتولّد من تعدّد الطبقات في المجتمع، وهذا التعدّد إنّما نشأ عن انقسام المجتمع إلى منتج وأجير. وإذاً فلا بُدّ من وضع حدٍّ فاصل لهذا الانقسام عبر إلغاء الملكيّة الفرديّة. وتختلف هنا الشيوعيّة عن الاشتراكيّة في الخطوط الاقتصاديّة الرئيسيّة، وذلك لأنّ الاقتصاد الشيوعيّ يرتكز على التّالي:
ألف - إلغاء الملكيّة الخاصّة (للأفراد)، وتمليك جميع الثروات إلى الدولة بصفتها الوكيل الشرعيّ عن المجتمع في إدارة واستثمار الثروات. وتُعتبر هذه الخطوة ردّة فعل طبيعيّة على التقسيم الطبقيّ في ظلّ النظام الرأسماليّ، الّذي قسّم المجتمع إلى طبقتين (منتج/أجير)، وبالتّالي فإنّ إلغاء الملكيّة الخاصّة يعني إلغاء طبقة الرأسماليّة (المنتج)، وتوحيد الشعب في طبقة واحدة (الأجير)، ليُختم بذلك الصراع، ويقف الاستغلال الفرديّ للثروات.
ب - توزيع السلع المنتجة على جميع الأفراد كلّاً بحسب قدرته وحاجته الاستهلاكيّة.
ج - تقوم الدولة برسم منهاج اقتصاديّ، توفّق فيه بين حاجات المجتمع وبين الانتاج في كميّته، وتنويعه، وتحديده. لئلّا يُمنى المجتمع بنفس الأدواء والأزمات الّتي حصلت في المجتمع الرأسماليّ حينما أطلق الحريّات بغير تحديد.
الانحراف عن العملية الشيوعيّة
عندما وصلت الشيوعيّة إلى السلطة وإدارة الحكم، كشفت عدم قدرتها على تطبيق الفكر الشيوعيّ بخطوطه كلّها، وأنّه لا يُمكن ذلك إلّا بعد تطوير الإنسانيّة في أفكارها ودوافعها ونزعاتها, أي اعتقدوا بأنّ الإنسان سيأتي عليه يوم تموت في نفسه الدوافع الشخصيّة والعقليّة الفرديّة، وتحيا فيه العقليّة الجماعيّة والاندفاع في سبيل الجماعة وتحقيق مصالحها.
لذا اتّجه الفكر الشيوعيّ نحو إقامة النظام الاشتراكيّ - كضرورة - ليتخلّص فيه الإنسان من طبيعته الفرديّة والنزعة الشخصيّة، ويكتسب بدلاً عن ذلك الطبيعة الجماعيّة المستعدّة لتقبّل النظام الشيوعيّ.
كما أنّه يُتطلّب لنجاح تلك الخطوة - إقامة النظام الاشتراكيّ - إجراء تعديلات مهمّة فيه تطال الخطوط الاقتصاديّة الرئيسة في الشيوعيّة، منها على سبيل المثال:
- تبديل الخطّ الاقتصاديّ الأوّل للشيوعيّة، وهو (إلغاء الملكيّة الفرديّة) إلى حلّ وسط، وذلك من خلال وضع الصناعات الثقيّلة والتجارة الداخليّة والخارجيّة بيد الدولة، في مقابل وضع الصناعات والتجارات البسيطة بيد الأفراد، وذلك لأنّ الخطّ العريض في الاقتصاد الشيوعيّ (الماديّ) اصطدم بواقع الطبيعة الإنسانيّة، حيث أخذ الأفراد يتقاعسون عن القيام بوظائفهم وتراجع نشاطهم في العمل، فضلاً عن التهرّب من واجباتهم الاجتماعيّة, لأنّ المفروض تأمين النظام لمعيشتهم وسدّ حاجاتهم، كما أنّ المفروض فيه عدم تحقيق العمل والجهد مهما كان شديداً لأكثر من ذلك، فعلام إذاً يجهد الفرد ويكدح ويجدّ، ما دامت النتيجة في حسابه هي ذات النتيجة في حالي الخمول والنشاط؟!.
الفرق بين النظام الشيوعيّ والنظام الرأسماليّ:
أوّلاً: يمتاز النظام الاشتراكيّ - الشيوعيّ عن النظام الديمقراطيّ الرأسماليّ بأنّه يرتكز على فلسفة ماديّة معيّنة، تتبنّى فهماً خاصّاً للحياة، لا يعترف بجميع المثل والقيم المعنويّة، ويُعلِّلها - أي الحياة - تعليلاً لا موضع فيه لخالق فوق حدود الطبيعة، ولا لجزاء مرتقب وراء حدود الحياة الماديّة المحدودة. وهذا على عكس الديمقراطيّة الرأسماليّة، فإنّها وإنْ كانت نظاماً ماديّاً، ولكنّها لم تُبنَ على أساس فلسفيّ محدّد، ففي حين آمنت الشيوعيّة الماديّة بالربط الصحيح بين المسألة الواقعيّة للحياة والمسألة الاجتماعيّة، فإنّ الرأسماليّة لم تؤمن بذلك أو حتّى لم تُحاول إيضاحه.
ثانياً: من السهل أنْ نُدرك الطابع العامّ للشيوعيّة، وهو إفناء الفرد في المجتمع وجعله آلة مسخّرة لتحقيق الموازين العامّة الّتي يفترضها، بينما على النقيض تماماً النظام الرأسماليّ الحرّ الّذي يجعل المجتمع في خدمة الفرد ويُسخّره لمصالحه الذاتيّة والشخصيّة.
ولذا فإنّه قُدِّر للشخصيّة الفرديّة والشخصيّة الاجتماعيّة في عُرْف هذين النظامين أنْ تتصادما وتتصارعا، فكانت الشخصيّة الفرديّة هي الفائزة في النظام الرأسماليّ، الّذي أقام تشريعه على أساس مصالح الفرد ومنافعه الذاتيّة، فمُني المجتمع بالمآسي الاقتصاديّة الّتي تُزعزع كيانه وتُشوِّه الحياة في جميع شعبها. بينما تكون الشخصيّة الاجتماعيّة هي الفائزة في النظام الشيوعيّ، الّذي جاء ليتدارك أخطاء الرأسماليّة، فساند المجتمع وحكم على الشخصيّة الفرديّة بالاضمحلال والفناء، فأُصيب الأفراد بمحنٍ قاسية قضت على حريّتهم ووجودهم الخاصّ، وحقوقهم الطبيعيّة في الاختيار والتفكير.

المبحث الثالث: النظام الإسلاميّ:

ينطلق النظام الإسلاميّ في علاج المشكلة الاجتماعيّة، وتقديم النظام الاجتماعيّ الأصلح والأفضل للإنسانيّة، من خلال العمل على خطّين متوازنين، وهما:
الخطّ الأوّل: تشخيص المشكلة بدقّة.
الخطّ الثاني: وضع العلاج المناسب للمشكلة.
وتفاصيل ذلك:
أوّلاً: تشخيص المشكلة بدقّة:
ينطلق الإسلام في تشخيصه للمشكلة والدّاء من السؤال التّالي:
أين هو الأساس الحقيقيّ للبلاء الاجتماعيّ الّذي تُعاني منه الإنسانيّة اليوم؟!
الجواب: في الواقع إنّ النظام الشيوعيّ وإنْ عالج جملة من مآسي الرأسماليّة الحرّة، بمحوه (للملكيّة الفرديّة)، غير أنّه لم يضع يده على سبب الفساد ليقضي عليه، وإنّما قضى على شي‏ء آخر، بالتّالي لم يتوفّق في العلاج ولم ينجح في التطبيب.
بعبارة أخرى: إنّ الشيوعيّة اعتقدت من خلال قضائها على الملكيّة الفرديّة - الّتي تُشكّل حجر الزاويّة في الرأسماليّة - أنّها قد وصلت للعلاج المناسب للمشكلة الاجتماعيّة الإنسانيّة، وأنّها استطاعت إيجاد النظام الاجتماعيّ الأصلح للبشريّة. ولكنْ هناك ملاحظتان حول هذا العلاج:
الملاحظة الأولى: أنّ إلغاء الملكيّة الفرديّة - كعلاج بنظر الشيوعيّة - قد أدّى إلى مضاعفات طبيعيّة تجعل ثمن العلاج باهظاً جدّاً، بمعنى أنّ تبنّي الملكيّة الشيوعيّة (المجتمعيّة) بدلاً عن الملكيّات الفرديّة (الخاصّة)، من شأنه القضاء على حريّات الأفراد, لأنّه على خلاف الطبيعة الإنسانيّة العامّة. لذا فإنّ الفرد في ظلّ النظام الشيوعيّ وإنْ كسب تأميناً كاملاً، وضماناً اجتماعيّاً لحياته وحاجاته, لأنّ الثروة الجماعيّة تمدّه بكلّ ذلك في وقت الحاجة، ولكنْ أليس من الأحسن بحال هذا الفرد أنْ يظفر بهذا التأمين دون أنْ يخسر استنشاق نسيم الحريّة المهذّبة، ويضطرّ إلى إغراق نفسه في البحر الاجتماعيّ المتلاطم؟!
الملاحظة الثانية: يُعتبر إلغاء الملكيّة الفرديّة علاجاً ناقصاً لا يضمن القضاء على الفساد الاجتماعيّ كلّه, لأنّه لم يُحالفه الصواب في تشخيص الداء، وتعيين النقطة الّتي انطلق منها الشرّ حتّى اكتسح العالَم في ظلّ الأنظمة الرأسماليّة، فبقيت تلك النقطة محافظة على موضعها من الحياة الاجتماعيّة في المذهب الشيوعيّ.
النتيجة: إنّ مبدأ الملكيّة الخاصّة (الفرديّة) ليس هو ما نشأت عنه آثام الرأسماليّة المطلقة، الّتي زعزعت سعادة العالَم وهناءه، ولا إلغاء الشيوعيّة لهذا المبدأ قد جعل البشريّة تظفر بالحلّ الحاسم لمشكلتها الاجتماعيّة الكبرى، ولم تحصل على الدواء الّذي يُطبّب أوجاعها ويستأصل أمراضها الخبيثة.
وعلى ضوء ذلك فإنّ الأساس الحقيقيّ للبلاء الاجتماعيّ المروّع الّذي تُعاني منه الإنسانيّة اليوم، هو وليد (المصلحة الماديّة للأفراد)، الّذين يتمتّعون بمطلق الحريّة في استغلال خيرات الدنيا واستثمارها بغية تحقيق اللذّة الذاتيّة والمنفعة الشخصيّة. إذاً هذا التفسير الماديّ المحدود للحياة والّذي شيّد عليه الغرب صرح الرأسماليّة الجبّار، هو الّذي تولّد عنه كلّ هذه المآسي والويلات الّتي اجتاحت العالَم، بل فشلت حتّى الديمقراطيّة الرأسماليّة ذاتها في تحقيق سعادة الإنسان وتوفير كرامته.
وقد تقاطع مع هذا التوجّه المادّيّ للفرد والّذي تبنّته الرأسماليّة الحرّة، ووفّرت له البيئة المناسبة لينمو فيها، تقاطع مع غريزة طبيعيّة موجودة في كيان الإنسان، وهي غريزة (حبّ الذات) الّتي لا نعرف غريزة أعمّ منها وأقدم، فكلّ الغرائز فروع هذه الغريزة وشِعَبها بما فيها غريزة المعيشة. فإنّ حبّ الإنسان ذاته - الّذي يعني حبّ اللذّة والسعادة لنفسه، وبغضه للألم والشقاء لذاته - هو الّذي يدفع الإنسان إلى كسب معيشته، وتوفير حاجيّاته الغذائيّة والمادّيّة. وطريق ذلك ينحصر - بطبيعة الحال - في عصب الحياة المادّيّة وهو (المال)، الّذي يفتح أمام الإنسان السبيل إلى تحقيق كلّ أغراضه وشهواته وملذّاته في الحياة.
هذا هو التسلسل الطبيعيّ في المفاهيم الماديّة، الّذي يؤدّي إلى عقليّة رأسماليّة كاملة.
فهل المشكلة تُحلّ حلّاً حاسماً إذا رفضنا مبدأ الملكيّة الفرديّة فقط، وأبقينا تلك المفاهيم المادّيّة عن الحياة، كما حاولت الشيوعيّة؟!
إذاً إنّ الثروة الّتي تُسيطر عليها فئة قليلة في ظلّ اقتصاد مطلق الحريّة والتصرّف في التملّك بعقليّة مادّيّة وفرديّة، هي ذاتها - أيّ الثروة - تُسلّم بيد الدولة في ظلِّ الشيوعيّة القائمة على إلغاء الملكيّة الفرديّة، تلك الدولة الّتي تُسيطر عليها جماعة تحمل المفاهيم الماديّة نفسها عن الحياة، والّتي تفرض عليهم تقديم المصالح الشخصيّة بحكم غريزة (حبّ الذات)، وهي تأبى أنْ يتنازل الإنسان عن لذّة ومصلحة بلا عوض. وما دامت المصلحة المادّيّة هي القوّة المسيطرة، بحكم مفاهيم الحياة المادّيّة، فسوف تُستأنف من جديد ميادين للصراع والتنافس، وسوف يُعرَّض المجتمع مجدَّداً لأشكال من الخطر والاستغلال.
ثانياً: وضع العلاج المناسب للمشكلة:
انطلق الإسلام - كما أشرنا مسبقاً - في علاجه للمشكلة الاجتماعيّة من خلال خطّين متوازيين، وما تقدّم هو عرض الخطّ الأوّل حول تشخيص المشكلة بدقّة، أمّا الآن فنتناول العلاج الحقيقيّ الّذي قدّمه الإسلام حول المشكلة الاجتماعيّة، فضلاً عن التعرّف إلى النظام الاجتماعيّ الأصلح والأفضل للإنسانيّة جميعاً.
يؤمن الإسلام بأنّ الحلّ الوحيد للمشكلة الّذي يُمكّن العالَم من درء الخطر عن حاضر الإنسانيّة ومستقبلها هو: أنْ يُطوِّر المفهوم المادّيّ للإنسان عن الحياة، وبتطويره تتطوّر - طبيعيّاً - أهدافه ومقاييسه وتتحقّق المعجزة حينئذٍ من أيسر طريق.
والإسلام لم يتّجه إلى مبدأ الملكيّة الخاصّة ليُبطله، وإنّما غزا المفهوم المادّيّ عن الحياة ووضع للحياة مفهوماً جديداً، وأقام على أساس ذلك المفهوم نظاماً لم يجعل فيه الفرد آلة ميكانيكيّة في الجهاز الاجتماعيّ الضخم، ولا المجتمع هيئة قائمة لحساب الفرد ومصالحه الذاتيّة والشخصيّة، بل وضع لكلٍّ منهما حقوقه، وكفل للفرد كرامته المعنويّة والمادّيّة معاً.
وبذلك يكون الإسلام قد وضع يده على نقطة الداء الحقيقيّة في النظام الاجتماعيّ للديمقراطيّة الرأسماليّة، فمحاها محواً ينسجم مع الطبيعة الإنسانيّة.
إذاً لقد أوجد الإسلام قاعدة فكريّة جديدة للحياة والكون تختلف اختلافاً كبيراً عن النظرة المادّيّة للكون والحياة كما قدّمتها الرأسماليّة أو الشيوعيّة، بل الإسلام قد جعل الإنسان من خلال تلك القاعدة الفكريّة الجديدة ينظرإلى حياته على أنّها منبثقة عن مبدأ مطلق الكمال، وأنّها إعداد للإنسان إلى عالَم لا عناء فيه ولا شقاء، ونَصَبَ له مقياساً خُلقيّاً جديداً وهدفاً مقدّساً في كلِّ خطواته وأدواره وهو (رضى الله تعالى). والشخصيّة الإسلاميّة هي الّتي تسير في شتّى أشواطها على هدى هذا الهدف، وضوء هذا المقياس وضمن إطاره العامّ.
دور الإسلام في الموازنة بين المقياس الخلقيّ وحبّ الذات:
قد يسأل بعضهم عن مدى قدرة الإسلام على إيجاد التوازن السليم والمنطقيّ بين المقياس الخلقيّ الّذي يضعه للإنسان، وحبّ الذات المرتكز في فطرته، إذ إنّ هذا الأخير يتطلّب من الإنسان أنْ يُقدّم مصالحه الذاتيّة على مصالح المجتمع، بما يُثير ذلك المأساة والنزعة الّتي تتفنّن في الأنانيّة وأشكالها، بينما المقياس الخلقيّ هو الّذي تتعادل في حسابه المصالح كلّها، وتتوازن في مفاهيمه القيم الفرديّة والاجتماعيّة؟.
الجواب: إنّ الإسلام يُمكنه التوفيق بين المقياسين (الخلقيّ/حبّ الذات)، ويُمكنه توحيد الميزانين، وذلك من خلال اتّباع أسلوبين، هما:
الأسلوب الأوّل: هو تركيز التفسير الواقعيّ للحياة وإشاعة فهمها في لونها الصحيح، كمقدّمة تمهيديّة إلى حياة أُخرويّة يكسب الإنسان فيها من السعادة على مقدار ما يسعى في حياته المحدودة هذه، في سبيل تحصيل رضى الله تعالى. فالمقياس الخلقيّ - أو رضى الله تعالى - يضمن المصلحة الشخصيّة، في الوقت نفسه الّذي يُحقّق فيه أهدافه الاجتماعيّة الكبرى، فالدِّين يأخذ بيد الإنسان إلى المشاركة في إقامة المجتمع السّعيد والمحافظة على قضايا العدالة فيه، الّتي تُحقّق رضى الله تعالى, لأنّ ذلك يدخل في حساب ربحه الشخصيّ، ما دام كلّ عمل ونشاط في هذا الميدان يُعوّض عنه بأعظم العوض وأجلّه.
وطبعاً لا يُمكن أنْ يُحصّل هذا الأسلوب التوفيق في ظلّ فهم مادّيّ للحياة، فإنّ الفهم المادّيّ للحياة يجعل الإنسان بطبيعته لا ينظر إلى ميدانه الحاضر وحياته المحدودة، على عكس التفسير الواقعيّ للحياة الّذي يُقدّمه الإسلام، فإنّه يوسّع من ميدان الإنسان، ويفرض عليه نظرة أعمق إلى مصالحه ومنافعه، ويجعل من الخسارة العاجلة ربحاً حقيقيّاً في هذه النظرة العميقة، ومن الأرباح العاجلة خسارة حقيقيّة في نهاية المطاف، وقد قدّم القرآن صوراً رائعة لذلك: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا﴾، ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾(1).
أمّا الأسلوب الثاني: الّذي يتّخذه الدِّين، للتوفيق بين الدافع الذاتيّ والقيم أو المصالح الاجتماعيّة، فهو التعهّد بتربية أخلاقيّة خاصّة، تُعنى بتغذية الإنسان روحيّاً، وتنمية العواطف الإنسانيّة والمشاعر الخلقيّة فيه, لأنّ في طبيعة الإنسان طاقات واستعدادات لميول متنوّعة، بعضها ميول مادّيّة تتفتّح شهواتها بصورة طبيعيّة، كشهوات الطعام، والشراب، والجنس، وبعضها ميول معنويّة تتفتح وتنمو بالتربية والتعاهد، ولأجل ذلك كان من الطبيعيّ للإنسان - إذا تُرك لنفسه - أنْ تُسيطر عليه الميول المادّيّة, لأنّها تتفتّح بصورة طبيعيّة، وتظلّ الميول المعنويّة واستعداداتها الكامنة في النفس مستترة.
لذا أدرك الإسلام هذه المسألة فأوكل علاجها إلى قيادة معصومة مسدَّدة من الله تعالى، حيث تقوم هذه القيادة بتربية الإنسانيّة، وتنمية الميول المعنويّة فيها، فتنشأ بسبب ذلك مجموعة من العواطف والمشاعر النبيلة، ويُصبح الإنسان يُحبُّ القيم الخلقيّة، ويستبسل في سبيلها، ويزيح عن طريقها ما يقف أمامها من مصالحه ومنافعه. ولا يعني ذلك أنّ حبّ الذات يُمحى من الطبيعة الإنسانيّة، بل إنّ العمل في سبيل تلك القيم والمثل تنفيذ كامل لإرادة حبّ الذات. فإنّ القيم بسبب التربيّة الإسلاميّة تُصبح محبوبة للإنسان، ويكون تحقيق المحبوب بنفسه معبّراً عن لذّة شخصيّة خاصّة، فتفرض طبيعة حبّ الذات بذاتها السعي لأجل القيم الخُلقيّة المحبوبة تحقيقاً للّذّة الخاصّة بذلك.
النتيجة: إنّ الميزة الأساس للنظام الإسلاميّ تتمثّل فيما يرتكز عليه من فهم معنويّ للحياة وإحساس خلقيّ بها، والخطّ العريض في هذا النظام هو اعتبار الفرد والمجتمع معاً، وتأمين الحياة الفرديّة والاجتماعيّة بشكلٍ متوازن، فليس الفرد هو القاعدة المركزيّة في التشريع والحكم كما هي الديمقراطيّة الرأسماليّة، وليس الكائن الاجتماعيّ الكبير هو الشي‏ء الوحيد الّذي تنظر إليه الدولة وتُشرّع لحسابه كما هي الاشتراكيّة الشيوعيّة.
وجدير بالذكر أنّ إقامة الإنسان على قاعدة ذلك الفهم المعنويّ للحياة والإحساس الخلقيّ ليس عملاً شاقّاً وعسيراً، فإنّ الأديان في تأريخ البشريّة قد قامت بأداء رسالتها الكبيرة في هذا المضمار. وليس لجميع ما يحصل في العالَم اليوم من مفاهيم معنويّة، وأحاسيس خُلقيّة، ومشاعر وعواطف نبيلة، إلّا تعليل واضح للجهود الجبّارة الّتي قامت بها الأديان لتهذيب الإنسانيّة والدافع الطبيعيّ في الإنسان وما ينبغي له من حياة وعمل.
ولذلك فليس الوعي السياسيّ للإسلام وعياً للناحية الشكليّة من الحياة الاجتماعيّة فحسب، بل هو وعي سياسيّ عميق مردّه إلى نظرة كليّة كاملة نحو: الحياة والكون، والاجتماع، والسياسة، والاقتصاد، والأخلاق. فهذه النظرة الشاملة هي الوعي الإسلاميّ الكامل، والّذي تختصره كلمة (اجتماعنا).
تنبّؤ الفكر الإسلاميّ بانهيار الديمقراطيّة الرأسماليّة:
إنّ الديمقراطيّة الرأسماليّة نظام محكوم عليه بالانهيار والفشل المحقّق في نظر الإسلام، ولكنْ لا باعتبار ما يزعمه الاقتصاد الشيوعيّ من تناقضات رأس المال بطبيعته، وعوامل الفناء الّتي تحملها الملكيّة الخاصّة في ذاتها, لأنّ الإسلام يختلف في طريقته المنطقيّة، واقتصاده السياسيّ، وفلسفته الاجتماعيّة، عن مفاهيم هذا الزعم وطريقته الجدليّة، بل الإسلام يضمن وضع الملكيّة الفرديّة في تصميم اجتماعيّ، خالٍ من تلك التناقضات المزعومة.
أمّا مردّ الفشل والوضع الفاجع - بنظر الإسلام - الّذي مُنيت به الديمقراطيّة الرأسماليّة، فيعود إلى مفاهيمها المادّيّة الخالصة - كما تقدّم تفصيله - الّتي لا يُمكن أنْ يسعد البشر بنظام يستوحي جوهره منها، ويستمدّ خطوطه العامّة من روحها وتوجيهها.
فلا بُدّ إذاً من معين آخر - غير المفاهيم المادّيّة عن الكون - يستقي منه النظام الاجتماعيّ، ولا بُدّ من وعيٍ سياسيٍّ صحيح ينبثق من مفاهيم حقيقيّة للحياة، ويتبنّى القضيّة الإنسانيّة الكبرى، ويسعى إلى تحقيقها على قاعدة تلك المفاهيم، ويدرس مسائل العالَم من هذه الزاوية. وعند اكتمال هذا الوعي السياسيّ في العالَم، واكتساحه لكلِّ وعيٍ سياسيٍّ آخر، وغزوه لكلِّ مفهوم للحياة... حينها يُمكن أنْ يدخل العالم في حياة جديدة، وعلى قاعدة فكريّة جديدة للحياة والكون، مشرقة بالنور وعامرة بالسعادة...
إنّ هذا الوعي السياسيّ العميق هو رسالة الإسلام الخالدة... والّذي من أبرز وأهمِّ ركائزه (اجتماعنا).
وآخر دعوانا أنْ الحمدُ لله ربِّ العالمين

الخلاصة:

أوّلاً: تخبُّط المسيرة الإنسانيّة - منذ زمن - وضياعها في البحث عن علاج صحيح لمشاكلها الاجتماعيّة، قد أدخل جميع الأمم والشعوب في نفقٍ مظلمٍ وملي‏ءٍ بالمآسي الفظيعة.
ثانياً: إنّ أبرز الأنظمة الاجتماعيّة المعاصرة الّتي تناولت موضوع (المشكلة الاجتماعيّة)، هي ثلاثة أنظمة، كالتّالي:
- النظام الديمقراطيّ الرأسماليّ.
- النظام الاشتراكيّ - الشيوعيّ.
- النظام الإسلاميّ.
ويُمثِّل الأوّل والثاني وجهات نظر بشريّة في جوابها
عن السؤال الأساس: ما هو النظام الاجتماعيّ الأصلح للإنسانيّة؟!. بينما لا يُعتبر النظام الإسلاميّ وجهة نظر بشريّة، بل هو دين قائم على أساس الوحي ومعطىً إلهيّ.
ثالثاً: إنّ حجر الزاوية في بناء النظام الديمقراطيّ الرأسماليّ هو الإيمان المطلق بالفرد وتقديس حريّاته الأربع: السياسيّة - الفكريّة - الشخصيّة - الاقتصاديّة. الأمر الّذي ترتّب عليه تشبّع هذا النظام بالمادّيّة الفرديّة دون المجتمع، وإنْ لم يكن لهذا النظام خطوط واضحة لنظرته الفلسفيّة المادّيّة للحياة، والّتي شكّلت بدورها نقطة ضعف أساس في هذا النظام، حكمت عليه بالفشل وعدم قدرته على حلّ المشكلة الاجتماعيّة، بل تعقيدها أكثر.
رابعاً: إنّ أبرز مذاهب الاشتراكيّة هو المذهب الشيوعيّ الّذي وَضَعَ أُسسه (كارل ماركس) على قاعدة تفسير التأريخ البشريّ تفسيراً مادّيّاً خالصاً وبطريقة ديالكتيكيّة (جدليّة)
وهو مذهب اعتقد بأنّ إلغاء الملكيّة الفرديّة - وهي إحدىأسس الرأسماليّة - سوف يُعالج المشكلة الاجتماعيّة، إلاّ أنّه أخطأ في ذلك، ما ضاعف من المشاكل الاجتماعيّة وجعل من الفرد آلة في خدمة الكيان المجتمعيّ الضخم.
خامساً: انطلاقة الإسلام في علاجه للمشكلة الاجتماعيّة الّتي تسود العالَم اليوم بشكلٍ أكثر تعقيداً وصعوبة، كانت انطلاقة من تحديد المشكلة بالدقّة، وهي أنّها ليست كما تعتقد الشيوعيّة بإلغاء الملكيّة الفرديّة، بل المشكلة تعود إلى النظريّة المادّيّة في تفسير الحياة، وجعل المصلحة الذاتيّة (حبّ الذات) والشخصيّة فوق كلِّ اعتبار وقيم وأخلاق... بالتّالي فإنّ العلاج هو تطوير هذه النظرة المادّيّة إلى الحياة من خلال بناء شخصيّة إنسانيّة يرتبط مسار حياتها بالمطلق الكامل والمقدّس والمقياس وهو رضى الله تعالى.

 

منبع مقاله :
المصدر :
تلخيصً لدراسة الشّهيد السيد محمد باقرالصّدر قدس سره الّتي كتبها تحت عنوان: "المدرسة الإسلاميّة"
1- سورة الزلزلة, الآيات: 7-8

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.