ترويض النفس

أن رياضة الأنفس أصعب من رياضة الأسد لأن الأسد إذا سجنت في البيوت التي تتخذ لها الملوك أمن شرها والنفس وإن سجنت لم يؤمن شرها العجب أصل يتفرع عنه التيه والزهو والكبر والنخوة والتعالي وهذه أسماء واقعة على معان متقاربة
Sunday, September 4, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
ترويض النفس
 ترويض النفس

 





 

أن رياضة الأنفس أصعب من رياضة الأسد لأن الأسد إذا سجنت في البيوت التي تتخذ لها الملوك أمن شرها والنفس وإن سجنت لم يؤمن شرها العجب أصل يتفرع عنه التيه والزهو والكبر والنخوة والتعالي وهذه أسماء واقعة على معان متقاربة
ولذلك صعب الفرق بينها على أكثر الناس فقد يكون العجب لفضيلة في المعجب ظاهرة فمن معجب بعلمه فيكفهر ويتعالى على الناس ومن معجب بعمله فيترفع ومن معجب برأيه فيزهو على غيره ومن معجب بنسبه فيتيه ومن معجب بجاهه وعلو حاله فيتكبر ويتنخى وأقل مراتب العجب أن تراه يتوفر عن الضحك في مواضع الضحك وعن خفة الحركات وعن الكلام إلا فيما لا بد له من أمور دنياه وعيب هذا أقل من عيب غيره ولو فعل هذه الأفاعيل
على سبيل الاقتصار على الواجبات وترك الفضول لكان ذلك فضلا وموجبا لحمده ولكن إنما يفعل ذلك احتقارا للناس وإعجابا بنفسه فحصل له بذلك استحقاق الذم وإنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى حتى إذا زاد الأمر ولم يكن هناك تمييز يحجب عن توفية العجب حقه ولا عقل جيد حدث من ذلك ظهور الاستخفاف بالناس واحتقارهم بالكلام وفي المعاملة حتى إذا زاد ذلك وضعف التمييز والعقل وترقى ذلك إلى الاستطالة على الناس بالأذى بالأيدي والتحكم والظلم والطغيان واقتضاء الطاعة لنفسه والخضوع لها إن أمكنه ذلك فإن لم يقدر على ذلك امتدح بلسانه واقتصر على ذم الناس والاستهزاء بهم وقد يكون العجب لغير معنى ولغير فضيلة في المعجب وهذا من عجيب ما يقع في هذا الباب وهو شيء يسميه عامتنا التمترك
وكثيرا ما نراه في النساء وفيمن عقله قريب من عقولهن من الرجال وهو عجب من ليس فيه خصلة أصلا لا علم ولا شجاعة ولا علو حال ولا نسب رفيع ولا مال يطغيه وهو يعلم مع ذلك أنه صفر من ذلك كله لأن هذه الأمور لا يغلط فيها من يقذف بالحجارة وإنما يغلط فيها من له أدنى حظ منها فربما يتوهم إن كان ضعيف العقل أنه قد بلغ الغاية القصوى منها كمن له حظ من علم فهو يظن أنه عالم كامل أو كمن له نسب معرق في ظلمة
ونجدهم لم يكونوا أيضا رفعاء في ظلمهم فتجده لو كان ابن فرعون ذي الأوتاد ما زاد على إعجابه الذي فيه أو له شيء من فروسية فهو يقدر أنه يهزم عليا ويأسر الزبير ويقتل خالدا أو له شيء من جاه رذل فهو لا يرى الإسكندر على حال أو يكون قويا على أن يكسب ما يتوفر بيده مويل يفضل عن قوته فلو أخذ بقرني الشمس لم يزد على ما هو فيه وليس يكثر العجب من هؤلاء وإن كانوا عجبا لكن ممن لا حظ له من علم أصلا ولا نسب البتة ولا مال ولا جاه ولا نجدة بل تراه في كفالة غيره مهتضما لكل من له أدنى طاقة وهو يعلم أنه خال من كل ذلك وأنه لا حظ له في شيء من ذلك ثم هو مع ذلك في حالة المزهو التياه ولقد تسببت إلى سؤال بعضهم في رفق ولين عن سبب علو نفسه واحتقاره الناس
فما وجدت عنده مزيدا على أن قال لي أنا حر لست عبد أحد فقلت له أكثر من تراه يشاركك في هذه الفضيلة فهم أحرار مثلك لا قوما من العبيد هم أطول منك يدا وأمرهم نافذ عليك وعلى كثير من الأحرار فلم أجد عنده زيادة فرجعت إلى تفتيش أحوالهم ومراعاتها ففكرت في ذلك سنين لأعلم السبب الباعث لهم على هذا العجب الذي لا سبب له فلم أزل أختبر ما تنطوي عليه نفوسهم بما يبدو من أحوالهم ومن مراميهم في كلامهم فاستقر أمرهم على أنهم يقدرون أن عندهم فضل عقل وتميز رأي أصيل لو أمكنتهم الأيام من تصريفه لوجدوا فيه متسعا ولأداروا الممالك الرفيعة ولبان فضلهم على سائر الناس ولو ملكوا مالا لأحسنوا تصريفه فمن ها هنا تسرب التيه إليهم وسرى العجب فيهم وهذا مكان فيه للكلام شعب عجيب ومعارضة معترضة وهو أنه ليس شيء من الفضائل
كلما كان المرء منه أعرى قوي ظنه في أنه قد استولى عليه واستمر يقينه في أنه قد كمل فيه إلا العقل والتمييز حتى إنك تجد المجنون المطبق والسكران الطافح يسخران بالصحيح والجاهل الناقص يهزأ بالحكماء وأفاضل العلماء والصبيان الصغار يتهكمون بالكهول والسفهاء العيارين يستخفون بالعقلاء المتصاونين وضعفة النساء يستنقص عقول أكابر الرجال وآراءهم وبالجملة فكلما نقص العقل توهم صاحبه أنه أوفر الناس عقلا وأكمل تمييزا ولا يعرض هذا في سائر الفضائل فإن العاري منها جملة يدري أنه عار منها وإنما يدخل الغلط على من له أدنى حظ منها وإن قل فإنه يتوهم حينئذ إن كان ضعيف التمييز أنه عالي الدرجة فيه ودواء من ذكرنا الفقر والخمول فلا دواء لهم أنجع منه وإلا فداؤهم وضررهم على الناس عظيم جدا فلا تجدهم إلا عيابين للناس وقاعين في الأعراض مستهزئين بالجميع مجانبين للحقائق مكبين على الفضول وربما كانوا مع ذلك متعرضين للمشاتمة والمهارشة وربما قصدوا الملاطمة والمضاربة عند أدنى سبب يعرض لهم وقد يكون العجب كمينا في المرء حتى إذا حصل على أدنى مال أو جاه ظهر ذلك عليه وعجز عقله عن قمعه وستره
ومن ظريف ما رأيت في بعض أهل الضعف أن منهم من يغلبه ما يضمر من محبة ولده الصغير وامرأته حتى يصفها بالعقل في المحافل وحتى إنه يقول هي أعقل مني وأنا أتبرك بوصيتها وأما مدحه إياها بالجمال والحسن والعافية فكثير في أهل الضعف جدا حتى كأنه لو كان خاطبها ما زاد على ما يقول في ترغيب السامع في وصفها ولا يكون هذا إلا في ضعيف العقل عار من العجب بنفسه إياك والامتداح فإن كل من يسمعك لا يصدقك وإن كنت صادقا بل يجعل ما سمع منك من ذلك أول معايبك وإياك ومدح أحد في وجهه فإنه فعل أهل الملق وضعة النفوس
وإياك وذم أحد لا بحضرته ولا في مغيبه فلك في إصلاح نفسك شغل وإياك والتفاقر فإنك لا تحصل من ذلك إلا على تكذيبك أو احتقار من يسمعك ولا منفعة لك في ذلك أصلا إلا كفر نعمة ربك تعالى أو شكواه إلى من لا يرحمك وإياك ووصف نفسك باليسار فإنك لا تزيد على إطماع السامع فما عندك ولا تزد على شكر الله تعالى وذكر فقرك إليه وغناك عن دونه فإن هذا يكسبك الجلالة والراحة من الطمع فيما عندك العاقل هو من لا يفارق ما أوجبه تمييزه من سبب للناس الطمع فيما عنده لم يحصل إلا على أن يبذله لهم ولا غاية لهذا أو يمنعهم فيلؤم ويعادونه فإذا أردت أن تعطي أحدا شيئا فليكن ذلك منك قبل أن يسألك فهو أكرم وأنزه وأوجب للحمد من بديع ما يقع في الحسد قول الحاسد إذا سمع إنسانا يغرب في علم ما هذا شيء بارد لم يتقدم إليه ولا قاله قبله أحد فإن سمع من يبين ما قد قاله غيره قال هذا بارد وقد قيل قبله
وهذه طائفة سوء قد نصبت أنفسها للقعود على طريق العلم يصدون الناس عنها ليكثر نظراؤهم من الجهال الحكيم لا تنفعه حكمته عند الخبيث الطبع بل يظنه خبيثا مثله وقد شاهدت أقواما ذوي طبائع رديئة وقد تصور في أنفسهم الخبيثة أن الناس كلهم على مثل طبائعهم لا يصدقون أصلا بأن أحدا هو سالم من رذائلهم بوجه من الوجوه وهذا أسوء ما يكون من فساد الطبع والبعد عن الفضل والخير ومن كانت هذه صفته لا ترجى لها معاناة أبدا وبالله تعالى التوفيق العدل حصن يلجأ إليه كل خائف وذلك أنك ترى الظالم وغير الظالم إذا رأى من يريد ظلمه دعا إلى العدل وأنكر الظلم حينئذ وذمه ولا ترى أحدا يذم العدل فمن كان العدل في طبعه فهو ساكن في ذلك الحصن الحصين الاستهانة نوع من أنواع الخيانة إذ قد يخونك من لا يستهين بك ومن استهان بك فقد خانك الانصاف
فكل مستهين خائن وليس كل خائن مستهينا الاستهانة بالمتاع دليل على الاستهانة برب المتاع حالان يحسن فيهما ما يقبح في غيرهما وهما المعاتبة والاعتذار فإنه يحسن فيهما تعديد الأيادي وذكر الإحسان وذلك غاية القبح في ما عدا هاتين الحالتين لا عيب على من مال بطبعه إلى بعض القبائح ولو أنه أشد العيوب وأعظم الرذائل ما لم يظهره بقول أو فعل بل يكاد يكون أحمد ممن أعانه طبعه على الفضائل ولا تكون مغالبة الطبع الفاسد إلا عن قوة عقل فاضل الخيانة في الحرم أشد من الخيانة في الدماء العرض أعز على الكريم من المال ينبغي للكريم أن يصون جسمه بماله ويصون نفسه بجسمه ويصون عرضه بنفسه ويصون دينه بعرضه ولا يصون بدينه شيئا أصلا الخيانة في الأعراض أخف من الخيانة في الأموال وبرهان ذلك أنه لا يكاد يوجد من لا يخون العرض وإن قل ذلك منه وكان من أهل الفضل
وأما الخيانة في الأموال وإن قلت أو كثرت فلا تكون إلا من رذل بعيد عن الفضل القياس في أحوال الناس قد يكذب في أكثر الأمور ويبطل في الأغلب واستعمال ما هذه صفته في الدين لا يجوز المقلد راض أن يغبن عقله ولعله مع ذلك يستعظم أن يغبن في ماله فيخطئ في الوجهين معا لا يكره الغبن في ماله ويستعظمه إلا لئيم الطبع دقيق الهمة مهين النفس من جهل معرفة الفضائل فليعتمد على ما أمره الله ورسوله صلى الله عليه و سلم فإنه يحتوي على جميع الفضائل رب مخوف كان التحرز منه سبب وقوعه ورب سر كانت المبالغة في طيه سبب انتشاره ورب إعراض أبلغ في الاسترابة من إدامة النظر وأصل ذلك كله الإفراط الخارج عن حد الاعتدال الفضيلة وسيطة بين الإفراط والتفريط
فكلا الطرفين مذموم والفضيلة بينهما محمودة حاشا العقل فإنه لا إفراط فيه الخطأ في الحزم خير من الخطأ في التضييع من العجائب أن الفضائل مستحسنة ومستثقلة والرذائل مستقبحة ومستخفة من أراد الإنصاف فليتوهم نفسه مكان خصمه فإن يلوح له وجه تعسفه حد الحزم معرفة الصديق من العدو وغاية الخرق والضعف جهل العدو من الصديق لا تسلم عدوك لظلم ولا تظلمه وساو في ذلك بينه وبين الصديق وتحفظ منه وإياك وتقريبه وإعلاء قدره فإن هذا من فعل النوكى من ساوى بين عدوه وصديقه في التقريب والرفعة فلم يزد على أن زهد الناس في مودته وسهل عليهم عداوته ولم يزد على استخفاف عدوه له وتمكنه من مقاتله وإفساد صديقه على نفسه وإلحاقه بجملة أعدائه غاية الخير أن يسلم عدوك من ظلمك
ومن تركك إياه للظلم وأما تقريبه فمن شيم النوكى الذين قد قرب منهم التلف وغاية الشر أن يسلم صديقك من ظلمك وأما إبعاده فمن فعل من لا عقل له ومن كتب عليه الشقاء ليس الحلم تقريب الأعداء ولكنه مسالمتهم مع التحفظ منهم كم رأينا من فاخر بما عنده من المتاع فكان ذلك سببا لهلاكه فإياك وهذا الباب الذي هو ضر محض لا منفعة فيه أصلا كم شاهدنا ممن أهلكه كلامه ولم نر قط أحدا ولا بلغنا أنه أهلكه سكوته فلا تتكلم إلا بما يقربك من خالقك
فإن خفت ظالما فاسكت قلما رأيت أمرا أمكن فضيع إلا فات فلم يمكن بعد محن الإنسان في دهره كثيرة وأعظمها محنته بأهل نوعه من الإنس داء الإنسان بالناس أعظم من دائه بالسباع الكلبة والأفاعي الضارية لأن التحفظ من كل ما ذكرنا ممكن ولا يمكن التحفظ من الإنس أصلا الغالب على الناس النفاق ومن العجب أنه لا يجوز مع ذلك عندهم إلا من نافقهم لو قال قائل إن في الطبائع كرية لأن أطراف الأضداد تلتقي لم يبعد من الصدق وقد نجد نتائج الأضداد تتساوي فنجد المرء يبكي من الفرح ومن الحزن ونجد فرط المودة يلتقي مع فرط البغضة في تتبع العثرات وقد يكون ذلك سببا للقطيعة عند عدم الصبر والإنصاف كل من غلبت عليه طبيعة ما فإنه وإن بالغ الغاية من الحزم والحذر مصروع إذا كويد من قبلها كثرة الريب تعلم صاحبها الكذب لكثرة ضرورته إلى الاعتذار بالكذب فيضرى عليه ويستسهله أعدل الشهود على المطبوع على الصدق وجهه لظهور الاسترابة عليه إن وقع في كذبة أو هم بها وأعدل الشهود على الكذاب لسانه لاضطرابه ونقض بعض كلامه بعضا المصيبة في الصديق الناكث أعظم من المصيبة به أشد الناس استعظاما للعيوب بلسانه هو أشدهم استسهالا لها بفعله
ويتبين ذلك في مسافهات أهل البذاء ومشاتمات الأرذال البالغين غاية الرذالة من الصناعات من الخسيسة من الرجال والنساء كأهل التعيش بالزمر وكنس الحشوش والخادمين في المجازر وكساكني دور الجمل المباحة لكراء الجماعات والساسة للدواب فإن كل من ذكرنا أشد الخلق رميا من بعضهم لبعض بالقبائح وأكثرهم عيبا بالفضائح وهم أوغل الناس فيها وأشرهم بها اللقاء يذهب بالسخائم فكأن نظر العين للعين يصلح القلوب فلا يسؤك التقاء صديقك بعدوك فإن ذلك يفتر أمره عنده أشد الأشياء على الناس الخوف والهم والمرض والفقر وأشدها كلها إيلاما للنفس الهم للفقد من المحبوب وتوقع المكروه ثم المرض ثم الخوف ثم الفقر
ودليل ذلك أن الفقر يستعجل ليطرد به الخوف فيبذل المرء ماله كله ليأمن والخوف والفقر يستعجلان ليطرد بهما ألم المرض فيغرر الإنسان في طلب الصحة ويبذل ماله فيها إذا أشفق من الموت ويود عند تيقنه به لو بذل ماله كله ويسلم ويفيق والخوف يستسهل ليطرد به الهم فيغرر المرء بنفسه ليطرد عنه الهم وأشد الأمراض كلها ألما وجع ملازم في عضو ما بعينه وأما النفوس الكريمة فالذي عندها أشد من كل ما ذكرنا وهو أسهل المخوفات عند ذوي النفوس اللئيمة ومما قلته في الأخلاق
إنما العقل أساس فوقه الأخلاق سورفحلي العقل بالعلم وإلا فهو بورجاهل الأشياء أعمى لا يرى كيف يدور وتمام العلم بالعدل وإلا فهو زور وزمام العدل بالجود وإلا فيجوروملاك الجود بالنجدة والجبن غرور عف إن كنت غيورا ما زنى قط غيور وكمال الكل بالتقوى وقول الحق نورذي أصول الفضل عنهاحدثت بعد البذور ومما قلته أيضا زمام أصول جميع الفضائلعدل وفهم وجود وباسفمن هذه ركبت غيرهافمن حازها فهو في الناس راس كذا الرأس فيه الأمور التي بإحساسها يكشف الإلتباس غرائب أخلاق النفس ينبغي للعاقل أن لا يحكم بما يبدو له من استرحام الباكي المتظلم وتشكيه وشدة تلويه وتقلبه وبكائه فقد وقفت من بعض من يفعل هذا على يقين أنه الظالم المعتدي المفرط الظلم
ورأيت بعض المظلومين ساكن الكلام معدوم التشكي مظهرا لقلة المبالاة فيسبق إلى نفس من لا يحقق النظر أنه ظالم وهذا مكان ينبغي التثبت فيه ومغالبة ميل النفس جملة وأن لا يميل المرء مع الصفة التي ذكرنا ولا عليها ولكن يقصد الإنصاف بما يوجبه الحق على السواء من عجائب الأخلاق أن الغفلة مذمومة وأن استعمالها محمود وإنما ذلك لأن من هو مطبوع على الغفلة يستعملها في غير موضعها وفي حيث يجب التحفظ وهو مغيب عن فهم الحقيقة فدخلت تحت الجهل فذمت لذلك وأما المتيقظ الطبع فإنه لا يضع الغفلة إلا في موضعها الذي يذم فيه البحث والتقصي والتغافل فهما للحقيقة وإضرابا عن الطيش
واستعمالا للحلم وتسكينا للمكروه فلذلك حمدت حالة التغافل وذمت الغفلة وكذلك القول في إظهار الجزع وإبطانه وفي إظهار الصبر وإبطانه فإن إظهار الجزع عند حلول المصائب مذموم لأنه عجز مظهره عن ملك نفسه فأظهر أمرا لا فائدة فيه بل هو مذموم في الشريعة وقاطع عما يلزم من الأعمال وعن التأهب لما يتوقع حلوله مما لعله أشنع من الأمر الواقع الذي عنه حدث الجزع فلما كان إظهار الجزع مذموما كان إظهار ضده محمودا وهو إظهار الصبر لأنه ملك للنفس وإطراح لما لا فائدة فيه وإقبال على ما يعود وينتفع به في الحال وفي المستأنف وأما استبطان الصبر فمذموم لأنه ضعف في الحس وقسوة في النفس وقلة رحمة وهذه أخلاق سوء لا تكون إلا في أهل الشر وخبث الطبيعة
وفي النفوس السبعية الرديئة فلما كان ما ذكرنا يقبح كان ضده محمودا وهو استبطان الجزع لما في ذلك من الرحمة والشفقة والفهم بقدر الرزية فصح بهذا أن الاعتدال هو أن يكون المرء جزوع النفس صبور الجسد بمعنى أنه لا يظهر في وجهه ولا في جوارحه شيء من دلائل الجزع ولو علم ذو الرأي الفاسد ما استضر به من فساد تدبيره في السالف لأنجح بتركه استعماله فيما يستأنف وبالله التوفيق تطلع النفس إلى ما يستر عنها من كلام مسموع أو شيء مرئي أو إلى المدح وبقاء الذكر هذا أمران لا يكاد يسلم منهما أحد إلا ساقط الهمة جدا أو من راض نفسه الرياضة التامة وقمع قوة نفسه الغضبية قمعا كاملا أو عانى مدواة شره النفس إلى سماع كلام تستر به عنها أو رؤية شيء اكتتم به دونها أن يفكر فيما غاب عنها من هذا النوع في غير موضعه الذي هو فيه بل في أقطار الأرض المتباينة فإن اهتم بكل ذلك فهو مجنون تام الجنون عديم العقل ألبتة
وإن لم يهتم لذلك فهل هذا الذي اختفي به عنه إلا كسائر ما غاب عنه منه سواء بسواء ولا فرق ثم لنزد احتجاجا على هواه فليقل بلسان عقله لنفسه يا نفس أرأيت إن لم تعلمي أن ههنا شيئا أخفي عليك أكنت تطلعين إلى معرفة ذلك أم لا فلا بد من لا فليقل لنفسه فكوني الآن كما كنت تكونين لو لم تعلمي بأن ههنا شيئا ستر عنك فتربحي الراحة وطرد الهم وألم القلق وقبح صفة الشره وتلك غنائم كثيرة وأرباح جليلة وأغراض فاضلة سنية يرغب العاقل فيها ولا يزهد فيها إلا تام النقص وأما من علق وهمه وفكره بأن يبعد اسمه في البلاد ويبقى ذكره على الدهر فليتفكر في نفسه وليقل لها يا نفس أرأيت لو ذكرت بأفضل الذكر في جميع أقطار المعمور أبد الأبد إلى انقضاء الدهر ثم لم يبلغني ذلك ولا عرفت به أكان لي في ذلك سرور أو غبطة أم لا فلا بد من لا ولا سبيل إلى غيرها ألبتة فإذا صح وتيقن فليعلم يقينا أنه إذا مات ولا سبيل له إلى علم أنه يذكر أو أنه لا يذكر وكذلك إن كان حيا إذا لم يبلغه ثم ليتفكر أيضا في معنيين عظيمين أحدهما كثرة من خلا من الفضلاء من الأنبياء والرسل صلى الله عليهم وسلم أولا الذين لم يبق لهم على أديم الأرض عند أحد من الناس اسم ولا رسم ولا ذكر ولا خبر ولا أثر بوجه من الوجوه ثم من الفضلاء الصالحين من أصحاب الأنبياء السالفين والزهاد ومن الفلاسفة والعلماء والأخيار وملوك الأمم الدائرة وبناة المدن الخالية وأتباع الملوك الذين أيضا قد انقطعت أخبارهم ولم يبق لهم عند أحد علم ولا لأحد بهم معرفة أصلا ألبتة فهل ضر من كان فاضلا منهم ذلك أو نقص من فضائلهم أو طمس من محاسنهم أو حط درجتهم عند بارئهم عز و جل ومن جهل هذا الأمر فليعلم أنه ليس في شيء من الدنيا خبر عن ملوك من ملوك الأجيال السالفة أبعد مما بأيدي الناس من تاريخ ملوك بني إسرائيل فقط ثم ما بأيدينا من تاريخ ملوك اليونان والفرس وكل ذلك لا يتجاوز ألفي عام فأين ذكر من عمر الدنيا قبل هؤلاء أليس قد دثر وفني وانقطع ونسي ألبتة وكذلك قال الله تعالى ورسلا لم نقصصهم عليك وقال تعالى وقرونا بين ذلك كثيرا وقال تعالى :
والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ، فهل الإنسان وإن ذكر برهة من الدهر إلا كمن خلا قبل من الأمم الغابرة الذين ذكروا ثم نسوا جملة ثم ليتفكر الإنسان في من ذكر بخير أو بشر هل يزيده ذلك عند الله عز و جل درجة أو يكسبه فضيلة لم يكن حازها بفعله أيام حياته فإذا كان هذا كما قلناه فالرغبة في الذكر رغبة غرور ولا معنى له ولا فائدة فيه أصلا
لكن إنما ينبغي أن يرغب الإنسان العاقل في الاستكثار من الفضائل وأعمال البر التي يستحق من هي فيه الذكر الجميل والثناء الحسن والمدح وحميد الصفة فهي التي تقربه من بارئه تعالى وتجعله مذكورا عنده عز و جل الذكر الذي ينفعه ويحصل على بقاء فائدته ولا يبيد أبد الأبد وبالله تعالى التوفيق شكر المنعم فرض واجب وإنما ذلك بالمقارضة له بمثل ما أحسن فأكثر ثم بالتهمم بأموره والتأتي بحسن الدفاع عنه ثم بالوفاء له حيا وميتا ولمن يتصل به من ساقة وأهل كذلك ثم بالتمادي على وده ونصيحته ونشر محاسنه بالصدق وطي مساويه ما دمت حيا وتوريث ذلك عقبك وأهل ودك وليس من الشكر عونه على الآثام وترك نصيحته فيما يوتغ به دينه ودنياه بل من عاون من أحسن إليه على باطل فقد غشه وكفر إحسانه وظلمه وجحد إنعامه وأيضا فإن إحسان الله تعالى وإنعامه على كل حال أعظم وأقدم أو هنأ من نعمة كل منعم دونه عز و جل فهو تعالى الذي شق لنا الأبصار الناظرة وفتق فينا الآذان السامعة ومنحنا الحواس الفاضلة ورزقنا النطق والتمييز اللذين بهما استأهلنا أن يخاطبنا وسخر لنا ما في السموات
وما في الأرض من الكواكب والعناصر ولم يفضل علينا من خلقه شيئا غير الملائكة المقدسين الذين هم عمار السموات فقط فأين تقع نعم المنعمين من هذه النعم فمن قدر أنه يشكر محسنا إليه بمساعدته على باطل أو بمحاباته فيما لا يجوز فقد كفر نعمة أعظم المنعمين وجحد إحسان أجل المحسنين إليه ولم يشكر ولي الشكر حقا ولا حمد أهل الحمد أصلا وهو الله عز و جل ومن حال بين المحسن إليه وبين الباطل وأقامه على مر الحق فقد شكره حقا وأدى واجب حقه عليه مستوفى ولله الحمد أولا وآخرا وعلى كل حال حضور مجالس العلم إذا حضرت مجلس علم فلا يكن حضورك إلا حضور مستزيد علما وأجرا لا حضور مستغن بما عندك طالبا عثرة تشيعها أو غريبة تشنعها فهذه أفعال الأرذال الذين لا يفلحون في العلم أبدا فإذا حضرتها على هذه النية فقد حصلت خيرا على كل حال وإن لم تحضرها على هذه النية فجلوسك في منزلك أروح لبدنك وأكرم لخلقك وأسلم لدينك فإذا حضرتها كما ذكرنا فالتزم أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها
وهي إما أن تسكت سكوت الجهال فتحصل على أجر النية في المشاهدة وعلى الثناء عليك بقلة الفضول وعلى كرم المجالسة ومودة من تجالس فإن لم تفعل ذلك
فاسأل سؤال المتعلم فتحصل على هذه الأربع محاسن وعلى خامسة وهي استزادة العلم وصفة سؤال المتعلم أن تسأل عما لا تدري لا عما تدري فإن السؤال عما تدريه سخف وقلة عقل وشغل لكلامك وقطع لزمانك بما لا فائدة فيه لا لك ولا لغيرك وربما أدى إلى اكتساب العداوات وهو بعد عين الفضول فيجب عليك أن لا تكون فضوليا فإنها صفة سوء فإن أجابك الذي سألت بما فيه كفاية لك فاقطع الكلام وإن لم يجبك بما فيه كفاية أو أجابك بما لم تفهم فقل له لم أفهم واستزده فإن لم يزدك بيانا وسكت أو أعاد عليك الكلام الأول ولا مزيد فأمسك عنه وإلا حصلت على الشر والعداوة ولم تحصل على ما تريد من الزيادة
والوجه الثالث أن تراجع مراجعة العالم وصفة ذلك أن تعارض جوابه بما ينقضه نقضا بينا فإن لم يكن ذلك عندك ولم يكن عندك إلا تكرار قولك أو المعارضة بما لا يراه خصمك معارضة فأمسك فإنك لا تحصل بتكرار ذلك على أجر ولا على تعليم ولا على تعلم بل على الغيظ لك ولخصمك والعداوة التي ربما أدت إلى المضرات وإياك وسؤال المعنت ومراجعة المكابر الذي يطلب الغلبة بغير علم فهما خلقا سوء دليلان على قلة الدين وكثرة الفضول وضعف العقل وقوة السخف وحسبنا الله ونعم الوكيل وإذا ورد عليك خطاب بلسان أو هجمت على كلام في كتاب فإياك أن تقابله مقابلة المغاضبة الباعثة على المغالبة قبل أن تتبين بطلانه ببرهان قاطع وأيضا فلا تقبل عليه إقبال المصدق به المستحسن إياه قبل علمك بصحته ببرهان قاطع فتظلم في كلا الوجهين نفسك وتبعد عن إدراك الحقيقة ولكن أقبل عليه إقبال سالم القلب عن النزاع عنه والنزوع إليه إقبال من يريد حظ نفسه في فهم ما سمع ورأى فالتزيد به علما وقبوله إن كان حسنا أو رده إن كان خطأ فمضمون لك إن فعلت ذلك الأجر الجزيل والحمد الكثير والفضل العميم من اكتفى بقليله عن كثير ما عندك فقد ساواك في الغنى ولو أنك قارون حتى إذا تصاون في الكسب عما تشره أنت إليه فقد حصل أغنى منك بكثير ومن ترفع عما تخضع إليه من أمور الدنيا
فهو أعز منك بكثير فرض على الناس تعلم الخير والعمل به فمن جمع الأمرين فقد استوفى الفضيلتين معا ومن علمه ولم يعمل به فقد أحسن في التعليم وأساء في ترك العمل به فخلط عملا صالحا وآخر سيئا وهو خير من آخر لم يعلمه ولم يعمل به وهذا الذي لا خير فيه أمثل حالا وأقل ذما من آخر ينهى عن تعلم الخير ويصد عنه ولو لم ينه عن الشر إلا من ليس فيه منه شيء ولا أمر بالخير إلا من استوعبه لما نهى أحد عن شر ولا أمر بخير بعد النبي صلى الله عليه و سلم وحسبك بمن أدى رأيه إلى هذا فسادا وسوء طبع وذم حال وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد رضي الله عنه فاعترض هاهنا إنسان فقال كان الحسن رضي الله عنه إذا نهى عن شيء لا يأتيه أصلا وإذا أمر بشيء كان شديد الأخذ به وهكذا تكون الحكمة وقد قيل أقبح شيء في العالم أن يأمر بشيء لا يأخذ به في نفسه أو ينهى عن شيء يستعمله قال أبو محمد كذب قائل هذا وأقبح منه من لم يأمر بخير ولا نهى عن شر وهو مع ذلك يعمل الشر ولا يعمل الخير قال أبو محمد وقال أبو الأسود الدؤلي لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى بالعلم منك وينفع التعليم قال أبو محمد إن أبا الأسود إنما قصد بالإنكار المجيء بما نهي عنه المرء وأنه يتضاعف قبحه منه مع نهيه عنه فقد أحسن كما قال الله تعالى أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ولا يظن بأبي الأسود إلا هذا وأما أن يكون نهى عن النهي عن الخلق المذموم فنحن نعيذه بالله من هذا فهو فعل من لا خير فيه وقد صح عن الحسن أنه سمع إنسانا يقول لا يجب أن ينهى عن الشر إلا من لا يفعله فقال الحسن ود إبليس لو ظفر منا بهذه حتى لا ينهى أحد عن منكر ولا يأمر بمعروف
وقال أبو محمد صدق الحسن وهو قولنا آنفا جعلنا الله ممن يوفق لفعل الخير والعمل به وممن يبصر رشد نفسه فما أحد إلا له عيوب إذا نظرها شغلته عن غيره وتوفانا على سنة محمد صلى الله عليه وآله و سلم آمين رب العالمين .
المصدر : الأخلاق والسير - ابن حزم

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.