![هل التشيع ردة فعل هل التشيع ردة فعل](https://rasekhoon.net/_files/thumb_images700/article_ar/A13448.jpg)
جرى بعض الباحثين المحدثين على دراسة التشيّع بوصفه ظاهرة طارئة في المجتمع الإسلامي ، والنظر إلى القطّاع الشيعي في جسم الاُمّة الإسلاميّة بوصفه قطّاعاً تكوّن على مرّ الزمن ، نتيجةً لأحداث وتطوّرات اجتماعية معيّنة أدّت إلى تكوين فكري ومذهبي خاصّ بجزءٍ من ذلك الجسم الكبير ، ثمّ اتّسع الجزء بالتدريج .
وهؤلاء الباحثون بعد أن يفترضوا ذلك يختلفون في تلك الأحداث والتطوّرات التي أدّت إلى نشوء تلك الظاهرة وولادة ذلك الجزء .
فمنهم مَن يفترض أنّ « عبد اللَّه بن سبأ » ونشاطه السياسي المزعوم هو الأساس لذلك التكتّل الشيعي(1) .
ومنهم مَن يردّ ظاهرة التشيّع إلى عهد خلافة الإمام عليّ ( عليه الصلاة والسلام) وما هيّأه ذلك العهد من مقام سياسي واجتماعي على مسرح الأحداث(2) .
ومنهم مَن يزعم أنّ ظهور الشيعة يكمن في أحداث متأخّرة عن ذلك في التسلسل التاريخي للمجتمع الإسلامي.
والذي دعا - في ما أظنّ - كثيراً من هؤلاء الباحثين إلى هذا الافتراض والاعتقاد بأنّ التشيّع ظاهرة طارئة في المجتمع الإسلامي هو أنّ الشيعة لم يكونوا يمثّلون في صدر الإسلام إلّاجزءاً ضئيلاً من مجموع الاُمّة الإسلاميّة .
فقد أوحت هذه الحقيقة شعوراً بأنّ اللاتشيّع كان هو القاعدة في المجتمع الإسلامي ، وأنّ التشيّع هو الاستثناء والظاهرة الطارئة التي يجب اكتشاف أسبابها من خلال تطوّرات المعارضة للوضع السائد .
ولكن اتّخاذ الكثرة العدديّة والضآلة النسبيّة أساساً لتمييز القاعدة والاستثناء أو الأصل والانشقاق ليس شيئاً منطقياً ؛ فمن الخطأ إعطاء الإسلام اللاشيعي صفة الأصالة على أساس الكثرة العدديّة ، وإعطاء الإسلام الشيعي صفة الظاهرة الطارئة ومفهوم الانشقاق على أساس القلّة العدديّة ، فإنّ هذا لا يتّفق مع طبيعة الانقسامات العقائدية ؛ إذ كثيراً ما نلاحظ انقساماً عقائدياً في إطار رسالة واحدة يقوم على أساس الاختلاف في تحديد بعض معالم تلك الرسالة ، وقد لا يكون القسمان العقائديان متكافئين من الناحية العدديّة ، ولكنّهما متكافئان في أصالتهما ومعبّران بدرجة واحدة عن الرسالة المختلف بشأنها ، ولا يجوز بحالٍ من الأحوال أن نبني تصوّراتنا عن الانقسام العقائدي داخل إطار الرسالة الإسلاميّة إلى شيعة وغيرهم على الناحية العدديّة .
كما لا يجوز أيضاً أن نفرض ولادة الاُطروحة الشيعية في إطار الرسالة الإسلامية بولادة كلمة « الشيعة » أو « التشيّع » كمصطلح واسم خاصّ لفرقة محدّدة من المسلمين ؛ لأنّ ولادة الأسماء والمصطلحات شيء ، ونشوء المحتوى وواقع الاتّجاه الاُطروحة شيء آخر .
فإذا كنّا لا نجد كلمة « الشيعة » في اللغة السائدة في حياة الرسول صلى الله عليه و آله أو بعد وفاته ، فلا يعني هذا أنّ الاُطروحة والاتّجاه الشيعي لم يكن موجوداً .
فبهذه الروح يجب أن نعالج قضية التشيّع والشيعة ، ونجيب على السؤالين التاليين :
كيف ولد التشيّع ؟
وكيف وجد الشيعة ؟
كيف وُلد التشيّع ؟
أمّا في ما يتعلّق بالسؤال الأوّل : كيف ولد التشيّع ؟ فنحن نستطيع أن نعتبر التشيّع نتيجة طبيعية للإسلام ، وممثّلاً لاُطروحة كان من المفروض للدعوة الإسلامية أن تتوصّل إليها حفاظاً على نموّها السليم .
ويمكننا أن نستنتج هذه الاُطروحة استنتاجاً منطقياً من الدعوة التي كان الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله يتزعّم قيادتها بحكم طبيعة تكوينها والظروف التي عاشتها ؛ فإنّ النبي كان يباشر قيادة دعوة انقلابية ، ويمارس عمليّة تغيير شامل للمجتمع وأعرافه وأنظمته ومفاهيمه . ولم يكن الطريق قصيراً أمام عمليّة التغيير هذه ، بل كان طريقاً طويلاً وممتدّاً بامتداد الفواصل المعنوية الضخمة بين الجاهلية والإسلام .
فكان على الدعوة التي يمارسها النبي أن تبدأ بإنسان الجاهلية فتُنشئه إنشاءاً جديداً ، وتجعل منه الإنسان الإسلامي الذي يحمل النور الجديد إلى العالم ، وتجتثّ منه كلّ جذور الجاهلية ورواسبها .
وقد خطا القائد الأعظم صلى الله عليه و آله بعمليّة التغيير خطوات مدهشة في برهة قصيرة ، وكان على عمليّة التغيير أن تواصل طريقها الطويل حتّى بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله الذي أدرك منذ فترة قبل وفاته أنّ أجله قد دنا ، وأعلن ذلك بوضوح (في حجّة الوداع )(3) ولم يفاجئه الموت مفاجئة .
وهذا يعني أ نّه كان يملك فرصة كافية للتفكير في مستقبل الدعوة بعده ، حتّى إذا لم نُدخل في الموقف عامل الاتصال الغيبي والرعاية الإلهية المباشرة للرسالة عن طريق الوحي . وفي هذا الضوء يمكننا أن نلاحظ أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان أمامه ثلاث طرق بالإمكان انتهاجها تجاه مستقبل الدعوة :
الموقف السلبي تجاه مستقبل الدعوة
الطريق الأوّل : أن يقف من مستقبل الدعوة موقفاً سلبيّاً ، ويكتفي بممارسة دوره في قيادة الدعوة وتوجيهها فترة حياته ، ويتركها في مستقبلها للظروف والصدف .وهذه السلبيّة لا يمكن افتراضها في النبي صلى الله عليه و آله ؛ لأنّها إنّما تنشأ من أحد أمرين كلاهما لا ينطبقان عليه صلى الله عليه و آله .
الأمر الأوّل : الاعتقاد بأنّ هذه السلبيّة والإهمال لا تؤثّر على مستقبل الدعوة ، وأنّ الاُمّة التي سوف تخلفه في الدعوة قادرة على التصرّف بالشكل الذي يحمي الدعوة ويضمن عدم الانحراف .
وهذا الاعتقاد لا مبرّر له من الواقع إطلاقاً ، بل إنّ طبيعة الأشياء كانت تدلّ على خلافه ، لأنّ الدعوة - بحكم كونها عملاً تغييريّاً انقلابيّاً في بدايته ، يستهدف بناء اُمّة واستئصال كلّ الجذور الجاهلية منها - تتعرّض لأكبر الأخطار إذا خلت الساحة من قائدها وتركها دون أيّ تخطيط .
فهنالك الأخطار التي تنبع عن طبيعة مواجهة الفراغ دون أيّ تخطيط سابق ، وعن الضرورة الآنيّة لاتّخاذ موقف مرتجل في ظلّ الصدمة العظيمة بفقد النبي ؛ فإنّ الرسول إذا ترك الساحة دون تخطيط لمصير الدعوة فسوف تواجه الاُمّة ولأوّل مرّة مسؤولية التصرّف بدون قائدها تجاه أخطر مشاكل الدعوة ، وهي لا تملك أيّ مفهوم مسبق بهذا الصدد ، وسوف يتطلّب منها الموقف تصرّفاً سريعاً آنيّاً بالرغم من خطورة المشكلة ؛ لأنّ الفراغ لا يمكن أن يستمر ، وسوف يكون هذا التصرّف السريع في لحظة الصدمة التي تمنى بها الاُمّة وهي تشعر بفقدها لقائدها الكبير .
هذه الصدمة التي تزعزع بطبيعتها سير التفكير وتبعث على الاضطراب ، حتّى أ نّها جعلت صحابيّاً معروفاً يعلن - بفعل الصدمة - أنّ النبي صلى الله عليه و آله لم يمت ولن يموت(4)
وهناك الأخطار التي تنجم عن عدم النضج الرسالي بدرجة تضمن للنبي صلى الله عليه و آله سلفاً موضوعيّة التصرّف الذي سوف يقع ، وانسجامه مع الإطار الرسالي للدعوة ، وتغلّبه على التناقضات الكامنة التي كانت لا تزال تعيش في زوايا نفوس المسلمين ، على أساس الانقسام إلى : مهاجرين وأنصار ، أو قريش وسائر العرب ، أو مكّة والمدينة .
وهناك الأخطار التي تنشأ لوجود القطّاع المتستّر بالإسلام والذي كان يكيد له في حياة النبي صلى الله عليه و آله باستمرار ، وهو القطّاع الذي كان يسمّيه القرآن بـ ( المنافقين )(5)
وإذا أضفنا إليهم عدداً كبيراً ممّن أسلم بعد الفتح استسلاماً للأمر الواقع لا انفتاحاً على الحقيقة نستطيع أن نقدّر الخطر الذي يمكن لهذه العناصر أن تولّده ، وهي تجد فجأة فرصة لنشاطٍ واسع في فراغٍ كبير مع خلوّ الساحة من رعاية القائد .
فلم تكن إذن خطورة الموقف بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله شيئاً يمكن أن يخفى على أيّ قائد مارس العمل العقائدي فضلاً عن خاتم الأنبياء .
وإذا كان أبو بكر لم يشأ أن يترك الساحة دون أن يتدخّل تدخّلاً إيجابياً في ضمان مستقبل الحكم بحجّة الاحتياط للأمر(6) .
وإذا كان الناس قد هرعوا إلى عمر حين ضُرب قائلين : « يا أمير المؤمنين لو عهدت عهداً »(7)
خوفاً من الفراغ الذي سوف يخلّفه الخليفة ، بالرغم من التركّز السياسي والاجتماعي الذي كانت الدعوة قد بلغته بعد عقد من وفاة الرسول صلى الله عليه و آله .
وإذا كان عمر قد أوصى إلى ستّة(8) تجاوباً مع شعور الآخرين بالخطر .
وإذا كان عمر يدرك بعمق خطورة الموقف في يوم السقيفة وما كان بالإمكان أن تؤدّي إليه خلافة أبي بكر بشكلها المرتجل من مضاعفات ؛ إذ يقول : « إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة غير أنّ اللََّه وقى شرّها »(9) .
وإذا كان أبو بكر نفسه يعتذر عن تسرّعه إلى قبول الحكم وتحمّل المسؤولية الكبيرة بأ نّه شعر بخطورة الموقف وضرورة الإقدام السريع على حلٍ ما ؛ إذ يقول - وقد عوتب على السلطة - : « إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قبض والناس حديثو عهد بالجاهلية ، فخشيت أن يفتتنوا ، وإنّ أصحابي حمّلونيها »(10) .
إذا كان كلّ ذلك صحيحاً ، فمن البديهي إذن أن يكون رائد الدعوة ونبيّها أكثر شعوراً بخطر السلبيّة ، وأكبر إدراكاً وأعمق فهماً لطبيعة الموقف ومتطلّبات العمل التغييري الذي يمارسه في اُمّة حديثة عهد بالجاهلية على حدّ تعبير أبي بكر .
الأمر الثاني : الذي يمكن أن يفسّر سلبيّة القائد تجاه مستقبل الدعوة ومصيرها بعد وفاته أ نّه بالرغم من شعوره بخطر هذه السلبيّة لا يحاول تحصين الدعوة ضدّ ذلك الخطر ؛ لأنّه ينظر إلى الدعوة نظرة مصلحيّة ، فلا يهمّه إلّاأن يحافظ عليها ما دام حياً ليستفيد منها ويستمتع بمكاسبها ، ولا يعنى بحماية مستقبلها بعد وفاته .
وهذا التفسير لا يمكن أن يصدق على النبي صلى الله عليه و آله ، حتّى إذا لم نلاحظه بوصفه نبيّاً ومرتبطاً باللََّه سبحانه وتعالى في كلّ ما يرتبط بالرسالة ، وافترضناه قائداً رساليّاً كقادة الرسالات الاُخرى ؛ لأنّ تاريخ القادة الرساليين لا يملك نظيراً للقائد الرسول في إخلاصه لدعوته وتفانيه فيها وتضحيته من أجلها إلى آخر لحظة من حياته ، وكلّ تاريخه يبرهن على ذلك . وقد كان صلى الله عليه و آله على فراش الموت وقد ثقل مرضه وهو يحمل همّ معركة كان قد خطّط لها وجهّز جيش « اُسامة » لخوضها ، فكان يقول : جهّزوا جيش اُسامة ، أنفذوا جيش اُسامة ، أرسلوا بعث اُسامة . ويكرّر ذلك ويغمى عليه بين الحين والحين(11) .
فإذا كان اهتمام الرسول صلى الله عليه و آله بقضية من قضايا الدعوة العسكريّة يبلغ إلى هذه الدرجة وهو يجود بنفسه على فراش الموت ، ولا يمنعه علمه بأ نّه سيموت قبل أن يقطف ثمار تلك المعركة عن تبنّيه لها وأن تكون همّه الشاغل وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ... فكيف يمكن أن نتصوّر أنّ النبي صلى الله عليه و آله لا يعيش هموم مستقبل الدعوة ، ولا يخطّط لسلامتها بعد وفاته من الأخطار المترقّبة ؟ !
وأخيراً ، فإنّ في سلوك الرسول صلى الله عليه و آله في مرضه الأخير رقماً واحداً يكفي لنفي الطريق الأوّل ، وللتدليل على أنّ القائد الأعظم كان أبعد ما يكون عن فرضية الموقف السلبي تجاه مستقبل الدعوة وعدم الشعور بالخطر أو عدم الاهتمام بشأنه ، وهذا الرقم أجمعت صحاح المسلمين جميعاً سنّة وشيعة على نقله ، وهو أنّ الرسول لما حضرته الوفاة وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال صلى الله عليه و آله : « ائتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً »(12) .
فإنّ هذه المحاولة من القائد الكريم المتّفق على نقلها وصحّتها ، تدلّ بكلّ وضوح على أ نّه كان يفكّر في أخطار المستقبل ، ويدرك بعمق ضرورة التخطيط لتحصين الاُمّة من الانحراف ، وحماية الدعوة من التميّع والانهيار ، فليس من الممكن افتراض الموقف السلبي بحال من الأحوال .
الموقف الإيجابي المتمثّل في نظام الشورى
الطريق الثاني : أن يخطّط الرسول القائد صلى الله عليه و آله لمستقبل الدعوة بعد وفاته ويتّخذ موقفاً إيجابياً ، فيجعل القيمومة على الدعوة وقيادة التجربة للاُمّة ممثّلةً على أساس نظام الشورى في جيلها العقائدي الأوّل ، الذي يضمّ مجموع المهاجرين والأنصار ، فهذا الجيل الممثّل للاُمّة هو الذي سيكون قاعدة للحكم ومحوراً لقيادة الدعوة في خطّ نموّها .وهنا يلاحظ أنّ طبيعة الأشياء والوضع العام الثابت عن الرسول صلى الله عليه و آله والدعوة والدعاة يرفض هذه الفرضية ، وينفي أن يكون النبي قد انتهج هذا الطريق واتّجه إلى ربط قيادة الدعوة بعده مباشرة بالاُمّة ، ممثّلة في جيلها الطليعي من المهاجرين والأنصار على أساس نظام الشورى .
وفيما يلي بعض النقاط التي توضّح ذلك :
عدم إعداد الاُمّة لنظام الشورى :1 - لو كان النبي صلى الله عليه و آله قد اتّخذ من مستقبل الدعوة بعده موقفاً إيجابياً يستهدف وضع نظام الشورى موضع التطبيق بعد وفاته مباشرة وإسناد زعامة الدعوة إلى القيادة التي تنبثق عن هذا النظام ، لكان من أبده الأشياء التي يتطلّبها هذا الموقف الإيجابي أن يقوم الرسول القائد صلى الله عليه و آله بعمليّة توعية للاُمّة والدعاة على نظام الشورى وحدوده وتفاصيله وإعطائه طابعاً دينيّاً مقدّساً ، وإعداد المجتمع الإسلامي إعداداً فكريّاً وروحيّاً لتقبّل هذا النظام ، وهو مجتمع نشأ من مجموعة من العشائر لم تكن قد عاشت قبل الإسلام وضعاً سياسيّاً على أساس الشورى ، وإنّما كانت تعيش في الغالب وضع زعامات قبلية وعشائرية تتحكّم فيها القوة والثروة وعامل الوراثة إلى حدّ كبير .
ونستطيع بسهولة أن ندرك أنّ النبي صلى الله عليه و آله لم يمارس عمليّة التوعية على نظام الشورى وتفاصيله التشريعية أو مفاهيمه الفكريّة ؛ لأنّ هذه العمليّة لو كانت قد اُنجزت لكان من الطبيعي أن تنعكس وتتجسّد في الأحاديث المأثورة عن النبي صلى الله عليه و آله أو في ذهنية الاُمّة ، أو على أقلّ تقدير في ذهنية الجيل الطليعي منها الذي يضمّ المهاجرين والأنصار بوصفه هو المكلّف بتطبيق نظام الشورى ، مع أنّنا لا نجد في الأحاديث المأثورة عن النبي صلى الله عليه و آله أيّ صورة تشريعية محدّدة لنظام الشورى .
وأمّا ذهنية الاُمّة أو ذهنية الجيل الطليعي منها ، فلا نجد فيها أيّ ملامح أو انعكاسات محدّدة لتوعية من ذاك القبيل ؛ فإنّ هذا الجيل كان يحتوي على اتجاهين :
أحدهما : الاتّجاه الذي يتزعّمه أهل البيت .
والآخر : الاتّجاه الذي تمثّله السقيفة والخلافة التي قامت فعلاً بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله .
أمّا الاتّجاه الأوّل : فمن الواضح أ نّه كان يؤمن بالوصاية والإمامة ، ويؤكّد على القرابة ، ولم ينعكس منه الإيمان بفكرة الشورى .
وأمّا الاتّجاه الثاني : فكلّ الأرقام والشواهد في حياته وتطبيقه العملي تدلّ بصورة لا تقبل الشكّ على أ نّه لم يكن يؤمن بالشورى ولم يبن ممارساته الفعلية على أساسها ، والشيء نفسه نجده في سائر قطاعات ذلك الجيل الذي عاصر وفاة الرسول الأعظم من المسلمين .
نلاحظ بهذا الصدد للتأكّد من ذلك أنّ أبا بكر حينما اشتدّت به العلّة عهد إلى عمر بن الخطاب ، فأمر عثمان أن يكتب عهده ، فكتب : « بسم اللََّه الرحمن الرحيم . هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول اللَّه إلى المؤمنين والمسلمين . سلام عليكم ، إنّي أحمد إليكم اللََّه . أمّا بعد ، فإنّي استعملت عليكم عمر بن الخطاب ، فاسمعوا وأطيعوا »(13) .
ودخل عليه عبد الرحمن بن عوف فقال : كيف أصبحت يا خليفة رسول اللَّه ، فقال : أصبحت مولّياً وقد زدتموني على ما بي أن رأيتموني استعملت رجلاً منكم ، فكلّكم قد أصبح وارماً أنفُه ، وكلّ يطلبها لنفسه(14) .
وواضح من هذا الاستخلاف وهذا الاستنكار للمعارضة أنّ الخليفة لم يكن يفكّر بعقلية نظام الشورى وأ نّه كان يرى من حقّه تعيين الخليفة ، وأنّ هذا التعيين يفرض على المسلمين الطاعة ، ولهذا أمرهم بالسمع والطاعة ، فليس هو مجرّد ترشيح أو تنبيه ، بل هو إلزام ونصب .
ونلاحظ أيضاً أنّ عمر رأى هو الآخر أنّ من حقّه فرض الخليفة على المسلمين ، ففرضه في نطاق ستّة أشخاص ، وأو كل أمر التعيين إلى الستّة أنفسهم دون أن يجعل لسائر المسلمين أيّ دور حقيقي في الانتخاب . وهذا يعني أيضاً أنّ عقلية نظام الشورى لم تتمثّل في طريقة الاستخلاف التي انتهجها عمر ، كما لم تتمثّل من قبْل في الطريقة التي سلكها الخليفة الأوّل ، وقد قال عمر حين طلب منه الناس الاستخلاف : لو أدركني أحد رجلين فجعلت هذا الأمر إليه لوثقت به : سالم مولى أبي حذيفة وأبو عبيدة الجرّاح ، ولو كان سالم حيّاً ما جعلتها شورى(15) .
وقال أبو بكر لعبد الرحمن بن عوف وهو يناجيه على فراش الموت : « وددت لو أ نّي كنت سألت رسول اللََّه صلى الله عليه و آله لمن هذا الأمر فلا ينازعه أحد »(16) .
وحينما تجمّع الأنصار في السقيفة لتأمير سعد بن عبادة قال منهم قائل : « إن أبت مهاجرة قريش فقالوا : نحن المهاجرون ... ونحن عشيرته وأولياؤه ... ، وقالت طائفة منهم : فإنّا نقول إذن : منّا أمير ومنكم أمير ولن نرضى بدون هذا الأمر أبداً »(17) .
وحينما خطب أبو بكر فيهم قال : « كنّا - معاشر المسلمين المهاجرين - أوّل الناس إسلاماً ، والناس لنا في ذلك تبع ، ونحن عشيرة رسول اللََّه صلى الله عليه و آله وأوسط العرب أنساباً »(18) .
وحينما اقترح الأنصار أن تكون الخلافة دوريّة بين المهاجرين والأنصار ، ردَّ أبو بكر قائلاً : « إنّ رسول اللََّه صلى الله عليه و آله لمّا بُعث عظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم ، فخالفوه وشاقّوه ، وخصّ اللََّه المهاجرين الأوّلين من قومه بتصديقه ... ، فهم أوّل من عبد اللََّه في الأرض ... ، وهم أولياؤه وعترته وأحقّ الناس بالأمر بعده ، لا ينازعهم فيه إلّاظالم »(19) .
وقال الحباب بن المنذر وهو يشجّع الأنصار على التماسك : « املكوا عليكم أيديكم ؛ إنّما الناس في فيئكم وظلّكم ... ، فإن أبى هؤلاء فمنّا أمير ومنهم أمير » .
فردَّ عليه عمر قائلاً : هيهات ، لا يجتمع سيفان في غمد ... ، من ذا يخاصمنا في سلطان محمّد وميراثه ونحن أولياؤه وعشيرته إلّامدلّ بباطل أو متجانف لإثم أو متورّط في هلكة »(20) .
إنّ الطريقة التي مارسها الخليفة الأوّل والخليفة الثاني للاستخلاف ، وعدم استنكار عامّة المسلمين لتلك الطريقة والروح العامّة التي سادت على الجناحين المتنافسين من الجيل الطليعي « المهاجرين والأنصار » يوم السقيفة ، والاتّجاه الواضح الذي بدا لدى المهاجرين نحو تقرير مبدأ انحصار السلطة بهم وعدم مشاركة الأنصار في الحكم ، والتأكيد على المبرّرات الوراثية التي تجعل من عشيرة النبي صلى الله عليه و آله أولى العرب بميراثه ، واستعداد كثير من الأنصار لتقبّل فكرة أميرين ، أحدهما من الأنصار والآخر من المهاجرين ، وإعلان أبي بكر الذي فاز بالخلافة في ذلك اليوم عن أسفه لعدم السؤال من النبي عن صاحب الأمر بعده ... كلّ ذلك يوضّح بدرجة لا تقبل الشك أنّ هذا الجيل الطليعي من الاُمّة الإسلامية - بما فيه القطاع الذي تسلَّم الحكم بعد وفاة النبي - لم يكن يفكّر بذهنية الشورى ، ولم يكن لديه فكرة محدّدة عن هذا النظام ، فكيف يمكن أن نتصوّر أنّ النبي مارس عمليّة توعية على نظام الشورى تشريعياً وفكريّاً ، وأعدَّ جيل المهاجرين والأنصار لتسلّم قيادة الدعوة بعده على أساس هذا النظام ، ثمّ لا نجد لدى هذا الجيل تطبيقاً واقعيّاً لهذا النظام أو مفهوماً محدّداً عنه ؟ ! !
كما أ نّنا لا يمكن أن نتصوّر من ناحية اُخرى أنّ الرسول القائد صلى الله عليه و آله وضع هذا النظام وحدَّده تشريعياً ومفهوميّاً ثمّ لا يقوم بتوعية المسلمين عليه وتثقيفهم به .
وهكذا يبرهن ما تقدّم على أنّ النبي صلى الله عليه و آله لم يكن قد طرح الشورى كنظام بديل على الاُمّة ؛ إذ ليس من الممكن عادة أن تطرح بالدرجة التي تتناسب مع أهمّيتها ، ثمّ تختفي اختفاءاً كاملاً عن الجميع وعن كلّ الاتجاهات .
وممّا يوضّح هذه الحقيقة بدرجة أكبر أن نلاحظ :
أوّلاً : أنّ نظام الشورى كان نظاماً جديداً بطبيعته على تلك البيئة التي لم تكن قد مارست قبل النبوة أيّ نظام مكتمل للحكم ، فكان لابدّ من توعية مكثّفة ومركّزة عليه ، كما أوضحنا ذلك .
ثانياً : أنّ الشورى كفكرة مفهوم غائم لا يكفي طرحه هكذا لإمكان وضعه موضع التنفيذ ، ما لم تشرح تفاصيله وموازينه ومقاييس التفضيل عند اختلاف الشورى ، وهل تقوم هذه المقاييس على أساس العدد والكمّ ، أو على أساس الكيف والخبرة ؟ إلى غير ذلك مما يحدِّد للفكرة معالمها ويجعلها صالحة للتطبيق فور وفاة النبي صلى الله عليه و آله .
ثالثاً : أنّ الشورى تعبِّر في الحقيقة عن ممارسة للاُمّة بشكل وآخر للسلطة عن طريق التشاور وتقرير مصير الحكم ، فهي مسؤولية تتعلّق بعدد كبير من الناس هم كلّ الذين تشملهم الشورى ، وهذا يعني أ نّها لو كانت حكماً شرعيّاً يجب وضعه موضع التنفيذ عقيب وفاة النبي صلى الله عليه و آله لكان لابدّ من طرحه على أكبر عدد من اُولئك الناس ؛ لأنّ موقفهم من الشورى إيجابي ، وكلّ منهم يتحمّل قسطاً من المسؤولية .
وكلّ هذه النقاط تبرهن على أنّ النبي صلى الله عليه و آله في حالة تبنّيه لنظام الشورى كبديل له بعد وفاته يتحتّم عليه أن يطرح فكرة الشورى على نطاق واسع وبعمق ، وبإعداد نفسي عام ، وملءٍ لكلّ الثغرات ، وإبراز لكلّ التفاصيل التي تجعل الفكرة عمليّة ، وطرح للفكرة على هذا المستوى كمّاً وكيفاً وعمقاً لا يمكن أن يمارس من قِبل الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله ثمّ تنطمس معالمه لدى جميع المسلمين الذين عاصروه إلى حين وفاته .
وقد يفترض أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان قد طرح فكرة الشورى بالصورة اللازمة وبالحجم الذي يتطلّبه الموقف كمّاً وكيفاً واستوعبها المسلمون ، غير أنّ الدوافع السياسية استيقظت فجأةً وحجبت الحقيقة وفرضت على الناس كتمان ما سمعوه من النبي فيما يتّصل بالشورى وأحكامها وتفاصيلها .
غير أنّ هذا الافتراض ليس عمليّاً ؛ لأنّ تلك الدوافع مهما قيل عنها فهي لا تشمل المسلمين الاعتياديين من الصحابة الذين لم يساهموا في الأحداث السياسية عقب وفاة النبي صلى الله عليه و آله ولا في بناء هرم السقيفة ، وكان موقفهم موقف المترسّل ، وهؤلاء يمثّلون في كلّ مجتمع جزءاً كبيراً من الناحية العددية مهما طغى الجانب السياسي عليه .
فلو كانت الشورى مطروحة من قِبل النبي صلى الله عليه و آله بالحجم المطلوب لما اختصّ الاستماع إلى نصوصها بأصحاب تلك الدوافع ، بل لسمعها مختلف الناس ، ولانعكست بصورة طبيعية عن طريق الاعتياديين من الصحابة ، كما انعكست فعلاً النصوص النبويّة على فضل الإمام علي عليه السلام ووصايته عن طريق الصحابة أنفسهم ، فكيف لم تَحُل الدوافع السياسية دون أن تصل إلينا مئات الأحاديث عن طريق الصحابة عن النبي صلى الله عليه و آله في فضل علي عليه السلام ووصايته ومرجعيته ، على الرغم من تعارض ذلك مع الاتّجاه السائد وقتئذٍ ، ولم يصلنا شيء ملحوظ من ذلك فيما يتّصل بفكرة الشورى ؟
بل حتّى اُولئك الذين كانوا يمثّلون الاتّجاه السائد كانوا في كثير من الأحيان يختلفون في المواقف السياسية ، وتكون من مصلحة هذا الفريق أو ذاك أن يرفع شعار الشورى ضدّ الفريق الآخر ، ومع ذلك لم نعهد أنّ فريقاً منهم استعمل هذا الشعار كحكمٍ سمعه من النبي صلى الله عليه و آله ، فلاحظوا - على سبيل المثال - موقف طلحة من تعيين أبي بكر لعمر واستنكاره لذلك وإعلانه السخط على هذا التعيين(21) ،
فإنّه لم يفكّر على الرغم من ذلك أن يلعب ضدّ هذا التعيين بورقة الشورى ، ويشجب موقف أبي بكر بأ نّه يخالف ما هو المسموع من النبي صلى الله عليه و آله عن الشورى والانتخاب .
المصادر :
من کتاب التشيع والاسلام للشهيد السيد محمد باقر الصدر
1- منهم محمّد رشيد رضا في كتابه ( السنّة والشيعة ) . راجع ( عبد اللَّه بن سبأ ) 1 : 47
2- راجع ( تاريخ الإماميّة وأسلافهم من الشيعة ) : 35 وما بعدها
3- صحيح مسلم 4 : 1874 ، ومختصر تاريخ ابن عساكر 18 : 32
4- تاريخ الطبري 3 : 201 و 202
5- راجع سورة النساء : 138 - 146 ، التوبة : 64 - 68 ، الأحزاب : 12 - 15 ، المنافقون : 1 - 4 وغيرها من الآيات
6- تاريخ الطبري 3 : 428 ، مختصر تاريخ ابن عساكر 18 : 308 و 309
7- تاريخ الطبري 4 : 228
8- تاريخ الطبري 4 : 228
9- تاريخ الطبري 3 : 205
10- شرح نهج البلاغة ( لابن أبي الحديد ) 2 : 42
11- الكامل في التاريخ ( لابن الأثير ) 2 : 318 ، والطبقات الكبرى ( لابن سعد ) 2 : 249
12- مسند أحمد 1 : 355 ، وصحيح مسلم 5 : 76 في آخر الوصايا ، والطبقات الكبرى 2 : 242 ، وقريب منهما في صحيح البخاري 1 : 37 كتاب الوصية و 8 : 161 كتاب الاعتصام
13- تاريخ الطبري 3 : 428 و 429 ، ومختصر تاريخ ابن عساكر 18 : 309 - 310
14- تاريخ اليعقوبي 2 : 24 . وراجع تاريخ الطبري 3 : 429
15- طبقات ابن سعد 3 : 343
16- تاريخ الطبري 3 : 431
17- تاريخ الطبري 3 : 218 - 219
18- شرح نهج البلاغة ( لابن أبي الحديد ) 6 : 7
19- شرح نهج البلاغة ( لابن أبي الحديد ) 6 : 8
20- شرح نهج البلاغة ( لابن أبي الحديد ) 6 : 9
21- تاريخ الطبري 3 : 433