وحشة الغُربة

جاءت الروايات تصف الغرباء بأنَّهم الذين يصلحون إذا فسد النَّاس، الذين يفرون بدينهم من الفتن، الذين يقيمون سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن يفسدها النَّاس بالبدع والمحدثات، فهم قوم قليل في ناس سوء كثير ، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم.
Wednesday, September 7, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
وحشة الغُربة
 وحشة الغُربة

 





 

جاءت الروايات تصف الغرباء بأنَّهم الذين يصلحون إذا فسد النَّاس، الذين يفرون بدينهم من الفتن، الذين يقيمون سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن يفسدها النَّاس بالبدع والمحدثات، فهم قوم قليل في ناس سوء كثير ، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم.
...وقد مضى أننا في عصر الجاهلية الثانية بلا ريب، وأنَّ المتأمل لحال النَّاس في يومهم هذا لا يشك في أننا نعيش في غربة، فالفتن من كل حدب وصوب، والفساد مطبق والبلاء عَمّ، واستحكمت مكيدة الشيطان فأطاعه أكثر الخلق فمنهم من دخل في طاعته في فتنة الشبهات، ومنهم من دخل في فتنة الشهوات، ومنهم من جمع بينهما ، وكل ذلك مما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بوقوعه. ففتنة الشبهات.
...قال عنها- صلى الله عليه وسلم - : "افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" (1)
وفي رواية "واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار، قيل : يا رسول الله من هم ؟ قال : الجماعة" (2)
وأمَّا فتنة الشهوات فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : "فو الله لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم".(3)
يقول ابن رجب في كشف الكربة:
... فلما دخل الناس في هاتين الفئتين أو إحداهما أصبحوا متقاطعين متباغضين بعد أن كانوا إخوانًا متحابين متواصلين ، فإن فتنة الشهوات عمت غالب الخلق ففتنوا بالدنيا وزهرتها وصارت غاية قصدهم ... فقطعوا لذلك أرحامهم وسفكوا دماءهم وارتكبوا معاصي الله بسبب ذلك.
...وأمَّا فتنة الشبهات والأهواء المضلة فبسببها تفرق أهل القبلة وصاروا شيعًا وكفَّر بعضهم بعضا، وأصبحوا أعداء وفرقًا وأحزابًا، بعد أن كانوا إخوانا قلوبهم على قلب رجل واحد".
...هذا حال من افتتن ولم ينج من هذا إلا الفرقة الناجية أهل الغربة أهل السُّنة والجماعة.
...أسوق لكم هذا كله لأطرح على مسامعكم وليجول في خاطركم تساؤلٌ حتمي ، هل نحن ـ معشر من ادّعى الالتزام ـ حقًا غرباء ؟ هل نحن فعلاً على هذا الوصف الذي نعتهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟
...نحتاج إلى وقفة للمحاسبة لنرى هل وقعنا في مضلات الفتن أم مازالت الأقدام ثابتة والقلوب على اليقين هذا أولاً.
...فإذا ما ارتضينا نصرة دين الله وتحملنا لذلك كل الصعاب، وصبرنا على أذى أعداء الدين ، وقاومنا الظلم والقهر الذي يقع على أولياء الله الصالحين ، فعلينا حينئذٍ أن نتواصى بصفات الغرباء فنقيم على طاعة الله وإن عصى النَّاس ، نسعى للإصلاح وإن فسد الخلق ، ننشر سنة رسول الله وإن وقع النَّاس في البدع ، لا نستوحش القلة فقليل من عباد الله الشكور، ثمَّ نتواصى فيما بيننا بالأخوة فإنها سبيل تخفيف هذه الوحشة.
...قال الحكماء : مصائب العالم ومحنة تعود إلى خمس : المرض في الغربة، والفقر في الشيب، والموت في الشباب، والعمى بعد البصر والغفلة بعد المعرفة.
...فآهٍ من وحشة الغربة وسقم القلوب وعلة الأبدان، فكيف بالله ترضوا أن تروا أخاكم قد أضناه لهيب الهاجرة فلا تعودونه، لا تخففون من شدة وطأة الظلم عليه، فكيف وأنتم رفاق الدرب، والمآل واحد ألا تتعاونون، أَوَ ليس حري بكم أن تتحابوا وتتصافوا وتكونوا عباد الله إخوانًا.
...ماذا بكم ؟ أَوَليست هذه الدار فانية، أَوَلَيس متاعها زائلاً، أليس نعيمها ناقصاً منغصًا، فما عساكم حِدتم ، هذه دنيا دنية ، أنتم فيها غرباء فإنما مواطنكم الجنة نسأل الله أن يجمعنا جميعًا فيها، اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى وما يقرب إليه من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما يقرب إليها من قول أو عمل.
...أما تذكرون الجَنَّة، أما تهفوا أنفسكم لرياضها، فلِمَ النُّفرة والتشاحن فهلموا إلى الجادة، هيا اجتمعوا على قلوب صافية متحابة، تعالوا إلى نصرة دين الله، ولتكن جنات الفردوس نصب أعينكم.
ما من غريب وإن أبدى تجلده ...... إلا تذكر عند الغربة الوطنا
الأخوة لماذا ؟

لاقتفاء أثر البقية الباقية قبل أن تغرق السفينة

مرت بنا خُطوب، وضلت أقدامنا الدروب، وتوالت المحن فهلك من هلك وثبت من ثبت ، ودبت العِلل، وتغايرت الحُلل، فلم تعد إلا شرذمة قليلة مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخطفهم النَّاس، تلك البقية الباقية مازالوا يحلمون بنصر الله، موقنين بأنه آت لا محالة ، وأنَّه قريب ولو كره الكافرون.
...فهؤلاء هم عباد الله المخلصون، بهم يندفع البلاء ، فلولا عبادٌ ركع ، وأطفال رضع ، وبهائم رتع لصب العذاب صبا، إنَّهم الصفوة، وإن كانوا من الندرة بمكان إلا أنهم ما زالوا فينا ولكنهم يتناقصون، والخوف كل الخوف أن يهلك هؤلاء فحينها يأتيك ما تحاذر ولابد.
...إنَّ السبيل لدفع ما نحن فيه من البلية يبدأ من الأخوة الإيمانية، فحين ترتبط بهذه الفئة المباركة تكون على أمل النجاة قبل أن تغرق السفينة، وإن وجود نماذج متعددة لهؤلاء الأخيار هو الطريق الأمثل لنصرة دين الله في الأرض.
...إنني أريدك أن تبحث عن القوَّامين الذين يقيمون الليالي ولا يفترون، عن الصَوَّامين الذين يصومون صيام داود لا يسأمون، عن المتصدقين الذين ينفقون أموالهم سرًّا وعلانية يرجون تجارة لن تبور، عن الدعاة الذين يجوبون مشارق الأرض ومغاربها لإعلاء كلمة التوحيد ، هذه النماذج موجودة ولكنها قليلة، ولا سبيل لنموها وتكثير سوادها إلا بالأخوة حين تقف في الصلاة ملتصقًا برجل صالح من أمثال هؤلاء ربَّما تنزل عليه رحمة تصيبك منها ما فيه خيرك إلى يوم الدين.
...حين تسمع عمن يقيم نصف الليل أو أكثر، من يختم القرآن كل ثلاث أو أربع فتسير في ركبه وتخطو خطوة، وتود أن يكون عملك كعمله إن عجزت فربَّما تجد هذه الأعمال في صحيفتك بإخلاص النية.
...هذه فائدة مرافقة الصالحين ، بل إنَّ مؤاخاة هؤلاء وحبهم في الله يثمر ثمرة عظيمة هي أن يجمعك الله بهم في الجنة، وربما يكون ذلك سبب دخولك الجنة وإعلاء درجتك فيها لقوله - صلى الله عليه وسلم - "المرء مع من أحب".(4)
...وحين تشارك هؤلاء العلم الصالح يهون عليك ما يثبطك عنه الشيطان وتنفرك نفسك من فعله، فتعتاد الصيام والقيام وتلاوة القرآن والعمل لدين الله تعالى، وتعظم أوامر الله ونواهيه، وتتخلق بأخلاق الصالحين من التواضع ورؤية النفس بعين الجناية والانكسار بين يدي الله جل وعلا ، وهكذا لا تعدم خيرًا في اقتفاء أثرهم والسير في دروبهم والجلوس معهم.
...قال - صلى الله عليه وسلم - : "مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إمَّا أن يحذيك، وإمَّا أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إمَّا أن يحرق ثيابك وإمَّا أن تجد ريحًا خبيثة".(5)
...فإن لم تجد هؤلاء فالعزلة راحة من خلاط السوء كما ترجم البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ ، فالوحدة خير من جليس السوء، والجليس الصالح خير من الوحدة ؛ فإن مجالسته غنيمة وربح، وكل قرين بالمقارن يقتدي ، وصحبة أهل البطالة بل صحبة من لم يشمر عن ساعد الجدّ في سلوك طريق الله تعالى فإنها كصحبة أهل الشر ، وصحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار فتأمل هذا يا عبد الله ، وخذ بحظك من صحبة أخلاء الإيمان، واقتفِ أثرهم قبل أن يعمنا البلاء والله المستعان.

إحياء السنن الموات

قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لبلال بن الحارث: " اعلم ! قال: ما أعلم يا رسول الله ؟ قال: إنَّه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدى فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضى الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار النَّاس شيئًا "(6).
...أي أنَّ الناس يتركون العلم بالسنة فمن قام على نشرها والعلم بها والعمل بها كان له ذلك الجزاء الأوفى ، ففي إحياء السنة إماتة للبدعة والعكس صحيح.
...كان للصحوة الإسلامية خلال العقود الماضية دورها الفعّال في إحياء السُّنة وإماتة البدع المحدثات التي كان العالم الإسلامي يذخر بها، وقام رواد الدعوة الإسلامية بدور كبير في هذا المجال ، ومن ثمَّ وُجد جيل من الملتزمين بسنة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، المحاربين للبدع والمنكرات فأحيوا السُّنة وأماتوا البدعة.
...ثم خلف من بعدهم خلف ورثوا عنهم هذا ولكن كان حظهم أقل من جيل الرواد ، وبدأ خط الرجعة من جديد فأميتت سنن أو صارت من جنس العادات أو الشكليات، فاهتم القوم بالمظهر وضاع منهم الجَوْهر ولهذا أسبابه المعروفة ، ولكن الوقفة هنا مع أحد الأسباب الخطيرة في شيوع مثل هذه الظاهرة ، أعنى بطبيعة الحال " الأُخُوَّة "، فالقوم لم يعودوا على قلب رجل واحد ، بل تفرقوا شيعًا ، ودخل في قلوبهم الدخن كلٌ تجاه الآخر، واختلفوا فتناكروا وتنافروا، وبدأ الجيل الصاعد تتفتح عيناه على معارك ومشاحنات فمنهم من تولّى ومنهم من خاض غمار تلك المخاصمات، فصار جل اهتمامه في مسائل ثانوية، وتحت شعار إحياء سنة أميتت سُنن.
...وإذا أردت أمثلة واقعية لذلك، فانظر كيف كان حالك منذ سنوات قليلة وكيف صار الحال الآن ؟ أين السُنن والآداب التي كنت تعظمها؟ أين المحافظة على الأذكار ؟ أين المحافظة على آداب الطعام والنوم ومعاشرة الناس والكلام واللباس و ...؟
...سنن كثيرة أحياه جيل الصحوة، ثم ما لبثت أن ضاعت في خضم المشاكل، إنني لا أُسَفِّه من جهود كثير من دعاة الخير لنشر العلم، ولكن فقط أخشى أن نهتم بالمفضول عن الفاضل، فإننا ينبغي أن نتعامل مع الدين على أنه كلٌ واحد، لا نهتم بمسألة على حساب مسائل أخرى، ولا نقول كذلك إنَّ للدين لبابًا وقشورًا، فنهتم باللباب دون القشور، فتلك بدعة محدثة ما أنزل الله بها من سلطان، وهي وسيلة خطيرة ماتت بسببها سنن كثيرة فالحق دائما بين طرفي التفريط والإفراط فتأمل.
...من السُّنن التي تكاد تكون قد أميتت سُنَّة النتاصح في الله ، حدث هذا بسبب عدم تآلف القلوب ، فلم تعدْ تقبل منى نصيحة في الله لأنني قد أكون مخالفًا لك في مسألة أو في اتجاه، أمَّا عامة الناس فقد بثوا فيهم سموم الشبهات، وخدعوهم بشعارات الحُرية التي هي في واقع الأمر عبودية للدنيا وذل لأصحابها، لكن القوم مُكِر بهم فإذا نصحت أحدهم في الله قال لك بملء الفم: أنا حرٌ مَالَك بى، مع أنه لو أنعم النظر لعلم أنَّ الذي ينصحه في الله لا يبغي منه شيئًا بل يريد في أفضل حال يريد مصلحته ولكن أكثر النَّاس لا يعلمون.
...لعمر الله إنَّ تبادل النصيحة في الله تعالى واجب على كل مسلم تجاه أخيه ، وهذا مما يقتضيه الحب في الله ، وهو من العدل الذي أمر الله به.
...يقول ابن العربي ـ رحمه الله ـ : العدل بين العبد وبين ربه إيثار حقه تعالى على حظ نفسه ، وتقديم رضاه على هواه، والاجتناب للزواجر والامتثال للأوامر.
...وأمَّا العَدلُ بينه وبين نفسه فمنعها مما فيه هلاكها؛ قال الله تعالى: " وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى " [ النازعات/40] وعزوب الأطماع عن الأتباع، ولزوم القناعة في كل حال ومعنى.
...وأمَّا العدل بينه وبين الخلق فبذل النصيحة وترك الخيانة فيما قل وكثر، والإنصاف من نفسك لهم بكل وجه، ولا يكون منك إساءة إلى أحد بقول ولا فعل، لا في سر ولا في علن، والصبر على ما يصيبك منهم من البلوى، وأقل ذلك الإنصاف وترك الأذى. أهـ.
...آهٍ أين ـ بالله عليكم ـ هذه السنن الموات ؟ فأين التناصح لا التفاضح ؟! أين الإنصاف لا الإجحاف ؟ ... أين ...؟ وأين ...؟
...دعونا من التباكي على الواقع المر، وتعالوا بنا نفتح صفحة جديدة نجدد بها إيماننا، تعالوا نتناصح في الله على الوجه الشرعي الذي علمناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، تعالوا نتعاون في الله بإحياء السنة وإماتة البدعة، كل من عرف حرفًا من كتاب أو سنة يسارع إلى أخيه لتبليغه ويأخذ1 كل واحد بيد أخيه إلى صراط الله العزيز الحميد، تعالوا لا نترك سنة حتى نعمل على إحيائها ونشرها فهل من عود حميد ؟
...أسأل الله تعالى أن بعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، اللهمَّ اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.

شد الأزر وتقوية العزم

...تعالوا بنا نتأمل ونتدبر هذا المشهد القرآنى الذي قَصَّه علينا رب العزة جل وعلا.
...يقول الله تعالى مخاطبًا موسى الكليم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم: " اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا " [طه/24-35].
...فانظر كيف فطن موسى عليه السَّلام منذ الوهلة الأولى لثقل الأمانة ، وأنَّه لن يستطيع القيام بها دون مساعدة وإعانة ، فسأل الله تعالى شرح الصدر وتيسير الأمر بتوفيقه إياه فلا حول ولا قوة إلا به، ثمَّ دعا الله تعالى بأن يجد المشارك له في الدرب الذي يخفف عنه العبء الثقيل الذي وضع على كاهله، أن يجد من يحوطه من ورائه ، من يَشد أزره أى يتقوى به فيقيم ظهره وهذا شأن الأخوة فتدبر.
...لمثل هذا نحتاج الآن نحتاج الوزير الذي يشاركنا في حمل العبء ، ونحتاج لمن يشد أزرنا، ويأخذ بأيدينا ويثير فينا بواعث الشوق فيتقوى به العزم ، نحتاج لمن ينافسنا في طاعة الله تعالى فيزداد المرء إيمانًا وإكثارًا من الطاعات واشتغالاً بالفاضل عن المفضول، إنَّ مثل هذا المناخ يفرز جيلاً صالحًا، لعله يكون جيل التمكين الذي مازلنا نتلمس وجوده.
...كان عبد الله بن رواحة إذا لقى الرجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: تعال نؤمن ساعة .
...وأورد البخارى معلقًا بلفظ الترجمة عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أنَّه كان يقول: اجلسوا نؤمن ساعة أو بنا نؤمن ساعة.
...فهيا بنا نؤمن ساعة ، لماذا لا تشيع هذه السنة المباركة بيننا الآن فيأتى الأخ لأخيه يدعوه لطاعة الله تعالى يأخذه إلى مجلس علم أو حلقة قرآن أو يتنافس معه في الصيام والقيام وتلاوة القرآن فإنَّ هذا باعث على تقوية العزم ؛ ولذلك قال تعالى: " وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ " [المطففين/26] وقال تعالى: " فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَات " [البقرة/148] وقال تعالى: " وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ " [آل عمران/133] ولذلك كان السلف يتألمون إذا رأى أحدهم من يفضلهم في طاعة الله تعالى ، وكانوا حريصين على التخلص من الدنيا فأوصوا بترك التنافس فيها ( إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فألقها في نحره) فكيف صار الحال الآن ؟!!
...ولعٌ بالدنيا واشتغال بها عن الآخرة ، يبيع الرجل دينه بمتاع زائل ، فعامة الناس مهمومون باقتناء الأجهزة الحديثة يريد الهاتف المحمول ، يريد الحاسوب ، يريد القنوات التلفازية ذات البث المباشر، ويريد آخرون أن يلتحق أبناؤهم بالمدارس الأجنبية، يريد أن يعيش في شقة واسعة والشاب يحلم بالفتاة الجملية والسيارة الفارهة ... إلخ.
...هكذا دواليك فيظل المرء منغمسًا في الغفلة ، وقد كِيد له ذلك فانصاع ، ولم يأل جهدًا في محاولة اليقظة، إنها " صناعة الغفلة " فكيف بالله تجد من يهتم بأمر الآخرة والتنافس فيها في ظل هذا الجو الذي يزكم الأنوف.
...إنَّ من السُّبل والوسائل الأساسية لوجود هذه الحياة الإيمانية إحياء الأخوة في صورتها المثلى، تلك الصورة التي رسمها سلفنا الصالح فكانت حياتهم تطبيقًا عمليًا واقعيًا لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ولذلك كلما مررنا بقضية ذكرناك بالمنهج، إنَّه العود إلى الكتاب والسنة من خلال فهم سلف الأمة، اقتدِ بهم انظر لأمثلة نموذجية من حياتهم وحاول أن تحاكيهم، وهذه الأمور لا تختلف باختلاف الزمان والمكان، إنها الأصول الأخلاقية التي يبنى عليها دين المرء، والأخلاق لا تقبل التشكل والتغير بحسب العَصْر والمصر.
...لماذا لا تبدأ من الآن من خلال رفقة من الصالحين في التعاون على الطاعات والتناصح في الله ؟
...لماذا لا تكون من أصحاب الهمم العالية فتقول كما كان أبو مسلم الخولاني يعلنها " أيظن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يسبقونا، والله لننافسنَّهم فيه "
...آهٍ لماذا لا تكون كذلك ؟ هذا ليس كلامًا غير واقعى ، فتلك بدعة شيطانية ثبط بها همم المؤمنين ، فترى الواحد منهم مخذولا سافل الهمة يقول: كيف أصل لمثل هذه المرتبة هذا حلمٌ ما أبعده.
...وإنى واصفٌ لك السبيل فلا تعجز، استعن بالله ـ أٌخىّ ـ وأدم الدعاء والتضرع ، واصدق اللجأ إلى الله تعالى ، وسَلْ الله أن يوفقك لأخٍ في الله تنافسه في طاعة الله ، فإياك وصحبة الباطلين الذين يثبطونك ويشغلونك بالدنيا وسفاسف الأمور، بل اختر من الصالحين أصحاب الهمم العالية، واتخذ لك قدوة في الواقع من الشيوخ الأفاضل لتظل صورتهم عالقة في ذهنك ، فتقدح هاجس الصعوبة وعدم إمكانية التحقق ، وليكن أسوتك في ذلك كله إمام المرسلين وخاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الأخيار ومن تبعهم بإحسان من سلفنا الصَّالح ـ رحمهم الله جميعًا ورضى عنهم ـ.
...بعد هذه اللمحة اليسيرة عن الأسباب التي دعتنا للحديث عن هذه القضية الخطيرة في حياتنا الراهنة ، تعالوا نرى ما أعده الله للمتحابين فيه ، تعالوا نقتطف ثمرات الأخوة اليانعة، هلموا نستنشق عبير الحب في الله من خلال رياضه الفوّاحة، والله الموفق.

ثمرات الأخوة

لو صحت لنا هذه الأخوة الإيمانية المرجوة ، لو سعينا في زرع بساتينها في قلوبنا لأثمرت فينا حياة أخرى غير تلك التي نحياها ، فإنَّ القلوب تحيا وتترابط وتتآلف فيورثها الله من النعيم ما لا يستشعره إلا من ذاقه .

فمن ذلك :

أن يتذوق حلاوة الإيمان فيحيا حياة السعداء .
قال - صلى الله عليه وسلم - : " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار"(7)
فحينئذٍ يستشعر لذة الطاعة وتحمل المشقة في رضى اللّه ورسوله وإيثار ذلك على عرض الدنيا ، فالقلب السليم من أمراض الغفلة والهوى يجد طعم الإيمان كذوق الفم طعم العسل ، ولا ينال المرء هذه الثمرة حتى تتحقق فيه ثلاث خصال ترجع إلى واحدة أعني إيثار الله ورسوله على كل شيء فلا شيء أحب إليه من الله ورسوله ، ولا تعلق له بأي إنسان إلا من خلال الحب في الله ، ولا أكره إليه من حياة الجاهلية والكفر والعصيان ، حينها يباشر قلبه ما يعجز اللسان عن بيانه فإنه لا يحتمل الوصف بل لابد أن تمر بك هذه المشاعر حتى تعرف مدى روعتها وجمالها .
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين .
أن يحيطه الله تعالى برحمته، ويقيه عاديات وشدائد يوم القيامة.
قال - صلى الله عليه وسلم - : " والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه "
وقال - صلى الله عليه وسلم - " من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كربات يوم القيامة " (8) فمن أدى حقوق الأخوة أحاطه الله بعنايته ورعايته .
ثالثا: نيل الأمن والسرور وأن الله يظله بظله يوم القيامة .
فمن السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظله إلا ظله "رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه"(9)

الأمن من الوقوع فى الشرك

فلا يتسرب إلى من يحب في الله الإشراك بالله جلا وعلا ، فلا يقع في الشرك ـ أعنى شرك الأنداد ـ .
قال تعالى : " وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ " [ البقرة / 165] .
فالذي يحبك في الله يحبك لأنك عبد الله ، أمَّا الآخر فقد يحبك كحب الله أو ربما أكثر، فيحبك ؛ لأنَّك تشترك معه في معصية أو نحو هذا ، فربما يشرك بذلك .
فالموحد هو الذي يحب لله ، فحبه نابع من حبه لله ، من طاعتك لله ، فإذا عصيت الله أبغضتك في الله ، وبذلك ينضبط التوحيد في قلبك ، وهذا هو حقيقة " الولاء والبراء " وهذا من أغلى الثمرات وأعظمها " ثمرة التوحيد" .

أن يرزق العبد محبة الله .

قال الله تعالى في الحديث القدسي : "وجبت محبتي للمتحابين فيَّ " (10)

زيادة الدرجات في الجنة حتى يصل لمنازل الأبرار .

أخرج الإمام أحمد والحاكم وصححه وأقره عليه الذهبي عن أبى مالك الأشعرى - رضي الله عنه - أنه قال : ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قضى صلته أقبل علينا بوجهه فقال : " يا أيها الناس اسمعوا واعقلوا واعلموا أنَّ لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله .
فجاء رجل من الأعراب من قاصية الناس وألوى بيده إلى نبى الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا نبي الله ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله انعتهم لنا ـ يعنى صفهم لهم ـ فسُرَّ وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسؤال الأعرابي .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هم ناس من أفناء الناس ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة ، تحابوا في الله وتصافوا ، يصنع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها ، فيجعل وجوههم نورا ، وثيابهم نورا ، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون ، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون "(11) .
انظر لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " تحابوا في الله وتصافوا " صارت قلوبهم صافية ، ليس فيها غل ولا حقد ولا ضغينة ولا بغضاء ولا شحناء ولا حسد لأحد من المسلمين ؛ فيرفع الله درجاتهم في الجنة بذلك ، وهذه من الثمرات العظيمة للأخوة .
اطمئنان القلب والأمن من أهوال يوم القيامة
قال الله تعالى : " الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ " [الزخرف / 67ـ68] .
ثامنا: النجاة لكل من تمسك بهذه العروة الوثقى .
قال - صلى الله عليه وسلم - : " أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله ، والمعاداة في الله ، والحب في الله والبغض في الله "
تاسعا: صفاء السريرة ونقاء القلب .
قال - صلى الله عليه وسلم - : " من أحب لله ، وأبغض لله ،وأعطى لله ،ومنع لله فقد استكمل الإيمان"(12)
فإنَّ الحب في الله يدل على كمال الدين ، ويثمر ذلك من صفاء السريرة واتقان العمل والخوف من الله ، وتقديس كتبه وحب سنة نبيه ما يزيد الإيمان ويبعث على نقاء وسلامة القلب .
المصادر :
1- أخرجه أبو داود (4596) والترمذي (2640) ، وابن ماجه (3991) والإمام أحمد في مسنده (2/332) و الشيخ الألباني في الصحيحة (203) .
2- أخرجها ابن ماجه (3992) وصححها الشيخ الألباني في صحيح ابن ماجه (3226)
3- أخرجه البخاري (3158) ومسلم (2961) ك الزهد والرقائق .
4- البخاري (6168) ومسلم (2640) .
5- البخاري (5534) ومسلم (2628) .
6- الترمذي (2677) وابن ماجه (210) والطبراني في الكبير (17/16) والحديث ضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الترمذي (500)
7- البخاري (16) ومسلم (43) .
8- مسلم (2699) .
9- البخاري (660) ومسلم (1031) .
10- أخرجه الإمام أحمد (5/233/247) ، والطبراني في الكبير(20/80،81)، والحاكم في المستدرك(4/186) وابن حبان في =صحيحه(2/335) برقم(575) وصحيح الجامع(4331) .
11- أخرجه الإمام أحمد (5/343) ، والحاكم في المستدرك (4/188) وبنحوه الطبراني في الكبير (3/290) عن أبى الدرداء وقال الهيثمي في المجمع (10/77)
12- أخرجه الطبراني في الكبير (11/215) برقم (11537) وحسنه الشيخ الألباني بمجموع طرقه في الصحيحة (1728)

 



نظرات کاربران
ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.