هو الإمام التاسع من أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - ولد بالمدينة المنورة في شهر رمضان من سنة خمس وتسعين بعد المائة، فورث الشرف من آبائه واجداده، واستسقت عروقه من منبع النبوّة، وارتوت شجرته من منهل الرسالة.
قام بأمر الولاية بعد شهادة والده الامام الرضا - عليه السلام - عام 203 هجري، واستشهد ببغداد عام 220 هجري، أدرك خلافة المأمون وأوائل خلافة المعتصم.
أمّا إمامته ووصايته فقد وردت فيها النصوص الوافرة(1).
يلقّب بالجواد والقانع والمرتضى والنجيب والتقي والزكي وغيرها من الألقاب الدالّة على علو شأنه وارتفاع منزلته.
أقول: لمّا توفّي الرضا - عليه السلام - كان الإمام الجواد في المدينة وقام بأمر الإمامة بوصية من ابيه وله من العمر تسع او عشر سنين، وكان المأمون قد مارس معه نفس السياسة التي مارسها مع أبيه - عليه السلام - خلافاً لاسلافه من العباسيين، حيث إنّهم كانوا يتعاملون مع أئمّة أهل البيت بالقتل والسجن.
وكان ذلك يزيد في قلوب الناس حبّاً لاهل البيت عليهم السلام وبغضاً للخلفاء، ولمّا شعر المأمون بذلك بدّل ذلك الاسلوب باسلوب آخر وهو استقدام أهل البيت من موطنهم إلى دار الخلافة لكي يشرف على حركاتهم وسكناتهم، وقد استمرت هذه السياسة في حقّهم الى الإمام الحادي عشر.
وما كان من المأمون عندما استقدم الإمام الى مركز الخلافة، إلاّ أن شغف به لما رأى من فضله مع صغر سنّه وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل مالم يساوه فيه احد من مشايخ أهل الزمان.
فزوّجه ابنته امّ الفضل وحملها معه الى المدينة، وكان حريصاً على اكرامه وتعظيمه واجلال قدره، ونحن نكتفي في المقام بذكر أمرين:
1 - لمّا توفّي الإمام الرضا - عليه السلام - وقدم المأمون بغداد اتّفق أنّ المأمون خرج يوماً يتصيّد، فاجتاز بطرف البلدة وصبيان يلعبون ومحمّد الجواد واقف عندهم، فلمّا أقبل المأمون فرّ الصبيان ووقف محمّد الجواد، وعمره آنذاك تسع سنين.
فلمّا اقترب منه الخليفة قال له: يا غلام ما منعك أن لا تفرّ كما فرّ أصحابك؟! فقال له محمّد الجواد مسرعاً: «يا أمير المؤمنين فرّ أصحابي فرقاً والظنّ بك حسن أنّه لا يفرّ منك من لا ذنب له، ولم يكن بالطريق ضيق فأنتحي» فأعجب المأمون كلامه وحسن صورته فقال له: ما اسمك يا غلام؟ قال: «محمّد بن علي الرضا - عليه السلام -» فترحّم على أبيه(2).
2 - لمّا أراد المأمون تزويج ابنته أمّ الفضل من الإمام الجواد ثقل ذلك على العباسيين وقالوا له: نشهدك الله أن تقيم على هذا الامر الذي عزمت عليه من تزويج ابن الرضا فانّا نخاف أن تخرج به عنّا أمراً قد ملّكناه الله! وتنزع منّا عزّاً قد ألبسناه الله! فقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً.
وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم، وقد كنّا في وهلة من عملك مع الرضا حتى كفى الله المهم من ذلك - إلى أن قالوا-: إنّ هذا الفتى وإن راقك منه هديه فإنّه صبي لا معرفة له فأمهله حتى يتأدّب ويتفقّه في الدين ثمّ اصنع ما ترى.
قال المأمون: ويحكم إنّي اعرف بهذا الفتى منكم، وإنّ أهل هذا البيت علمهم من الله تعالى وإلهامه، ولم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والادب من الرعايا الناقصة عن حد الكمال، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر حتى يتبيّن لكم ما وصفت لكم من حاله. قالوا: رضينا.
فخرجوا واتّفق رأيهم على أنّ يحيى بن أكثم يسأله مسألة وهو قاضي الزمان فأجابهم المأمون على ذلك.
واجتمع القوم في يوم اتّفقوا عليه ، وامر المأمون أن يفرش لابي جعفر دست ففعل ذلك، وجلس يحيى بن أكثم بين يديه، وقام الناس في مراتبهم، والمأمون جالس في دست متّصل بدست أبي جعفر - عليه السلام -.
فقال يحيى بن أكثم للمأمون: أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أسال أبا جعفر؟
فقال: استأذنه في ذلك.
فأقبل عليه يحيى وقال: أتأذن لي جعلت فداك في مسألة؟
فقال: «سل إن شئت».
فقال: ما تقول - جعلت فداك - في مُحرم قتل صيداً؟
فقال أبو جعفر - عليه السلام -: « في حل أو حرم؟ عالماً كان المحرم أو جاهلا؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حرّاً كان المحرم أو عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً كان بالقتل أو معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم غيرها؟ من صغار الصيد أم كبارها؟ مصرّاً كان على ما فعل أو نادماً؟ ليلاً كان قتله للصيد أم نهاراً؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرماً؟».
فتحيّر يحيى وبان في وجهه العجز والانقطاع، وتلجلج حتى عرف أهل المجلس أمره.
فقال المأمون: الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي، ثمّ قال لأبي جعفر - عليه السلام -: اخطب لنفسك فقد رضيتك لنفسي وأنا مزوّجك أمّ الفضل ابنتي(3).
ولمّا تمّ الزواج قال المأمون لابي جعفر: إن رأيت - جعلت فداك - أن تذكر الجواب فيما فصّلته من وجوه قتل المُحرم الصيد لنعلمه ونستفيده.
فقال أبو جعفر - عليه السلام - :
«إنّ المحرم إذا قتل صيداً في الحل وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة
فإن أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً
فإن قتل فرخاً في الحل فعليه حمل قد فطم من اللبن
وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ
وإن كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة
وإن كان نعامة فعليه بدنة، وإن كان ظبياً فعليه شاة
فإن قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة
وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه بالحج نحره بمنى
وإن كان احرامه بالعمرة نحره بمكّة، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء
وفي العمد له المأثم وهو موضوع عنه في الخطأ، والكفّارة على الحر في نفسه
وعلى السيّد في عبده، والصغير لا كفّارة عليه وهي على الكبير واجبة
والنادم يسقط بندمه عنه عقاب الآخرة، والمصر يجب عليه العقاب في الآخرة».
فقال له المأمون: أحسنت يا أبا جعفر...(4).
رجوع الامام الجواد عليه السلام إلى المدينة:
ثمّ إنّ أبا جعفر بعد أن أقام مدّة في بغداد هاجر إلى المدينة وسكن بها مدّة إلى أن توفّي المأمون وبويع المعتصم، ولم يزل المعتصم متفكّراً في أبي جعفر يخاف من اجتماع الناس حوله ووثوبه على الخلافة، فلأجل ذلك مارس نفس السياسة التي مارسها أخوه المأمون من قبله فاستقدم الإمام الجواد - عليه السلام - إلى بغداد سنة 220وبقي فيها - عليه السلام - حتى توفّي في آخر ذي القعدة من تلك السنة، وله من العمر 25 سنة وأشهر. ودفن عند جدّه موسى بن جعفر في مقابر قريش. (5)
وكان سبب ورود الإمام الى بغداد إشخاص المعتصم له من المدينة، فورد بغداد لليلتين بقيتا من محرّم الحرام سنة 225 هجري...
ثمّ يقول: وكان له يوم قبض 25 سنة.
ولا يخفى أنّه لو كان تاريخ وروده إلى بغداد هي سنة 225 هجري، يكون له يوم وفاته 30 سنة من العمر لأنّه ولد عام 195 هجري.
وقال ابن شهر آشوب: إنّه قبض مسموماً(6).
فسلام الله على إمامنا الجواد يوم ولد، ويوم مات أو استشهد بالسم، ويوم يبعث حيّاً.
المصادر :
1- الكافي 1 / 320 - 323، اثبات الهداة 3 / 321 - 328.
2- الفصول المهمّة 266.
3- الارشاد 319 - 321، وإعلام الورى 352 وللقصّة صلة فراجع.
4- الارشاد 322.
5- الارشاد 326، وفي اعلام الورى 304
6- ابن شهر آشوب: المناقب 4 / 379.