في زمن الغربة يمضي الإنسان يبحث عن حبيب ، يبحث عن نصير ، يبحث عن معين ، وهو في الأصل يكتفي بالله عز وجل أنيسا ومعيناً ونصيراً ، ولكن مع كثرة الأعداء وكثرة الشبهات والشهوات وقلة الأتباع والأنصار يجد المرء نفسه يناجي ربه يشكو إليه ما صار إليه الحال الآن " اللهم إننا نشكو إليك ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربنا ، إلى من تكلنا ، إلى قريب يتجهمنا ، أو إلى عدو ملكته أمرنا إن لم يكن بك غضب علينا فلا نبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لنا ، نعوذ بنور وجهك من أن ينزل بنا غضبك ، أو يحل علينا سخطك ، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك " .
نعم والله إن هذا الدعاء لينطق بحرقة قلوبنا مما نحن فيه في هذه الآونة ، ومن خلال تلك الكلمات تجد قلباً مكلومًا ، يبحث عن حبيب يصفو إليه ، ويأوي إليه ، ويبثه همومه ، ويحمله أحزانه ، ويشاركه أفراحه وأتراحه .
نريد أن تصفو قلوبنا بعد هذا الكدر الذي أفرزه واقعنا المرير ، فإنَّ أساس قضية " الأخوة " صفاء القلب لله ، هذا الصفاء الذي يثمر طمأنينة الفؤاد ، وراحة البال ، وهدوء الضمير ، فلا نرتقب خوف الغدر وحسد الأعين وأذى الأيدي وكيد القلوب وحقد النفوس ، إنها ظلال الحب في الله لا أخوة المصالح وصداقة المنافع التي شاعت في هذا العصر ، نحتاج إلى أخٍ كالمرآة الصافية ، يقيل كل منا الآخر من عثراته ، يحوطني وأحوطه من ورائه ، يقيمني وأقيمه ، يعينني وأعينه فأين هذه الأخوة ؟!!
من أين لي والمنى ليست بنافعةٍ خلٌ أرى فيه أغراضي وأوطاري؟
يمسُّه الخطبُ قَلْبي ثم يصرفُهُ عني ولو خاضَ فيه لُجَّةَ النارِ
سأضرب صفحاً عن مناشدتكم هذا الأخ الحبيب ، إذ السبيل إلى إيجاده يبدأ عملياً من ذات كل واحد منا ، إنني كي أجده لابد أن أبدأ بنفسي فأكون أنا أخوك قبل أن أنتظر أن تكون أنت أخي ، نعم ـ أُخيَّ ـ كن أنت أخ لكل من ترجو منه نظير ذلك تجنِ جزاءك وفاقا .
لعل مثل هذا الكلام يمر على خاطركم فتستشعرونه هنيهة ثم لا تلبثون بعد ذلك أن تنطلقوا إلى مألوف ما استمرأت عليه الأنفس ، لعل بعضكم يجد في هذا الحديث تهويلا ، في نوع من معايشة الأكاذيب والأوهام التي نحاول تصديقها فرارا من الجزع واليأس ، وطامة هؤلاء أن تعلقت قلوبهم بالنتائج وسرعة جني الثمار ، والأصل أننا نبني ولو لبنة ، ونزرع ولو بذرة ، ثم الأمر كله لله نفوضه إليه ، ولكن نبقى دائما نمحص الدعوة ، ونتهم أنفسنا ، ونلقي باللائمة علينا ، فنحن لا نعمل للناس ، نحن نعمل من أجل رب الناس ، وتوفيقه مرهون بإصلاحنا لأنفسنا ، فلا يضيرك بعدها شيء لأنك اخترت الله فمحاولة النقد الذاتي ليس فيها تعجيز ولا تهوين ولا شرخ للصف ، بل هي محاولة لتمحيص النوايا وتجديد الإيمان الفينة بعد الفينة بالمواجهة الصريحة ولا نعبأ بعد ذلك بقول قائل فإننا لا نرضي سوى ربنا .
وقد يتلقى بعضنا مثل هذه الدعوات بنفس جزعة ، لا تنزع من قولة " ليت " ، ولسان حالهم كما قالت العرب قديما : "قد كان ذلك مَرَّة فاليوم لا " ، وهؤلاء مرضى الجزع لا صبر لهم البتة ، والخطب ما زال هيناً فما يدريك والبلية أعظم " هذا ولما ترى تهامة !! " وامتحان الإيمان في الصبر " أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ " (1)
نعم إنَّ مصابنا الآن في فقدان إخواننا الذين افترستهم الدنيا حتى تكاد تعدم الحبيب في الله ، إنَّ تلك البلية تحتاج إلى تصحيح للنيات من جديد ، وبداية لصحوة جديدة قبل أن تهلكنا الدنيا ، والتي عادت كأن لم يعد شيء سواها يهمنا .
لا .. لا إخوتاه لسنا لمثل هذه ننتسب ، لسنا حاملي هذه الجنسية فنحن فيها غرباء ، فلا تزيدوا الوحشة ، إنما نهفو لأن نكون مواطني الجنة ، أم قد نسيتم !!
الإخلاص الخلاص ، وإنما يتعثر من لم يخلص ، ولا يخلص إلا من يراد ، إنَّ الفوضى والعبثية والاضطراب والتخبط والتلون وعدِّد كما شئت من هذه البليات كل ذلك مآله ومرجعه إلى عدم الإخلاص ثم عدم المتابعة ، لابد من سبر أعماق النفس حتى نتخلى عن عيوبها ، نريد قلوبا تشتاق لرضا الله جل وعلا ، نريد رجالا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، فهؤلاء أهل التمكين ، وهؤلاء هم الإخوة .
تعالوا بنا نعيد بناء صرح الأخوة الشامخ ، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة إني أحبكم في الله ، وأسأل الله تعالى أن يظلنا جميعا بظله يوم لا ظل إلا ظله بما تعاقدت عليه القلوب من الحب فيه جل وعلا .
تعالوا نداوي تلك الآفات ؛ فإن نسيجنا الأخوي يحتاج إلى إصلاح وتجديد وصيانة، فتلك الروابط التي كانت تجمع قلوب الأخوة قد بليت ، والحاجة ملحة إلى إعادة إقامتها من جديد .
نعم ـ إخوتاه ـ إن تلك الوشائج والأواصر التي كانت سمة بارزة للملتزمين وكانت الصفة الواضحة لحياتهم قد توالت عليها الخطوب والمحن فلم تصمد أمام التيارات الجارفة فضعفت ووهنت حتى دبَّ الشيب في أوصالها ، فما عادت قوية فتية كما كانت .
إنَّ صرح الأخوة الشامخ لابد أن يسمو بالنفوس لسماء الإيمان ، فتظل حائمة حول العرش لا يدنسها خشاش الأرض ، والطريق الوحيد هو الواقعية في المواجهة لنحاول علاج الأدواء التي ترسبت عبر السنين الماضية ، بيد أنَّ هذا لا يتأتى دون استشعار الفاقة والإحساس بحجم البلية ، ولا يكون حتى تتكاتف الأيدي وتتلاقى القلوب ، ويمضي الجميع يحفهم منهج السلف سائرين وفق أصوله وقواعده فيحفظهم من التخبط والاضطراب .
تعالوا نعيد ترتيب منظومة " الأخوة " ، وهذا لا يتم حتى نعود لنتبين الأهداف والسبل الشرعية للوصول لتلك الغايات ، فإذا كان هدفنا هو بناء المجتمع الإسلامي الذي يحيا في ظل شرع الرحمن ، فإنَّ لبنة هذا المجتمع تنبع من ههنا من صرح "الأخوة " .
فهلموا ـ إخوتاه ـ نسير في ركب الأخوة نحاول تعميق أواصرها ، فذاك منشدنا ومطلبنا وهاكم السبيل . والله المستعان .
الأخوة لماذا ؟
نريد أن تنتشر بيننا هذه السنة المباركة وهذا الهَدْى القويم، نريد أن نعتاد سؤال أنفسنا قبل الإقدام على الأعمال " لماذا ؟ " .
قال الحسن : رحم ال**له رجلاً توقف عند همه ، فإن كان لله أمضاه ، وإن كان لغيره أمسك .
أُخيَّ .. امكث برهة ، وفكّر لحظة ، وتأمل هنيهة ، نعم لماذا ..؟ ما هو الدافع الحقيقي وراء هذا العمل؟ وهنا لابدَّ أن يسعفك العلم ، فدونه قد تصطدم الإرادة الشرعية بالأهواء والمصالح الشخصية المحضة، لابدَّ من علم ينير لك السبيل فتتبصر وتدرك حقيقة الأمور وفق الميزان الشرعي.
...من هذا المنطلق تعالوا نعالج قضية " الأخوة " في عصرنا الحالي ، تعالوا نسبر أعماقنا بواقعية تامة ، ليرسخ في قلوبنا اعتقاد جازم بضرورتها، وتعقد النوايا على إعلاء صرحها من جديد.
...إذا ما سألنا " لماذا الأخوة ؟ " فبماذا تجيب ؟ لعل في حياة كل ملتزم مجموعة من رفقاء الدرب كانوا كلَّ شيء بالنسبة له في وقت من الأوقات ، أحبَّ الدين في سمتهم ، وسار معهم رغبة في مشاركتهم واللحاق بهم ، وكل جيل يُحدثك عن هذا الشأن ، وكيف كان الحال أفضل مما هو عليه الآن، فما الذي حدث ؟! لعلكم لا تشعرون بخطورة الأمر الذي ضيعتموه ، إنني أحاول أن أمد المبضع نحو أصل الداء ، أحاول أن أستأصل هذا الورم السرطاني الذي دبَّ في جسد الأمة ، إنه فساد ذات البين .
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فإنَّ فساد ذات البين هي الحالقة " (2) . لذا أعينوني بتجريد الإخلاص والصبر حتى ينجع الدواء ، سأفتح صفحة جديدة مصطحبًا أخطاء الماضي، محاولاً فقه الواقع المر ، فهلا ساعدتموني بصدق الاستعداد، والرغبة في العمل للإصلاح فَهَلْ من مشمر ؟ هل من مجيب ؟!
لإقامة كيان الأمة الإسلامية.
...إننا في عصر استذل فيه المسلمون، وبلغوا من العجز والوهن على نحو لم يسبق له مثيل ، عَصرٌ سقطت فيه خلافتهم التي استمرت من عهد النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى منتصف القرن الرابع عشر الهجري ، ليسجل التاريخ وصمة عار على جبين كل المسلمين في هذا العصر ، عَصرٌ سقطت فيه أراضى المسلمين تباعًا ومازال المسجد الأقصى الأسير يئن تحت أيدي أعداء الله ، عَصرُ الفوضى والغُثائية ، عصر الغزو الفكري والثقافي ومحو الهوية الإسلامية ، ثمَّ هو عَصْرُ الشتات والفُرقة والعداوات....كل هذا ونحن في سبات عميق، فبعضنا قصارى جهده الأحلام والأوهام، وبعضنا لا يعرف سوى الخطب والكلام، وبعضنا والى أعداءه وترك شرعة الإسلام ، وبعضنا راح ضحية القهر فقصف الأقلام ، وغالبنا صار يهوى الغفلة كيفما اتفقت له وعلى الدين السَّلام.
...فالمسلمون مقهورون نفسيًّا، أُريد لهم ذلك وللأسف انصاعوا لتيار أعدائهم ، حتى انسحب البساط من تحت أرجلهم وهم في غفلة معرضون ، لم تنفع معهم النذر الإلهية وراحوا في خوضهم يعمهون.
...وسط كل هذا أنتم ـ يا صفوة الخَلْق ـ معاشر الملتزمين ـ مطالبون بتغيير وجه الأرض، وإقامة دولة الإسلام، ولا يتأتى لكم ذلك حتى تقيموا في نفوسكم للإسلام دولة، حتى تكونوا فيما بينكم نموذجاً مصغرًا لهذه الدولة، فيرى العالم بأسره من سمتكم ما يدعوه للحوق بركابكم ، فوالله الذي نفسي بيده لئن أقمتم الإسلام فيما بينكم حقًا ليستخلفنكم الله في الأرض ، لكن ذلك مرهون بإصلاح أنفسكم ، وهذا موعود الله لأهل الإيمان في كل زمان .
قال تعالى : " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ " (3)
إنَّ شروط الاستخلاف والتمكين وحصول الأمن والطمأنينة واضحة جلية ، إنَّه تحقيق الإسلام بسلامة المعتقد وعبودية الله وحده ، وتزكية النفوس بالعبادة والطاعة ومتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ثم من وراء ذلك استشعار العزة واليقين بعلو دين الله ، فإنَّما الخطب فينا ، إذ لو تعاون أهل الإيمان على تحقيق الإسلام أولاً فيما بينهم ، وأصلحوا ذوات أنفسهم فليكن الجميع على يقين بأنَّ نصر الله قادم، وأنَّ المستقبل لهذا الدين ، والعزة للمسلمين ولو كره الكافرون.
...إنَّ بناء الأمة من جديد يحتاج إلى تضافر الجهود، ولا ينتج هذا إلا عن صفاء السرائر والاجتماع على قلب رجل واحد ، فإننا ـ معاشر الملتزمين ـ نحمل العبء الثقيل أمام الله تعالى تجاه هذه الأمة وهذا دورنا الذي لا ينبغي أن نتخلف عنه .
...وهنا لابدَّ من وحدة الهدف ووحدة المنهج لتجتمع هذه القلوب المؤمنة برباط إيماني متين ، وهذا هو ما صنعه النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - حين أرسى دعائم الأمة، فجعل الصحابة يجتمعون على هدف واحد هو التوحيد ، فصارت " لا إله إلا الله " هي العروة الوثقى ، حدث هذا في حلقة صغيرة كانت تعقد في بيت الأرقم بن أبى الأرقم لتلاوة القرآن ، فأقبل الصحابة على تلكم الوجهة ، وارتضوا آنئذٍ التضحية بكل شيء في سبيل الله جل وعلا، ورسخ في صدورهم معنى "الولاء والبراء" ، فكانوا بالأمس تقوم بينهم العلاقات على قرابة الدم أو المصلحة المشتركة أو لقاءات الشهوة، ومثل هذه العلاقات كانت تصنع فيهم روابط من نوع ما، كانت لا تصل أبدًا لحد الالتحام والتلاصق ، أما وقد غُيرت وجهتهم ونفضوا عنهم جاهلياتهم فحينئذٍ ذابت ذاتياتهم في بوتقة الإيمان، لم يعد هناك هذا السياج المنصوب من كل فرد حول نفسه بحيث لا يمكن أن يتسع لغيره ، فالحب في الله نسيج وحده ؛ لأنك حينئذٍ ستجتمع معي في المرجعية وهي كتاب الله وسنة رسوله ، فلا يحدث شقاق ولا تنافر ،أمَّا إذا دخلت الأهواء فالنُّفرة والضغائن والشّجار والتشاحن.
...حين نقول: إن بناء كيان الأمة يبدأ من لبنة " الأخوة " التي هي ثمرة " التَّوحيد " نعنى أنَّ الرباط العقدي الإيماني هو الرباط الوحيد الذي يمكنُه أن تتسع له جميع القلوب المؤمنة ، وانظر إلى احتكاك الناس على مستوى المعاملات المادية كيف يفسد العلاقات بينهم .
انظر مثلاً : كيف أنَّ كل إنسان ينصب حوله حدًا لا يسمح لأحدٍ أن يتجازوه ، وحين يقترب منه الآخرون تبدأ المشاكل وتظهر العورات وتنكشف الحقائق ، أمَّا المتحابون في الله فعلى شاكلة أخرى إذ هذه الهموم السفلية لا تشغل أذهانهم ، ثمَّ إنهم لا يتعلقون بالذوات، فأنت لا تحبني لذاتى لكونى فلانًا، بل لارتباطي بك برباط أسمى وأوثق من المصالح الذاتية إنه عبادة الله وحده ، إنَّه الحب في الله الذي لا تُحَلّ وشائجه بسيوف الدنيا، فصار الهَمّ الأول والأوسط والأخير هو رضا الله جل وعلا فانعدم الخلاف، ولذلك علينا أن نتهم نياتنا ونجرد إخلاصنا إذا ما وجدنا الخلاف يحتدم بيننا، ونعى جيدًا أننا أصحاب دين لا دنيا، فلا تشغلنا تلك السفاسف التي لا يتناولها إلا الرعاع.
قالوا : إذا رأيت الرجل ينافُسك في الدنيا فألقها في نحره .
...بهذا الآن أدعوكم لكى تبنوا أمتكم، فتجتمع قلوبكم على الحب في الله، ويحدث بينكم هذا الإخاء العجيب الذي يغير من شكل ومنظومة المجتمع بأسره، فنرى الأخ يسارع في الحفاوة بأخيه، يسعى في قضاء حوائجه، يعينه على الطاعات، يحوطه من روائه، يقدم له يد العون في أى لحظة، تتلاقى قلوبهم حتى يكون الأخ أحب إلى أخيه من ملء الأرض ذهبًا.
...أذيبوا جبل الجليد التي ترسب على قلوبكم تجاه إخوانكم ، فوالله إنَّ القلب ليحترق كمدًا على واقع الإخوة الآن، ولا أدرى ماذا أصنع حتى تعودوا إلى الجادة من جديد؟ ماذا تريدون بعد هذا العمل المكثف الدعوى من أجل إيصال نداء الحق لكل مكان، ما هو المطلوب مِنَّا حتى تفيق، إننى أشعر بمرارة وحرقة حين ألمس واقعنا المعاصر ،كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يسير الاثنان في الطريق فتفرق بينهم شجرة فيعودان ليسلم أحدهما على الآخر، وهي من السنن التي باتت مهجورة بيننا في جملة السنن الموات ، فكيف صارت أحوالنا الآن ؟ ولماذا ؟
...سبيلنا لإقامة كيان الأمة يبدأ من قلوب المؤمنين المتحابة في الله جل وعلا ، فلابدَّ من تجريد المحبة الفينة بعد الفينة، فإنكم لا تؤمنون حتى تحابوا.
...كان عُمر ـ رضى الله عنه ـ يقول: إنَّه ليمر بخاطري الرجل من إخواني وأنا في الليل فأقوم لأدعوَ الله وأقول: يا طولها من ليلة، فإذا أصبحت بادرته فالتزمته.
فأين بالله عليكم هذه الروح بيننا الآن ؟!!
...الله سائلكم وَسَائِلُ كل أحد عن هذه الأمة المُضَيّعة ، فأعدوا لهذا السؤال جوابًا من واقع المسئولية الملقاة على عاتقكم، لا أطالبكم بالشيء العسير، أقول لكم: تصافوا فكونوا صفًا واحدًا " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ " (4)
تصافوا، فأذهبوا عن أنفسكم الدَّخن والدَّخل حتى تصفو سرائركم فتلتئم بوشائج الإيمان ، ابدأ من الآن فاتصل بمن هجرته ، بمن ضاع وتاه في خضم البلاء، اتصل بمن لزمته الأيام على طاعة الله ثم حالت بينكم الدنيا وتشاغلتم بها عن مقصودكم الأسمى وهو رضا الله تبارك وتعالى ، نعم حاول أن يتسع صدرك للجميع ، وثق أنك ملاقٍ حسابك وجزاءك في العاجل قبل الآجل، ضع همَّ الأمة نصب عينيك ولا تكن أنت على الأمة همّا.
...الله الله في أمتكم قبل فوات الوقت، وحينها ستوفي كل نفس ما كسبت وحينها لن يجدي الصراخ " حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُون " (5)
أنذرتكم مغبة واقعنا الأليم فاللَّهم فاشهد.
الأخوة لماذا ؟
لتمحيص عيوبنا في مرآتها
...مازال السؤال يتردد في أعماقنا، لماذا الحديث عن الأخوة الآن ؟ وما هو المأمول أن تحققه هذه الأخوة المنشودة ، ومازال الواقع يفصح لنا بكثير من الآمال المرجوة....الأخوة مرآة يرى فيها المؤمن عيوبه ضمن ركني التربية (التخلية و التحلية) ، ولو فات هذا الأمر لعمَّ الفساد أرجاء المعمورة ولابدَّ ، إذ سيزداد الشر ويتقلص الخير تباعًا، وتنمو الشبهات وتستحكم الشهوات والغفلات ، فبكلمة واحدة من أخٍ ناصح لك أمين تنكسر هذه الموجات على صخرة "الأخوة الإيمانية ".
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "المؤمن مرآة المؤمن، المؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه"(6).
...فالمؤمن مرآة أخيه ، فإذا رأى أحدكم بأخيه أذى فليمط عنه ، فأنت ترى من أخيك ما ربَّما لا يراه هو من نفسه ، كما يُرسم في المرآة ما هو مختفٍ عن المرء فيراه إذا نظر فيها، وإنما يعلم الشخص عيب نفسه بإعلام أخيه كما يعلم خلل وجهه بالنظر في المرآة.
...وما أسْمَى أن تدل أخاك على عيبه أو تدعو الله أن يُخْليه من هذه العيوب !! وما أجمل أن تلتمس من الدّعاء لأخيك قبل أن تواجهه بعيبه !! وأن تحتال بكل حيلة كي تتقي أن تُصارحه فيخجل منك أو تأخذه العزة ، ولك هنا في ضرب الأمثلة والتعريض أبوابًا متسعة ، فلا تضيق صدر أخيك بالمواجهة المباشرة ، اللهمَّ إلا إذا كنت تعرف أنَّ دلالتك إياه بمواطن عيوبه لا تزعجه ، بل هو ممن يرى أنَّ خير الناس إليه من يهدى إليه عيوبه .
...إنَّ أحوالنا تغايرت وعُدنا مرة أخرى إلى السُّفول والحضيض لما صرنا لا نتناصح في دين الله ، والدين النصيحة ، فقوام الدين على بذل النُّصح بين المسلمين ، وخيرية الأمة مرهونة بقيامها بحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ"(7)
، والقلب الذي لا ينكر ويأبى العيوب والزلل قلب أغلف انظر كيف قال - صلى الله عليه وسلم - : "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذونه بسنته ويقتدون بأمره ثمَّ إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون ، ويفعلون مالا يؤمرون ، فمن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"(8).
...فهذا أضعف الإيمان وأقله، فينبغي ألا نتسامح في تنبيه بعضنا بعضًا إذا خالف الصواب أو بالأحرى في ترك دقيق الآداب الشرعية التي هي شعار الملتزمين باتباع سنة خاتم النبيين والمرسلين، وإلا تعرضنا إلى صدأ القلب وغلبة قسوته من إلفه للمعاصي واستهانته بها من كثرة حدوثها أمامه دون نكير.
...قال عُمر في مجلس من المهاجرين والأنصار ! أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ماذا كنتم فاعلين وكرره فلم يجيبوه.
فقال بشر بن سعد: لو فعلت قومناك تقويم القِدح. فقال عُمر: أنتم إذن أنتم إذن.
...كم من سنن أميتت بعد أن أحياها جيل الصحوة بسبب عدم تعاهدنا إياها، وكم من منكرات راجت بضاعتها فينا بعد أن كنا نعدها من الموبقات، كان الإخوة بالأمس لا يتسامحون في ترك النوافل فكيف الآن بضياع الجماعات ؟ كان المظهر علامة على الجوهر فكيف بمن صار جل التزامه في إعفاء اللحية أو في ارتدائها النقاب.
...لا ـ إخوتاه ـ إنَّ الأخ الملتزم ينبغي أن يكون هو القوّام الصوّام القائم بشرع الله ، نعم المظهر شيء مهم جدًّا ، وبه يتمايز النَّاس فيعرف المسلم الملتزم من غيره، بل بالأصالة كان ذاك لمعرفة المسلم من الكافر لما لذلك من أحكام في الشرع مثل إلقاء السلام وعدم مشروعية البدء بسلام الكافر لنهي الشرع عن ذلك ، فضلاً عن أداء حقوق المسلم المعروفة من تشميت للعاطس وإجابة الدعوة واتباع الجنائز وعيادة المرضى ونحوها، أمَّا أهل الذمة فلهم أحكامهم.
الشاهد ـ إخوتاه ـ أننا بحاجة إلى هذه المرآة الإيمانية، المرآة التي نمحص فيها عيوبنا، ونتواصى من خلالها بالحق ثمَّ بالصبر، وهي لنا من الضرورة بمكان في عصر فشت فيه المنكرات ، والتبس الحق فيه بالأباطيل وكثرت فيه الشبهات ، وصُدَّ فيه عن سبيل الله ، وهُجرت فيه سنة خير الورى عليه أفضل الصلاة والسلام ، فهل تفيقون ؟ اللهمَّ إليك المشتكى.
معالجة الفتور الذي يفت في عضد التزامنا:
...قضية الفتور هي قضية الساعة في عالم الملتزمين بشرع رب العالمين، فبعد الصحوة المباركة وانتفاضة أهل الإيمان من سبات عميق ظلوا فيه سنين طوال، وبعد الجهود العظيمة التي قام بها رواد الدعوة الإسلامية في عصرنا الحالي محاولين معالجة واقع المسلمين، بعد كل هذا قامت هذه القلوب النابضة بالإيمان ، المتشوقة لشرع الرحمن ، المتعلقة بالآمال العريضة في شيوع الهدى وزهوق الباطل، فما لبثت أن واجهها إعصار الظلم والقهر، وبدأ اليأس يدب في القلوب الضعيفة، وبدأ بعضهم يميل نحو أي سانحة يحاول من خلالها التنفس فوقع في شبهات كثيرة، وبدا لهم الحل في أسلمة كل شيء فوقعوا في تنازلات خطيرة ، والهزيمة النفسية تفتك بأفئدة المسلمين، فكان الفتور يفت من عضد الملتزمين، حتى ظلوا فيه مُبلسين....إن افتقاد الحدب الأخوي من أخطر الأسباب لهذه الظاهرة، فإنَّ وجود المعين على الطاعة صار من النّدرة بحيث عَزَّ التماسه، وما ذاك إلا لغياب الأخوة الإيمانية التي في ظلها تتلاقى القلوب على طاعة الله ، يعين الأخ أخاه ، يأخذ بيده إذا تعثر، إذا غاب عن المسجد مرة هبَّ إليه ، وَجلاً عليه ، ملتمسًا له الأعذار، له من باب "لعل" عذار، لا يهدأ له بالٌ لا يعرف القَرار، ولا تعطله "سوف" ولا يوقفه انتظار، يحدوه نحوه سابق العهد والجوار، فما تراه إلا جنب صاحبه لا يشعر بتباعد الديار، فكل مكان لا أخ لك فيه بوار، وكل نعيم تألفه وحيداً فهو نار، فالحذار الحذار.
...قلنا في غير هذا الموضع أنَّ في أحايين كثيرة يكفي لحل مشكلة قائمة زيارة من أخ أو اعتذار، لقاء ، أو ابتسامة ، أو كلمة طيبة ، أو مكاشفة صادقة ، هدية بسيطة ، مجاملة لطيفة، ثناء عاطر عابر، والله ما أقلها من تكاليف يسيرة ، لو تأملت خطورة افتقاد الأخ في خضم الدنيا ، ليصير هذا الأخ بعد ذلك أكبر وصمة تلحق بجبين الالتزام، ويُصد به عن سبيل الله.
...إنَّ المعالجة السريعة وفض المشكلات بأساليب يسيرة ما أحوجنا إليها في وقت تصاعدت فيه الهزات الداخلية، وهذا التساقط يفت منك قبل أن يفت من أخيك ، فما تجدك إلا فردًا، والوِحدة غربة، والغربة وحشة، والوحشة نفرة ، والنفرة ضلال، ثم لا تجد على الخير قائمًا فهل تعقلون ؟!!
...إنها ليست مبالغات، إي والله وإلا فتأملوا الواقع، ارجع بذهنك إلى أيام الصفا ، تذكر إخوانك ثم سَلْ نفسك، أين صار هؤلاء ؟ كيف كنتَ يوم كانوا معك ؟ وكيف صارت الأحوال الآن ؟
...من أجل هذا أقول: نحن في حاجة ماسة إلى الأخوة الصادقة، التي نجني من جناتها نعيم القرب من الله بلزوم الطاعة وهجر المعصية، وطريق الاستقامة شاق لكن يخففه الرفاق، فعُد إليه ليعود، واطرق بابه الموصود ، وتذكر أيام طول الصيام وطول السجود، عسى أن تصفو لكم العهود، في التزام شرع الله والقيام بالحدود.
...بقى أن تعلموا أنَّ لكلٍ منا شرة وفترة، وأنَّ الفتور حاصل لا محالة، لكن مفهوم "الفتور" عند المفتونين من المسلمين صار ترك الواجبات والوقوع في المحرمات، أو قل: ترك المندوبات التي كان يحافظ عليها العبد يصيب بها سنة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - والوقوع في المنكرات والمكروهات التي كان يُكبر أن تزل قدمه فيها، وهذا لعمرُ الله هو "الفتنة" .
...وإنَّما الفتور يقع في الانشغال بأجناس المباحات ، وفي هذا جاء حديث " ساعة وساعة "(9)
فساعة النشاط لأداء فروض الله والقيام بحقوقه جل وعلا ، وساعة الفتور لأداء حقوق الدنيا من معالجة الضيعات وملاعبة الأولاد ومعافسة الزوجات ، وكان الصحابة يعدون ذلك نفاقًا، فبماذا نسمي ما نحن فيه الآن من التذبذب والتوانى والكسل عن أداء الفروض ؟ وليست الفروض هي الصلوات فحسب ، فأين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أين صلة الأرحام ، أين حفظ القرآن الذي هو من فروض الكفايات وأهل الالتزام هم أولى الناس بالقيام بهذا الحق؟...؟ أين وأين ...؟
...من أجل ذلك حين نقول بمعالجة الفتور نريد بالمقام الأول معالجة آثار الفتنة التي ذاقها كثير منّا لنعود مرة أخرى إلى ما كنا نعتاده ونألفه من القيام بحقوق الله في أداء الفروض وحفظها بالمندوبات، وترك المحرمات وصيانة ذلك بهجر المكروهات، ولا سبيل لذلك إلا بالتعاون على البر والتقوى بين خلان الإيمان، وصولاً لهذه الدرجة العالية من الشفافية بالندم على ضياع الأوقات في المباحات ، فتكسوها النيات الصالحات فتغدو من الطاعات لا العادات.
...لمثل ذلك استثيروا باعث الشوق للنجاة، أم أنكم مازلتم لا ترون طريق الهلكة الذي تسلكونه اللهمَّ رحماك بنا !!
لرأب صدع الخلاف الذي حَطَّ من صحوتنا
الخلافات تحدث في حياة النَّاس وهي سُنّة جارية، فالناس جميعًا لا تجد فيهم اثنين متماثلين من كل الوجوه، فالطباع مختلفة والثقافات متباينة والقلوب قد تكون متضادة وهكذا....فالخلاف سنة مطَّردة من سنن الله في خلقه وملكوته، وليس كل مختلفٍ قبيحًا، ولا كل متباين جميلاً، وأنت إذا ألفت شيئًا وظلَّ على وتيرة واحدة انبعث في نفسك شعورٌ بالملل وانصرفت رغبتك فيه، إذ الأصل في المخلوقات النقص، والنفس مفطورة على الارتباط بالكمال، ولن تجد ذلك إلا حين تحب الله، وتُحب في الله، حينها تنصهر كل المشكلات وتذوب كل الخلافات.
...في عالم النَّاس يعرفون أنَّ الخلافات لا تدوم إذا كانت بين متحابين، فإذا لم يكن هناك سابق وُدّ يحدث الصراع عادة وتتولد المنازعات، فإنك إذا أحببت إنسانًا واختلف معك في مسألة من المسائل في وجهة نظر معينة تتقبلها ولا تُفسد قضيةٌ ما بينكما من المودة، لكن إن كنت لا تألفه ازدادت النفرة وحدث الصدام.
...لذلك نقول: إنَّ الخلافات التي تحدث بين الملتزمين ينبغي أن تتلاشى في بوتقة الحب في الله، وإلا فليتهم كلُ منّا نفسه، ويحاول أن يجرد الإخلاص في علاقاته بإخوانه من جديد.
...تعالوا بنا نقف وقفة يسيرة مع "قضية الخلاف" نرصدها بعين الأخوة والحب في الله، فإذا كان الاختلاف الإنسانى حقيقة فطرية وإرادة ربانية بحكمة مقصودة هي من أسرار الوجود " وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ "(10)
وإذا كانت فكرة الموضوعية المطلقة فكرة غير واقعية، ، بل تظل الأمور كلها مرهونة بشيء واحد هو مشيئة الله تعالى، فهنا تفهم معنى قوله : " لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "(11) ، فلا طريق للألفة الحقيقية التي تتلاقى فيها القلوب وتذوب فيها الخلافات إلا إذا تلاقت إرادات النَّاس في وجهة واحدة هي ابتغاء وجه الله جل وعلا.
...فالخطوة الأولى نحو التقليل من حدة الخلاف عمومًا تنبع من الإخلاص بإرادة وجه الله تعالى وحده والتعلق به.
...ثم تأتى الخطوة الثانية في العلم ، إذ غالب الاختلافات التي تحدث تكون بسبب الجهل وعدم العلم، ولو سكت من لا يعرف لقلَّ الخلاف، ولا سبيل للتحكم في هذه المعضلة إلا بالتقوى، إلا بتربية القوم تربية سلفية، يضع كل واحد منهم أمامه الأمثلة الحية من سيرة السلف ليتزود بها في مثل هذه المواقف، فلا يتجرأ على الفتيا بغير علم.
...قال الله تعالى: " وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ " (12)
...أخرج ابن أبى حاتم عن أبى نضرة رضى الله عنه قال: قرأت هذه الآية فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا.
...وقال تعالى: " آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "(13)
...يقول الزمخشرى: كفي بهذه الآية زاجرة زجراً بليغًا عن التجوز فيما يُسأل من الأحكام وباعثة على وجوب الاحتياط فيها، وأن لا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز، إلا بعد إتقان وإيقان، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت ، وإلا فهو مفتر على الله تعالى. أهـ.
...وقال ابن المنكدر: المفتى يدخل بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يفعل ؟! فعليه التوقف والتحرز لعظم الخطر.
...قال أهل العلم: من سئل عن فتوى فينبغي عليه أن يصمت عنها ، ويدفعها إلى من هو أعلم منه بها، أو من كلف الفتوى بها، وذلك طريقة السلف .
...قال ابن أبى ليلى : أدركت مائة وعشرين صحابيًا، وكانت المسألة تعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر حتى ترجع إلى الأول.
...وهذا كان حال السلف، أما نحن فجرأة غير محسوبة العواقب، وتَصُدّر لما ينبغي الإحجام عنه ، فينبغي أن يكون قصارى عهدك نقل العلم والتبليغ إن وثقت في ذلك، وشهد لك أهل العلم برسوخ قدم ، وإلا فدونك جسر جهنم يعبر الناس عليه لتلقى أنت في حميمها ، اللهم سَلّم سَلّم.
...وينبغي على الأخ الحبيب أن يدع اللجاجة في الجدل ، ويعتاد ترك المراء وإن كان محقًّا ، ولا يتنطع ولا يغلُ.
...قال ابن مسعود: تعلموا العلم قبل أن يقبض ، وقبضه أن يذهب أهله، ألا وإياكم والتنطع والتعمق والتبدع وعليكم بالعتيق.
...فحذار حذار من التعالم قال - صلى الله عليه وسلم - : "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبى زور" .(14)
...وبالجملة عليه أن يتحلى بآداب طالب العلم، وينبغي أن يُفهم من هذا الكلام الحض على تعلم العلم النافع والتأدب بآدابه لا التنفير، لأنَّ بعض الناس تستهويه البطالة والدعة فكلما أردت أن توجهه إلى الصواب لا يأتي بخير ويدع العمل فافهم المراد واستعن بالله ولا تعجز.
...أنذرتكم مغبة هذا الفصام الغريب الحادث بين العلم والعمل، وبين تعلم العلم والتحلي بآدابه ، فخذوا العلم من وجهه، ابدأ بتعلم العقيدة واحفظ القرآن وتعلم فقه فروض الأعيان والكفايات لتعرف كيف تعبد الله ، تعلم اللغة العربية لتفهم القرآن والسنة، ابدأ بحفظ الأربعين النووية وراجع شرحها في كتاب "جامع العلوم والحكم" لابن رجب، خذ لمحة عن علوم القرآن ومصطلح الحديث وأصول الفقه، ولا ينبغي أن يتوقف نموك العلمي "من المهد إلى اللحد" فهذا هو السبيل للتقليل من حدة الخلاف ، إذا ازدان هذا العلم بالأدب والتقوى، واستصحب هنا هذا الأصل النافع والقاعدة العظيمة ، فأمور العقائد لا تقليد فيها و لا يتسع فيها الخلاف ؛ لأنها من القطعيات ، أمَّا مسائل الفروع ممّا اختلف فيها سلفنا فإنَّه يسعنا ما وسعهم ولا حرج ولا غضاضة .
...الحديث عن الخلاف الفقهي وتأثيره يجرنا لقضية "التعصب" كسبب رئيس لحدة الاختلاف ، والتعصب دلالة عن جهل وغياب لآداب العلم ، وأغلب من يخوض في ذلك أنصاف المتعلمين ، وقد مضى قول أهل العلم على أنَّ التعصب للمذاهب والمشايخ وتفضيل بعضهم على بعض، والدعوى لذلك والموالاة عليه من دعوى الجاهلية، فكل من عَدَل عن الكتاب والسنة لرأى إنسان كائنًا من كان فهو على ضلال مبين، إذ الواجب على كل مسلم أن يمحض قصده لطاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فلا ينتصر لشخص انتصاراً مطلقاً إلا لشخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا لطائفة انتصارًا عامًا إلا لأصحابه رضى الله عنهم ، فإن الهدى يدور معهم حيث داروا.
...قال - صلى الله عليه وسلم - حين بعث أبى بن كعب ومعاذ بن جبل إلى اليمن " يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا "(15)
...والنهي هنا ليس متوجهًا إلى حقيقة الشيء بمعنى إبطال الخلاف ، كيف والخلاف أمر واقع ، بل المراد المآل والناتج عن اختلاف وجهات النظر في المسائل الاجتهادية التي لا تنضبط تحت نص قاطع في ثبوته ودلالته على عين القضية المطروحة، فهنا ينبغي أن يقدم "وحدة العمل" على "اختلاف الرأي" فلا يصر كل منهما على رأيه ويصعد الخلاف ، بل يحاول كل واحد أن يأتلف مع رأى أخيه ما استطاع.
...وهذا الدرس النبوي ينبغي ألا يغيب عن أعيننا " تطاوعا ولا تختلفا " فنحاول أن نتطاوع فيما بيننا ، وتظل دائرة الخلافات محدودة بحدود الأخوة الإيمانية بعيدًا عن الأهواء والذاتيات ، نحاول لمَّ الشمل وجمع الكلمة منضبطين بالمنهج النبوي ، مستشعرين عزة الدين حتى لا نقع في فخ التنازلات وصولاً للهدف ، فتبرر الغايةُ الوسيلة ، فتحدث الأخطاء الشرعية.
...إنها دعوة من القلب لكل غيور على دين الله ، لكل من تهفو نفسه لتطبيق شرع الله أقول لكم جميعًا معاشر أهل الدين: لا توسعوا الشُّقة، كونوا عباد الله إخوانًا ، لا ينبغي أن تطفو الخلافات بين الدعاة وأهل الإيمان فتنتشر بين الجميع، إننا قد نقع في الصد عن سبيل الله من حيث لا ندرى تحت معتقدات إظهار الحق ، ليكن هذا الخلاف في أضيق صورة، وليظهر كل واحد ما اقتضاه اجتهاده دون التعرض لأشخاص بذواتهم ، وليعمل على تحجيم دائرة الخلاف ما استطاع ، لا سيما وأنَّ في الأمر سعة والخلاف فيه وارد ، ورأى صاحبي خطأ يحتمل الصواب ورأيي صواب يحتمل الخطأ، ولا غضاضة ولا مشاحنة، بل إخوة على درب واحد متحابين في الله . اللهمَّ إنا نعوذ بك من الشَّقاق، اللهم اجمعنا على الحب والوفاق، اللهمَّ اجعلنا متحابين في جلالك ، يا حى يا قيوم برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
المصادر :
1- آل عمران/165
2- أخرجه الترمذي (2590) وأبو داود (4919) والإمام أحمد (6/444) ، و صحيح الجامع (2595) .
3- النور/55-57
4- الصف/4
5- الأنعام/31-32
6- أخرجه أبو داود (4918) والبخاري في الأدب المفرد (239) و الشيخ الألباني في صحيح الأدب المفرد (178) .
7- آل عمران/110
8- أخرجه مسلم (50) .
9- أخرجه مسلم (2750) .
10- هود/ 118-119
11- الأنفال/63
12- النحل/116
13- يونس/59-60
14- متفق عليه أخرجه البخاري (5218).ومسلم (2129) .
15- متفق عليه أخرجه البخاري (3038) ومسلم (1733).