الجبرية

الجبر هو نفي الفعل عن العبد حقيقة ، وإضافته إلى الرب حقيقة ، وزعمت هذه الفرقة ، أن الإنسان لا يخلق أفعاله ، وليس له مما ينسب إليه من أفعال شيء ، فقوام هذا المذهب نفي الفعل عن العبد وإضافته إلى الرب تعالى .
Friday, September 9, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
الجبرية
الجبرية

 





 

الجبر هو نفي الفعل عن العبد حقيقة ، وإضافته إلى الرب حقيقة ، وزعمت هذه الفرقة ، أن الإنسان لا يخلق أفعاله ، وليس له مما ينسب إليه من أفعال شيء ، فقوام هذا المذهب نفي الفعل عن العبد وإضافته إلى الرب تعالى .
وقد اختلفت الأقوال في نشأة هذه الفرقة ، ومن هو القائل بها أولا ؟ فقيل : إن أول من قام بهذه النحلة رجل يهودي ، وقيل الجعد بن درهم ، أخذها عن أبان ابن سمعان ، وأخذها أبان عن طالوت بن أعصم اليهودي ، فهي على هذا فكرة يهودية ، وقد ضل بها خلق كثير . وبهذا المذهب لا يكون للإنسان كسب ولا إرادة ولا اختيار ولا تصرف فيما وهبه الله من نعمة العقل على حسبه ، فكيف يكون له مطمع في ثواب أو خوف من عقاب ؟ التفويض : وقد انتشر هذا المبدأ ومبدأ المفوضة ، وهم الذين يقولون بتفويض الأفعال إلى المخلوقين ، ورفعوا عنها قدرة الله وقضاءه ، عكس المجبرة الذين أسندوا الأفعال إليه تعالى ، وأنه أجبر الناس على فعل المعاصي ، وأجبرهم على فعل الطاعات ، وأن أفعالهم في الحقيقة أفعاله ، فكان أثر هاتين الفكرتين سيئا في المجتمع الإسلامي .
الأمر بين الأمرين : فتصدى الإمام الصادق (عليه السلام) لرد هؤلاء ، وأعلن العقيدة الصحيحة والرأي السديد في التوسط بين الأمرين فقال : لا جبر ولا تفويض ، ولكن أمر بين أمرين وخلاصته : إن أفعالنا ، هي أفعالنا وتحت قدرتنا واختيارنا من جهة ، ومن جهة أخرى ، هي مقدورة لله تعالى ، وداخلة في سلطانه ، فلم يجبرنا على أفعالنا حتى يكون قد ظلمنا في عقابنا على المعاصي ، لأن لنا القدرة على الاختيار فيما نفعل ، ولم يفوض إلينا خلق أفعالنا حتى يكون قد أخرجها عن سلطانه ، بل له الخلق والأمر وهو قادر على كل شيء ومحيط بالعباد .
واعتقاد شيعة أهل البيت في ذلك وسط بين المذهبين ، كما بينه أئمة الهدى (عليهم السلام) ، وذلك عليه كلمة الإمام الصادق المشهورة لا جبر ولا تفويض ، ولكن أمر بين أمرين . وبالجملة ، فإن عصر الإمام الصادق (عليه السلام) كان عصر مجادلات ونظر ، واتسعت فيه دائرة الخلاف ، وقد رأينا موقفه في مقابلتهم ، وردع أهل الآراء الفاسدة والعقائد المخالفة للإسلام ، وقام خلص أصحابه وأعيانهم بقسط وافر من ذلك النضال دون تعاليم الإسلام الصحيحة ، وقد احتفظ التأريخ ببعض مناظراتهم التي نافحوا فيها لأجل إثبات مبادئ الإسلام السامية .
محنة خلق القرآن قالت العامة : فتنة خلق القرآن فتنة عمياء هوجاء هبت سمومها في عهد المأمون ، وإن كانت جراثيمها قديمة وجذورها عميقة ، فإن حلقاتها تتصل باليهودية الحاقدة على الإسلام والمسلمين (1).
وإن أصل هذه المقالة الخبيثة هو التأثر باليهودية المغذاة بالفلسفة والسفسطة الكافرة ، تصل جذورها باليهود الذين كانوا في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانوا يقولون بخلق التوراة .
وقال ابن الأثير (2) في تأريخه في حوادث سنة 24 : والذي توفي في هذه السنة القاضي أبو عبد الله أحمد بن دؤاد ، وكان داعية إلى القول بخلق القرآن وغيره من مذاهب المعتزلة ، وأخذ ذلك عن بشر المريسي ، وأخذه بشر عن الجهم ابن صفوان ، وأخذه جهم عن الجعد بن درهم ، وأخذه الجعد عن أبان بن سمعان ، وأخذه أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم وختنه ، وأخذه طالوت عن لبيد ابن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكان لبيد يقول بخلق التوراة . وأما بشر بن غياث المريسي الذي تولى زعامة هذه الفتنة في وقته ، وكان عين الجهمية ورأسهم وعالمهم في عصره ، فقد كان أبوه يهوديا .
وروى الخطيب (3) في تأريخه ، عن إسحاق بن إبراهيم الملقب بلؤلؤ ، قال : مررت بالطريق فإذا بشر المريسي والناس عليه مجتمعون ، فمر يهودي ، فأنا سمعته يقول : لايفسد عليكم كتابكم كما أفسد أبوه علينا التوراة ، يعني أن أباه كان يهوديا .
وقال الزنجاني (4) : بشر بن غياث المريسي ، ظاهر الصدوق (رحمه الله) الاعتماد عليه ، مات سنة 252 ، والرجل مغموز فيه عندهم جدا . وملخص الفتنة والمحنة (5) أن المأمون العباسي كان قد استحوذ عليه جماعة من المعتزلة فزينوا له القول بخلق القرآن ونفي الصفات عن الله عز وجل .
وعندما خرج المأمون إلى طرطوس لغزو الروم ، كتب إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب صاحب الشرطة ، يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن ، واتفق له ذلك في آخر عمره قبل موته بشهور من سنة 218 .
وأما فرقة المريسية فهذه الفرقة من مرجئة بغداد من أتباع بشر المريسي الذي أظهر قوله بخلق القرآن .
وأما فرقة المستدركة فهي فرقة من النجارية أتباع الحسين بن محمد النجار ، وهؤلاء يزعمون أنهم استدركوا ما خفي على أسلافهم ، لأن أسلافهم منعوا إطلاق القول بأن القرآن مخلوق ، وافترقت فيما بينها فرقتين : فرقة زعمت أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قال : إن كلام الله مخلوق على ترتيب هذه الحروف . وقالت الفرقة الثانية : إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقل كلام الله مخلوق على ترتيب هذه الحروف . وقال هشام بن الحكم في القرآن : إنه لا خالق ولا مخلوق ، ولا يقال : إنه غير مخلوق ، لأنه صفة ، والصفة لا توصف عنده . (6)
وقال ابن حبان : أخبرنا أحمد بن يحيى بن زهير بتستر ، قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم البغوي ، قال : حدثنا الحسن بن أبي مالك ، عن أبي يوسف ، قال : أول من قال : القرآن مخلوق ، أبو حنيفة ، يريد بالكوفة . أخبرنا الحسين بن إدريس الأنصاري ، قال : حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا عمر بن حماد بن أبي حنيفة ، قال : سمعت أبي يقول ، سمعت أبا حنيفة يقول : القرآن مخلوق ، قال : فكتب إليه ابن أبي ليلى : إما أن ترجع وإلا لأفعلن بك . (7)
فقال : قد رجعت ، فلما رجع إلى بيته قلت : يا أبي أليس هذا رأيك ؟ قال : نعم يا بني ، وهو اليوم أيضا رأيي ولكن أعيتهم التقية . واتسع الخلاف بين المسلمين ، من تكفير بعضهم للبعض ، فطائفة تقول : إن من قال : القرآن غير مخلوق فهو كافر ، وعليه ابن أبي داود وجماعته . وطائفة تقول في تكفير من يقول بخلق القرآن ، وعليه أحمد بن حنبل ، ويقول أبو عبد الله محمد بن يحيى الذهلي المتوفى سنة 255 ه‍: من زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر ، وبانت منه امرأته ، فإن تاب وإلا ضربت عنقه ، ولا يدفن في مقابر المسلمين . حتى إن الواثق استفك من الروم أربعة آلاف من الأسارى ، ولكنه اشترط أن من قال : القرآن مخلوق يخلى من أسره ويعطى دينارين ، ومن امتنع عن ذلك فيترك في الأسر ولا يفك ، بمعنى أنه رتب آثار الكفر على من لم يقل بخلق القرآن . (8)
ولما قدم أحمد بن نصر إليه قال له الواثق : ما تقول في القرآن ؟ وكان أحمد ممن يذهب إلى أن القرآن غير مخلوق ، فقال : كلام الله ، وأصر على رأيه غير متلعثم ، فقال بعض الحاضرين : هو حلال الدم ، وقال ابن أبي داود : هو شيخ مختل لعل به عاهة أو تغير عقله ، يؤخر أمره ويستتاب ، فقال الواثق : ما أراه إلا داعيا لكفره ، ثم دعى بالصمصامة فقال : إذا قمت إليه فلا يقومن أحد معي ، فإني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد ربا لا نعرفه ، ثم أمر بالنطع فأجلس عليه وهو مقيد ، وأمر أن يشد رأسه بحبل ، وأمرهم أن يمدوه ، ومشى إليه برجله وضرب عنقه ، وأمر بحمل رأسه إلى بغداد (9) .
وفي دائرة المعارف الإسلامية المترجمة عن الأصل الإنجليزي والفرنسي : عندما أقرت الدولة عقائد المعتزلة ، وأنزلتها المنزلة الأولى وأخذت بالشدة كل الفقهاء الذين لم يقولوا بمذهب خلق القرآن ، كان أحمد بن حنبل أحد هؤلاء الفقهاء الذين أصابتهم المحنة ، فقد سيق مكبلا بالأغلال للمثول بين يدي المأمون بطوس ، ولكن بلغه في الطريق نعي هذا الخليفة ، وفي عهد المعتصم احتمل في صبر بالغ ما ناله من إيذاء وسجن دون أن يتسامح في شيء من عقائد السلف ، ولم تكف الدولة عن إيذاء أحمد بن حنبل إلا في عهد المتوكل (10) . وقال الشافعي إلى حفص الفرد في مناظرته له في أن القرآن مخلوق : كفرت بالله العظيم (11) وقال الزركلي في ترجمة أحمد بن محمد بن حنبل : وفي أيامه دعا المأمون إلى القول بخلق القرآن ، ومات قبل أن يناظر ابن حنبل ، وتولى المعتصم فسجن ابن حنبل ثمانية وعشرين شهرا لامتناعه عن القول بخلق القرآن ، وأطلق سنة 220 ه‍(12) .
وفي كتاب المجروحين لابن حبان ، قال عمر بن حماد بن أبي حنيفة ، قال : سمعت أبي يقول : القرآن مخلوق (13) .
هذا بعض ما حل بالمسلمين من عوامل الفرقة والتفكك ، وحوادث الشغب بين معتنقي المذاهب الأربعة ، الأمر الذي جعل المتدخلين في صفوف المسلمين ينفذون خططهم ، ويحققون أهدافهم في تفريق كلمة المسلمين وصدع وحدتهم . النزاع بين أهل الحديث وأهل الرأي على إثر النجاح الذي أحرزته الجمعيات السرية المنعقدة ضد النظام الأموي ، طلع نجم بني العباس ، وكان لهم نشاط سياسي في المجتمع لتحويل الحكم من البيت الأموي إلى البيت العلوي ، وقد رفعوا شعار دعوتهم (إلى الرضا من آل محمد) .
ولكن العباسيين قد نشطوا بالحيلة ، وتغلبوا في اصطناع المعروف لآل البيت (عليهم السلام) ولكنهم كانوا في حذر من العرب عامة ومن أهل المدينة خاصة ، لأن أهل المدينة قد وقفوا على حقيقة البيعة في الأبواء وأنها لآل علي (عليه السلام) دون بني العباس ، كما أنهم كانوا في طليعة من بايع محمد بن علي بن الحسن (ذو النفس الزكية) وفي رقبة السفاح والمنصور بيعته ، فكيف يستقلان بالأمر وينقضان تلك البيعة ؟ ولكن السفاح استطاع بمهارته استجلاب قلوب الموالي إليه بأساليب الرغبة والرهبة ، وتثبيت قواعد ملكه على أيدي الفرس عامة والخراسانيين خاصة ، لأنه ما كان يأمن وثبة العرب لجانب العلويين ، فهم في نظر عامة العرب والعباسيين أنصار بني علي لا أنصار بني العباس ، كما كانت سياستهم في بدء الدعوة قتل كل من يتكلم بالعربية في بلاد فارس .
ومضى السفاح وجاء المنصور الدوانيقي للحكم ، وهو ذلك الرجل الحديدي الذي يقتحم مواقع الخطر ولا يتهيب من إراقة الدماء ، ولا يقف أمامه حاجز ولا يردعه وازع ديني في سبيل تركيز دعائم ملكه . ففتك بأهل البيت ومن عارضحكمه من العباسيين أنفسهم ، وأبعد علماء المدينة ، ونصر الموالي ، وأوجد تلك المعركة القوية لفك وحدة المسلمين ، وهي معركة أهل الحديث وأهل الرأي . فقرب فقهاء العراق القائلين بالقياس ، وأحاطهم بعنايته ليحول أنظار الناس إليهم ، والناس على دين ملوكهم ، وبذلك تقل قيمة علماء أهل المدينة الذين هم أهل الفتيا إلى حد كبير .
وفي العهد العباسي نشطت الحركة العلمية ، وكان طبيعيا أن تنتعش العلوم في ظل سلطانهم ، لأنهم كانوا يدعون حقهم في الإمامة ، وأنهم سلالة النبي ، ليمسكوا المبادرة بأيديهم ويحاربوا سواهم . وعلى رغم ذلك فقد نهض أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وبقية العلماء لنشر العلم ، إذ وجد المسلمون كافة حرية الرأي ، والتف معظمهم حول أهل البيت لانتهال العلوم من موردهم العذب ، وكان الإمام الصادق (عليه السلام) هو الشخصية التي يتطلع إليها الناس يوم طلع فجر النهضة العلمية ، فحملوا عنه إلى سائر الأقطار ، وقصده طلاب العلم من الأنحاء القاصية ، فضلا عن الدانية ، وفتحت مدرسته بتلك الفترة في المدينة المنورة وفي الكوفة ، فكان المنتمون إليها ما يربو على الأربعة آلاف طالب وتلميذ كما أسلفنا .
وهذا النشاط العلمي لا يروق للدولة العباسية الفتية التي قامت على أنقاض الدولة الأموية ، واستولت على الحكم بدون حق شرعي ، وإنما أصبح في صالح العلويين . وانتهز العباسيون النشاط العلمي بنطاقه الواسع ، وأخذوا يشجعون الفرق والمذاهب ، فكان في كل بلد إمام له مذهب ينسب إليه ، وكثر عدد المذاهب ، إلا أنه لم يكتب البقاء لأكثرها واعتراها الانقراض ، وكان لمؤسسيها الذين كثر أتباعهم تأريخ مجيد ومكانة سامية ، ربما فاقوا في نظر معاصريهم وذوي العلم منهم رؤساء المذاهب الذين وقفت قافلة الفقه عندهم ، واقتصر استنباط الأحكام عليهم ، ولكن السياسة الزمنية وعوامل انتشار مذاهبهم عجزت عن مسايرة الظروف فلم يكتب لها البقاء ، ومحيت من ص الوجود ، ولم يبق لأبناء السنة منها إلا الأربعة من المذاهب : المالكي والحنفي والشافعي والحنبلي .
أما المذاهب التي انقرضت فهي كثيرة ، نذكر منها :
1 - مذهب عمر بن عبد العزيز المتوفى 101 ه‍- 720 م .
2 - مذهب الشعبي المتوفى 105 ه‍- 723 م .
3 - مذهب حسن البصري المتوفى 110 ه‍.
4 - مذهب الأعمش المتوفى 148 ه‍- 764 م .
5 - مذهب الأوزاعي المتوفى 157 ه‍- 772 م .
6- مذهب سفيان الثوري المتوفى 161 ه‍- 777 م .
7 - مذهب الليث المتوفى 175 ه‍.
8 - مذهب سفيان بن عيينة المتوفى 198 ه‍- 814 م .
9 - مذهب إسحاق المتوفى 223 ه‍.
10 - مذهب أبي ثور المتوفى 240 ه‍- 854 م .
11 - مذهب داود الظاهري المتوفى 270 ه‍- 832 م .
12 - مذهب محمد بن جرير المتوفى 310 ه‍- 923 م .
وغيرها من مذاهب المسلمين التي تتفق أحيانا وتفترق أحيانا في كثير من المسائل الشرعية ، ومنهم من جعل في تعداد هذه المذاهب : مذهب عائشة ، مذهب ابن عمر ، مذهب ابن مسعود ، مذهب إبراهيم النخعي ومذهب عبد الله ابن أباض (14) ، وغيرهم .
وهكذا ترى النزاع المذهبي قائما بعد أن كان علميا محضا ، أصبح مزيجا بالسياسة أو التعصب ، وتعددت عوامل التفرقة لتستند السلطة إلى أقوى الفرقاء ، واتسع نطاق الخلاف ، فترى مالك بن أنس يحط من كرامة العراقيين ويتحامل عليهم ويلعنهم . وأكثروا القيل والقال والإيراد والجواب وتمهيد طرق الجدل في الفقه ، لا سيما بين مذهب الشافعي ومذهب أبي حنفية ، فترك الناس الكلام وفنون العلم وأقبلوا على المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة على الخصوص ، وتساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم
ومهما يكن من أمر فقد تعصب كل فريق إلى بلده وتنابزوا ، وعير أهل المدينة بسماع الغناء ، وأهل مكة بالمتعة ، وأهل الكوفة بالنبيذ ، واستندت عصبية كل قوم لبلادهم ، وحملتهم عصبيتهم على وضع الأخبار في مدح قومه وبلده وذم مقابله ، وعظم الانشقاق بين الطائفتين : أصحاب الرأي والقياس وأصحاب الحديث ، وبالطبع إن الكوفة تضعف عن مقابلة الحجاز ، ولكن السياسة الزمنية اقتضت أن تكون إلى جانب أهل الرأي ، لا حبا لهم ، ولكن بغضا لأهل الحديث أهل المدينة ، وأصبح لكل جانب أنصار ومتعصبون . وقد طغت موجة التعصب بين المذاهب السنية حتى أصبح التكتم بالمذهب لازما .
يقول أبو بكر محمد بن عبد الباقي المتوفى سنة 535 ه‍وكان حنبليا :
إحفظ لسانك لا تبح بثلاثة * سن ومال ما استطعت ومذهب
فعلى الثلاثة تبتلي بثلاثة * بمكفر وبحاسد ومكذب
ويعطينا الزمخشري صورة واضحة من صور الخلاف وشدة التطاحن بين المذاهب وطعن البعض على البعض بقوله :
إذا سألوا عن مذهبي لم أبح به * وأكتمه كتمانه لي أسلم
فإن حنفيا قلت قالوا بأنني * أبيح الطلى وهو الشراب المحرم
وإن شافعيا قلت قالوا بأنني * أبيح نكاح البنت والبنت تحرم
وإن مالكيا قلت قالوا بأنني * أبيح لهم أكل الكلاب وهم هم
وإن قلت من أهل الحديث وحزبه * يقولون تيس ليس يدري ويفهم (15)
فكان مالك بن أنس في طليعة أهل الحديث وأنصاره ومنهم سفيان الثوري وأصحابه . وزعيم أهل الرأي هو أبو حنيفة وأصحابه وكثير من فقهاء العراق .
فالشافعي أخذ عن مالك وأصحابه ، وأحمد بن حنبل المتوفى سنة 241 ه‍- 820 م أخذ عن الشافعي المتوفى في سنة 204 ه‍وأصحابه . وإنما سموا أصحاب الحديث لأن عنايتهم بتحصيل الأحاديث ونقل الأخبار وبناء الأحكام على النصوص ولا يرجعون إلى القياس ، وتبعهم أصحاب الشافعي ، وهم : إسماعيل بن يحيى المزني والربيع بن سليمان الجيزي وحرملة بن يحيى وأبو يعقوب البويطي وابن الصباغ وابن عبد الحكم المصري وأبو ثور ، وغيرهم . وأما أصحاب الرأي ، فهم : أبو حنيفة النعمان بن ثابت ، وأصحابه : محمد ابن الحسن الشيباني وأبو يوسف القاضي وزفر بن الهذيل والحسن بن زياد اللؤلؤي وأبو مطيع البلخي وبشر المريسي ، فهؤلاء عرفوا بأهل الرأي ، وقالوا : إن الشريعة معقول المعنى ولها أصولها يرجع إليها .
وبهذا افترقت الأمة إلى فرقتين : أهل حديث وأهل رأي ، وأهل المدينة وأهل الكوفة ، مع العلم إن أهل الكوفة لا يقاسون بأهل المدينة في الحديث ، فكان القياس عندهم أكثر وعليه يبنون غالب فتاواهم . هذه الخطوط العريضة للتنازع المذهبي ، وقد لعبت السياسة الزمنية دورها في تغذيته وتنشيطه .
المصادر :
1- العلل ومعرفة الرجال 1 : 67 .
2- الكامل في التأريخ 7 : 75 .
3- تأريخ بغداد 7 : 58 .
4- الجامع في الرجال 1 : 311 ، (كتاب رجالي من كتب الشيعة) .
5- العلل ومعرفة الرجال 1 : 69 .
6- الفرق بين الفرق : 219 ، الرقم 115 .
7- المجروحين ، لابن حبان 3 : 65 .
8- طبقات الشافعية 3 : 22 ، وتأريخ اليعقوبي 3 : 194 .
9- شذرات الذهب 2 : 67 .
10- دائرة المعارف الإسلامية 1 : 492 ، ترجمة أحمد الشنتناوي ، وإبراهيم زكي خورشيد - دار الفكر .
11- آداب الشافعي 1 : 194 .
12- الأعلام 1 : 203 .
13- المجروحين 3 : 65 .
14- تأريخ الفتح العربي في ليبيا : 106 .
15- الكشاف ، الزمخشري 2 : 573 ، الطبعة القديمة ، وحذفت من الطبعة الجديدة .

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.